تابَع ولد علي مباراة البارصا، والريال، تحت جذع النخلة حين غادره بوقاش الذي يملي عليه الهبل، وبيار الذي كان يملي عليه الشعر، أيام كان الجسد قويا يتحمل حمى الإلهام. حين انتهت الفرجةُ جمع جسده عضوا عضوا، وتابع طريقه إلى قصر أسرير مشيا على الأقدام. قطع نهرا عظيما يشكو ظمأ قتالا، فإذا بالقصر يواجهه بحزن عميق. هذا القصر سمع صرخته الأولى وهو ينظر إلى هذا العالم . أرض هذا القصر تحملت قدميه الحافيتين.
اقترب من بوابة القصر. على الجانب الأيمن مَصطبة يجلس عليها جماعة من الرجال. كان عددهم سبعة، عيونهم ينتشر منها بريق رهيب. اقترب منهم. تشوك شعر رأسه. قال: "السلام عليكم". ما رد عليه أحد. كرر السلام، فرد عليه واحد منهم. قام إليه، وقال له: "أهلا بك يا ابن علي، من زمان ماجئت أسرير". أحس ولد علي بالأنس، ثم قال للرجل: "من أنت؟". رد الرجل: "أنا تابعك بوقاش الذي يملي عليك هبلك.. أنسيتني؟". رد ولد علي: "ومن هؤلاء؟". رد بوقاش: "هؤلاء توابع الشعراء الجاهلين، جاؤوا أسرير مذ مات أصحابهم الشعراء، اقترب سأقدمهم لك : هذا مسحل بن جندل قَبِّلْ رأسه". فقبل رأسه، ثم سأله: "أحقا أنت تابع الأعشى؟". فرد مسحل: "نعم..". فقال ولد علي: "وما الدليل؟". رد: "عد إلى ديوانه ستجد ذكري به، ألم يقل:
وَمَا كُنْتُ ذَا قَوْلٍ وَلَكِنْ حَسِبْتُنِي = إِذَا مِسْحَلٌ يَبْرِي لِيَ الْقَوْلَ أَنْطِقُ
خَلِيلاَنِ فِي مَا بَيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ = شَرِيكَانِ جِنِّيٌّ وَإِنْسٌ مُوَفَّقُ
يَقُولُ فَلاَ أَعْيَا بِقَوْلٍ يَقُولُهُ = كَفَانِيَ لاَ عَيٌّ وَ لا هُوَ أَخْرَقُ
وأضاف مسحل قائلا :كان رحمه الله يباهي بي حين قال:
دَعَوْتُ خَلِيلِي مِسْحَلاً وَدَعَوْا = جُهُنَّامَ جَدْعاً لِلْهَجِينِ الْمُذَمَّمِ
تحرك جُهُنَّام وقال غاضبا: "لو عاد الأعشى إلى الحياة؛ لخنقته، أو لسلطت عليه الهَوْجَل" . قال ولد علي: "ومن الهوجل هذا؟". قال: "هو تابع يوسوس للشعراء بالشعر السيء". ثم تقدم تابعٌ أعمى، وسلم على ولد علي قائلا: "أنا شِنِقناق تابع بشار، وهذا الجالس عن يميني هَبيد بن الصَّلادم تابع عبيد بن الأبرص، والجالس عن يساري لافِظ بن لاحظ تابعُ امرئ القيس، وهذا الجالس قريبا من باب القصر هو هَادِر تابع النابغة الذبياني، وبجانبه مُدْرِك بن لاغم تابع الكميت الأسدي". فسلم ولد على على كل هؤلاء التوابع واحدا واحدا. ثم سألهم: "لاحظت أيها التوابع أنكم أوحيتم لشعرائكم أشعارا على الطويل، والكامل، والبسيط، والوافر، ولم تهتموا بالمنسرح
قدر اهتمامكم بهذه البحور". فالتفت إليه لافظ بن لاحظ قائلا: "حين جئنا إلى هذا العالم، وجدنا أجدادنا التوابعَ يطربون لهذه البحور التي ذكرت، فحفظنا نصوصا كثيرة صيغت على إيقاعاتها، ثم نسينا تلك النصوص. فلما أصبحنا توابعَ كانت تلك البحور قد تمكنت منا، فأوحينا إلى أصحبنا أشعارا عليها. أما المنسرح فأظنه يا ابن علي أقدمَ البحور. ونحن لم ندرك التوابع الذين عاشوا أيام ازدهاره". رد هادر: "وما دليلك يا لافظ ؟". رد لافظ: "وجود تفعيلة مَفْعُولاَتُ في هيكله النغمي. هي تفعيلة غريبة، وهي قريبة في نغمها من إيقاع الخبب، والخببُ كما تعلم لم يكن له حضور في عهدنا؛ لغرابته. وعندي أن ما قاله أصحابنا الشعراءُ على المنسرح، لم يمليه أحدنا عليهم، وإنما أملاه توابعُ معمرون عاشوا أيام ازدهار هذا البحر". فتدخل ولد علي قائلا: هذا الموضوع الذي فتحتموه لا يشغل بالي، لكن ما يشغلني الآن هو ماذا تفعلون بعد رحيل شعرائكم ؟". فقال مدرك بن لاغم: "حاولنا أن نسكن صدور شعراء هذا العصر، فوجدنا أن بكل صدر توابعَ قَدموا إليه من الحي اللاتيني، ومما جاوره من الأحياء". ثم تدخل مسحل قائلا: "أنا كنت أسكن صدر عبد الكريم الطبال، فأمليت عليه أشياءه المنكسرة، لكن فأجأني ذات صباح، بشيطان نصراني، جاء به من صدر لوركا، فأسكنه قلبَه، وأملى عليه البستانَ، وشجرَ البياض، وآخر المساء". فجأة أحس ولد علي أن صدره انشق نصفين، فخرج منه مارد لا يراه أحد سواه، فقال:
بُوقَاشُ يُمْلِي عَلَى صَدْرِي أَنَا هَبَلا = مُذْ رَاحَ بَيَّارُ خَلْفِي يَسْكُنُ الْجَبَلا
فقال جُهُنّام لما سمع هذا البيت لولد علي: "أتقصد ببيار تابعَك في قول الشعر، وببوقاش تابعَك في قول الهبل؟". رد: "نعم..". فقال: "لو قلت لنا هذا المعنى على بحر آخر". فقال ولد علي على لسان المارد:
رَشَّ بُوقَاشُ فُؤَادِي هَبَلا = حِينَ بَيَّارُ مَضَى ثُمَّ عَلا
فقال هادر: "نريده على بحر آخر"، فقال:
بُوقَاشُ رَشَّ الْقَلْبَ بِالْهَبَلِ = لَمَّا رَأَى بَيَّارَ بِالْجَبَلِ
فقال هبيد بن الصلادم: "نريده على بحر آخر". فقال:
هَا بُوقَاشُ يُطْعِمُنِي = مِنْ أَشْجَارِ ذَا الْهَبَلِ
مُذْ بَيَّارُ رَاحَ إِلَى = نُورٍ فَاحَ بِالْجَبَلِ
فقال مسحل: "نريده على بحر آخر". فقال:
بُوقَاشُ قَدِ رَشَّ الْقَلْبَ بِالْهَبَلِ = مُذْ رَاحَ عَمِّي بَيَّارُ لِلْجَبَلِ
فقال لافظ بن الصلادم: "الآن بهذا المنسرح، تأكد لنا أن التابعَ الذي أملى عليك هذا المعنى على البسيط، فالرمل، فالكامل الأحذ، فالمقتضب، فالمنسرح، هو تابع عبقادر وساط، فقد علمنا أنه غادره منذ أصبح مشغولا بكلماته المسهمة....". كان ولد علي يصغي لهذا الحديث، فإذا به يتحرك، ليجد نفسه قد سقط من سريره، فقام من نومه مذعورا.
اقترب من بوابة القصر. على الجانب الأيمن مَصطبة يجلس عليها جماعة من الرجال. كان عددهم سبعة، عيونهم ينتشر منها بريق رهيب. اقترب منهم. تشوك شعر رأسه. قال: "السلام عليكم". ما رد عليه أحد. كرر السلام، فرد عليه واحد منهم. قام إليه، وقال له: "أهلا بك يا ابن علي، من زمان ماجئت أسرير". أحس ولد علي بالأنس، ثم قال للرجل: "من أنت؟". رد الرجل: "أنا تابعك بوقاش الذي يملي عليك هبلك.. أنسيتني؟". رد ولد علي: "ومن هؤلاء؟". رد بوقاش: "هؤلاء توابع الشعراء الجاهلين، جاؤوا أسرير مذ مات أصحابهم الشعراء، اقترب سأقدمهم لك : هذا مسحل بن جندل قَبِّلْ رأسه". فقبل رأسه، ثم سأله: "أحقا أنت تابع الأعشى؟". فرد مسحل: "نعم..". فقال ولد علي: "وما الدليل؟". رد: "عد إلى ديوانه ستجد ذكري به، ألم يقل:
وَمَا كُنْتُ ذَا قَوْلٍ وَلَكِنْ حَسِبْتُنِي = إِذَا مِسْحَلٌ يَبْرِي لِيَ الْقَوْلَ أَنْطِقُ
خَلِيلاَنِ فِي مَا بَيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ = شَرِيكَانِ جِنِّيٌّ وَإِنْسٌ مُوَفَّقُ
يَقُولُ فَلاَ أَعْيَا بِقَوْلٍ يَقُولُهُ = كَفَانِيَ لاَ عَيٌّ وَ لا هُوَ أَخْرَقُ
وأضاف مسحل قائلا :كان رحمه الله يباهي بي حين قال:
دَعَوْتُ خَلِيلِي مِسْحَلاً وَدَعَوْا = جُهُنَّامَ جَدْعاً لِلْهَجِينِ الْمُذَمَّمِ
تحرك جُهُنَّام وقال غاضبا: "لو عاد الأعشى إلى الحياة؛ لخنقته، أو لسلطت عليه الهَوْجَل" . قال ولد علي: "ومن الهوجل هذا؟". قال: "هو تابع يوسوس للشعراء بالشعر السيء". ثم تقدم تابعٌ أعمى، وسلم على ولد علي قائلا: "أنا شِنِقناق تابع بشار، وهذا الجالس عن يميني هَبيد بن الصَّلادم تابع عبيد بن الأبرص، والجالس عن يساري لافِظ بن لاحظ تابعُ امرئ القيس، وهذا الجالس قريبا من باب القصر هو هَادِر تابع النابغة الذبياني، وبجانبه مُدْرِك بن لاغم تابع الكميت الأسدي". فسلم ولد على على كل هؤلاء التوابع واحدا واحدا. ثم سألهم: "لاحظت أيها التوابع أنكم أوحيتم لشعرائكم أشعارا على الطويل، والكامل، والبسيط، والوافر، ولم تهتموا بالمنسرح
قدر اهتمامكم بهذه البحور". فالتفت إليه لافظ بن لاحظ قائلا: "حين جئنا إلى هذا العالم، وجدنا أجدادنا التوابعَ يطربون لهذه البحور التي ذكرت، فحفظنا نصوصا كثيرة صيغت على إيقاعاتها، ثم نسينا تلك النصوص. فلما أصبحنا توابعَ كانت تلك البحور قد تمكنت منا، فأوحينا إلى أصحبنا أشعارا عليها. أما المنسرح فأظنه يا ابن علي أقدمَ البحور. ونحن لم ندرك التوابع الذين عاشوا أيام ازدهاره". رد هادر: "وما دليلك يا لافظ ؟". رد لافظ: "وجود تفعيلة مَفْعُولاَتُ في هيكله النغمي. هي تفعيلة غريبة، وهي قريبة في نغمها من إيقاع الخبب، والخببُ كما تعلم لم يكن له حضور في عهدنا؛ لغرابته. وعندي أن ما قاله أصحابنا الشعراءُ على المنسرح، لم يمليه أحدنا عليهم، وإنما أملاه توابعُ معمرون عاشوا أيام ازدهار هذا البحر". فتدخل ولد علي قائلا: هذا الموضوع الذي فتحتموه لا يشغل بالي، لكن ما يشغلني الآن هو ماذا تفعلون بعد رحيل شعرائكم ؟". فقال مدرك بن لاغم: "حاولنا أن نسكن صدور شعراء هذا العصر، فوجدنا أن بكل صدر توابعَ قَدموا إليه من الحي اللاتيني، ومما جاوره من الأحياء". ثم تدخل مسحل قائلا: "أنا كنت أسكن صدر عبد الكريم الطبال، فأمليت عليه أشياءه المنكسرة، لكن فأجأني ذات صباح، بشيطان نصراني، جاء به من صدر لوركا، فأسكنه قلبَه، وأملى عليه البستانَ، وشجرَ البياض، وآخر المساء". فجأة أحس ولد علي أن صدره انشق نصفين، فخرج منه مارد لا يراه أحد سواه، فقال:
بُوقَاشُ يُمْلِي عَلَى صَدْرِي أَنَا هَبَلا = مُذْ رَاحَ بَيَّارُ خَلْفِي يَسْكُنُ الْجَبَلا
فقال جُهُنّام لما سمع هذا البيت لولد علي: "أتقصد ببيار تابعَك في قول الشعر، وببوقاش تابعَك في قول الهبل؟". رد: "نعم..". فقال: "لو قلت لنا هذا المعنى على بحر آخر". فقال ولد علي على لسان المارد:
رَشَّ بُوقَاشُ فُؤَادِي هَبَلا = حِينَ بَيَّارُ مَضَى ثُمَّ عَلا
فقال هادر: "نريده على بحر آخر"، فقال:
بُوقَاشُ رَشَّ الْقَلْبَ بِالْهَبَلِ = لَمَّا رَأَى بَيَّارَ بِالْجَبَلِ
فقال هبيد بن الصلادم: "نريده على بحر آخر". فقال:
هَا بُوقَاشُ يُطْعِمُنِي = مِنْ أَشْجَارِ ذَا الْهَبَلِ
مُذْ بَيَّارُ رَاحَ إِلَى = نُورٍ فَاحَ بِالْجَبَلِ
فقال مسحل: "نريده على بحر آخر". فقال:
بُوقَاشُ قَدِ رَشَّ الْقَلْبَ بِالْهَبَلِ = مُذْ رَاحَ عَمِّي بَيَّارُ لِلْجَبَلِ
فقال لافظ بن الصلادم: "الآن بهذا المنسرح، تأكد لنا أن التابعَ الذي أملى عليك هذا المعنى على البسيط، فالرمل، فالكامل الأحذ، فالمقتضب، فالمنسرح، هو تابع عبقادر وساط، فقد علمنا أنه غادره منذ أصبح مشغولا بكلماته المسهمة....". كان ولد علي يصغي لهذا الحديث، فإذا به يتحرك، ليجد نفسه قد سقط من سريره، فقام من نومه مذعورا.