ذكر الأستاذ جمال الدين الرمادي في ثنايا مقاله عن الشاعر الرمادي بمجلة الثقافة العدد 628 أن ابن زيدون أحب ولادة وسجن في سبيلها. والحقيقة غير هذا والتاريخ يخالفه، فلم يسجن ابن زيدون لأنه أحب ولادة وكان هذا السجن في سبيلها، لأن سيرته تبين غير ذلك، لم يكن ابن زيدون واحداً من عامة الناس ولا شاعراً كبقية الشعراء، بل كان فتى قرطبة المدلل وبطلها المرجى وشاعرها الذي لا يجارى، ووزيرها المتصرف. ولم يكن كل فهذا فحسب، فقد كان سياسياً شارك في المسائل العامة، وخاض غمار الثورة التي ذهبت بدولة بني أمية وأتت بغيرهم. وكان من أشياع أبي الحزم أبن جهور بن محمد، فما زال يعمل على تأييد ملكه حتى ثبتت أركانه وارتفع بنيانه، فاصطفاه ابن جمهور لنفسه وأشاد بفضله، وأسند إليه الوزارة جزاء خدمته وأناط به مهام الدولة، وكان لثقته فيه ينفذه إلى ملوك الطوائف سفيراً بينه وبينهم. . وكان أبو الوليد عبقرياً سريع حركة الفكر ذوب اللسان جم الفكاهة، وثاب النفس كثير الفخر بنفسه، يرى أن الأندلس كلها لم تنجب له نداً، فكان يتيه عجباً وخيلاء إذا افتخر بفضله، وربأ بنفسه أن يكون ألعوبة في يدالحوادث، فامعه يقول وهو في سجنه:
لا يهنئ الشامت المرتاح خاطره ... أني معنى الأماني ضائع الخطر
هل الرياح ينجم الأرض عاصفة ... أم الكسوف لغير الشمس والقمر
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب ... قد يودع الجفن حد الصارم الذكر
قد كنت أحسبني والنجم في قرن ... ففيم أصبحت منحطا إلى القمر
ولقد كانت عبقرية ابن زيدون ومواهبه نقمة عليه، فقد أورثته الغرور بالنفس والاعتداد بها، فكان لا يقدر لرجله قبل الخطر موضعها (يرمي الكلمة لا يبالي أين رماها ويصدع بالرأي في جرأة واغترار) فقد كتب يوماً إلى فتاة كان يحبها قبل ولادة وقبل توليه الوزارة (. . . أما ابن جمهور فزق نفخته الكبرياء، وصورة من نفاق ورياء، يخدع الناس بلحيته الحمراء، ومسبحته السوداء، أنه رجل يثب عند الطمع، ويختفي عند الفزع، لو كان في الجاهلية لكان هبل، أو كان كوكباً لكان زحل. . .) وقد أو غر تقريب ابن جمهور له، صدور حساده، فتربصوا به الدوائر وكانوا يعملون دائماً على الإيقاع به، ومن أشد أعدائه الوزير ابن عبدوس الذي كان ينافسه في حب ولادة ويخشى مزاحمته في مهام الوزارة، وكان ابن زيدون يعرف هذا ولكن غروره جعله يستهين بعدوه، أخبرته ولادة يوماً بعد أن خطبها، أن ابن عبدوس يطاردها كما يطارد الصائد فريسته، وأنها تريد أن ينقذها من ذلك فأغتاظ ابن زيدون وكتب له: (أما بعد أيها المصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، للفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب، على الشراب، فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم، والخيبة منك ظفر، والجنة معك سقر، كيف رأيت لؤمك لكرمي كفاء؟ وضعتك لشرفي وفاء، وأني أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها، والطير إنما تقع على إلفها، وهلا علمت أن الشروق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان) ثم قال:
أثرت هزير الشرى إذ ربض ... ونبهته إذ هذا فاغتمض
حذار حذار فإن الكريم ... إذا سيم خفا أبي فامتعض
فإن سكوت الشجاع النهو ... س ليس بمانعه أن يعض
وأن الكواكب لا تستزل ... وأن المقادير لا تعترض
أبا عامر أين ذاك الوفاء ... إذا الدهر وسنان والعيش غض؟
أين لي ألم أضطلع ناهضا ... بأعباء برك فيمن نهض؟
لعمري لفوقت منهم النضال ... وأرسلته لو أصبت الغرض
وغرك من عهد ولادة ... سراب تراءى ومض
هي الماء يأبى علي قابض ... ويمنع زبدته من مخض
فأثارت هذه الأشياء أبن عبدوس فكان له بالمرصاد، يرقب حركاته ويتبع تنقلاته، ولا يكتفي بنقل ما يقع تحت يده بل يضيف الشيء الكثير من عنده.
حدث نأن أرسلهأأنأن أرسله ابن جمهور إلى المظفر صاحب بطليوس في شأن من شؤون الدولة، فوجدها ابن عبدوس فرصة نادرة فبعث وراءه جاسوساً، يرقب حركاته ويحصي عليه أعماله.
وأكرمه المظفر وأحسن استقباله. ولما رأى ما يتمتع به من ذكاء وفطنة رغب أن يكون وزيره، فعرض عليه الوزارة وألح عليه في ذلك وأخذ يغريه بالجاه والمال. ولما كان ابن زيدون لا يقدر العواقب، فقد خاض في أشياء تمس ابن جهور، وكثيراً ما كان يسخر منه، ولم يكن يعلم أن هناك من يحصي عليه القول ويرقبه عن كثب. قال مرة يمدح المظفر
عليك إذا سابقته الملوك ... حوى الخصل أو ساهمته سهم
فأطولهم بالأيادي يداً ... وأثبتهم في المعالي قدم
وأروع لا معتفى رفده ... يخيب، ولا جاره يهتضم
ذلول الدماثة صعب الإباء ... ثقيف العزيم إذا ماأعتزم
وقال مرة أخرى:
أشف الورى في النهى رتبة ... وأشهرهم في المعالي مثل
وأحرى الأنام بأمر ونهى ... وأدرى الملوك بقعد وحل
غمام يظل وشمس تنير ... وبحر يفيض، وسيف يسل
قسيم المحيا ضحوك السماح ... لطيف الحوار أريب الجدل
سواك إذا قلد الأمر جار ... وغيرك إن ملك الفيء غل
إلى آخر ما قال في مدح أسبغ فيه على الرجل صفات العظمة، بل وحصرها فيه، ولم يكتف بذلك بل عرض ويغيره من الأمراء الآخرين ومنهم سيد نعمته ابن جهور. وكان جاسوس ابن عبدوس لا يترك شاردة ولا واردة إلا قيدها، فكان يكتب كل مرة ما يفوه به ابن زيدون في مجلس المظفر وكل ما يقوله من الشعر ثم يلونه بما يشاء ويضف إليه ما يعرف أنه يزيد من عظم الأمر الذي جاء من أجله ويجزل له العطاء (أي الجاسوس).
وما أن وصلت هذه الأشياء إلى يد ابن عبدوس حتى تهلل وجهه بشراً، ثم أضاف إليها ما شاء من أشياء يعرف أنها تزيد في أيغار صدر ابن جمهور على وزيره، وقام بتبليغه بما حصل عليه من أخبار على خير وجه، وكان ابن جمهور (رجلاً أذناً، ينصت لكل نمام ويلقي السمع لكل واش) فامتلأ صدره حقداً وغلى مرجل غضبه، وقال ويل له منى! ماذا ترك لي إذا كان المظفر أشف الناس رأياً وأحراهم بالنهي، ومن سواه الذي إذا قلد الأمر جار والذي إذا ملك الفيء غل، إن يقصدني فلأمه الهبل.
فلما عاد ابن زيدون من سفارته لحظ تغييراً كبيراً في معاملة ابن جمهور له وانصرافه عنه، ورأى أن الابتسام الذي كان يلقاه به تبدل عبوساً، وأن الثقة أصبحت شكاً، وأن الأمر صار على خلاف ما كان، ولم يشك أن الوشاة وعلى رأسهم ابن عبدوس قد نفثوا سمومهم في صدر ابن جمهور وقد فعلت هذه السموم فعلها فكتب إليه قصيدة يستعطفه جلية الأمر، ولكنه لم يستطيع أن يغالب نفسه الكبيرة وغروره القتال فأظهر فيها إباءه وشمسه واستعلاء نفسه. ومنها:
مالي وللدنيا؟ غررت من المنى ... فيها ببارقة السراب الخادع
ما إن أرال أروم شهدة عاسل ... حميت مجاجتها بإبرة لامع
من مبلغ عني البلاد إذا نبت ... أن لست للنفس الألوف بباخع
فليرغم الحظ المولى أنه ... ولى فلم أتبعه خطوة تابع
إن الغني لهو القناعة لا الذي ... يشتف قطرة ماء وجه القانع
وكان ابن زيدون وثيق الصلة بأبي الوليد بن الحزم ابن الجمهور، وكان هذا يحبه ويصطفيه، ويدافع عنه بما أوتى من جهد وقوة، ولكن تصرفات ابن زيدون، وفلتات لسانه كانت تذهب بكل ما يبذله أبو الوليد وتحطم كل ما يشيده. فبعد عودة ابن زيدون من مهمته استمر ابن عبدوس يرصد حركاته ويحصي أعماله، وكانت عيونه لا تغفل عن ابن زيدون لحظة؛ وكلما وقع شيء في يد ابن عبدوس بعث به إلى ابن جمهور ومن ذلك ما كتب له:
(. . . أما بعد فقد أبلغني الرجل الذي وكلت إليه مرافقة ابن زيدون ومراقبته عن بعد منذ حضر من بطليوس، ينتقل من دار إلى دار والحيرة لا تفارقه، ويزور أناساً لم يكن يزورهم من قبل، وقد تردد في الأسبوع المنصرم على دار راجع الصنهاجي وكان يودعه عند الباب كل مرة، وسمعته في إحدى المرات يقول له (سيكون الأمر هينا والجو ملائماً)، وزاده منذ يومين ثابت الغافق، وخرج من عندهم ومتجهم الوجه يبدو عليه القلق والتفكير وكان بالأمس مع ابن زكوان عند ولادة وخرجا قبيل الفجر، وكانا يتهامسان في الطريق ويبدو عليهما الجد والاهتمام).
وردت هذه الرسالة بينما كان ابن جمهور وابنه أبو الوليد في مجلس لهما فلما قرأها ابن جمهور دفع بها إلى ابنه وقال أسمعني ما فيها. فلما انتهى أبو الوليد من قراءتها سكت ولم يتكلم فصاح أبوه قائلاً: (أرأيت أبا الوليد كيف أن الرجل لا يخالط إلا المترددين المزعزعين الذين لا يحجبهم عن الفتنة إلا العجز أو الخوف من أن يكونوا حطبا لنارها) فدافع أبو الوليد عن صاحبه دفاعا حاراً، حتى استطاع أن يغير رأي أبيه فيه، وأن ابن زيدون إنما يعمل لصالح الدولة وتثبيت الأمر له (أي لابن جمهور).
ولكن ماذا يجدي مثل هذا الدفاع وابن زيدون بغير حذر ويتكلم بلا احتراس، بل ويتصل بأعداء عميد الجماعة ليل نهار ويجتمع بهم حتى مطلع الفجر.
وكان أعداء ابن زيدون مردة شياطين لا تعوزهم الحيلة ولا يصرفهم عدم تأثرا ابن جمهور بأقوالهم. . . فلما وجدوا أن هذه الوشايات لا تأتي بفائدة، وأن أبا الوليد يفسد عليهم كل شيء؛ أجمعوا أمرهم على شيء، بأن اتفقوا على إيقاع ابن زيدون في الشرك حتى لا يستطيع الخلاص بعد ذلك ويكون لهم ما يريدون.
كان أحد أبناء الناصر لدين الله ويسمي (أبن المرتضي)، يختفي بعيداً عن قرطبة خوف بطش ابن جمهور به، وكان الناس إذا أصابتهم شدة من ابن جمهور تهامسوا باسم أبن المرتضى كمنقذ لهم مما فيه، ولماذا لا يكون هو صاحب الأمر وهو من سلالة الخلفاء. . . وقد استطاع ابن المرتضى أن يتخذ أنصاراً من أعداء ابن جمهور ثم يدخل قرطبة خفية ويختفي عند أحد أتباعه وكان ابن زيدون من هؤلاء الأتباع وقد مال إليه عندما لقي من إعراض ابن جمهور عنه وتجهمه له بل وكان يعرف أين يختفي. علم بذلك ابن عبدوس وأنصاره المبغضون لابن زيدون فاتفقوا على أن يخبروا بذلك ابن جمهور ولكن الدليل المادي يعوزهم، وأبن جمهور لا يأخذ بأقوالهم ما دام أبو الوليد راضياً عن ابن زيدون.
فاجتمعوا وتبادلوا الرأي فقال أحدهم إن ابن زيدون يعرف أن بن المرتضى يقيم بقرطية بل وهو على صلة به ويلتقي به كل ليلة، ثم اقترحوا أن يدعوا أحدهم ابن زيدون إلى داره، وأن يكون هناك ابن جمهور مستخفياً ليسمع ويرى. . .
ودعا الرجل ابن زيدون إلى ليلة في داره، وكان ابن جمهور وأعوانه مستخفين متنكرين، وبينما القوم يسمرون إذا جلبة وضوضاء في خارج القاعة، فنادى كبير خدمه وسأله في استنكار عن هذا اللغط والضجيج، فظهر التردد والخوف على وجه الخادم بادئ الأمر، ثم قال: (لقد علمنا سيدي من أحد أعوان صاحب الشرطة أن مولانا عميد الجماعة قد ألقي القبض على سيدتي ولادة، وهو الآن يسيمونها أشد أنواع العذاب) فقال الرجل في استنكار وصوته يكاد يخنقه الغضب:
(وأي ذنب جنته حتى يقبض عليها الشرطة ويعذبونها؟) فقال الخادم:
(قيل يا سيدي إنهم وجدوا مولانا ابن المرتضى مختفياً بقصرها).
فما سمع ابن زيدون هذا حتى ذهب صوابه وهب مذعوراً والغضب يملأ نفسه، وصاح بصوت مرتعش: هذا بهتان وزور إن ولادة لا تخفي ابن المرتضى بقصرها وهي بريئة من هذا براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وأنا يعرف أين يختفي ابن مرتضى، بل أنه في دارى، وها أنا ذاهب إلى ابن جمهور لأخبره بذلك ليكف زبانيته عن أطهر امرأة في قرطبة.
وهمَّ بمغادرة المكان ولكنه وجد أن بن جمهور يعترض طريقه كأنما انشقت عنه الأرض أو نزل من السماء، وفي وجهه صرامة وفي عينه لهب، وصاح في وجه ابن زيدون بصوت كأنه هزيم الرعد.
لقد تحققت خيانتك أيها الخائن. ثم أمر صاحب شرطته بالقبض عليه وإيداعه السجن حتى يرى رأيه فيه، وأمر آخر بتفتيش داره عله يجد ابن المرتضى هناك، ولكنه لم يجد له أثر. . .
وهكذا ذهب ابن زيدون إلى السجن لأنه لم يستطيع أن يملك زمام نفسه في مثل هذا الأمر الخطير، ولم يقدر على كبح جماح كبرياءه، برغم عبقريته ونبوغه، بل ذهب إلى السجن ضحية عبقريته ونبوغه وطموح نفسه، وقد قيل:
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعنت في مرادها الأجسام
وقبله فر المتنبي من معية سيف الدولة بسب قوله:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف الرمح والقرطاس والقلم
فقال خصوم أبي الطيب، لسيف الدولة ما الذي أبقى لك بعد هذا، فتغير عليه وأغضى حتى فر إلى مصر، ثم لقي حتفه آخر الأمر، لطموحه وكبريائه.
وكثيرون هم أولئك الذين ذهبوا ضحية عبقريتهم ونبوغهم وكبر نفوسهم. ولعلنا نستطيع أن نقدم لقراء الرسالة صوراً عن هؤلاء إن شاء الله.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحافظ
21 - 05 - 1951
لا يهنئ الشامت المرتاح خاطره ... أني معنى الأماني ضائع الخطر
هل الرياح ينجم الأرض عاصفة ... أم الكسوف لغير الشمس والقمر
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب ... قد يودع الجفن حد الصارم الذكر
قد كنت أحسبني والنجم في قرن ... ففيم أصبحت منحطا إلى القمر
ولقد كانت عبقرية ابن زيدون ومواهبه نقمة عليه، فقد أورثته الغرور بالنفس والاعتداد بها، فكان لا يقدر لرجله قبل الخطر موضعها (يرمي الكلمة لا يبالي أين رماها ويصدع بالرأي في جرأة واغترار) فقد كتب يوماً إلى فتاة كان يحبها قبل ولادة وقبل توليه الوزارة (. . . أما ابن جمهور فزق نفخته الكبرياء، وصورة من نفاق ورياء، يخدع الناس بلحيته الحمراء، ومسبحته السوداء، أنه رجل يثب عند الطمع، ويختفي عند الفزع، لو كان في الجاهلية لكان هبل، أو كان كوكباً لكان زحل. . .) وقد أو غر تقريب ابن جمهور له، صدور حساده، فتربصوا به الدوائر وكانوا يعملون دائماً على الإيقاع به، ومن أشد أعدائه الوزير ابن عبدوس الذي كان ينافسه في حب ولادة ويخشى مزاحمته في مهام الوزارة، وكان ابن زيدون يعرف هذا ولكن غروره جعله يستهين بعدوه، أخبرته ولادة يوماً بعد أن خطبها، أن ابن عبدوس يطاردها كما يطارد الصائد فريسته، وأنها تريد أن ينقذها من ذلك فأغتاظ ابن زيدون وكتب له: (أما بعد أيها المصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، للفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب، على الشراب، فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم، والخيبة منك ظفر، والجنة معك سقر، كيف رأيت لؤمك لكرمي كفاء؟ وضعتك لشرفي وفاء، وأني أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها، والطير إنما تقع على إلفها، وهلا علمت أن الشروق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان) ثم قال:
أثرت هزير الشرى إذ ربض ... ونبهته إذ هذا فاغتمض
حذار حذار فإن الكريم ... إذا سيم خفا أبي فامتعض
فإن سكوت الشجاع النهو ... س ليس بمانعه أن يعض
وأن الكواكب لا تستزل ... وأن المقادير لا تعترض
أبا عامر أين ذاك الوفاء ... إذا الدهر وسنان والعيش غض؟
أين لي ألم أضطلع ناهضا ... بأعباء برك فيمن نهض؟
لعمري لفوقت منهم النضال ... وأرسلته لو أصبت الغرض
وغرك من عهد ولادة ... سراب تراءى ومض
هي الماء يأبى علي قابض ... ويمنع زبدته من مخض
فأثارت هذه الأشياء أبن عبدوس فكان له بالمرصاد، يرقب حركاته ويتبع تنقلاته، ولا يكتفي بنقل ما يقع تحت يده بل يضيف الشيء الكثير من عنده.
حدث نأن أرسلهأأنأن أرسله ابن جمهور إلى المظفر صاحب بطليوس في شأن من شؤون الدولة، فوجدها ابن عبدوس فرصة نادرة فبعث وراءه جاسوساً، يرقب حركاته ويحصي عليه أعماله.
وأكرمه المظفر وأحسن استقباله. ولما رأى ما يتمتع به من ذكاء وفطنة رغب أن يكون وزيره، فعرض عليه الوزارة وألح عليه في ذلك وأخذ يغريه بالجاه والمال. ولما كان ابن زيدون لا يقدر العواقب، فقد خاض في أشياء تمس ابن جهور، وكثيراً ما كان يسخر منه، ولم يكن يعلم أن هناك من يحصي عليه القول ويرقبه عن كثب. قال مرة يمدح المظفر
عليك إذا سابقته الملوك ... حوى الخصل أو ساهمته سهم
فأطولهم بالأيادي يداً ... وأثبتهم في المعالي قدم
وأروع لا معتفى رفده ... يخيب، ولا جاره يهتضم
ذلول الدماثة صعب الإباء ... ثقيف العزيم إذا ماأعتزم
وقال مرة أخرى:
أشف الورى في النهى رتبة ... وأشهرهم في المعالي مثل
وأحرى الأنام بأمر ونهى ... وأدرى الملوك بقعد وحل
غمام يظل وشمس تنير ... وبحر يفيض، وسيف يسل
قسيم المحيا ضحوك السماح ... لطيف الحوار أريب الجدل
سواك إذا قلد الأمر جار ... وغيرك إن ملك الفيء غل
إلى آخر ما قال في مدح أسبغ فيه على الرجل صفات العظمة، بل وحصرها فيه، ولم يكتف بذلك بل عرض ويغيره من الأمراء الآخرين ومنهم سيد نعمته ابن جهور. وكان جاسوس ابن عبدوس لا يترك شاردة ولا واردة إلا قيدها، فكان يكتب كل مرة ما يفوه به ابن زيدون في مجلس المظفر وكل ما يقوله من الشعر ثم يلونه بما يشاء ويضف إليه ما يعرف أنه يزيد من عظم الأمر الذي جاء من أجله ويجزل له العطاء (أي الجاسوس).
وما أن وصلت هذه الأشياء إلى يد ابن عبدوس حتى تهلل وجهه بشراً، ثم أضاف إليها ما شاء من أشياء يعرف أنها تزيد في أيغار صدر ابن جمهور على وزيره، وقام بتبليغه بما حصل عليه من أخبار على خير وجه، وكان ابن جمهور (رجلاً أذناً، ينصت لكل نمام ويلقي السمع لكل واش) فامتلأ صدره حقداً وغلى مرجل غضبه، وقال ويل له منى! ماذا ترك لي إذا كان المظفر أشف الناس رأياً وأحراهم بالنهي، ومن سواه الذي إذا قلد الأمر جار والذي إذا ملك الفيء غل، إن يقصدني فلأمه الهبل.
فلما عاد ابن زيدون من سفارته لحظ تغييراً كبيراً في معاملة ابن جمهور له وانصرافه عنه، ورأى أن الابتسام الذي كان يلقاه به تبدل عبوساً، وأن الثقة أصبحت شكاً، وأن الأمر صار على خلاف ما كان، ولم يشك أن الوشاة وعلى رأسهم ابن عبدوس قد نفثوا سمومهم في صدر ابن جمهور وقد فعلت هذه السموم فعلها فكتب إليه قصيدة يستعطفه جلية الأمر، ولكنه لم يستطيع أن يغالب نفسه الكبيرة وغروره القتال فأظهر فيها إباءه وشمسه واستعلاء نفسه. ومنها:
مالي وللدنيا؟ غررت من المنى ... فيها ببارقة السراب الخادع
ما إن أرال أروم شهدة عاسل ... حميت مجاجتها بإبرة لامع
من مبلغ عني البلاد إذا نبت ... أن لست للنفس الألوف بباخع
فليرغم الحظ المولى أنه ... ولى فلم أتبعه خطوة تابع
إن الغني لهو القناعة لا الذي ... يشتف قطرة ماء وجه القانع
وكان ابن زيدون وثيق الصلة بأبي الوليد بن الحزم ابن الجمهور، وكان هذا يحبه ويصطفيه، ويدافع عنه بما أوتى من جهد وقوة، ولكن تصرفات ابن زيدون، وفلتات لسانه كانت تذهب بكل ما يبذله أبو الوليد وتحطم كل ما يشيده. فبعد عودة ابن زيدون من مهمته استمر ابن عبدوس يرصد حركاته ويحصي أعماله، وكانت عيونه لا تغفل عن ابن زيدون لحظة؛ وكلما وقع شيء في يد ابن عبدوس بعث به إلى ابن جمهور ومن ذلك ما كتب له:
(. . . أما بعد فقد أبلغني الرجل الذي وكلت إليه مرافقة ابن زيدون ومراقبته عن بعد منذ حضر من بطليوس، ينتقل من دار إلى دار والحيرة لا تفارقه، ويزور أناساً لم يكن يزورهم من قبل، وقد تردد في الأسبوع المنصرم على دار راجع الصنهاجي وكان يودعه عند الباب كل مرة، وسمعته في إحدى المرات يقول له (سيكون الأمر هينا والجو ملائماً)، وزاده منذ يومين ثابت الغافق، وخرج من عندهم ومتجهم الوجه يبدو عليه القلق والتفكير وكان بالأمس مع ابن زكوان عند ولادة وخرجا قبيل الفجر، وكانا يتهامسان في الطريق ويبدو عليهما الجد والاهتمام).
وردت هذه الرسالة بينما كان ابن جمهور وابنه أبو الوليد في مجلس لهما فلما قرأها ابن جمهور دفع بها إلى ابنه وقال أسمعني ما فيها. فلما انتهى أبو الوليد من قراءتها سكت ولم يتكلم فصاح أبوه قائلاً: (أرأيت أبا الوليد كيف أن الرجل لا يخالط إلا المترددين المزعزعين الذين لا يحجبهم عن الفتنة إلا العجز أو الخوف من أن يكونوا حطبا لنارها) فدافع أبو الوليد عن صاحبه دفاعا حاراً، حتى استطاع أن يغير رأي أبيه فيه، وأن ابن زيدون إنما يعمل لصالح الدولة وتثبيت الأمر له (أي لابن جمهور).
ولكن ماذا يجدي مثل هذا الدفاع وابن زيدون بغير حذر ويتكلم بلا احتراس، بل ويتصل بأعداء عميد الجماعة ليل نهار ويجتمع بهم حتى مطلع الفجر.
وكان أعداء ابن زيدون مردة شياطين لا تعوزهم الحيلة ولا يصرفهم عدم تأثرا ابن جمهور بأقوالهم. . . فلما وجدوا أن هذه الوشايات لا تأتي بفائدة، وأن أبا الوليد يفسد عليهم كل شيء؛ أجمعوا أمرهم على شيء، بأن اتفقوا على إيقاع ابن زيدون في الشرك حتى لا يستطيع الخلاص بعد ذلك ويكون لهم ما يريدون.
كان أحد أبناء الناصر لدين الله ويسمي (أبن المرتضي)، يختفي بعيداً عن قرطبة خوف بطش ابن جمهور به، وكان الناس إذا أصابتهم شدة من ابن جمهور تهامسوا باسم أبن المرتضى كمنقذ لهم مما فيه، ولماذا لا يكون هو صاحب الأمر وهو من سلالة الخلفاء. . . وقد استطاع ابن المرتضى أن يتخذ أنصاراً من أعداء ابن جمهور ثم يدخل قرطبة خفية ويختفي عند أحد أتباعه وكان ابن زيدون من هؤلاء الأتباع وقد مال إليه عندما لقي من إعراض ابن جمهور عنه وتجهمه له بل وكان يعرف أين يختفي. علم بذلك ابن عبدوس وأنصاره المبغضون لابن زيدون فاتفقوا على أن يخبروا بذلك ابن جمهور ولكن الدليل المادي يعوزهم، وأبن جمهور لا يأخذ بأقوالهم ما دام أبو الوليد راضياً عن ابن زيدون.
فاجتمعوا وتبادلوا الرأي فقال أحدهم إن ابن زيدون يعرف أن بن المرتضى يقيم بقرطية بل وهو على صلة به ويلتقي به كل ليلة، ثم اقترحوا أن يدعوا أحدهم ابن زيدون إلى داره، وأن يكون هناك ابن جمهور مستخفياً ليسمع ويرى. . .
ودعا الرجل ابن زيدون إلى ليلة في داره، وكان ابن جمهور وأعوانه مستخفين متنكرين، وبينما القوم يسمرون إذا جلبة وضوضاء في خارج القاعة، فنادى كبير خدمه وسأله في استنكار عن هذا اللغط والضجيج، فظهر التردد والخوف على وجه الخادم بادئ الأمر، ثم قال: (لقد علمنا سيدي من أحد أعوان صاحب الشرطة أن مولانا عميد الجماعة قد ألقي القبض على سيدتي ولادة، وهو الآن يسيمونها أشد أنواع العذاب) فقال الرجل في استنكار وصوته يكاد يخنقه الغضب:
(وأي ذنب جنته حتى يقبض عليها الشرطة ويعذبونها؟) فقال الخادم:
(قيل يا سيدي إنهم وجدوا مولانا ابن المرتضى مختفياً بقصرها).
فما سمع ابن زيدون هذا حتى ذهب صوابه وهب مذعوراً والغضب يملأ نفسه، وصاح بصوت مرتعش: هذا بهتان وزور إن ولادة لا تخفي ابن المرتضى بقصرها وهي بريئة من هذا براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وأنا يعرف أين يختفي ابن مرتضى، بل أنه في دارى، وها أنا ذاهب إلى ابن جمهور لأخبره بذلك ليكف زبانيته عن أطهر امرأة في قرطبة.
وهمَّ بمغادرة المكان ولكنه وجد أن بن جمهور يعترض طريقه كأنما انشقت عنه الأرض أو نزل من السماء، وفي وجهه صرامة وفي عينه لهب، وصاح في وجه ابن زيدون بصوت كأنه هزيم الرعد.
لقد تحققت خيانتك أيها الخائن. ثم أمر صاحب شرطته بالقبض عليه وإيداعه السجن حتى يرى رأيه فيه، وأمر آخر بتفتيش داره عله يجد ابن المرتضى هناك، ولكنه لم يجد له أثر. . .
وهكذا ذهب ابن زيدون إلى السجن لأنه لم يستطيع أن يملك زمام نفسه في مثل هذا الأمر الخطير، ولم يقدر على كبح جماح كبرياءه، برغم عبقريته ونبوغه، بل ذهب إلى السجن ضحية عبقريته ونبوغه وطموح نفسه، وقد قيل:
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعنت في مرادها الأجسام
وقبله فر المتنبي من معية سيف الدولة بسب قوله:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف الرمح والقرطاس والقلم
فقال خصوم أبي الطيب، لسيف الدولة ما الذي أبقى لك بعد هذا، فتغير عليه وأغضى حتى فر إلى مصر، ثم لقي حتفه آخر الأمر، لطموحه وكبريائه.
وكثيرون هم أولئك الذين ذهبوا ضحية عبقريتهم ونبوغهم وكبر نفوسهم. ولعلنا نستطيع أن نقدم لقراء الرسالة صوراً عن هؤلاء إن شاء الله.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحافظ
21 - 05 - 1951