ليس الفن المسرحي هو المؤلف وما كتب فحسب، ولا المؤلف ومعه الممثلون وحدهم، بل لابد له من جمهور أيضاً. تلك هي الدعائم الثلاث التي إذا فقد المسرح إحداها انهار.
بالطبع كل من يكتب ويطبع يبتغى أن يقرأ، وإلا لاكتفى بتسجيل خواطره وأفكاره تسجيلا سريعاً دون أن يعمد إلى تنظيمها وتبويبها وطبعها ونشرها. فالفن اجتماعي بطبعه إذا عي بجوهره. ومن ثم فإننا نعجب لكاتب يكتب مالا يفهم القراء ومالا يعنيهم (ولا نتكلم هنا عن الشعر فقد يكون له موقف خاص) الكاتب الذي يعيش - كما يقال - في برجه العاجي بعيداً عن الحياة وعن الناس.
ولا نقصد من وراء ذلك أن يخر الكاتب راكعاً أمام جمهوره فيتملق عواطفه مهما انحطت، ويتغنى بمواطن الضعف فيه؛ كلا، فإن هذا مفسدة للأدب مفسدة للفن، بل هو إلى التهريج أقرب منه إلى الفن.
ولكن احتقار الجمهور والبعد عنه، ومخاطبته بلغة غير لغته، والاشتغال بنجوم السماء دون الأرض ومن عليها، جرم مرتكب في حق الفن والمجتمع على السواء. ومع ذلك فقد نسلم جدلا، جدلا فقط، أن الرسام يستطيع أن يرسم لوحة يحتفظ بها لنفسه، ولنفسه فقط، وأن الشاعر يستطيع أن يكتب قصيدة يرددها بينه وبين نفسه من طلوع الشمس إلى غروبها، ويكتمها عن جميع من عداه، وأن القصاص قد يكتب قصة ثم يتركها تغط في سباتها العميق سنين وسنين حتى يأتي يومها، حتى يأتي جمهورها بعد زمن يطول أو يقصر. ولمن يضيرها ذلك في شيء فهي قد وجدت بالفعل منذ انتهى صاحبها من كتابتها، ولن يزيدها وجوداً أن تظفر بعشرة آلاف قارئ أو بمائة ألف قارئ. ولن يكون لقارئها أي تأثير عليها، بل هو الذي سيتأثر بها تأثراً سطحياً أو عميقاً، عاجلا أو آجلا.
ومن جهة أخرى إذا كانت أفكاره عسرة الهضم، أو كان ملتوي الأسلوب معقد التعبير مقتصداً في المقدمات خفي النتائج، فقد يجوز له أن يترك كلامه على ما هو عليه دون أن يجهد نفسه في أن يرفع عن كتابته غموضاً يستطيع القراء أو غالبية القراء رفعه ولو بشيء من العسر. ذلك لأنه يعلو أن الكتاب يستطاع أن يقرأ وأن تعاد قراءته، وأن كاتب يستطيع فتحه أو إغلاقه متى شاء وأنى شاء، وأن يكرر من عباراته كلما عن له أن يفعل حتى يفهم. فإذا لم يكن بعد ذلك أهلا للفهم فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
أما العمل المسرحي فله شأن آخر فهو بمثابة كتاب يقرأ جماعة، ومتى فتح لم يتسن لواحد من القراء أن يغلقه تبعاً لهواه. كتاب تدار صفحاته من تلقاء نفسها من أول صفحة إلى آخر صفحة. إذا قيلت منه كلمة فقد فانت، وليس لسامع أن يرجو من الممثل إعادتها، وإلا أصبحت قاعة المسرح ميداناً لكوميديا أخرى غير كوميديا المؤلف، كوميديا الجمهور لا كوميديا الممثلين، إذا راح المتفرجون - كما تخيل أحد الساخرين - في رواية غامضة يقومون الواحد بعد الواحد، مطالبين بإعادة تلك الجملة أو بتفسير هذه الكلمة، فيتصدى لهم الأذكياء أو من يتظاهرون بالذكاء فيطلبون إليهم أن يتركوهم أن ينصتون في هدوء وألا يقطعوا على الممثلين سلسلة اللعب؛ ويجيبهم الأولون على عنفهم بعنف أشد منه، حتى ينتهي بهم الأمر إلى التقاذف بالشتائم ثم إلى استعمال الأيدي. وهنا ينتقل تمثيل الدراما من فوق المسرح إلى قلب الصالة على كل حال سواء أدفع المتفرج أجر مكانه أم لم يدفعه، فإنه يصر على أن يفهم، وأن يفهم على الفور كلمات المؤلف بمجرد أن يفوه بها الممثل.
ومن ثم وجب أن تكون التمثيلية مثلا أعلى في قوة الإفهام ووضوحه. فالمسرح إذاً معبد الوضوح، يجب أن تسمى فيه الأشياء بأسمائها. وويل للمؤلف الذي يحاول أن يمثل قطعة باللغة الصينية على مسرح من مسارح القاهرة لا يفهم زائروه غير العربية. تلك هي إحدى الحقائق الكبرى التي على كاتب المسرحية أن يراعيها، مهما كلفه ذلك من جهد ومن تضحية: أعني أن يستعمل لغة مشتركة بين الجميع، مفهومة من الجميع، مهما كانت منتقاة طافحة بالصور والأخيلة موغلة في الروج الأدبي.
وإليكم حقيقة أخرى ليست أقل من صاحبتها في الأهمية. وهي أمر يتعدى الكلمات والعبارات إلى الموضوع الذي تعبر عنه، إلى الأفكار التي هي لباس لها. فما جدوى الكلمة الواضحة المعنى والعبارة الصحيحة المبنى اليسيرة الفهم الجميلة الصورة، إذا كانت الفكرة التي تعبر عنها أو العاطفة التي تصفها أو تستثيرها لا تمت بشيء إلى ما في ذهن الجمهور وقلبه، إذا كانت لا توقظ فيه صدى ولو خافتاً لهذه العاطفة أو تلك الفكرة؟ وأسوأ من ذلك إذا أثارت فيه عاطفة مضادة لمل أراد الكاتب، أو إذا أثارت عاطفة ما عند بعض المتفرجين فجعلتهم يبكون وأخرى مناقضة لها عند البعض الآخر فجعلتهم يضحكون.
فعلى الكاتب المسرحي أن يخاطب عواطف وأفكاراً مشتركة بين جميع أو معظم أفراد جمهوره، ولو كانت موزعة بينهم بأنصبة مختلفة.
قد يعترض علينا معترض فيقول: أواثق أنت من أنه قد يوجد شخصان فقط يؤخذان من بين الشعب دون اختيار فيرى بعد الاختيار أنهما يتفقان في إحدى الفكر اتفاقاً كاملاً؟ ونحن نجيب على هذا بأن الاتفاق في التفاصيل أمر عسير. ولكن من الطبيعي أن يتفق أفراد مجتمع من المجتمعات التي يصح أن يطلق عليها هذا الاسم في طائفة من القيم العقلية والأخلاقية: كالحق والباطل، والخير والشر (ولا نقول الجميل والقبيح، فإن تلك قيم جمالية تخضع لاختلافات كثيرة لا محل لذكرها هنا). فالاتفاق على الخير والاتفاق على الشر، ذلك هو الحد الأدنى الذي على المؤلف أن يسعى في تحقيقه حتى يتفق التناسب بين عمله وجمهوره. ذلك هو الشرط الأساسي الذي يجب أن يتوفر في التمثيلية لتثير انفعال الجمهور ولتجتذبه إلى ما يريد المؤلف أن يجتذبه إليه. فالقطعة التمثيلية لا تكون حقاً ولن تحيا حقاً إلا إذا حييت في نفوس الجمهور كما حييت في نفس الكاتب والممثل، وفي نفس اللحظة التي يشاهدها فيها. هذا ما جعل جاك كوبو من أعلام المسرح الفرنسي يقول (لن يكون هنالك مسرح بمعنى الكلمة إلا يوم نجد رجل الصالة يتمم بنفس الكلمات التي بقوة بها رجل المسرح في نفس الوقت وبنفس القلب.) نعم لا يمكن أن يكون ذلك إلا يوم يصير رجل الصالة ورجل المسرح والمؤلف وكأنهم شخص واحد؛ ولابد لهم من ميدان معنوي مشترك. هذا الميدان يستطاع العثور عليه بسهولة في مجتمع سليم التكوين، فيه شيء كثير من التجانس، يجتمع على الاعتراف ببعض الخير لأنه خير، وببعض الشر على أنه شر، وببعض الحق على أنه حق. أما إذا كان المجتمع مهلهلاً لا تجانس فيه فإن مهمة المؤلف تعتبر من أشق الأمور. ففي هذه الحال يتعسر على المشاعر أن تتفق ويصعب على الكاتب أن يخاطب جمهوره بلغة يفهمها الجميع. ولكنه حتى في هذه الحال لن يعدم أن يجد بذوراً طفيفة لآمال ومخاوف مشتركة. وحينئذ فعليه أن يتخذ منها نقطة ارتكاز يصدر عنها في مسرحيته، وأن يتخذ من مسرحيته ومن نشاطه في الأدب المسرحي وسيلة لتقريب ما تنافر من عقلية أبناء وطنه. وهنا يبدو لنا بعض ما يستطيع المسرح أن يقدم للوطن وللمدينة من خدمات. فمن الخطأ إذاً أن ننظر إلى المسرح (على نحو ما يفعله البعض) كما ننظر إلى حجرة مغلقة تدور بها بعض الأحداث ثم رفع منها أحد حوائطها فأصبح ما يجري بداخلها على مرأى من المارة، ولكنهم يشاهدونه مبهوتين دون أن يستطيعوا المشاركة فيه بعقولهم وقلوبهم، بل دون أن يفهموا شيئاً منه؛ وإنما يجب أن ننظر إليه كمنصة منصوبة في ميدان عام تمثل عليها أحداث، وتتصارع فوقها أفكار وميول وعواطف تتصل بنفوس المشاهدين جميعاً. فهو لذلك مكان التبادل النفسي بمعناه الصحيح. وعلى الكاتب المسرحي أن يدرس في الحياة نفسها شروط هذا التبادل وأن يستخرج قوانينه حتى يضمن تحققه في عمله، وحتى لا يكلم الجمهور بلغة غير لغته.
فالفن المسرحي يقتضي وجود عادات ووجود مجتمع ووجود شعب بأنبل معاني الكلمة.
فالفن المسرحي ليس فناً مغلقاً، ولا مما يؤجل تحقيقه خارج الكتاب الذي كتب فيه، بل فن مفتوح، فن الساعة التي يكتب فيها.
محمد القصاص
دكتوراه في الآداب من جامعة باريس
مجلة الرسالة - العدد 824
بتاريخ: 18 - 04 - 1949
بالطبع كل من يكتب ويطبع يبتغى أن يقرأ، وإلا لاكتفى بتسجيل خواطره وأفكاره تسجيلا سريعاً دون أن يعمد إلى تنظيمها وتبويبها وطبعها ونشرها. فالفن اجتماعي بطبعه إذا عي بجوهره. ومن ثم فإننا نعجب لكاتب يكتب مالا يفهم القراء ومالا يعنيهم (ولا نتكلم هنا عن الشعر فقد يكون له موقف خاص) الكاتب الذي يعيش - كما يقال - في برجه العاجي بعيداً عن الحياة وعن الناس.
ولا نقصد من وراء ذلك أن يخر الكاتب راكعاً أمام جمهوره فيتملق عواطفه مهما انحطت، ويتغنى بمواطن الضعف فيه؛ كلا، فإن هذا مفسدة للأدب مفسدة للفن، بل هو إلى التهريج أقرب منه إلى الفن.
ولكن احتقار الجمهور والبعد عنه، ومخاطبته بلغة غير لغته، والاشتغال بنجوم السماء دون الأرض ومن عليها، جرم مرتكب في حق الفن والمجتمع على السواء. ومع ذلك فقد نسلم جدلا، جدلا فقط، أن الرسام يستطيع أن يرسم لوحة يحتفظ بها لنفسه، ولنفسه فقط، وأن الشاعر يستطيع أن يكتب قصيدة يرددها بينه وبين نفسه من طلوع الشمس إلى غروبها، ويكتمها عن جميع من عداه، وأن القصاص قد يكتب قصة ثم يتركها تغط في سباتها العميق سنين وسنين حتى يأتي يومها، حتى يأتي جمهورها بعد زمن يطول أو يقصر. ولمن يضيرها ذلك في شيء فهي قد وجدت بالفعل منذ انتهى صاحبها من كتابتها، ولن يزيدها وجوداً أن تظفر بعشرة آلاف قارئ أو بمائة ألف قارئ. ولن يكون لقارئها أي تأثير عليها، بل هو الذي سيتأثر بها تأثراً سطحياً أو عميقاً، عاجلا أو آجلا.
ومن جهة أخرى إذا كانت أفكاره عسرة الهضم، أو كان ملتوي الأسلوب معقد التعبير مقتصداً في المقدمات خفي النتائج، فقد يجوز له أن يترك كلامه على ما هو عليه دون أن يجهد نفسه في أن يرفع عن كتابته غموضاً يستطيع القراء أو غالبية القراء رفعه ولو بشيء من العسر. ذلك لأنه يعلو أن الكتاب يستطاع أن يقرأ وأن تعاد قراءته، وأن كاتب يستطيع فتحه أو إغلاقه متى شاء وأنى شاء، وأن يكرر من عباراته كلما عن له أن يفعل حتى يفهم. فإذا لم يكن بعد ذلك أهلا للفهم فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
أما العمل المسرحي فله شأن آخر فهو بمثابة كتاب يقرأ جماعة، ومتى فتح لم يتسن لواحد من القراء أن يغلقه تبعاً لهواه. كتاب تدار صفحاته من تلقاء نفسها من أول صفحة إلى آخر صفحة. إذا قيلت منه كلمة فقد فانت، وليس لسامع أن يرجو من الممثل إعادتها، وإلا أصبحت قاعة المسرح ميداناً لكوميديا أخرى غير كوميديا المؤلف، كوميديا الجمهور لا كوميديا الممثلين، إذا راح المتفرجون - كما تخيل أحد الساخرين - في رواية غامضة يقومون الواحد بعد الواحد، مطالبين بإعادة تلك الجملة أو بتفسير هذه الكلمة، فيتصدى لهم الأذكياء أو من يتظاهرون بالذكاء فيطلبون إليهم أن يتركوهم أن ينصتون في هدوء وألا يقطعوا على الممثلين سلسلة اللعب؛ ويجيبهم الأولون على عنفهم بعنف أشد منه، حتى ينتهي بهم الأمر إلى التقاذف بالشتائم ثم إلى استعمال الأيدي. وهنا ينتقل تمثيل الدراما من فوق المسرح إلى قلب الصالة على كل حال سواء أدفع المتفرج أجر مكانه أم لم يدفعه، فإنه يصر على أن يفهم، وأن يفهم على الفور كلمات المؤلف بمجرد أن يفوه بها الممثل.
ومن ثم وجب أن تكون التمثيلية مثلا أعلى في قوة الإفهام ووضوحه. فالمسرح إذاً معبد الوضوح، يجب أن تسمى فيه الأشياء بأسمائها. وويل للمؤلف الذي يحاول أن يمثل قطعة باللغة الصينية على مسرح من مسارح القاهرة لا يفهم زائروه غير العربية. تلك هي إحدى الحقائق الكبرى التي على كاتب المسرحية أن يراعيها، مهما كلفه ذلك من جهد ومن تضحية: أعني أن يستعمل لغة مشتركة بين الجميع، مفهومة من الجميع، مهما كانت منتقاة طافحة بالصور والأخيلة موغلة في الروج الأدبي.
وإليكم حقيقة أخرى ليست أقل من صاحبتها في الأهمية. وهي أمر يتعدى الكلمات والعبارات إلى الموضوع الذي تعبر عنه، إلى الأفكار التي هي لباس لها. فما جدوى الكلمة الواضحة المعنى والعبارة الصحيحة المبنى اليسيرة الفهم الجميلة الصورة، إذا كانت الفكرة التي تعبر عنها أو العاطفة التي تصفها أو تستثيرها لا تمت بشيء إلى ما في ذهن الجمهور وقلبه، إذا كانت لا توقظ فيه صدى ولو خافتاً لهذه العاطفة أو تلك الفكرة؟ وأسوأ من ذلك إذا أثارت فيه عاطفة مضادة لمل أراد الكاتب، أو إذا أثارت عاطفة ما عند بعض المتفرجين فجعلتهم يبكون وأخرى مناقضة لها عند البعض الآخر فجعلتهم يضحكون.
فعلى الكاتب المسرحي أن يخاطب عواطف وأفكاراً مشتركة بين جميع أو معظم أفراد جمهوره، ولو كانت موزعة بينهم بأنصبة مختلفة.
قد يعترض علينا معترض فيقول: أواثق أنت من أنه قد يوجد شخصان فقط يؤخذان من بين الشعب دون اختيار فيرى بعد الاختيار أنهما يتفقان في إحدى الفكر اتفاقاً كاملاً؟ ونحن نجيب على هذا بأن الاتفاق في التفاصيل أمر عسير. ولكن من الطبيعي أن يتفق أفراد مجتمع من المجتمعات التي يصح أن يطلق عليها هذا الاسم في طائفة من القيم العقلية والأخلاقية: كالحق والباطل، والخير والشر (ولا نقول الجميل والقبيح، فإن تلك قيم جمالية تخضع لاختلافات كثيرة لا محل لذكرها هنا). فالاتفاق على الخير والاتفاق على الشر، ذلك هو الحد الأدنى الذي على المؤلف أن يسعى في تحقيقه حتى يتفق التناسب بين عمله وجمهوره. ذلك هو الشرط الأساسي الذي يجب أن يتوفر في التمثيلية لتثير انفعال الجمهور ولتجتذبه إلى ما يريد المؤلف أن يجتذبه إليه. فالقطعة التمثيلية لا تكون حقاً ولن تحيا حقاً إلا إذا حييت في نفوس الجمهور كما حييت في نفس الكاتب والممثل، وفي نفس اللحظة التي يشاهدها فيها. هذا ما جعل جاك كوبو من أعلام المسرح الفرنسي يقول (لن يكون هنالك مسرح بمعنى الكلمة إلا يوم نجد رجل الصالة يتمم بنفس الكلمات التي بقوة بها رجل المسرح في نفس الوقت وبنفس القلب.) نعم لا يمكن أن يكون ذلك إلا يوم يصير رجل الصالة ورجل المسرح والمؤلف وكأنهم شخص واحد؛ ولابد لهم من ميدان معنوي مشترك. هذا الميدان يستطاع العثور عليه بسهولة في مجتمع سليم التكوين، فيه شيء كثير من التجانس، يجتمع على الاعتراف ببعض الخير لأنه خير، وببعض الشر على أنه شر، وببعض الحق على أنه حق. أما إذا كان المجتمع مهلهلاً لا تجانس فيه فإن مهمة المؤلف تعتبر من أشق الأمور. ففي هذه الحال يتعسر على المشاعر أن تتفق ويصعب على الكاتب أن يخاطب جمهوره بلغة يفهمها الجميع. ولكنه حتى في هذه الحال لن يعدم أن يجد بذوراً طفيفة لآمال ومخاوف مشتركة. وحينئذ فعليه أن يتخذ منها نقطة ارتكاز يصدر عنها في مسرحيته، وأن يتخذ من مسرحيته ومن نشاطه في الأدب المسرحي وسيلة لتقريب ما تنافر من عقلية أبناء وطنه. وهنا يبدو لنا بعض ما يستطيع المسرح أن يقدم للوطن وللمدينة من خدمات. فمن الخطأ إذاً أن ننظر إلى المسرح (على نحو ما يفعله البعض) كما ننظر إلى حجرة مغلقة تدور بها بعض الأحداث ثم رفع منها أحد حوائطها فأصبح ما يجري بداخلها على مرأى من المارة، ولكنهم يشاهدونه مبهوتين دون أن يستطيعوا المشاركة فيه بعقولهم وقلوبهم، بل دون أن يفهموا شيئاً منه؛ وإنما يجب أن ننظر إليه كمنصة منصوبة في ميدان عام تمثل عليها أحداث، وتتصارع فوقها أفكار وميول وعواطف تتصل بنفوس المشاهدين جميعاً. فهو لذلك مكان التبادل النفسي بمعناه الصحيح. وعلى الكاتب المسرحي أن يدرس في الحياة نفسها شروط هذا التبادل وأن يستخرج قوانينه حتى يضمن تحققه في عمله، وحتى لا يكلم الجمهور بلغة غير لغته.
فالفن المسرحي يقتضي وجود عادات ووجود مجتمع ووجود شعب بأنبل معاني الكلمة.
فالفن المسرحي ليس فناً مغلقاً، ولا مما يؤجل تحقيقه خارج الكتاب الذي كتب فيه، بل فن مفتوح، فن الساعة التي يكتب فيها.
محمد القصاص
دكتوراه في الآداب من جامعة باريس
مجلة الرسالة - العدد 824
بتاريخ: 18 - 04 - 1949