1 - عناصر أولية تمهيدية
ثمة علاقة جدلية بين الفكر الغربي الحديث، كفعل تنظيري بجميع ألوانه وتياراته، وكيفيات ممارسته لمفهوم السلطة، كمفهوم ثقافي وعملي، هذه الممارسة التي تجاوز بها هذا الفكر الطرح التقليدي البسيط، الذي كان سائدا ومهيمنا في الفترة السابقة عليه، و المرتبط خصوصا بكل ما هو اقتصادي وإداري وسياسي، في وقت ارتقى فيه هذا الطرح إلى مستوى أكثر فعالية وعقلانية وحداثية، وذلك بتحيين المنحى المنهجي والمعرفي العميق لمفهوم السلطة، ومحاولة ربطه ربطا محكما، بكل تجليات وتمظهرات جسد المجتمع، كبنية متماسكة تعتبر وجوهها الرمزية و المخفية أهم و أخطر بكثير من واجهاتها المادية والظاهرة.
وتجدرالإشارة إلى أن هذا التحول النوعي الذي شهده التعامل و البحث في مفهوم السلطة، جاء نتيجة طبيعية لتضافر العديد من العوامل السوسيو اقتصادية و السياسية و الثقافية و الحضارية، التي كان لها الدور الأساسي و الأكبر في تطور الواقع الغربي المادي المعيشي و الحضاري في جميع ميادين المجتمع الغربي، سواء تعلق الأمر بالواقع الأمريكي أو الأوروبي، ذلك التقدم التاريخي و الحضاري الهائل الذي كان له التأثير الإيجابي الكبير و العميق على المستوى الفكري و الفلسفي و العلمي، الأمر الذي أدى إلى ظهور، في أواخر القرن العشرين، مجموعة من الأبحاث و الكتابات المتمردة على الطرح التقليدي الضيق لمفهوم السلطة، و أسست لنفسها أفقا أكثر عمقا وعقلانيا.
ويمكن اعتبار المفكر و الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، من أهم مؤسسي هذا الفهم الجديد لمفهوم السلطة، وقد عرف باجتهاداته الهامة في مجال البحث الفلسفي الجذري، خاصة في الطب العيادي وتاريخ الجنون ..، إلى جانب كل من ماكس فيبر وبيير بورديو في مجال الدراسات الاجتماعية وعلم الاجتماع الانعكاسي. وقد حاولت هذه الأبحاث العلمية، من خلال روادها الأساسيين، طرح سؤال المنهاج الشامل والناجع، وأدوات تحليل الظواهر الاجتماعية و السياسية و الثقافية. لهذا ستأخذ هذه الأعمال على عاتقها الانشغال أكثر و الاهتمام بعمق طبيعة العوامل الخفية غير المباشرة، والمنظومة الرمزية المؤثرة بفعالية في أي مجتمع، مهما كانت طبيعته ونوعية وضعه العام، بجميع تجلياته وتشكيلاته. ومن خلال مفاهيمها الإجرائية و أدواتها المعرفية و المنهجية، المتميزة بطابعها الشمولي، وببعدها النقدي، ستحاول هذه الأبحاث الفكرية الغربية الحديثة، إعادة قراءة العديد من المواضيع الهامة في المجتمع، و التي يعتبر موضوع التعليم والتربية، من أهم الأسئلة التي شغلت الكتاب و المنظرين في هذا المجال.
وقد تمّ تعاملنا مع سؤال المؤسسة التعليمية، كمنظومة عامة وشاملة ورمزية، في علاقتها القوية بما يسمى سوسيولوجيا بالعنف الرمزي، خاصة عند أهم رواده الأساسيين، ونعني به بيير بورديو، متسائلين عن مدى نجاعة هذه النظرية المعرفية، وقيمتها المنهجية و التربوية، من أجل الأخذ ببعض عناصرها المنهجية، ومحاولة الإستعانة بأهم جوانبها المشرقة، و المناسبة لمنظومة التربية و التكوين المغربية، التي ما فتئت تعيش منعطفا أساسيا في تاريخ النظام التعليمي بالمغرب الحديث.
2 - صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية
لتحديد مفهوم السلطة.. والسلطة الرمزية، بصفة خاصة، تنطلق نظرية بورديو من تقسيم العالم الاجتماعي، إلى مجموعة حقول مستقلة نسبيا، وفهم هذا العالم الاجتماعي، يتوقف على البحث بعمق وبجدية كبيرة، في كيفية اشتغال آليات حقول ذلك العالم الاجتماعي، من أجل الكشف عن واقعها وطبيعة منطقها الداخلي، في علاقته الجدلية بمفهوم السلطة. يقول ب. بورديو بهذا الصدد، في حوار أجرته معه مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 37، دجنبر 1985: ( إن السلطة ليست شيئا متموضعا في مكان ما، و إنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة، ونجد أن كل بنية العالم الاجتماعي، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، من أجل فهم آليات الهيمنة والسيطرة ).
إن السلطة إذن، حسب بورديو، بمثابة نظام معقد، يخترق كل العلاقات والترابطات التي تشتغل داخليا، بواسطة آليات دقيقة وجد فعالة، تتحكم في البنية العامة لذلك النظام.
بالإضافة إلى أن هذا المنظور المنهجي في التحليل السوسيولوجي عند بورديو، حريص كل الحرص، على ربط مفهوم السلطة، كركن إجرائي جوهري في الفعل النظري التحليلي، بمفاهيم أخرى، لا تقل أهمية وقيمة، من مفهوم السلطة ذاته. نذكر من بينها، مفهوم النسق، ومفهوم الحقل، ومفهوم اللعب.. الخ. وهي على كل حال، مفاهيم تستمد أهميتها الإجرائية، من تصور بورديو للبحث المنهجي والأداة التحليلية، المرتبط باستراتيجية كونية وشاملة، مؤسسة على نظام مشروع فكري، لبناء ودراسة آليات وقوانين اشتغال بنية العالم الاجتماعي، كما أسلفنا، تحقيقا لهدف رئيسي، هو صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية pouvoir symbolique، إلى جانب الاهتمام بتحليل أنساق أخرى عديدة، وحقول اجتماعية مختلفة كالدين، و الفن، و اللغة، و السكن، و اللباس، و الرياضة، و الأذواق، ..إلخ.
و انطلاقا من العدد الهائل من الدراسات، و الأبحاث التطبيقية الميدانية، و أيضا النظرية، التي أنجزها بيير بورديو مع الكثير من الدارسين والباحثين الاجتماعيين الغربيين، الذين اقتنعوا بالبعد النقدي - الثوري الواضح، وفعالية أدوات هذا المنظور المنهجي و التحليلي، يلاحظ أن السلطة الرمزية، تستند عنده دوما إلى أسلوب التورية و الاختفاء، وهي لا يمكن أن تحقق تأثيرها المفترض، وتنفيذها بشكل فعال و إيجابي، إلا من خلال المساندة والتعاون الذي يجب أن تلقاه، من طرف أغلبية الناس المعنيين بها، و الذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهمية، و لا يعترفون بها. يقول بورديو بهذا الصدد في ص 52، من كتابه الرمز و السلطة ( إن السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية، ولا يمكن أن تمارَس، إلا بتواطؤ أولائك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها، بل ويمارسونها ).
لهذا، فتأثير السلطة الرمزية يكون أعمق و أخطر، لسبب بسيط، يتمثل في كونه يستهدف أساسا البنية النفسية و الذهنية للمتلقين لها، وبالتالي فهي – أي السلطة الرمزية – تمارس فعلها العميق، وتخطط من أجل فرض وتحقيق الأهداف المرسومة والمتوخاة، و إنتاج الأدوات و الآليات و المعايير المناسبة و الناجعة، لتثبيت وخلق واقع وضع إنساني مرغوب فيه ومخطط له، وتمارس سلطة الرمز كل هذه الأعمال بطريقة منظمة وبنائية، وتحت غطاء الخفاء و الاختفاء، وراء حجاب أقنعة المألوف العادي، وأنظمة التقليد و القانون و الخطابات الشائعة بين الناس.
3 - حول تأسيس مغاير لعلاقة السلطة بمفاهيم أخرى
1 - 3 الحقل و اللعب وعلاقتهما بالسلطة
إن اعتماد مفهوم الحقل، في التحليل السوسيولوجي عند بورديو، هو بمثابة تقنية إجرائية دقيقة وأساسية، للتفكير بصيغة العلاقات، أي التفكير على نحو علاقي وجدلى، بدل التفكير بالطريقة البنيوية الجاهزة و الضيقة الأفق، كما كانت سائدة ومهيمنة، في بداية انشغال بورديو بموضوع السلطة الرمزية ( عصر انفجار الفكر البنيوي في أوروبا )، لهذا كانت أبحاثه المعرفية و العلمية عامة، محاولة منه لتصحيح مسار فكري وفلسفي اقتنع به، ومارسه بنقد وهدم الفكر السائد، وتأسيس الفكر الفعال و البديل.
يتشكل الحقل، حسب بورديو، من جملة علاقات موضوعية، القائمة بين مجموعة من الأوضاع التي تحدد في وجودها بمحتليها، وهؤلاء المحتلون لتلك الأوضاع، إما أن يكونوا فاعلين أو مؤسسات، حسب موقعهم الحالي أو المحتمل، في بنية توزيع مختلف أنواع السلطة ( الرأسمال ) التي يتطلب امتلاكها بلوغ الأرباح الخاصة، وهي شرط أساسي ومهم لتحقيق لعب متواز بين القوى الفاعلة في الحقل، وفي الآن ذاته، بواسطة علاقتهم الموضوعية بالأوضاع الأخرى ( سيطرة، تبعية، تطابق.. إلخ ).
كما يرتبط مفهوم الحقل، بمفهوم الرأسمال ارتباطا وثيقا، من خلال التأكيد على أبعاده الثقافية و الاقتصادية، كقوة لها سلطة فعالة رمزية للقدرة على السيطرة على فضاء اللعب، في الحقل المعني، و الذي من الطبيعي أن يشهد بدوره حركية داخلية مهمة، و اشتغالا ديناميا محكما، سيؤدي فيما بعد إلى نشوء نزاعات وتوترات، ستتراكم وتختمر، لتنفجر في المرحلة الموالية، على شكل صراعات بين هذه القوى الفاعلة داخل حقل اللعب ( سواء كان لعبا طبيعيا أو سياسيا، أو اجتماعيا أو فكريا أو دينيا أو ثقافيا أو حضاريا.. إلخ )، وذلك بهدف الدفاع عن المكتسبات السابقة للقوى المتصارعة و الاحتفاظ عليها قدر الإمكان، أو تحويل تشكل تلك القوى لصياغة خريطة جديدة، تتناسب ووضع اللعب الاجتماعي والتاريخي الجديد.
ولكي تتضح ملامح دلالة مفهوم الحقل، كما يتصوره بورديو، ويعمل به في تحاليله الاجتماعية، يمكننا تقديم مثال عن حقل السلطة، وهو نموذج المثال الحي الذي كثيرا ما يستشهد به في كتاباته النظرية، تقريبا لمعنى هذا المفهوم. فما المقصود بحقل السلطة عند كاتبنا، وما هي مميزاته ومواصفاته الإجرائية ؟
* إنه حقل قوى محددة، في بنيته، بحالة علاقة القوة بين أشكال من السلطة أو أنواع مختلفة من الرأسمال.
* هو حقل صراعات من أجل السلطة و السيطرة و الهيمنة بين مالكي سلطات متباينة.
* إنه فضاء للعب، يتواجه فيه فاعلون ومؤسسات، يشتركون في امتلاك كم معين من الرأسمال الخاص ( ثقافي، اقتصادي.. )، و الغاية من تلك المواجهة بين القوى المتصارعة، هي تحقيق الرغبة في احتلال أوضاع مسيطرة في حقولهم الخاصة، و العمل على تحريرها ( الحقل الاقتصادي، وحقل الإدارة العليا للدولة، والحقل الأكاديمي، والحقل الفكري )، كما تهدف تلك المواجهة، إلى الاحتفاظ بعلاقة القوة تلك أو محاولة تحويلها ..
* الهدف من صراع القوى السابق هو فرض مبدأ السيطرة ( سيطرة المسيطر )، الذي يمكن أن يصل في أية لحظة إلى حالة من التوازن، ليتمكن بالتالي من اقتسام السلط فيما بينه وبين المتنازع الآخر، أي تقسيم عمل السيطرة والهيمنة.
* هو أيضا صراع ونزاع من أجل فرض مبدأ الشرعنة ( المشروعية )، أي إضفاء المشروعية و المصداقية على وضعية السيطرة المنفذة، إلى جانب الحفاظ على نمط إعادة الإنتاج المشروع لأسس السيطرة المحققة في الميدان.
ونشير الآن إلى أهم أنواع المجابهات و الصراعات و الأشكال التي يمكن أن تتخذها هذه المجابهات:
أ - مواجهات واقعية ( حروب القصر )
ب - مواجهات مسلحة ( بين السلطات الزمنية و السلطات الروحية )
ج – مواجهات رمزية ( صراعات فكرية ).
2 - 3 حول علاقة نظرية الأنساق بنظرية الحقول
إن مفهوم الحقل عند بورديو، يعمل في عمقه على استبعاد كليا الطابع الآلي، الذي يتميز به مفهوم الجهاز، وتبعا لذلك يكون قد استبعد النظرية الوظيفية التي سبق أن انتقدها في العديد من كتاباته، وبشكل يكاد يكون أحيانا قاسيا وعنيفا، و ازداد أكثر قربا و التحاما بالتاريخ و الفهم الجدلي للمجتمع. بالإضافة إلى أن الحقول، كما هو واضح من خلال الفقرة السابقة، لا تقوم على أجزاء أو مكونات، بل هي تبدو فرعية، لها منطقها الداخلي الخاص، و انتظاماتها الخاصة. لهذا يرى بورديو، وهو رأي كثيرا ما أورده و أكد عليه في العديد من كتاباته، أن الحقل هو لعب أعقد بكثير من كل الألعاب التي يمكن أن يتخيلها المرء.
4 – تحليل ودراسة حقل معين من حيث الخصائص و المراحل
يميز بورديو بين ثلاثة لحظات أساسية لدراسة وتحليل حقل من الحقول، وهي :
1 – 4 لحظة تحليل وضع الحقل إزاء حقل السلطة
إن الحقل متضمن دائما، بجميع علاقاته الموضوعية وتجلياته الصراعية، داخل حقل أوسع منه، هو حقل السلطة. فالحقل الأدبي مثلا في المغرب متضمن في حقل السلطة، بمعنى أن كل الكتاب و المثقفين بشكل عام، هم فئة من شرائح المجتمع المغربي، التي تنتمي بدورها إلى الشق المهيمن ( بفتح الميم ) عليه من طرف الطبقة المسيطرة.
2 – 4 لحظة تحديد البنية الموضوعية، للعلاقات بين الأوضاع المحتلة، من لدن الفاعلين أو المؤسسات، الذين يتنافسون ويتصارعون داخل ذلك الحقل، من أجل فرض السلطة، والحفاظ على استمرارية السيطرة والهيمنة.
3 – 4 لحظة تحليل سموت ( استعدادات ) الفاعلين، التي اكتسبوها في إطار تواجدهم، ضمن شروط الحقل المعني الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي و السياسي.
إن المؤلف الذي لا يراعي، أثناء تحليله لحقل معين، المراحل و اللحظات التحليلية السابقة، وبنفس الأولوية الترتيبية والمنهجية، لن يكون معنى للتحليل الذي أنجزه، حسب بورديو، وبالتالي لا يسمح له أن يزعم أنه مارس تحليلا يذكر، أو درس موضوعه الدرس المنتظر منه، ومن تمّ لا يستحق أن يكون مؤلفا، في نظر بورديو دائما، لأن هذا الأخير ( المؤلف) ينبغي عنده أن يكون ذاتا محللة فاعلة، على النحو العلمي الاجتماعي، كما حدده أعلاه، و أن المهم في التحليل الاجتماعي الخلاق، ليس عرض القضايا والإشكالات، ووصف البنيات، وتقديم المعلومات، رغم الأهمية النسبية لكل هذه الجوانب من المعرفة، و إنما المهم و الأساس عند بورديو هو البحث و التنقيب في أسئلة الحقل، ودراسة التفاعلات فيه، و إثارة أكبر ما يمكن من إشكالاته، وبالتالي يكون بذلك قد وصل إلى مستوى الأستاذية الحقة.
ثمة علاقة جدلية بين الفكر الغربي الحديث، كفعل تنظيري بجميع ألوانه وتياراته، وكيفيات ممارسته لمفهوم السلطة، كمفهوم ثقافي وعملي، هذه الممارسة التي تجاوز بها هذا الفكر الطرح التقليدي البسيط، الذي كان سائدا ومهيمنا في الفترة السابقة عليه، و المرتبط خصوصا بكل ما هو اقتصادي وإداري وسياسي، في وقت ارتقى فيه هذا الطرح إلى مستوى أكثر فعالية وعقلانية وحداثية، وذلك بتحيين المنحى المنهجي والمعرفي العميق لمفهوم السلطة، ومحاولة ربطه ربطا محكما، بكل تجليات وتمظهرات جسد المجتمع، كبنية متماسكة تعتبر وجوهها الرمزية و المخفية أهم و أخطر بكثير من واجهاتها المادية والظاهرة.
وتجدرالإشارة إلى أن هذا التحول النوعي الذي شهده التعامل و البحث في مفهوم السلطة، جاء نتيجة طبيعية لتضافر العديد من العوامل السوسيو اقتصادية و السياسية و الثقافية و الحضارية، التي كان لها الدور الأساسي و الأكبر في تطور الواقع الغربي المادي المعيشي و الحضاري في جميع ميادين المجتمع الغربي، سواء تعلق الأمر بالواقع الأمريكي أو الأوروبي، ذلك التقدم التاريخي و الحضاري الهائل الذي كان له التأثير الإيجابي الكبير و العميق على المستوى الفكري و الفلسفي و العلمي، الأمر الذي أدى إلى ظهور، في أواخر القرن العشرين، مجموعة من الأبحاث و الكتابات المتمردة على الطرح التقليدي الضيق لمفهوم السلطة، و أسست لنفسها أفقا أكثر عمقا وعقلانيا.
ويمكن اعتبار المفكر و الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، من أهم مؤسسي هذا الفهم الجديد لمفهوم السلطة، وقد عرف باجتهاداته الهامة في مجال البحث الفلسفي الجذري، خاصة في الطب العيادي وتاريخ الجنون ..، إلى جانب كل من ماكس فيبر وبيير بورديو في مجال الدراسات الاجتماعية وعلم الاجتماع الانعكاسي. وقد حاولت هذه الأبحاث العلمية، من خلال روادها الأساسيين، طرح سؤال المنهاج الشامل والناجع، وأدوات تحليل الظواهر الاجتماعية و السياسية و الثقافية. لهذا ستأخذ هذه الأعمال على عاتقها الانشغال أكثر و الاهتمام بعمق طبيعة العوامل الخفية غير المباشرة، والمنظومة الرمزية المؤثرة بفعالية في أي مجتمع، مهما كانت طبيعته ونوعية وضعه العام، بجميع تجلياته وتشكيلاته. ومن خلال مفاهيمها الإجرائية و أدواتها المعرفية و المنهجية، المتميزة بطابعها الشمولي، وببعدها النقدي، ستحاول هذه الأبحاث الفكرية الغربية الحديثة، إعادة قراءة العديد من المواضيع الهامة في المجتمع، و التي يعتبر موضوع التعليم والتربية، من أهم الأسئلة التي شغلت الكتاب و المنظرين في هذا المجال.
وقد تمّ تعاملنا مع سؤال المؤسسة التعليمية، كمنظومة عامة وشاملة ورمزية، في علاقتها القوية بما يسمى سوسيولوجيا بالعنف الرمزي، خاصة عند أهم رواده الأساسيين، ونعني به بيير بورديو، متسائلين عن مدى نجاعة هذه النظرية المعرفية، وقيمتها المنهجية و التربوية، من أجل الأخذ ببعض عناصرها المنهجية، ومحاولة الإستعانة بأهم جوانبها المشرقة، و المناسبة لمنظومة التربية و التكوين المغربية، التي ما فتئت تعيش منعطفا أساسيا في تاريخ النظام التعليمي بالمغرب الحديث.
2 - صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية
لتحديد مفهوم السلطة.. والسلطة الرمزية، بصفة خاصة، تنطلق نظرية بورديو من تقسيم العالم الاجتماعي، إلى مجموعة حقول مستقلة نسبيا، وفهم هذا العالم الاجتماعي، يتوقف على البحث بعمق وبجدية كبيرة، في كيفية اشتغال آليات حقول ذلك العالم الاجتماعي، من أجل الكشف عن واقعها وطبيعة منطقها الداخلي، في علاقته الجدلية بمفهوم السلطة. يقول ب. بورديو بهذا الصدد، في حوار أجرته معه مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 37، دجنبر 1985: ( إن السلطة ليست شيئا متموضعا في مكان ما، و إنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة، ونجد أن كل بنية العالم الاجتماعي، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، من أجل فهم آليات الهيمنة والسيطرة ).
إن السلطة إذن، حسب بورديو، بمثابة نظام معقد، يخترق كل العلاقات والترابطات التي تشتغل داخليا، بواسطة آليات دقيقة وجد فعالة، تتحكم في البنية العامة لذلك النظام.
بالإضافة إلى أن هذا المنظور المنهجي في التحليل السوسيولوجي عند بورديو، حريص كل الحرص، على ربط مفهوم السلطة، كركن إجرائي جوهري في الفعل النظري التحليلي، بمفاهيم أخرى، لا تقل أهمية وقيمة، من مفهوم السلطة ذاته. نذكر من بينها، مفهوم النسق، ومفهوم الحقل، ومفهوم اللعب.. الخ. وهي على كل حال، مفاهيم تستمد أهميتها الإجرائية، من تصور بورديو للبحث المنهجي والأداة التحليلية، المرتبط باستراتيجية كونية وشاملة، مؤسسة على نظام مشروع فكري، لبناء ودراسة آليات وقوانين اشتغال بنية العالم الاجتماعي، كما أسلفنا، تحقيقا لهدف رئيسي، هو صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية pouvoir symbolique، إلى جانب الاهتمام بتحليل أنساق أخرى عديدة، وحقول اجتماعية مختلفة كالدين، و الفن، و اللغة، و السكن، و اللباس، و الرياضة، و الأذواق، ..إلخ.
و انطلاقا من العدد الهائل من الدراسات، و الأبحاث التطبيقية الميدانية، و أيضا النظرية، التي أنجزها بيير بورديو مع الكثير من الدارسين والباحثين الاجتماعيين الغربيين، الذين اقتنعوا بالبعد النقدي - الثوري الواضح، وفعالية أدوات هذا المنظور المنهجي و التحليلي، يلاحظ أن السلطة الرمزية، تستند عنده دوما إلى أسلوب التورية و الاختفاء، وهي لا يمكن أن تحقق تأثيرها المفترض، وتنفيذها بشكل فعال و إيجابي، إلا من خلال المساندة والتعاون الذي يجب أن تلقاه، من طرف أغلبية الناس المعنيين بها، و الذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهمية، و لا يعترفون بها. يقول بورديو بهذا الصدد في ص 52، من كتابه الرمز و السلطة ( إن السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية، ولا يمكن أن تمارَس، إلا بتواطؤ أولائك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها، بل ويمارسونها ).
لهذا، فتأثير السلطة الرمزية يكون أعمق و أخطر، لسبب بسيط، يتمثل في كونه يستهدف أساسا البنية النفسية و الذهنية للمتلقين لها، وبالتالي فهي – أي السلطة الرمزية – تمارس فعلها العميق، وتخطط من أجل فرض وتحقيق الأهداف المرسومة والمتوخاة، و إنتاج الأدوات و الآليات و المعايير المناسبة و الناجعة، لتثبيت وخلق واقع وضع إنساني مرغوب فيه ومخطط له، وتمارس سلطة الرمز كل هذه الأعمال بطريقة منظمة وبنائية، وتحت غطاء الخفاء و الاختفاء، وراء حجاب أقنعة المألوف العادي، وأنظمة التقليد و القانون و الخطابات الشائعة بين الناس.
3 - حول تأسيس مغاير لعلاقة السلطة بمفاهيم أخرى
1 - 3 الحقل و اللعب وعلاقتهما بالسلطة
إن اعتماد مفهوم الحقل، في التحليل السوسيولوجي عند بورديو، هو بمثابة تقنية إجرائية دقيقة وأساسية، للتفكير بصيغة العلاقات، أي التفكير على نحو علاقي وجدلى، بدل التفكير بالطريقة البنيوية الجاهزة و الضيقة الأفق، كما كانت سائدة ومهيمنة، في بداية انشغال بورديو بموضوع السلطة الرمزية ( عصر انفجار الفكر البنيوي في أوروبا )، لهذا كانت أبحاثه المعرفية و العلمية عامة، محاولة منه لتصحيح مسار فكري وفلسفي اقتنع به، ومارسه بنقد وهدم الفكر السائد، وتأسيس الفكر الفعال و البديل.
يتشكل الحقل، حسب بورديو، من جملة علاقات موضوعية، القائمة بين مجموعة من الأوضاع التي تحدد في وجودها بمحتليها، وهؤلاء المحتلون لتلك الأوضاع، إما أن يكونوا فاعلين أو مؤسسات، حسب موقعهم الحالي أو المحتمل، في بنية توزيع مختلف أنواع السلطة ( الرأسمال ) التي يتطلب امتلاكها بلوغ الأرباح الخاصة، وهي شرط أساسي ومهم لتحقيق لعب متواز بين القوى الفاعلة في الحقل، وفي الآن ذاته، بواسطة علاقتهم الموضوعية بالأوضاع الأخرى ( سيطرة، تبعية، تطابق.. إلخ ).
كما يرتبط مفهوم الحقل، بمفهوم الرأسمال ارتباطا وثيقا، من خلال التأكيد على أبعاده الثقافية و الاقتصادية، كقوة لها سلطة فعالة رمزية للقدرة على السيطرة على فضاء اللعب، في الحقل المعني، و الذي من الطبيعي أن يشهد بدوره حركية داخلية مهمة، و اشتغالا ديناميا محكما، سيؤدي فيما بعد إلى نشوء نزاعات وتوترات، ستتراكم وتختمر، لتنفجر في المرحلة الموالية، على شكل صراعات بين هذه القوى الفاعلة داخل حقل اللعب ( سواء كان لعبا طبيعيا أو سياسيا، أو اجتماعيا أو فكريا أو دينيا أو ثقافيا أو حضاريا.. إلخ )، وذلك بهدف الدفاع عن المكتسبات السابقة للقوى المتصارعة و الاحتفاظ عليها قدر الإمكان، أو تحويل تشكل تلك القوى لصياغة خريطة جديدة، تتناسب ووضع اللعب الاجتماعي والتاريخي الجديد.
ولكي تتضح ملامح دلالة مفهوم الحقل، كما يتصوره بورديو، ويعمل به في تحاليله الاجتماعية، يمكننا تقديم مثال عن حقل السلطة، وهو نموذج المثال الحي الذي كثيرا ما يستشهد به في كتاباته النظرية، تقريبا لمعنى هذا المفهوم. فما المقصود بحقل السلطة عند كاتبنا، وما هي مميزاته ومواصفاته الإجرائية ؟
* إنه حقل قوى محددة، في بنيته، بحالة علاقة القوة بين أشكال من السلطة أو أنواع مختلفة من الرأسمال.
* هو حقل صراعات من أجل السلطة و السيطرة و الهيمنة بين مالكي سلطات متباينة.
* إنه فضاء للعب، يتواجه فيه فاعلون ومؤسسات، يشتركون في امتلاك كم معين من الرأسمال الخاص ( ثقافي، اقتصادي.. )، و الغاية من تلك المواجهة بين القوى المتصارعة، هي تحقيق الرغبة في احتلال أوضاع مسيطرة في حقولهم الخاصة، و العمل على تحريرها ( الحقل الاقتصادي، وحقل الإدارة العليا للدولة، والحقل الأكاديمي، والحقل الفكري )، كما تهدف تلك المواجهة، إلى الاحتفاظ بعلاقة القوة تلك أو محاولة تحويلها ..
* الهدف من صراع القوى السابق هو فرض مبدأ السيطرة ( سيطرة المسيطر )، الذي يمكن أن يصل في أية لحظة إلى حالة من التوازن، ليتمكن بالتالي من اقتسام السلط فيما بينه وبين المتنازع الآخر، أي تقسيم عمل السيطرة والهيمنة.
* هو أيضا صراع ونزاع من أجل فرض مبدأ الشرعنة ( المشروعية )، أي إضفاء المشروعية و المصداقية على وضعية السيطرة المنفذة، إلى جانب الحفاظ على نمط إعادة الإنتاج المشروع لأسس السيطرة المحققة في الميدان.
ونشير الآن إلى أهم أنواع المجابهات و الصراعات و الأشكال التي يمكن أن تتخذها هذه المجابهات:
أ - مواجهات واقعية ( حروب القصر )
ب - مواجهات مسلحة ( بين السلطات الزمنية و السلطات الروحية )
ج – مواجهات رمزية ( صراعات فكرية ).
2 - 3 حول علاقة نظرية الأنساق بنظرية الحقول
إن مفهوم الحقل عند بورديو، يعمل في عمقه على استبعاد كليا الطابع الآلي، الذي يتميز به مفهوم الجهاز، وتبعا لذلك يكون قد استبعد النظرية الوظيفية التي سبق أن انتقدها في العديد من كتاباته، وبشكل يكاد يكون أحيانا قاسيا وعنيفا، و ازداد أكثر قربا و التحاما بالتاريخ و الفهم الجدلي للمجتمع. بالإضافة إلى أن الحقول، كما هو واضح من خلال الفقرة السابقة، لا تقوم على أجزاء أو مكونات، بل هي تبدو فرعية، لها منطقها الداخلي الخاص، و انتظاماتها الخاصة. لهذا يرى بورديو، وهو رأي كثيرا ما أورده و أكد عليه في العديد من كتاباته، أن الحقل هو لعب أعقد بكثير من كل الألعاب التي يمكن أن يتخيلها المرء.
4 – تحليل ودراسة حقل معين من حيث الخصائص و المراحل
يميز بورديو بين ثلاثة لحظات أساسية لدراسة وتحليل حقل من الحقول، وهي :
1 – 4 لحظة تحليل وضع الحقل إزاء حقل السلطة
إن الحقل متضمن دائما، بجميع علاقاته الموضوعية وتجلياته الصراعية، داخل حقل أوسع منه، هو حقل السلطة. فالحقل الأدبي مثلا في المغرب متضمن في حقل السلطة، بمعنى أن كل الكتاب و المثقفين بشكل عام، هم فئة من شرائح المجتمع المغربي، التي تنتمي بدورها إلى الشق المهيمن ( بفتح الميم ) عليه من طرف الطبقة المسيطرة.
2 – 4 لحظة تحديد البنية الموضوعية، للعلاقات بين الأوضاع المحتلة، من لدن الفاعلين أو المؤسسات، الذين يتنافسون ويتصارعون داخل ذلك الحقل، من أجل فرض السلطة، والحفاظ على استمرارية السيطرة والهيمنة.
3 – 4 لحظة تحليل سموت ( استعدادات ) الفاعلين، التي اكتسبوها في إطار تواجدهم، ضمن شروط الحقل المعني الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي و السياسي.
إن المؤلف الذي لا يراعي، أثناء تحليله لحقل معين، المراحل و اللحظات التحليلية السابقة، وبنفس الأولوية الترتيبية والمنهجية، لن يكون معنى للتحليل الذي أنجزه، حسب بورديو، وبالتالي لا يسمح له أن يزعم أنه مارس تحليلا يذكر، أو درس موضوعه الدرس المنتظر منه، ومن تمّ لا يستحق أن يكون مؤلفا، في نظر بورديو دائما، لأن هذا الأخير ( المؤلف) ينبغي عنده أن يكون ذاتا محللة فاعلة، على النحو العلمي الاجتماعي، كما حدده أعلاه، و أن المهم في التحليل الاجتماعي الخلاق، ليس عرض القضايا والإشكالات، ووصف البنيات، وتقديم المعلومات، رغم الأهمية النسبية لكل هذه الجوانب من المعرفة، و إنما المهم و الأساس عند بورديو هو البحث و التنقيب في أسئلة الحقل، ودراسة التفاعلات فيه، و إثارة أكبر ما يمكن من إشكالاته، وبالتالي يكون بذلك قد وصل إلى مستوى الأستاذية الحقة.