أنت تستخدم أحد المتصفحات القديمة. قد لا يتم عرض هذا الموقع أو المواقع الأخرى بشكل صحيح. يجب عليك ترقية متصفحك أو استخدام أحد المتصفحات البديلة.
ادريس خالي
الميلاد
Jan 1, 1965
(العمر: 59)
نموذج من كتاباتك
صندوق
يضع الرجل مفتاحًا صغيرًا في الجيب الأيمن لسترته السوداء، حفنة مفاتيح في الجيب الأيسر، أمامه ساعتان ويصل إلى هناك، لا بأس إنْ أسْرَع المشي، فقد يصل بعد أذان العشاء.
يسير الرجل صامتًا، يعبر الممرَّ الذي كان يُخيفه، سيصل إلى هناك ويعود غانمًا، يتقدَّم غير مُبالٍ بالحصى الذي تطؤه فردتا حذائه الغليظ.
يتوقَّف الرجل ليستريح، ساعة فقط ويكون هناك وحيدًا أمام الباب.
ويَنهض الرجل ليُكمل المسير، يتحسَّس جيوب سُترته وهو يسير.
ما زال في رجلي ما يكفي من الجُهد، لن أتوقَّف حتى أصلَ إلى هناك، يقول الرجل لنفسه.
يمرُّ سرب من الطيور السوداء فوق الرجل فيرتعد، يُسرع الخَطْو، أمامه خمس عشرة دقيقة ويكون هناك، يَفرك جيدًا كَفَّيه، ويَنفخ فيهما.
أخيرًا وصلتُ، يحدِّث الرجل نفسه، أخيرًا وصلتُ.
منذ ساعتين والرجل يمشي مهمومًا، يمشي كما لو أنه يريد أن يتخلَّص من أمرٍ ما في أسرع وقت، ثم يَصِل إلى المنزل الذي قضى فيه كلَّ طفولته، جسمه يَرتعد، كلُّ أطراف الجسم بما فيها الداخلية ترتعد، حين تريد التخلُّص من قلقٍ ما يُغَلِّفك بردُ العالم في مُلاءَته.
يتقدَّم الرجل ثلاث خطوات، يحاول أن يجعلَ من نفسه شخصًا متماسكًا، قادرًا على تحمُّل الثقل الذي يَحمله.
خطوتان وينتهي الأمر، يَجزم الرجل.
بعد أذان العشاء بساعة وعشرين دقيقة، كان الرجل هناك واقفًا أمام الباب، صمْتٌ وظلام وزمهرير يُغطِّي المكان، الرجل أمام الباب تمامًا يبحث في جوفه عن بقايا حرارة؛ ليَنفثها على كَفَّيه اللتين ترتعدان، يُخرج من جيب سُترته الصوفيَّة حَفنة المفاتيح، يُجَرِّب المفتاح الأول، يُقَرِّب المفتاح من فتحة القفل، يُولِج المفتاح في القفل، اليدان لا تتوقَّفان عن الارتعاد، يُدير المِفتاح الذي في القفل إلى اليمين، يُديره مرتين.
وينفتح الباب الأزرق الذي يؤدي مباشرة إلى فناء الدار.
يدخل الرجل إلى الدار، يخرج ليتأكَّد من أنَّ الزُّقاق فارغ، لا أحد هناك، فقط قِطٌّ أسود في أقصى الزقاق يمرُّ مسرعًا، يُغلق الرجل الباب خلفه بالعارض، يفرك يديه الآن في وسط المنزل.
إلى اليمين يتَّجه الرجل الآن، بينما حَفنة المفاتيح تستريح في كفِّه اليُمنى، ثَمَّة باب رمادي، يَقترب منه الرجل ذو السُّترة السوداء، يتوقَّف، يَفحص المكان، بحركة يسيرة يفتح الرجل الباب المؤدِّي إلى الغرفة.
هناك صندوق حديدي أخضر في الرُّكن الأيسر للمنزل.
يقترب الرجل من الصندوق.
خطوتان وأصِلُ إليه، يكلِّم الرجل نفسه.
أمام الباب الرمادي يقف الرجل قلقًا، كأنَّ نارًا شبَّت في تلابيبه، يَخطو خطوة إلى الوراء، ينظر إلى الظلام المُمتد خلفه، هناك قلق في حركته، من الجيب الأيمن جهة القلب يُخرج الرجل المفتاح الصغير، يتقدَّم نحو القفل الأسود - الصندوق - بينما نبضات قلبه تزداد.
ينبغي عليه أن يُسرع في فتحه قبل أن يَلحق به إخوته.
أنا الأكبر، أنا أكبرهم أنا، أنا، أنا، أنا الجدير بما في الصندوق، يقول الرجل.
في الغرفة التي احْتَضَنت شغبَ كلِّ إخوته توجد مرآة الأم، لا يُمكن تصوُّر امرأة من دون مرآة، يُخَيَّل للرجل أن أُمَّه امتزجَت بزجاج المرآة، وهي الآن تنظر إليه، يكاد يسمعها تقول له:
أين ترَكت إخوتك يا ولدي؟
غير أنَّ الرجل عازمٌ على فَتْح الصندوق قبل أن يأتي إخوته.
يرفع الرجل رأسه قليلاً، تَلتقطه المرآة، يتفادى صورته التي عكَستها المرآة التي علاها الغبار، يحني رأسه ويركز عينيه على قفل الصندوق، دورة مفتاح أخرى ويَنفتِح الصندوق الأخضر، تهتزُّ اليدان وترتعشان بقوَّة وهما تُحاولان أن تولِجا المفتاح في القفل، يهتزُّ المفتاح لاهتزاز اليد، ينظر الرجل إلى زاوية الغرفة شبه المُظلمة، لا بد أنَّ قلبَه يرتعد لارتعاد اليد.
يولج المفتاح في القفل، يتعثَّر، لا يريد أن يدخلَ إلى جوف القفل، كأنَّ شيئًا ما بالداخل يَمنعه، يَلتفت الرجل وراءه، ينظر إلى الباب والمرآة التي تُطارده، يدخل المفتاح الصغير في قفل الصندوق، يَنفتح الصندوق، يتوقَّف الرجل عن الحركة، يتنفَّس بعُمق، تتحرَّك عيناه في كل أنحاء الغرفة، يُخَيَّل إليه أنَّ شبَحَ أُمِّه يُكَلِّمه.
لِمَ لا تنتظرهم يا ولدي؟ إنهم إخوتك لَحْمُك ودَمُك.
لكن الرجل غير مستعدٍّ لانتظار أحد.
يقف الرجل الآن مزهوًّا بفَتْحه قفل الصندوق وحده، سكون يعم الغرفة، سكون يُشبه المُوس الحادة، يقرأ الرجل تعاويذ غير مسموعة، يَجلس، يضع رُكبَتَيْه على الأرض، يفتح باب الصندوق، ينظر مليًّا إلى ما بداخله، يفرك يديه دون أن يَلتمس الدفء، ثَمَّة مفتاح صغير ملفوف في كيس جلدي أسود، الرجل يريد أن يقتلَ الوقت الثقيل الذي يَجثم على أنفاسه، يقرِّب المفتاح الذي في الكيس ويضعه في بطن كَفِّه اليُمنى، يَنظر إليه ويَبتسم.
ثم يتحرَّك شيء ما في الجوار، يسترق الرجل السمع، يقف، يَسير على أطراف بنانه إلى الباب، يضع أُذنه اليمنى على وجه الباب، يتحسَّس نبضات الباب الأزرق الذي يَفصل الغرفة عن فناء المنزل، صوتُ أقدامٍ آتية بسرعة نحو باب الغرفة.
قبل أن يتمكَّن الرجل من إغلاق الصندوق، كانت أكفٌّ غاضبة قَلِقة تَقرع بقوَّة الباب.
قبل أن يستجيبَ الباب مكرهًا لطلب الأكف الغاضبة القلقة، كانت أقدامٌ غليظة تَركُله.
قبل أن يتوارى الباب خائفًا، كان الرجل قد سقَط على الأرض.
قبل أن يَحتضن باطنُ الأرض جسم الرجل ذا السُّترة السوداء وحَفنة المفاتيح، كانت الأقدام تنتقل جِيئةً وذَهابًا في فناء الدار في كل جَنبات الغُرفة؛ بحثًا عن شيءٍ ما.
قبل أن يتمَّ العثور على ذلك الشيء، ما كان نعيقُ غراب قد ملأَ المكان.
البلد
المغرب
هذا الموقع يعتمد على ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماته، الاستمرار في تصفح الموقع يعني موافقتك على استخدام هذه الملفات.