من صاحب الشرطة إلى سيد الطغاة
مولاي المستبد بالله
بعد السلام على حضرتكم والدعاء لكم بطول العمر ودوام الجور والطغيان و الجبروت والاستبداد،
أخبركم أن الله قد أظفركم بواحد من خصومكم، بل من أعدائكم وأعداء نجدان العامرة، وهو المدعو ابن جني. وقد استطعنا، بفضل يقظة رجالنا، أن نحدد المكان الذي يقيم فيه هذا الشيخ الضال، وهو عبارة عن فندق من الفنادق الرخيصة التي يأوي إليها أمثاله من الغاوين.
وبعد أن ترصدنا خطواته وأحصينا حركاته، من حيث لا يدري، قمنا باقتحام الفندق في منتصف الليل. وكنتُ كالعادة - يا مولاي الطاغية - في مقدمة المقتحمين، متمثلا بقول العباس بن مرداس السلمي:
أشدُّ على الكتيبة لا أبالي = أحَتْفي كان فيها أم سواها
وابن جني هذا - حفظكم الله - رجل أشقر، رومي القسمات، وذلك لأن أباه ( جنايس Gennaius) كان مملوكا روميا. وهو ما جعلنا نشتبه، منذ البداية، في نواياه تُجاه وطننا الغالي.
وبعد أن ربطناه إلى السرير، سألناه عن تاريخ ميلاده و تاريخ وفاته، فكان جوابه:
- المؤرخون مختلفون في سنة ميلادي. وأغلب الظن أنني ولدتُ سنة 322 للهجرة. أما وفاتي فكانت سنة 392، وأنا في السبعين من العمر...
ثم سألناه بعد ذلك عن مذهبه النحوي، وهل هو بصري كما يزعم البصريون، أم بغدادي كما تدعي طائفة أخرى، أم يتخذ لنفسه منهجا وسطا بين الكوفيين والبصريين، فكان الجواب:
- إذا قلتم إني بصري فأنتم لم تخالفوا الصواب، وإذا زعمتم أني بغدادي فإنكم تلامسون جانبا من الحقيقة، وإذا افترضتم أني في الوسط، فهذا لا يخلو من صحة.
وسألناه هل هو معتزلي، فرفض أن يجيب، فآثرنا عدم الإلحاح هنا في الفندق، حتى لا يُسمع صراخه، وانتقلنا إلى سؤاله عن أساتذته فأجاب:
- أساتذتي كُثر، فمنهم أبو الفرج الأصبهاني وأبو العباس الموصلي وأبو بكر العسكري. أما أستاذي الحقيقي فهو الشيخ أبو علي الفارسي. كان رحمه الله من أكابر أئمة النحو، وقد لازمتُه طوال ربع قرن من الزمان...
وعن آول لقاء له بالمتنبي وما تلا ذلك من علاقة طويلة بينهما، قال:
- كانت تجمعني بأبي الطيب مودة صادقة، لا تشوبها شائبة... وقد التقيته، أول ما التقيته ، في حلب الشهباء، في بلاط سيف الدولة الحمداني، وصحبته بعد ذلك زمنا طويلا. وكان مُجلا لي، معترفا بفضلي. وطالما سمعتُه يقول عني: " هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس"... وكنت أناظره في النحو، كما أنني شرحتُ ديوانه في كتاب " الفسْر"...
وسألناه عن الفترة التي قضاها مع المتنبي في شيراز، فأجاب قائلا:
- نعم، لقد أمضينا فترة من الزمن في شيراز، في ضيافة عضد الدولة... وكان أستاذي أبو علي الفارسي هناك. وكان يستثقل أبا الطيب لقبح زيه ولما يأخذ به نفسه من الكبرياء، فما زلتُ بالشيخ أبي علي حتى غير رأيه في شاعرنا شيئا فشيئا، وتأكدت بينهما المودة...
وسألناه عن كتابه ( الفسْر )، فقال:
- هو كتاب شرحتُ فيه ديوانَ أبي الطيب المتنبي شرحا استفاد منه كل الذين أتوا من بعدي... ذلك أن عشرتي الطويلة للشاعر جعلتني عارفا بالظروف التي أحاطت بشعره. ومع ذلك، فقد هاجمني بشأنه بعض المعاصرين، مثل ابن فورجة، في كتابَيْه " الفتح على أبي الفتح " و" التجني على ابن جني "!... كما أن أبا حيان التوحيدي ألّف هو الآخر كتابا بعنوان: " الرد على ابن جني في شعر المتنبي"... وقام الشيخ الربعي كذلك بتأليف كتاب " الرد على ابن جني في تفسير شعر المتنبي"...
إثر ذلك، توجهتُ إليه شخصيا بقولي:
- لا يخفى عليك، أيها الشيخ الضال، أن القانون الجنائي لنجدان يجرّم الخروج على العروض الخليلي. ومع ذلك فإنك غضضتَ الطرف عما ارتكبه صديقك المتنبي في هذا المجال... فمن ذلك ميميته:
( تَفَكّرهُ علمٌ و منطقه حكمٌ = و باطنه دين و ظاهره ظرفُ)
التي خرج فيها على الوزن خروجا واضحا، لأنه لم يجئ في شعر العرب " مفاعيلن " في عروض الطويل غير مُصَرّع.. ومن ذلك أيضا قصيدته على الرمل، التي يقول فيها:
( إنما بَدْر بن عمّار سحابُ = هَطلٌ فيه ثوابٌ و عقابُ)
إذْ أجرى مجموع القصيدة على ذلك في الأبيات غير المصرعة...
فسكتَ الشيخ أبو الفتح لحظة ثم قال:
- ما أكثر ما عابه الناس على أبي الطيب!... ولكنه لم يكن يلقي بالا لمنتقديه... كان يفعل ببحور الشعر ما يشاء... والبحورأيضا كانت تنقاد له وفْق هواه...
وأثناء استنطاقي له، بالحزم المطلوب، عثر رجالنا - يا مولاي المستبد بالله - في أوراق هذا الشيخ الضال، على قصيدة من نظمه، يقول في مطلعها:
فإنْ أصبحْ بلا نسب = فعلْمي في الورى نسبي
ومن أبياتها:
شكرتُ الله نعمتَهُ = و ما أولاه من أرب
زَكَتْ عندي صنائعه = فوَفَّقَني و أحْسَنَ بي
ومنها هذا البيت الذي يبدو ظاهره في ذكْر إحسان الخالق:
تَخَوَّلَني و خوَّلَ بي = و نَوَّلَني و نَوَّهَ بي
ولكنه يتضمن دون شك شفرة خاصة موجهة لأعداء نجدان. بيد أن صاحبَنا رفض الإدلاء بأية معلومات عن هذه القصيدة وعن أسباب نظمها وما تحفل به من ألغاز ومن إشارات خفية. وسنقوم بحول الله باستخلاص المعلومات المتعلقة بهذه القصيدة المشبوهة، حالما ننقل هذا الشيخ الغاوي إلى المخفر الخاص لشرطة نجدان.
وتقبلوا - مولانا المستبد بالله - أسمى عبارات الطاعة.
مولاي المستبد بالله
بعد السلام على حضرتكم والدعاء لكم بطول العمر ودوام الجور والطغيان و الجبروت والاستبداد،
أخبركم أن الله قد أظفركم بواحد من خصومكم، بل من أعدائكم وأعداء نجدان العامرة، وهو المدعو ابن جني. وقد استطعنا، بفضل يقظة رجالنا، أن نحدد المكان الذي يقيم فيه هذا الشيخ الضال، وهو عبارة عن فندق من الفنادق الرخيصة التي يأوي إليها أمثاله من الغاوين.
وبعد أن ترصدنا خطواته وأحصينا حركاته، من حيث لا يدري، قمنا باقتحام الفندق في منتصف الليل. وكنتُ كالعادة - يا مولاي الطاغية - في مقدمة المقتحمين، متمثلا بقول العباس بن مرداس السلمي:
أشدُّ على الكتيبة لا أبالي = أحَتْفي كان فيها أم سواها
وابن جني هذا - حفظكم الله - رجل أشقر، رومي القسمات، وذلك لأن أباه ( جنايس Gennaius) كان مملوكا روميا. وهو ما جعلنا نشتبه، منذ البداية، في نواياه تُجاه وطننا الغالي.
وبعد أن ربطناه إلى السرير، سألناه عن تاريخ ميلاده و تاريخ وفاته، فكان جوابه:
- المؤرخون مختلفون في سنة ميلادي. وأغلب الظن أنني ولدتُ سنة 322 للهجرة. أما وفاتي فكانت سنة 392، وأنا في السبعين من العمر...
ثم سألناه بعد ذلك عن مذهبه النحوي، وهل هو بصري كما يزعم البصريون، أم بغدادي كما تدعي طائفة أخرى، أم يتخذ لنفسه منهجا وسطا بين الكوفيين والبصريين، فكان الجواب:
- إذا قلتم إني بصري فأنتم لم تخالفوا الصواب، وإذا زعمتم أني بغدادي فإنكم تلامسون جانبا من الحقيقة، وإذا افترضتم أني في الوسط، فهذا لا يخلو من صحة.
وسألناه هل هو معتزلي، فرفض أن يجيب، فآثرنا عدم الإلحاح هنا في الفندق، حتى لا يُسمع صراخه، وانتقلنا إلى سؤاله عن أساتذته فأجاب:
- أساتذتي كُثر، فمنهم أبو الفرج الأصبهاني وأبو العباس الموصلي وأبو بكر العسكري. أما أستاذي الحقيقي فهو الشيخ أبو علي الفارسي. كان رحمه الله من أكابر أئمة النحو، وقد لازمتُه طوال ربع قرن من الزمان...
وعن آول لقاء له بالمتنبي وما تلا ذلك من علاقة طويلة بينهما، قال:
- كانت تجمعني بأبي الطيب مودة صادقة، لا تشوبها شائبة... وقد التقيته، أول ما التقيته ، في حلب الشهباء، في بلاط سيف الدولة الحمداني، وصحبته بعد ذلك زمنا طويلا. وكان مُجلا لي، معترفا بفضلي. وطالما سمعتُه يقول عني: " هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس"... وكنت أناظره في النحو، كما أنني شرحتُ ديوانه في كتاب " الفسْر"...
وسألناه عن الفترة التي قضاها مع المتنبي في شيراز، فأجاب قائلا:
- نعم، لقد أمضينا فترة من الزمن في شيراز، في ضيافة عضد الدولة... وكان أستاذي أبو علي الفارسي هناك. وكان يستثقل أبا الطيب لقبح زيه ولما يأخذ به نفسه من الكبرياء، فما زلتُ بالشيخ أبي علي حتى غير رأيه في شاعرنا شيئا فشيئا، وتأكدت بينهما المودة...
وسألناه عن كتابه ( الفسْر )، فقال:
- هو كتاب شرحتُ فيه ديوانَ أبي الطيب المتنبي شرحا استفاد منه كل الذين أتوا من بعدي... ذلك أن عشرتي الطويلة للشاعر جعلتني عارفا بالظروف التي أحاطت بشعره. ومع ذلك، فقد هاجمني بشأنه بعض المعاصرين، مثل ابن فورجة، في كتابَيْه " الفتح على أبي الفتح " و" التجني على ابن جني "!... كما أن أبا حيان التوحيدي ألّف هو الآخر كتابا بعنوان: " الرد على ابن جني في شعر المتنبي"... وقام الشيخ الربعي كذلك بتأليف كتاب " الرد على ابن جني في تفسير شعر المتنبي"...
إثر ذلك، توجهتُ إليه شخصيا بقولي:
- لا يخفى عليك، أيها الشيخ الضال، أن القانون الجنائي لنجدان يجرّم الخروج على العروض الخليلي. ومع ذلك فإنك غضضتَ الطرف عما ارتكبه صديقك المتنبي في هذا المجال... فمن ذلك ميميته:
( تَفَكّرهُ علمٌ و منطقه حكمٌ = و باطنه دين و ظاهره ظرفُ)
التي خرج فيها على الوزن خروجا واضحا، لأنه لم يجئ في شعر العرب " مفاعيلن " في عروض الطويل غير مُصَرّع.. ومن ذلك أيضا قصيدته على الرمل، التي يقول فيها:
( إنما بَدْر بن عمّار سحابُ = هَطلٌ فيه ثوابٌ و عقابُ)
إذْ أجرى مجموع القصيدة على ذلك في الأبيات غير المصرعة...
فسكتَ الشيخ أبو الفتح لحظة ثم قال:
- ما أكثر ما عابه الناس على أبي الطيب!... ولكنه لم يكن يلقي بالا لمنتقديه... كان يفعل ببحور الشعر ما يشاء... والبحورأيضا كانت تنقاد له وفْق هواه...
وأثناء استنطاقي له، بالحزم المطلوب، عثر رجالنا - يا مولاي المستبد بالله - في أوراق هذا الشيخ الضال، على قصيدة من نظمه، يقول في مطلعها:
فإنْ أصبحْ بلا نسب = فعلْمي في الورى نسبي
ومن أبياتها:
شكرتُ الله نعمتَهُ = و ما أولاه من أرب
زَكَتْ عندي صنائعه = فوَفَّقَني و أحْسَنَ بي
ومنها هذا البيت الذي يبدو ظاهره في ذكْر إحسان الخالق:
تَخَوَّلَني و خوَّلَ بي = و نَوَّلَني و نَوَّهَ بي
ولكنه يتضمن دون شك شفرة خاصة موجهة لأعداء نجدان. بيد أن صاحبَنا رفض الإدلاء بأية معلومات عن هذه القصيدة وعن أسباب نظمها وما تحفل به من ألغاز ومن إشارات خفية. وسنقوم بحول الله باستخلاص المعلومات المتعلقة بهذه القصيدة المشبوهة، حالما ننقل هذا الشيخ الغاوي إلى المخفر الخاص لشرطة نجدان.
وتقبلوا - مولانا المستبد بالله - أسمى عبارات الطاعة.