روضة السالمي

روضة السالمي. ولدت سنة 1974. تقيم في تونس العاصمة. تعمل موظفة حكومية. ماجستير أديان مقارنة تهتم بالكتابة والترجمة والتصوير الشمسي.

صدر لها عن دار زينب للنشر والتوزيع مجموعة قصصية بعنوان "أبعد من اللون" سنة 2016 "نساء صغيرات مذعورات" وسنة 2017. صدر لها عن دار ناشري للنشر الالكتروني مجموعة قصصية بعنوان "لا شيء في السماء" سنة 2004 ومجموعة مسرحية للأطفال بعنوان "عصابة جندب ومسرحيات أخرى" سنة 2014.

حصلت على المركز الأوّل في الجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الطفل لسنة 2009، عن مسرحية "غيمة الأحلام الدائرية".

نشرت نصوصها منذ سنة 1993 في بعض الصحف التونسية والعربية. تنشر على مدونتها الخاصة نصــ...وص روضة السالمي. وفي بعض المواقع الأدبية.
الميلاد
Feb 14, 1974 (العمر: 50)
الإقامة
تونس
نموذج من كتاباتك
الحبّ تحت مربّع من الزرقة-روضة السالمي-مجموعة سميرة وأخواتها
لم يتوقّع أحد ما فعلته بيّة ذلك اليوم.
بدأ النهار عاديا.
انسكبت أشعة الشمس عمودية على بلاط الصحن. فعكست الأرضية انكسار الأشعة على الجدران التي عشّشت فيها الرطوبة.
لعقت إحدى القطط يديها ونظّفت وجهها مرارا. في حين تمسّح القط برتقالي اللون، بموائه الصاخب على لوح الباب الأزرق.
ظهرت غيمة ثم ابتعدت مسرعة واختفت وسط اللون السماوي.
ربّما حدث ذلك في الحادية عشرة صباحا.
وكانت بيّة تقريبا بمفردها في البيت، إذا ما استثنيا قططها الخمسة، وعشرات الجرذان، وساكن العليّة، وابنها حوسين.
لم تفح من المطبخ رائحة الطعام، فالعروسي لم يعد بعد، وعليه فلم يكن في البيت ما يؤكل، كما أن بيّة لم تكن تحبّ الطبخ. وكان الزقاق هادئا.
أغلب السكان كانوا إما يغطون في النوم انتظارا للموت الذي يبطئ في القدوم، أو يغطون في النوم بعد سهر طويل، أو يغطون في النوم لأنه المتعة الوحيدة المتاحة.
"روبافييييكيا.... روبافييييكيا..."
اخترق الصوت المشهد الصامت. مثلما تخترق رصاصة طائشة صدر محتضر يوشك على الخلاص.
حرّكت القطة البرتقالية السمينة التي كانت تلعق يديها وتنظف وجهها، أذنيها القصيرتين في اتجاه مصدر الصوت. رفع القط ذي اللونين الأبيض والأسود رأسه وحكّ بقائمته الخلفية البراغيث التي عشّشت في جسمه. ومن الغرفة الوحيدة اندفعت نحو الفناء المبلّط قطّتان صغيرتان بلون القطن والقهوة تتنازعان كيسا بلاستيكيا أسود.
ربّما نبعت في تلك اللحظة، وبسبب ذلك الصوت الممطوط لبائع الروبافيكيا المشبع بالبلغم، فكرة ما في عقل بيّة، أو ما تبقى منه.
كنا نطلق عليها اسم المهبولة.
وكانت القلّة منا تعرف أن اسمها الحقيقي هو البيّة.
وربما يعرف شخصان أو ثلاثة بمن فيهم هي أنها كانت في الثالثة عشرة عندما تزوجت العروسي، ذلك العربيد وزير نساء والعاطل عن العمل حينها، والذي يفوقها بعشرين عاما.
كانت بيّة ذات الثلاثة عشرة سنة حينها حاملا بابنها الأوّل الحطّاب مجهول النسب. ولسبب ما وافق العروسي على زواج التسوية ذاك. ولسبب مجهول استمر زواجهما إلى أكثر من ثلاثين عاما.
حملت بيّة السمراء ذات العينين الزرقاوين بعد إنجاب ابنها الحطاب عديد المرات، ولم يعش من أبنائها سوى خمسة.
أكبر أبناء البيّة هو الحطّاب، في الثلاثين من عمره، وهو يحترف تقليد الرسوم المشهورة، وتغطي وجهه لحية صهباء لم يشذّبها قط، وعلى جبينه دائرة داكنة اللون بفعل السجود. ورث عن أمه عينيها الضيقتين الزرقاوين وعن أبيه البيولوجي لونه المائل إلى الزرقة مع بعض النمش. وكان على الحطاب أن يذهب مرتين يوميا إلى مركز الأمن بالحفصية ليوقّع ورقة الحضور، فقد كان تحت المراقبة إثر اعتدائه على طفل بالفاحشة.
مراد شُهر "جرادة" هو الابن الثاني، وله من العمر خمسة وعشرين عاما، إذ أجهضت البيّة عديد المرات منذ حملها الأوّل، كما أنها وضعت بنتا توفيّت بعد أشهر من ولادتها. وقد استحقّ جرادة لقبه بسبب نحافته و طول ساقيه في غير اتساق مع جذعه، وسرعته في الركض والقفز بعد كلّ عملية نشل يقوم بها. وهو مختص في سرقة أحذية المصلّين وبيعها في سوق باب سيدي عبد السلام.
الابن الثالث لهذه العائلة هو شدولة، وهو في الرابعة والعشرين، نحيف الجسم مخطوف اللون، على وجهه آثار بثور وعلى ساعديه آثار تقطيع بالموسى. وهو رسام مثل شقيقه، كما أنه مصاب بربو مزمن. وقد أصرّت البيّة على إطلاق هذا الاسم عليه بعد أن حلمت بأن بلحسن الشاذلي زارها في المنام وطلب منها بعد أن أعطاها دفترا ممزقا أن تسمي ابنها على اسمه.
أما الحوسين أو الحوسي، ذي الثالثة والعشرين من عمره، فهو أوّل شيء تشمّه وتراه لو دفعت باب الدار الأزرق المشدودة أجزائه إلى بعضها بمسامير وخيوط معدنية ودلفت السقيفة، قبل أن تلتقط أنفك رائحة السردين المقلي، وبراز القطط، والمرحاض المشترك.
كان الحوسين الذي يتبوّل ويتغوّط لا إراديا، يرابط صيفا وشتاء في نفس المكان من السقيفة وفي نفس الوضعية، منكمشا على نفسه، شادا ركبتيه إلى صدره، وهو يهزّ جسمه إلى الأمام والخلف بلا انقطاع. وتصدر عنه من حين إلى آخر نوبة هسيترية من القهقهات.
وقد تحدّث البعض عن حادثة اغتصاب تعرّض لها في طفولته المبكّرة، وتكرار الاعتداءات عليه وتلقيه لضربات شديدة على رأسه جعلته يفقد الصواب.
شخص أو اثنان لفت انتباههما أن الوحيد الذي كان يحرص على تحميمه مرّة كلّ أسبوع وتحديدا يوم الجمعة، هو الحطّاب. وكانا متيقنان أنه كان يلوطه مرة في الأسبوع قبل أن يذهب إلى مركز الأمن ليثبت أنه لم يغادر مقرّ إقامته.
أما آخر العنقود فهي خدجدج، ذات العشرين عاما، وهي رغم ساقيها المقوستين وأسنانها البارزة فقد كانت على قدر معقول من الملاحة بفضل عينيها الزرقاوين. وكانت خدجدج وهو تصغير لاسم خديجة تسكن في بيت الجيران لأنها لم تجد في بيت أهلها مكانا تغيّر فيه ملابسها أو بابا للمرحاض لقضاء حاجتها بعيدا عن العيون.
"روبافييييكيا.... روبافييييكيا..."
كان جميع أفراد الأسرة خارجا، إذا ما استثنينا ذالك الشيء حوسين، والقطط والجرذان والبيّة.
توغّل صوت البائع المتجوّل داخل الأزقة. وبقي بعض صدى صوته ليصل متشعّبا عبر الجدران التي لم تفلح أشعة الشمس في تدفئتها.
وفجأة دبّت الحركة في جسم البيّة. وتملّكتها حماسة كبيرة. فراحت تتنقّل جيئة وذهابا داخل حجرة النوم. ثم فتحت الباب وخرجت مسرعة.
لم يتسن لأحد رؤيتها في تلك اللحظات. ولا حتى القطط التي تحرّكت على مضض مفسحة لها المجال كي تمرّ. فقد اندفعت كسحابة عابرة.
في السقيفة كان الحوسين، بجسمه النحيف العاري إلا من بعض الأسمال، يهتزّ إلى الأمام والخلف في وضعه المقرفص الأبدي. ربما يكون هو الوحيد الذي شاهد بيّة وهي تخرج حاملة تحت إبطها كيسا أسودا كبيرا.
بعد نحو ساعة عادت بيّة.
شعرت القطط بعودتها فابتعدت عن طريقها في غير عجلة.
جلست بيّة على البلاط وفتحت الكيس الذي كانت تحمله وأخرجت حذاء رجاليا لامعا، أبيض وأسود، من النوع الذي كان منتشرا في الأفلام الراقصة التي تصوّر فترة الخمسينات. أزاحت بضربة من ساقيها المعوجتين الخفّ البلاستيكي الأحمر الممزقّ الذي كانت ترتديه، فاستقرّ قرب الباب الخشبي الأزرق حيث كان القط يحكّ ظهره، وارتدت بسعادة واضحة زوج الحذاء.
تمشّت في الفناء المبلّط مثل عارضات الأزياء فأصدر الحذاء عند كلّ خطوة قزقزة. وبخفّة الفراشات تحرّكت بيّة بخطوات راقصة، ثم انحنت على الكيس وأخرجت مطرية. كانت مطرية زرقاء اللون وبها نقاط بيضاء مثل غيوم شاردة في الفضاء.
نظرت بيّة أوّلا إلى مربّع السماء الذي يغطي الفناء، ثّم أمعنت النظر إلى النافذة الوحيدة في غرفة العليّة وبعد ذلك فردت المطرية وتبخترت بها بين أرجاء الفناء. وهي تغطي بها رأسها تارة وتسندها إلى كتفها تارة أخرى، وكأنها تقلّد ممثّلة هوليودية من الأربعينات.
مال الظلّ على الحائط الغربي قبالة نافذة العليّة. ربما تكون بعض عصافير الدوري قد زقزقت بكسل ثم انكفأت على نفسها تفلي أجنحتها بصمت فاتر. عاد التلاميذ من مدارسهم، في تلك الفترة من النهار، وبدؤوا لعب الكرة. وهكذا دبّت بعض الحياة في الزقاق.
عاد العروسي نحو الثانية بعد الزوال. فقد كان بدأ يشتغل منذ ثلاثة أشهر تقريبا حمّالا في سوق السمك. تعلّقت به القطط التي قضت صباحها ممدّدة في الشمس الربيعية الدافئة.
دخل العروسي إلى المطبخ وبدأ يسلق المقرونة مع الزيت والسكر وهو الطعام الوحيد الذي يتناوله الحوسين مرّة في اليوم وفي بعض الأحيان في اليومين إذا ما حدث ونسي العروسي أمره، وكثيرا ما كان ذلك يحدث.
ثم أخذ يقلي كيلو السردين الذي سيترك بعضه لمن يريد أن يأكل من أولاده ويتناوله نصيبه مع قارورة سبيريتو جلبها ملفوفة في ورق جريدة.
كان الحطّاب يقبع منذ أسبوعين في الإيقاف في مركز الأمن بالحفصية بسبب السبّ والقذف والعربدة في الشارع. أما جرادة فربما يعود أواخر العشيّة ليأكل ما يجده ويغيّر ملابسه قبل أن يخرج من جديد. في حين ينام الشاذلي المصاب بالربو في مستشفى عزيزة عثمانة، إثر إصابته بنوبة سعال حادة صاحبها قيء أحمر. حدث له ذلك إثر شربه قارورة سبيريتو كاملة مع بعض الأقراص المخدرة دون تناول أيّ طعام. وكانت خديجة التي لا تجد مكانا تغيّر فيه ملابسها أو بابا للمرحاض تقيم مع عشيقها الجديد في وكالة بباب العلوج.
دخلت البيّة حجرة النوم ولم تخرج منها إلا بعد أن دغدغت أنفها رائحة السمك الصغير الأزرق المقلي في زيت قديم.
وعندما وقفت في الفناء، بدا وجهها المكرمش بعينيها الزرقاوين الضيقتين، كغطاء طاولة مبقّع بآثار الصلصة والقهوة وأصفر البيض. وبدا أنها طلت وجهها بما يشبه مساحيق التجميل.
وأسوة بالهوليودية الراحلة ريتا هيوارث، أخذت البيّة تذهب وتجيء بخيلاء في الفناء المشمس وهي تطرق البلاط بحذائها الرجالي وقد فردت المطرية الزرقاء تحت أنظار ثلاثة أو أربعة قطط كانت تلتهم رؤوس السردينة التي كان يلقيها العروسي بين الفينة والأخرى من شباك المطبخ الذي يفتح على الفناء.
وعندما رفع العروسي رأسه ونظر من النافذة، وكان قد جرع ربع زجاجة السبيريتو والتهم خمسة أو ستة سردينات، رأى البيّة في الفناء تتباهى بالحذاء والمطرية، حينها نهرها مغمغما سيلا من الشتائم، وبحركة مباغتة لم يتوقعها أحد ولا حتى كاتب هذه السطور، ألقى عليها المقلاة بما فيها من بقايا الزيت الأسود المغلي.
لم تصب البيّة بأذى، فقد نطّت بخفّة قطّ وبقيت تهزّ مطريتها وتدور بها غير مبالية، فيما تفرّقت القطط وكادت إحداها تنزلق في الزيت الذي بدأ يفقد حرارته بالتدريج.
خرج العروسي من المطبخ مسرعا ودخل إلى حجرة النوم. وهناك بدأ سيل السباب الذي يقرن اسم الربّ بمناطق حساسة من الجسم.
وكان النائمون في الزقاق وقد أيقضهم صوت السباب وركلات تلاميذ المدارس على الجدران الآيلة للسقوط، قد انقلبوا على جنبهم الآخر وأعادوا تغطية رؤوسهم بحثا عن النوم في انتظار شيء أهمّ.
كانت البيّة تواصل اللعب بمطريتها الجديدة، عندما خرج العروسي من حجرة النوم وقد طار مفعول الاسبريتو من عقله.
كان برأسه الأصلع ووجهه المتغضّن الذي يغطّيه زغب رمادي صلب، وجسمه الذي يميل إلى القصر أشبه بمصارع عجوز في حلبة. في البداية رجحت كفّة الصراع إلى صالحه بعد أن أمسكها من رقبتها محاولا خنقها. إلا أنها أعملت في وجهه أظافرها وضربته على بطنه بالحذاء الجديد وعضّته من إبهامه حتى كادت تقطعه.
سقطت المطرية بعيدا فتفاداها القط البرتقالي وقفز هاربا.
ومثلما تهدأ العاصفة التي تبدأ فجأة، جلس العروسي على البلاط منتحبا متسائلا من دون أن ينتظر الإجابة "لماذا لم تتركي لي حتى معطفا؟"
كانت القطط قد استولت على بقية السمك.
دخلت البيّة إلى المطبخ وجلبت بقية زجاجة السبيريتو، ثم جلست إلى جانب العروسي على البلاط المغطى بالزيت. شربت جرعة وأعطته الزجاجة ليحتسي بدوره.
في ذلك المربع من الزرقة الذي استطاع رؤيته عبر ثقب في نافذة العليّة مرت سحابة عابرة. لم يكن بإمكانه الخروج الآن. عليه الانتظار ريثما ينتهيان. فقد كان العروسي وبيّة يتعانقان على البلاط بين بقايا السردين والزيت المندلق الذي استحال إلى جزر داكنة تبقّع البلاط.
مرّ على ذلك اليوم سنوات عديدة.
إلا أنه ورغم انتقاله للسكن في تربة الباي، فقد حمل معه أينما ذهب العروسي والبيّة.
لم يفارقاه يوما. وكأنهما استحالا إلى جزر داكنة من الزيت المتخثّر فوق بلاط ذاكرته.
فلطالما استعاد في أحلامه شخير العروسي الذي يشبه استغاثة خنزير بري وقع في مصيدة، وكم أرّقه مشهد مؤخرته المتحرّكة جيئة وذهابا في الحيز الضيّق الذي أتاحته ساقا البيّة الملتفتان حول عنقه. ولطالما قفزت إلى أنفه روائح السردين المقلي وبراز الحوسين كلما شاهد قططا تلعق مؤخراتها، تحت مربّع السماء الأزرق.
البلد
تونس
Occupation
صحفية
أعلى