أنت تستخدم أحد المتصفحات القديمة. قد لا يتم عرض هذا الموقع أو المواقع الأخرى بشكل صحيح. يجب عليك ترقية متصفحك أو استخدام أحد المتصفحات البديلة.
صباح بن حسونة
نموذج من كتاباتك
الحوش
( صباح بن حسونة )
في ركن من ذلك الحوش الواسع،جلست تناجي صمتها،متلهية في غربلة قمح أمضت كامل اليوم في تحضيره بكل صبر و اتقان.
ظهرالحزن على وجهها ،و أنبأت عيناها السماويتان عن بقايا دمع تحجر مع الزمن و لم يسقط..
هي امراة خمسينية بقسمات جميلة رغم نمش كثير تراكم على وجهها فأخفى رقة خدودها و شوّه نعومة بياض جعلها في صباها مطمعا لطالبي الزواج من محبي الجمال .
تتذكر في جلستها تلك ،أنّها ،على صغر سنها، لم تختر غيره و أنها أتت إلى هذا الحوش محلّقة بأجنحة الحبّ و الحلم ،و تذكر أكثر أنّ هذه الأجنحة ألقت بها منذ الأشهر الأولى من علوّ الأحلام الشّاهق.
"لن تنجبي " قال لها الطبيب الذي نصحها بأن تتبنّى طفلا يملأ سكون ذلك الحوش الصامت كمدينة للموتى.
و لأنها لن تكون أمّا لطفل من رحمها، اختارت أن تكون أمّا لجميع أطفال العائلة، بما فيهم زوجها الذي لم يشأ تطليقها، كما أرادت عائلته ، فقد كان يعلم جيدا أنه السبب في عدم حملها كما أخبره الطبيب و ان لا امرأة غيرها تتحمل نزقه و تحيطه بكل ذلك الدلال. على كل حال ، لم يكن لها خيارا آخر، كانت تعتقد أنها حرمته من أن يكون أبا، لهذا صيّرته ابنها المدلّل و طوّعت نفسها لخدمته.
تنهّدت بعمق و عادت إلى غربالها تهزه على نغمات كثيرا ما كانت تردّدها ،فقد رافقت قصة حبها التي أذبلها اليومي البائس فكان ترديدها لها يحيي بعض ما أماته الزمن فيها وذكريات جميلة لم تكن تريدها أن تموت:
"نيران جاشي شاعلة ميقودة
فارقت هالغزال عيونو سودة"
كانت أغنية شباب جيلها يغنونها في الأعراس او متحلقين حول كانون الشواء على شاطئ اللوزة على مقربة من القرية منتشين بقواريرهم التي تطوح بهم بعيدا عن كل همومهم و تبعدهم و إن مؤقّتا عن نكد زوجاتهم و مشاكل أطفالهم .
كان زوجها من مريدي اللوزة و ممّن أفنوا أجمل مساءاتهم هناك، وهي الآن تنتظره كما كل يوم فقد خرج صباحا و أخبرها أنه سيذهب مع أصدقائه و لم يعد بعد .
نظرت أمامها، بدا لها الحوش متسخا. عليها تنظيفه و تبريده من قيظ هذا اليوم .وقفت تنفض عن مليتها الدقيق الذي أخفى زخرفها و شوّه جمال ألوانها .
على اتساع هذا الحوش كان سجنها الذي ارتضته طائعةأو مرغمة تتوسّطه حديقته الصغيرة التي أدمنت العناية بها فأنبتت لها أزهارا أنارت وحشة حزنها و أضفت على المكان مسحة من الجمال .
سكبت الماء و بدأت بتسييق الحوش عندما اهتزت المكنسة في يدها على وقع طرق شديد على الباب وهو يُفتح .
- أين أنت يا جنات ؟ نُقل زوجك إلى المستشفى يقولون أن حالته حرجة.
كان صوت احدى جاراتها التي تقطعت أنفاسها لتكون أول من يبلغها الخبر.
"هي ضربة شمس أعرف ذلك، لطالما حذرتك منها ثم إنك مريض ، جسدك النحيل لن يتحمل نسقك في الشرب. ماذا فعلت بنفسك بل ماذا فعلت بي و ماذا فعلت بنا ؟"
- كيف ؟متى ؟من أخبرك ؟أين هو الآن ؟
تسارعت الأسئلة و تسارعت دقات القلب الوجل كقلب طفل أضاع أمه و لم يجد أباه فتاه في زحمة الاحتمالات ..
لم تدري مالذي تفعله ،أرادت الخروج من باب الحوش غير أنها انزلقت في السقيفة بفعل الماء المنسكب هناك.أطبقت أبواب الحوش على أنفاسها و كبّلتها أرضيته فلم تستطع الوقوف لتخرج فانساب نحيبها وولولتها كغناء حزين يقوض القلوب .
حين همت جارتها بمساعدتها على النهوض ،كانت أصوات الصراخ و العويل تقترب فتربك نبض جنات .
"أعرف أنك تركتني ،أشعر بذلك لن أغفر لك إن فعلتها لن أسامحك و لن أسامح نفسي إن بقيت بعدك"
و بَقِيت بعده و لم تسامح نفسها لأنها لم تمت مثله .حزنت عليه كما لم تحزن على أحد ،أحسّت أن روحها سرقت منها و دفنت معه. كانت تتمنى ،و أجزم أنها كانت صادقة، لو أنها ماتت عوضا عنه و دفنت بدله.
رفضت بعده طبخ اأيّ من المأكولات التي كان يحبها. لزمت مقبرة سيدي أبي إسحاق حيث يرقد نومته الأخيرة .تقضي مجمل يومها بجانب قبره تغرس الورود التي يحبها و تسمعه ما فاته سماعه من آيات قرآنية تستجدي بها له غفرانا و رحمة .تغادر المقبرة عندما تحمر شمس المساء و تؤذن بالغياب لتلازم غرفتها المظلمة الصامتة فهي لا تفتح النور و لا التلفاز .عاقبت نفسها لأنها بقيت بعده في حياة لم يعد لها فيها أحد و أخلت بعهدها معه ،عهد الحب و لهفته الأولى و قد بقيت متمسكة به رغم كل الخذلان اليومي الذي عاشته معه.
يتيمة الأبوين كانت و تعمق يتمها بفقده فأسدلت دونها و الدنيا ستارا .تعيش أيامها في المقبرة و تشعر بظلمة الموت في غرفتها ،فكانت أيامها الشتائية حارقة البرودة و لياليها الحالكة بيضاء.
و أتى الربيع تفتحت فيه أالوان الحياة الا ألوانها التي ازدادت قتامة .صار الاسود مميزا لما تلبسه فأضفى على وجهها الذابل حزنا غائرا تزيده الأيام حدة و لا تنتقص منه.
ستة أشهر أو أكثر مضت على رحيله عندما تلقت زيارة من أمه و إخوته .لم تكن قد رأتهم منذ زمن بعيد. بدت لهم في هزالها منكسرة عليلة فازدروها وقد هللت لرؤيتهم رغم عتبها عليهم فهم من رائحة الغالي .
منذ لحظة اللقاء الأولى نشبوا في قلبها مخالب كلماتهم و بادروها بكل غلظة :
" عليك بمغادرة الحوش" قالت أمه " احملي أدباشك و اذهبي ،لم يعد لك بيننا مكان"
لم تفهم ما وراء الكلام. قالت تحدثه وهي تبحث في عيونهم عن إجابة " هذا حوشي و حوشك ما دخلهم بيننا؟ مازلت أعيش فيه على صدى ضحكاتك و أقتات من رائحة أنفاسك التي ما تزال تعبق في أركانه، مالذي تقوله هذه المرأة ؟"
- لماذا تقولين هذا؟ تساءلت بصوت غائم الكلمات .
اجابت الحماة ببساطة مميتة
- لانه لم يعد حوشك بل لم يكن كذلك منذ البداية هل نسيت انك حرمت ولدي المرحوم من الذرية فذهب دون ان يترك لنا ما نشتم منه اثره هل تنتظرين منه ان يترك لك شيئا ايتها العاقر
- و هل اريد من الحياة شيئا بعده
تساءلت مرة أخرى و لم تعي بعد معنى الحمم التي قذفتها حماتها المسنة من فمها .
كانت جنات على سجيتها رغم عمرها المتقدم نسبيا ماتزال ساذجة و طيبة لا تتخيل أنه يوجد أناس بكل هذا الشر، أناس يتعرّون دون حياء كاشفين سوآتهم دون مواربة .
نظرت في عيون إخوة "مرحومها، "فأدركت المعنى . لم يكن أفضل منهم بل كان نسخة عنهم رأته يخرج لها لسانه و يقهقه و يهزرأسه مؤكدا المعنى الذي وصلها. رأته يمسك خنجر الغدر بيديه تلك التي طالما قبلتها حانية محبة و يطعنها في قلبها الذي ما يزال يبكيه .
هو لم يترك لها شيئا لترثه عنه غير وهم الحب. وزع كل حيازات لوزه و زيتونه على اخوته و كتب الحوش لأمه و تركها هي على قارعة الندم .
قالت واحدة من اخواته وهي تحثها على جمع اشيائها
- عليك أن تشكريننا لأننا تركناك هنا كل هذا الوقت ..
تعرت الحقيقة ناصعة كسماء صباح صيفي .حقيقة جارحة بل قاتلة لامرأة مثلها قضّت اكثر من نصف عمرها تشعل النار في حطب مبتل و تنفخ على جمر مطفي ..
هو لم يكن يحبها كانت فقط امرأة على قياس نزقه .
لم تندم على حياتها معه بقدر ندمها على الأشهر الأخيرة التي أضاعتها بعد موته .على حزن باذخ لم يكن جديرا به. على دموع قلبها الساذج الذي صدق الوهم و عاش لأجله.
برح بها الألم و لكنها تقبلته بل تلذذته شعرت أنها تستحقه و كانت حريصة على ابقاء الجرح مفتوحا متقيحا موجعا حد الموت حتى يتطهر و تتحرر منه.
كانت لحظات انعتاق من ظلمة سعت اليها حزنا عليه . نور مبهر أغشى عينيها المكمودتين ففتحتهما على الحقيقة و على الحياة .
لم تكسرها الهزيمة بل جعلتها تستقوي على نفسها فيزداد شموخها وهي تحرق كل آثارها و آثاره في ذلك الحوش الذي لم يكن الا شاهد زور على وهم ساكنها و ساكنته طيلة سنوات عمرها فيه .
صارت الآن تعرف مالذي تريده، تلمّست الطّريق الذي سيخرجها من مدينة الموت و الخيانة هذه .ستترك هذا الحوش حيث وُئِدت أحلامها و ستبني لها حوشا آخر يكون ملكا لها يتسع لحدود قلبها و لا تتكسر على أبوابه الأحلام .
البلد
تونس
هذا الموقع يعتمد على ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماته، الاستمرار في تصفح الموقع يعني موافقتك على استخدام هذه الملفات.