أمل الكردفاني - الأدب والنداءات الأخلاقية

✍ ▪ ربما سمعنا بالجائزة الموازية لنوبل والتي اعلنها 100 مثقف من الكتاب والفنانين وغيرهم من الشخصيات الثقافية السويدية.
وقال مؤسسو جائزة نوبل الموازية فى بيان صحفى: "لقد أسسنا الأكاديمية الجديدة لتذكير الناس بأن الأدبيات والثقافة ككل يجب أن تعزز الديمقراطية والشفافية والتعاطف والاحترام، دون امتياز، أو تحيز ضد الغطرسة أو التحيز الجنسى فى وقت أصبحت فيه القيم الإنسانية موضع تساؤل متزايد، يصبح الأدب قوة مضادة أكثر أهمية لوقف ثقافة الصمت والظلم. تعتبر الأكاديمية الجديدة هذا أمرًا مهمًا للغاية حتى يتم منح جائزة أعظم كتاب أدبى فى العالم فى عام 2018". واشترطوا أن تكون أعمال المرشحين تروى قصة "البشر فى العالم" - على النقيض من جائزة نوبل، التى تهدف إلى تكريم الكاتب الذى كتب، على حد تعبير إرادة ألفريد نوبل "العمل الأكثر تميزًا فى اتجاه مثالى" حسبما ذكرت الجارديان.
ننتقل الآن الى جوائز عربية أخرى مثل الجائزة التي تطلقها وزارة الثقافة والتنمية المعرفية بالامارات ، ومن خلال بيان اهدافها جاء انها تهدف الى نشر القيم الايجابية في المجتمع.
نلاحظ في كل ذلك وفي اغلب افتتاحيات الجوائز الأدبية والتعريف بها وبأهدافها هذا الاطار الاخلاقي الصارم الذي يتم وضعه كشرط لتقييم العمل الأدبي. لا يمكننا ان ننكر اهتمام الانسان السوي بالأخلاق واحتياجه اليها ؛ ومع ذلك فلا يمكننا أيضا ان نتحدث عن الأخلاق بكل هذا التبسيط المخل حينها. وبدون وضع مضمون لهذا المصطلح شديد الذاتية ، يقول الكتاب المائة المنشؤون لنوبل الموازية ان الاعمال يجب ان تهدف لتعزيز الدموقراطية والشفافية والتعاطف والاحترام . وهذا يعيدنا الى عصور قديمة جدا اي عصور الأدب الوعظي ، والتي استمرت منذ مسرحيات اليونان الدينية حتى عهد بلزاك برواياته ذات النزعة الوعظية. والمدهش ان يصدر ذلك من مائة مثقف سويدي ليفرضوا ليس فقط وصاية قيمية بل حتى وصاية سياسية وجنسية ، وهكذا فبدلا عن أن يعمل الأدب على اكتشاف العالم بحرية تجتاز كل التابوهات والمقدسات فإن مائة مثقف سويدي لن يتورعوا عن حرق الماركيز دوساد لرواياته الفاسقة بحسب ما وصفتها الكنيسة كروايته أيام سدوم المائة والعشرون وغيرها. تفرض جائزة نوبل -بحسب ما ذكره هؤلاء المائة- النزوع الى المثالية كمعيار لجودة العمل الأدبي ؛ وهذا مستغرب جدا ، فما هي المثالية أساسا ؛ وهل الأدب هو عبارة عن كتب دينية او فلسفة أفلاطونية طوباوية ، وهل العالم -كما نراه على حقيقته- هو فردوسنا المسالم ، وهل يشترط على أي أديب ان ينهي روايته بانتصار الخير على الشر؟ هذا اذا استطعنا أساسا التمييز بين ما هو خير وشر ، وأخلاقي ولا أخلاقي وطيب وخبيث.
ربما استأت دائما من الشروط الشكلية التي تضعها بعض المسابقات الأدبية كتحديد عدد الصفحات وكتحديد نوع الخط لأنها تفترض أن الأديب يكتب من اجلها وتتجاهل أن التداعي الابداعي هو من يفرض شروطه ، ولكنني اتجاوز حد الاستياء حينما يتم تقييد الكاتب موضوعيا. لقد سألني أحدهم هل يجوز أن يكتب أحدهم رواية بها استغلال جنسي للقصر؟ وأجبته نعم يجوز... بل ويجوز له ان يكتب أكثر من ذلك ما دام اطاره أدبيا. اليس استغلال القصر حقيقة ماثلة وموجودة؟ اليست كالاتجار بالمخدرات والارهاب وخلافه من جرائم؟.. اليست ظاهرة بشرية ، الا يجوز ان نستخدمها داخل اطار أدبي ونتناولها بما لها وما عليها؟ بتبريرات من يبررها وبتفنيدات من يناهضها ، الا يجوز ان يكون للأدب موقف حتى من الدفاع عن الجريمة؟ الم نشاهد مئات الأفلام الامريكية التي تمجد من يسطون على البنوك؟ ألم نشاهد كل تاريخ البشرية حين يكتبه المنتصر يمجد قتله للمهزوم؟ ويمرمط بعدوه المهزوم الأرض؟ الا نقوم في عالمنا هذا بشيطنة أعدائنا بل وبقتلهم وذبحهم وحرقهم بكل تشفي تحت دواع ومبررات زائفة؟ الم يتم ازهاق ارواح مئات الآلاف بقنبلة نووية واحدة؟ واحراق ملايين اليهود في المانيا النازية ، واغتصاب الآلاف من النساء على يد داعش واستعبادهن؟ هذه حقيقة عالمنا ، وهي ليست حقيقة جميلة بكل حال ، ولكن لا يمكنك ان تحظر الأديب عن اتخاذ موقف تجاه عالمه هذا سواء مع او ضد ، الكل او الجزء.
مشكلة الأدب والحرية تقتضي منا ان نكون منصفين حين نتناولها من جانب ما يسيء للآخرين في قيمهم ؟ نعم فالمائة مثقف سويدي اذن يرفضون كتابة رواية تمجد الدكتاتورية ، وكذلك هناك اثنان مليار مسلم يرفضون رواية تسيء لدينهم فأيهم أولى؟ إذا كنا سنجعل من قيمنا تيرموميترا لما يجوز وما لا يجوز فسينتهي الأمر بالأدب الى التجمد التام والدخول في موت شامل ، فالسبعة مليارات بني آدم لديهم قيمهم المتنوعة التي يرفضون اي مساس بها ، وهي كل القيم التي يمكن ان يتناولها الأدب ، وعلى ذلك فسيمتنع الأديب عن الكتابة تماما حينما يحاصر بوصاية سبعة مليارات دماغ مؤدلج.
الا يدهشكم بعد هذا ان يصدر مثل ذلك التصريح من مثقفين يطرحون جوائز دولية بملايين الدولارات ثم يفرضوا قيمهم على الأدباء؟
إن الحرية لا تتجزأ يا سادة ، فإما ان هناك حرية أو لا توجد حرية ، والابداع يدور مع الحرية وجودا وعدما ، والا فليكتفي الأدباء بكتابة قصصهم للحشرات والاشباح بل وللموتى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...