لطالما تساءلت عن مصير الأطفال الذين ودعوا طفولتهم في سن مبكر، صغارٍ بوجوهٍ ناعمة ملساء، وسحنة بريئة أجبروا على مواجهة أناس غلاظ ومحتالين.
حينما قرأت رحلة علي باي العباسي المغامرة المنقطعة النظير للرجل الذي عاش بتركيز المواجهة بين الشرق والغرب للكاتب الإسباني رامون مايراتا، لم أنفك أحلل الحالة السيكولوجية لبطل الرواية الذي هو دومينغو باديا الغني عن التعريف، ذلك التائه بين شخصيتين واقعيتين، والذي لم أستطع أن اعتبره جاسوسا عاديا، ربما لأن الجواسيس أصلا ليسوا كذلك.
عندما كان دومينغو باديا طفلا صغيرا لم يكن على علم بما سيصبح عليه في المستقبل كما نحن بالضبط، لم يكن يعرف أنه سيصبح مرتدا عن المسيحية إلى الإسلام كما قال في الفصل الرابع من روايته حينما كان صحبة مجموعة من الناس في إحدى السفن " كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها كلمة مرتد، والتي سأصطدم بها مع مرور الزمن في ظروف مختلفة جدا وسأرمى بها مثل السهم" وهذا ذكرني بالمجهول الذي نواجهه في حيواتنا، لكن ربما لو انتبهنا قليلا، فكل شيء حدث أو يحدث يأشر لما سنكون عليه في المستقبل.
إن ما وصل إليه دمينغو باديا راجعٌ إلى مجموعة من الأحداث المتسلسلة التي وقعت في ماضيه، وأهمها علاقته بوالده، فقد عامله الأب معاملة قاسية ولم يعترف قط بآمال ابنه، فخطر لي أنه بمجرد عدم الإيمان بقدرات أبنائنا أو آبائنا بنا هو نوع من مواجهة القساوة والغلاظة، لأن علاقتنا مع آبائنا والمحيطين بنا له تأثير قوي في مسار الأحداث التي تأخذنا للمستقبل، فعندما كان دومينغو يجمع بعض الملاحظات من الكتب الخاصة بكيفية تشييد منطاد، كان أبوه يقرأ تلك الملاحظات ويتهجم وجهه شقاءً وهما واحتقارا حتى يوشك أن يأخذ الريشة التي يكتب بها دومينغو من يده، وهذا دليل على عدم الإيمان بقدرات ابنه التي ربما لو آمن بها لصار اختراعه للمنطاد اختراعا ناجحا، ولكان اسمه بدل اسم هنري جيفار أو الإخوان مونغولفييه أو على الأقل لنضم اسمه لذلك المجال، كان من الممكن أن يقول مازحا عبارة " أنا فخور بك" عوض " لا تبدو ابنا لي وأنت مستسلم لهذه الأوهام ... انت ابن نزوة سيئة"
إن معظم المقالات التي قرأتها عن هذا الكتاب اهتمت بالحدث الرئيس في الرواية أو بالأحرى الحدث الجليل الذي غير حياة دومينغو وجعل منه شخصين، وهو "الجاسوس الإسباني الذي ادعى الإسلام وخدع سلطان المغرب بل وحج إلى مكة أيضا"، فقد اختار أن يصبح جاسوسا لصالح إسبانيا، وتاه بين المسيحي دومينغو باديا والمسلم علي باي العباسي، يقول "ومع ذلك لم أكن مرتداً قط. على الرغم من أنني تعريت من الملابس المسيحية واتخذت لسنوات هيئة وسلوك المسلم باسم علي باي، وقد شعرت دائماً تحت هذه الملابس أو تلك بالعري الشديد للجسد ذاته. ألم يتقاسم باديا وعلي باي التنفس الواحد والعضلات ذاتها والعينين الوحيدتين؟ هل كانت متع وآلام باديا مختلفة عن متع وآلام علي باي؟ لم يستعبد أحدهما الآخرقط. فباديا وعلي باي تقاسما بالتساوي قناعاتهما وشكوكهما" ونتوقف عند قوله هذا، لنلاحظ أن دومينغو يتساءل عن تحديده لهويته، ومن خلال طرحه لهذه الأسئلة يتضح وكأنه يعي أن هويته هلامية مفتوحة على سلم الزمانية والمكانية, أي أن هويته ليست واحدة وقارة إنما هي متعددة ومتنوعة تاريخيا و زمنيا، وهنا أستحضر ما نُظم من شعر عن إدوارد سعيد من فاه الشاعرمحمود درويش إذ قال :
أنا من هناك. أنا من هنا
ولست هناك، ولست هنا
لي اسمانِ يلتقيانِ ويفترقانِ
ولي لغتان،
نسيتُ بأيهِما كنت أحلم
…
إنّ الهويةَ بنتُ الولادةِ
لكنها في النهاية
إبداعُ صاحِبِها
لا وِراثَةَ ماضٍ
لكن ما الذي جعل دومينغو يهتم بالمغرب أو بالقارة الإفريقية بالضبط؟ إذا عدنا لذكريات طفولته مرة أخرى سنجد أن دومينغو لم يفكر أن ينسل داخل أي قارة غير الإفريقية، فقد سال لعابه عليها منذ صغره، كان طفلا يستمتع جدا حينما يحكي الرجال البحارة عن المغرب وعن تونس العالمية إذ قال" كانت المرة الأولى التي أسمع فيها اسم المغرب، المغرب الأقصى، بلد أقصى الغرب فطفت مقاطعه منذ ذلك الوقت بنعومة تائهة في مياه خيالي التي كانت ما تزال ملساء وخالية من النتوءات." وهذا من النماذج التي تذكرنا بسخرية القدر إذ لم يكن ليتوقع أبدا حينها أنه سيزور المغرب على هيئة جاسوسٍ إسباني. كان دومينغو طفلا مجتهدا فحتى النباهة التي كان عليها في القسم وفي دراسته تراجعت بعدما تدخل أبوه في مساره العلمي يقول" كنتُ حتى ذلك الوقت تلميذاً مثالياً، كما تشهد على ذلك الميدالية التي تدلت على صدري معلقة إلى شريطة خضراء كنت قد حصلت على درجات ممتازة في قواعد اللغة الإسبانية واللاتينية والتاريخ والإملاء والديانة والسياسة والأدب، وبخاصة في الجغرافية مادتي المفضلة. لكن المدرسة تحولت بالنسبة إلي في الأشهر الأخيرة إلى عقوبة. فقد أعطى والدي تعليماته لأستاذي، السيد مانويل سانتشث، كي يشدد علي الدروس العملية. ومنذ تلك اللحظة شغلت معظم ساعاتي الدراسية في تحرير الخطب وصيغ الكتابة الرسمية المخصصة للقيام بالمخاطبة العامة
إن هوس أن يصبح أبناؤنا مثلنا قد يدمرهم كليّا، ولا نناقش هنا سوء ما أصبح عليه أو ما يمارسه لأنه بالتأكيد كل ما وقع لدومينغو باديا خلف لنا على باي العباسي، وأضيف كنكتة طريفة للتاريخ المأساوي الذي يجمع بين الإسبان والمغرب آنذاك، وأضيفت رحلته هذه لأدب الرحلات وحقق نجاحا ما دمنا نبحث عنه وعما عاشه في القرن التاسع عشر، لكن من الجانب النفسي عانى الأمرين، فالتنكر وعدم الإفصاح عن الهوية من عادات دومينغو باديا قبل أن يصبح جاسوسا أصلا، وربما هذا التخفي ناتج عن مجموعة من الأسباب النفسية من بينها الخوف من الفشل ومن تعاليق أبيه السلبية حول كل ما يقوم به، فحينما أنهى دومينغو باديا الكتابة عن الموضوع الذي يحبه " مقال الغاز والآلات أو المناطيد الجوية" وقع مقاله باسم مستعار بوليندو ريميخيو ، حينها علقت زوجته مازحة حينما سمعت اسمه المستعار" لاسم بوليندو وقع اسم عصفور مدجن في قفص. قليل هو الطيران الذي أتوقعه لك" وكانت توقعاتها في محلها لأن تجربة الطيران هذه باءت بالفشل. فحينما أنهى مشروعه وانتظر أن يراه محلقا بسماء قرطبة هو وصهره بروثو الذي أمن به وبأفكاره، أتاه المنع من المجلس الأعلى لقشتالة، منع لا يقوم إلا على مخاوف والده الغامضة يقول دومينغو بحسرة" انتبهت إلى أن جزءاً كبيراً من حياتي مضى في هذا البلد الذي ما إن أفتح عيني حتى يتلاشى، وتسكنه كائنات لطيفة ومرعبة، أشباح تعرف كيف تختفي وتختبئ في أوج النور. كنت في الثامنة والعشرين من عمري، وكرست أكثر جهودي حرارة لتلك المعجزة التي حكم عليها والدي بتدخله بالتيه أبد الآبدين في عالم دماغي الداخلي، مثل سحابة تدفعها ريح الخيال القلقة" وكل هذا ساهم في ظهور الجاسوس علي باي العباسي، وربما ما جعله يتنكر عن نفسه هو جهل الناس لما يحب فحينما سافر لقرطبة في رحلة عمل صحبة بروثو وزوجته الحامل، يقول "لم يكن باستطاعة الفلاحين الكبار فهم أحلامنا الجوية " فكانوا يسألونه بسخرية " الصعود إلى هناك؟ إلى الأعلى؟ لماذا؟ "
في نهاية القرن 18 وبداية القرن 19 هو عصر المغامرة بالنسبة للأوروبيين، أي المغامرة الاستعمارية، وهذا دفع بشبابهم إلى أن يبحثوا هم الأخرون عن مغامرات، وربما هذا ما دفع دومينغو باديا للوصول إلى ما وصل إليه يقول " إن طبيعتي تتحمل العوائق أسوأ مما تتحمل المشقات، كنت دائما أكثر سعادة في الشدائد التي سعيت إليها بمشاريعي"
إن المشاريع التي يتحدث عنها دومينغو، هي محاولات لإثبات ذاته بدءا من ولعه بعلوم الملاحة المنطادية إلى ولعه بالرحلات الاستكشافية، ومع هذه الشخصية نلاحظ كيف أن ولع الإنسان يتغير ليوافق مطالبه بالحياة. فكما أشرت سابقا، لم يلق دومينغو الدعم الكافي من والده لكن عوضه عن ذلك شخص يدعي بروثو، وهو رجل ثري يحب العلم ويحترم ذويه، تبنى فكرة دومينغو المتعلقة بالمنطاد وأصبح مهوسا بتحقيقها وقدم ثروته ومكتبته وكتبه إلى دومنيغو وأحبه لدرجة لم يكتفِ فيها بالصداقة التي بينهما فحسب بل رغب في قرابة دموية لذا زوجه ماريا لويسا ابنته الوحيدة التي اعتاد دومينغو يراها كلما زار بروثو.
لكنَّ فشل المنطاد ونفوذ والده الذي كان ينقّلُه بين الوظائف كلما شعر بعدم ارتياح في منصبه، وسخرية أهل قرطبة، وسُمعته التي طالها الكلام وثِقله بالديون، وخدلانه لبروثو الذي أفلس في سبيل أفكاره، والذي كان له الداعم الأول والمساند المادي والمعنوي، ووضع أسرته المحرج، وتَخلييه عن وظيفته، وعيشة الفقر التي كان يعيشها في غرفة حقيرة وبائسة بمدريد خالية من التهوية صحبة زوجته وأبنائه، وضَغط ذكرياتِ المجد التي تراوده عن حياته السابقة في جزيرة البيرة ونور قرطبة الحميم كل هذه الأسباب جعلته يثور ويتمرد على ما كان عليه، ليصبح شخصا أخر. كعلي باي العباسي ليستعيد سمعته ومستواه الاجتماعي والاقتصادي.
فبعد مشروع المنطاد الفاشل تابع تحصيله العلمي بالموازاة مع عمل بئيس في مكتبة بسيطة فأنتج ترجمة لقاموس عجائب الطبيعة وأعجب به وزير الدولة ماريانو وأمر بطباعته بالمكتبة الملكية، وتوقع دومينغو النجاح مرة أخرى، لكن سرعان ما فشلت هذه المحاولة أيضا بسبب معاداة حصلت بين رئيس الوزراء غودوي والوزير انتهت بأسر هذا الأخير في معقل بامبلونا وعُزل دومينغو في مكتبة بالقصر يقضي وقته معزولا بين الكتب. كل هذه التجارب يقول دومينغو جعلته يتعلم درسا صارما وخرج بخلاصة مفادها " كان علي أن أتجرد من كل شيء، أتعلم ألا أكون أحد... فتوجه فضولي ببطء بشكل غير محسوس نحو الاكتشافات الجغرافية " حينها سنة 1801 بدأ دمينغو يعد الخطة العلمية التي سيصل بها إلى ما طمح إليه أخيرا، وهو الغوص في أغوار إفريقيا واستغل كل العقبات التي وقفت في طريقه ليقف عليها من جديد نحو أفق زاهر وهذه الخطة كالتالي:
"سأنفذ إلى أفريقيا عبر الشمال، متمسكاً بتلك النظرة كما يتمسك فارس أعمى بمطيته. كان هدفي الالتحاق بإحدى القوافل التي تقطع الصحراء وتتاجر مع أفريقيا السوداء. سأهبط الطريق التي يربط فيها العاج والذهب والعبيد بين نصفي أفريقيا اللذين تفصل بينهما الصحراء. سأعبر نهر الدراع، كما أعبر عتبة، لأتوغل في الصحراء، متلمساً الطريق التي خطها محمد موسى عبد الله على طبيعة لا تكف عن التبدل، ترسمها وتمحوها الريح باستمرار. وإذا لم تغش آثار الرمال المخربة خطواتي توقفت في بنو بعد شهرين، وسأتابع من هناك إلى تمبكتو وبلد الهاوسيين لأصل إلى مناجم سان جورج في شاطئ الذهب. لن أنهي رحلتي هناك. سأدور من هناك، حيث هجر البرتغاليون، مثل نسور بلا لحم، حصنا شيد منذ عدة قرون، باتجاه الشرق كي أجوب خصر أفريقيا الاستوائية حتى زنجبار من الغرب إلى الشرق، على شاطئ بحر آخر: بحر الهند. في مينائها، الذي تزوره الزوارق العربية باستمرار، وجد فاسكو غاما بخاراً من غجرات، اسمه أحمد دي بن ماجد، قاده حتى كالكوتا، أحد الموانئ النادرة على شواطئ مالابار الرملية المنخفضة في القارة الهندية." فبعد أن عرض دومينغو مشروعه على اللجنة الملكية لتسمح له بمغادرة التراب الوطني نحو إفريقيا، صعبت عليه الأمر وشككت في قدراته، وطلبت له شهودا ليدعموا مشروعه لكي يؤخذ على محمل من الجد، وتحتاج مرة أخرى هذه الانطلاقة الجديدة في حياة دومينغو من يدعمها، وهنا ستثيرني نقطة مهمة في هذه الرواية، ألا وهي قيمة الصداقة، فربما دومينغو لم يكن محظوظا كفاية ليجد أبا عطوف متفهم لأحلامه لكنه حظي بأصدقاء دعموا مشاريعه دائما، فرواية علي باي العباسي تحمل العديد من القيم الإنسانية والتي تتمثل في الأسرة والثقة بالنفس والاعتراف بالأخر والحب وما إلى ذلك، فمهما كانت مشاريعنا صغيرة أو مجرد مخططات لم ترَ النور بعد، نحتاج لمن يقف بجانبنا ويدعمها، حينها بحث عنه صديق له يدعى سيمون دي روخاس كلمنت ليدعمه ويشهد لمشروعه فدار بينهما الحوار التالي :
يا كلمنت، هل تريد أن تشاطرني مجد الاكتشافات التي تنتظرنا أعماق أفريقيا؟
- دون شك، يا باديا – أجاب دون تردد.
ـ فكر بالأمر جيداً. فالرحلة خطيرة.
ـ منذ أن سمعت بمشروعك وأنا لا أفكر بشيء آخر.
ـ سيكون عليك أن تتخلى عن أعمالك الحالية ومسارك الواعد
يا صديقي العزيز أنت تقدم لي قارة لم تُسير. فما الذي يستطيع أن يرغب به رجل العلم؟ أنا مستعد للتنازل عن كل شيء للحصول على هذا الخير الذي أعتبره أسمى.
عن كل شيء؟
أجل، يا باديا. بل إنني مستعد للتنازل عن نفسي. أنت لا تكلم سیمون د روخاس کلمنت بل من سيدعى من الآن فصاعداً محمد بن علي.
ومن أجل صديقه تخلى عن حياته المهنية ومكانته في مدينةٍ كمدريد ليرافق صديقه للمجهول الغامض والمحفوف بالمخاطر والمحتمل أن ينتهي بالتهلكة.
هكذا نضيف قصة باديا لمجوعة من الشخصيات البارزة عبر التاريخ، والتي لم تنبثق سوى من رحم المعاناة، ولاستحالة المرء تخطي مرحلة الطفولة، هل تنتمون للنوع الذي يمتطي صهوة المعاناة لمستقبل أفضل؟ أم لأولئك الذين يعلقون فشلهم على رقبة الماضي ذريعة ختمهم لطفولتهم بطريقة قاسية؟
البلد
المغرب
Gender
Female
الإتصال
ICQ
0
متابع
هذا الموقع يعتمد على ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماته، الاستمرار في تصفح الموقع يعني موافقتك على استخدام هذه الملفات.