ثقافة شعبية محمود تيمور - الأدب الشعبي -2-

إني على يقين بأن العمل الفني إذا توافر له جوهر الأدب من إثارة العاطفة، ومنادمه الوجدان، ومن تناول العناصر الحية في المجتمع البشري، ومن تصور النزعات النفسية النابعة من موارد إنسانية أصيلة، فإن هذا العمل الفني صالح لأن يكون شعبياً يستمرئه الناس على اختلاف مراتبهم من المعارف والمدارك؛ وأنهم ليستجيبون له، ويتأثرون به، ويجدون له في أنفسهم بلاغا ليس وراءه بلاغ.

أعرف فيما أعرف سيدة تقرأ العربية، ولكنها غير متضلعة منها، فأما الشعر العربي فإنها لا عهد لها به، ولعلها تتجنبه ثقة منها بأنها لا تملك له فهما. وأظهر ما تتميز به هذه السيدة أن العاطفة تحيا ولها تعمل، ويوما عرضت على إحدى المجلات مشيرة فيها إلى أبيات من الشعر يناجي بها الشاعر طفله، وما عتعت أن أخذت تقرأ على هذه الأبيات، جياشة الحماس مستعذبة ما تقرأ، مسهبة في شرح ما تجد من جميل المعاني، تدلني بذلك على أنها فهمت مرامي الشاعر وأغراضه، وأن غمت عليها مدلولات الألفاظ على الوجه الدقيق. فهذه السيدة قد تأثرت عاطفتها بتلك الأبيات، طوعا لما تضم بين جوانحها من مشاعر الأمومة المتوقدة، فالشاعر قد عالج لها موضوعا ينزل من نفسها في المكان الأول، وعبر لها عما تشعر به الأم نحو طفلها تعبيراً فنياً جميلاً، فيه النغمة الموسيقية التي هي أقرب إلى هدهدة الطفل في مهده الحبيب، ومن ثم استجابت الأم لهذا اللون منالشعر، لا بما تفهمه وتعقله في هذا الفن من الأدب، ولكن بما استشعرته لذلك الموضوع الذي عالجه الشاعر الفنان، وكان حسبها في هذه الاستجابة جملة ألفاظ فهمتها من أبياته، فكانت هذه الألفاظ جسراً يصل بين شعورها وشعوره.

وأذكر أني كنت في عهد الصبا أحرص على شهود المحافل التي يلقي فيها شاعر النيل (حافظ إبراهيم) قصائده الشعبية في الشؤون الاجتماعية والسياسية العامة. وكان كعهده يؤثر أناقة اللفظ وجزالة العبارة حتى ليفتقر النشء المتأدبون في فهم كلماته إلى معجم، وأنا يومئذ قليل الزاد من الفصحى، ولكني على الرغم من ذلك ما أكاد استمع إلى (حافظ) ينشد، حتى أحس معانيه تنساب إلى نفسي انسيابا، وإذا أنا أدامجه وأسايره بعاطفتي وشعوري؛ ذلك لأن الموضوعات التي يعالجها كانت تشغل بالنا، ولم يكن جمهور (حافظ) من المثقفين خاصة، وإنما كان خليطا من طبقات الشعب، يفهمون عنه، ويتأثرون به، ويصفقون له في صدق وإيمان. ولست أنسى حفلا شعبياً شهدته في (حديقة الأزبكية) لذلك العهد، فأنشد فيه (حافظ) إحدى روائعه، وكان بين جمهور السامعين كثير من ذوي الجلابيب، وهم يطربون للشعر، ويهتاجون بالإنشاد، ويتصايحون في تهلل وإعجاب.

وإليك ما عرفت من شأن (طاغور) وجمهور، فقد كانت حلقته التي ينشد فيها أشعاره تحفل بالحشد الوافر من جمهور الشعب غير المثقف، وبينهم الحفاة العراة المهازيل، وكان أولئك يصغون إلى (طاغور) مرتلاً شعره، وكأنهم في معبد يشتركون في صلاة، وأعينهم تفيض من الدمع تأثراً واستجابة، وكذلك استطاع هذا الجمهور الساذج أن يستشعر الجمال والروعة في قصائد بالغة من السمو الفني والفلسفي أرفع الدرجات، وإنما تسنى للجمهور أن يساير أدب (طاغور) بثلاث: الأولى أن الشاعر يتناول من الموضوعات ما يشغل بال الناس، وما يحسونه في صميم قلوبهم أوفر إحساس، فهم حين يصغون إلى الشاعر فإنما يصغون إلى زفرات نفوسهم وأصداء عواطفهم صادقة الوحي والإلهام. والثانية أن قصائد (طاغور) أقرب في أسلوبها وجرسها إلى النغمة الموسيقية منها إلى ألفاظ تتألف من حروف. والثالثة أن (طاغور) كان يلتقي شعره فيحسبه السامع مغنيا يترنم. وثمة ناحية رابعة ليس من الخير إغفالها، تلك هي أن فلسفة (طاغور) التي ينطوي عليها شعره أدنى إلى التصوف والتعبد منها إلى فلسفة المذاهب والاراء، والإنسان صوفي بالفطرة، متعبد بالطبع، ولم تكن هذه المعاني التي يجلوها (طاغور) في فلسفته الصوفية إلا معاني إنسانية كامنة في النفس البشرية، فلا هي بجديدة على الإنسان ولا هي بمستغلقة عليه، بل هي في سريرته مستخفية تلتمس من يثيرها من الأعماق.

لسائل أن يقول: أفي المستطاع أن يتذوق جمهورنا العربي من فن (طاغور) ما يتذوقه جمهوره؟.

لا سداد في الإجابة عن هذا السؤال بنفس أو إيجاب، فإن كثيراً من الألوان الأدبية، وبخاصة الشعر، لا يكاد يسوغ إذا نقل إلى لغة غير لغته لأنه يفقد بالترجمة خصائص وقعه الموسيقى وكيانه الفني، ولا تبقى منه إلا ظلال وأشباح أو هياكل معروفة من عظام. ولو كان في المقدور أن يترحم أدب (طاغور) رنانا بموسيقيته الفنية، رفافا بصوفيته الإنسانية، لكان حريا أن يتأثر به الجمهور الكبير حيث يكون.

وهذا (شكسبير) الشاعر العبقري الذي نقرأ له اليوم في إمعان وروية، محاولين استشفاف الغامض من معانيه، والدقيق من تأملاته وتحليلاته النفسية. لقد كانت مسرحياته تمثل على أعين الناظرة من عامة الشعب، كانوا أمشاجاً من الناس يتباينون في مراتب الثقافة والذوق، ولكنهم استساغوا من فن (شكسبير) ما يساير عواطفهم وما يلائم مزاجهم، واستمرءوا ما كان يمازحهم به من مفارقات الحياة وأضاحيك المجتمع، في سخرية لاذعة، ونقد طريف؛ وما كان يهزهم به من صور المآسي والفواجع، في لوعة مريرة، وتحس أليم. فالشعب في ذلك كله مستجيب له أعمق استجابة، فتارة هو واجد حزين، وطورا هو مستمتع طروب.

على الأديب الفنان الذي يرى أدبه محجوبا عن الجمهور، فيسئ الظن بهم، ويسرع إلى وهمه أن الناس لا يستطيعون التلقي عنه، عليه أن يسأل نفسه: أموصول هو حقا بالشعب يعبر عن خوالجه، ويصور منازعه؟ فإن كان كذلك حقا فليسأل نفسه ثانية: هل ابتغي الوسيلة التي يتسنى بها للجمهور الإقبال على أدبه؟ وإن في الجواب عن هذا السؤال جانباً خطيراً من سر العلاقة بين الفنان الكاتب والجمهور القارئ.

وليس بعازب عنا عقم الوسائل التي تتأدى بها الكتب الأدبية إلى أيدي الشعب، فإن هذه الكتب لا تكاد تصل إلى الناس إلا بجهد، فالكاتب والقارئ كلاهما يلقي من ذلك إعناناً ورهقاً. وفي مقدورك أن تعزو العزلة التي يعانيها الأدب الفني إلى أن الجمهور يجهل وجدوده، وأنه لا يجد تنبيهاً إليه، وربما وجد سبيله غير ميسور؛ فللجمهور عذر مبسوط فيما نلاحظ من ضعف إقباله على الأعمال الفنية التي ينهض بها الأدباء.

وفي هذا المقام يطيب لي أن أشير إلى أن إحدى الفرق التمثيلية ضاقت بما تجد من تراخي الجمهور عما تقدمه من مسرحيات فنية أصيلة، وكانت تعلل ذلك بادئاً بأن الجمهور لا يسمو إلى هذا المستوى الرفيع. وأخيرا خطر للقائمين على تلك الفرقة أن يلتمسوا بعض السبل إلى اجتذاب الناس، فخفضوا أسعار الدخول حتى قاربوا بها أسعار الدخول في الدور السينمائية، وبسطوا لطلاب المعاهد وأساتذتها شيئا من الامتياز في الخفض، فازدحم المسرح برواده، واحتفظت الفرقة بمستواها، ولقيت من الإقبال والاستحسان ما لم يكن يدور في الحسبان.

ومما لاحظناه منذ عهد قريب أن بعض دور النشر أخذت تقدم طبعات جديدة من المؤلفات الأدبية الرفيعة، ميسورة الأثمان، تعرض مع باعة الصحف على أنظار الناس، فراجت هذه الكتب، وبيع منها الألوف والجمهور هو الجمهور، لم يزدد علما ولا ثقافة بين عشية وضحوة، وإنما الفضل كل الفضل لهذه الوسيلة الجديدة في نشر الكتب وعرضها على جمهرة القارئين. وليس أدل على نصوع هذه الحقيقة من أن بعض تلك الكتب كان مطبوعا على الطريقة القديمة من قبل، ولم يكن المطبوع منه يزيد على ألفين أو ثلاثة، وما تزال منه بقية في المكتبات لم تبع بعد، فأما هو في طبعته المحدثة، بهذه الطريقة الميسورة، فإن المطبوع منه بربى على عشرين ألفا ولا يكاد يظهر حتى تنفد نسخه في أيام معدودات.

ومن طريف ما حدثني به أستاذ فرنسي صديق، أنه يسكن شقة في مبنى كبير في باريس، وعلى باب المبنى يقوم بواب مشغوف بالقراءة، فبين يديه دائماً كتاب يطالع فيه، وقد عنى الصديق بأن يتعرف ما يقروه ذلك البواب المتأديب، فإذا هو الأدب المسف الرخيص، فخطر له أن يزاول معه تجربة لا يدري أتخفق أن تفلح، فدفع إليه كتابا من الكتب، وترك له أن يقرأ إذا راقه أن يفعل، فأخبره البواب بأنه قرأه في ليلة واحدة، وأنه أعجب به. ولم يكن الكتاب مغامرة من مغامرات (أرسين لوبين) وإنما كان كتاب (أناكارنين) لتولستوي. ومنذ اليوم أخذت المكتبة القصصية الرفيعة التي يقتنيها الأستاذ الفرنسي تستعار كتابا كتابا لهذا البواب، فيعب ما شاء أن يعب، وكذلك أثمرت التجربة وأصبح البواب القارئ من عشاق الأدب الرفيع.

هذه خواطر في معنى الأدب الشعبي، أردت بها توجيه الأنظار إلى تصحيح مدلوله، والكشف عن حقيقته، فلقد طالما أسيء فهمه، وشدما عدل به عن وجهه. ولقد آن لنا أن نرد إليه وبينه، كما نظلم الشعب إذا نقصنا من متعة الأدب حظه. وهل للأدب موضوع إلا الشعب؟ وهل للشعب مرآة إلا الأدب؟.

محمود تيمور

مجلة الرسالة - العدد 1021

بتاريخ: 26 - 01 - 1953

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...