.... إذن فقد كانت آسيا الصغرى مهداً تقلب فيه الوليد الجديد وظل حيناً يتعثر، حتى استقام بعد لأي على قدمين لم ترسخا إلا في عسر شديد، فقد حدثتك في فصل سابق أن العقل الناشئ لم يكد يستيقن من وجوده، حتى أرسل البصر يستطلع أصل الوجود، وجاهد ما استطاع لكي يصل في تعليله إلى مبدأ معقول، فالتمسه في الماء والهواء، ولكنه أفلس، ثم عدل عن مادة الكون إلى جوهره ومعناهن فأفلس كذلك، وهكذا لبث اليافع في عثاره، يستقيم ليكبو، ويكبو ليستقيم، حتى كانت غارة الفرس الداهمة، التي اجتاحت المستعمرة اليونانية في آسيا الصغرى، ففزع الفلاسفة رعباً، هاموا في فجاج الأرض فرادى يحملون قبس الفكر، حتى انتهى طرف منهم إلى بلاد اليونان. . .
أنظر! فهذي بلاد اليونان قد صاغها الله يدا مبسوطة، كأنما تريد أن تلقف بأصابعها الناتئة في مياه البحر حضارة القدماء من الجنوب والشرق، بسطت كفها فتناولت من مصر مدنية كانت حينئذ قد بلغت شأوا بعيداً، واستعارت من بابل وأشور وآسيا الصغرى شذرات منثورة من العلم والمعرفة. . وقد أراد الله لتلك البلاد اليونانية أن تكون وعرة المسالك ملتوية الأديم، تنهض على صدرها الحزون وترتفع الجبال، فانحصرت بين شعابها طائفة من الأودية، كانت في عزلتها كالأوكار، نشأت في أكنافها مدن متفرقة، ليس إلى اتصالها سبيل هين ميسور، فسلكت كل واحدة منها طريقاً بعينها في الدين والثقافة ونظام الحكم. ولبثت تلك المدائن متنافرة متناكرة، لا تلتقي في وحدة قومية، اللهم إلا إذا أغار عليها مغير يطمع منها في غزو وسلطان. وذلك ما حدث عندما جاءت من الشرق جيوش الفرس يقودها عظيمهم دارا، عندئذ انعقدت الخناصر على التحالف بين اثنتين من تلك المدن اليونانية، كانتا أشدها بأساً، وأوفرها قوة وأبلغها رقياً وتقدماً، تحالفنا على ان تعد إحداهما الجيش، والأخرى تهيئ الأسطول، ومن ذا تظن أن ينهض بتهيئة أسطول ضخم قوي غير الأثينيين، الذين لهم من موقعهم صلة وثيقة بالملاحة وركوب الموج، وأما الأخرى - إسبرطة - التي عرف رجالها بالبأس والقوة، فقد جهزت جيش الدفاع.
وقعت الحرب وانتصر اليونان، فعاد الأثينيون بأسطولهم وقد اتخذوه بعدئذ إدارة للتجارة، ظلت تجوب جواريه المنشآت في جوف البحر الأبيض، تحمل منها واليها التجارة من كل صوب، وما هي إلا أن تزخر أثينا بتك التجارة الصادرة الواردة، ويعلو ذكرها في الأسواق، وتصبح مركزاً تلتقي عنده الأقوام والأجناس، لكل قوم دينه، ولك جنس ثقافته. وإذا بهذه الألوان المختلفة يضطرب بعضها في بعض، ويخالط بعضها بعضا، فتمتزج الثقافات جميعاً والديانات جميعاً في صعيد واحد، ويكون لذلك كله نتيجة محتمة، هي المقارنة والتحليل، وبالتالي نشأة الفكر الصحيح. وهذا بديهي معقول، فالمذاهب المتضاربة ينسخ بعضها بعضاً، وتدنو بالناس إلى الارتياب والشك فيها جميعاً.
وإذن فقد كانت أثينا، عندما طوح القدر بذلك القبس الخافت من آسيا الصغرى بيئة صالحة وتربة خصبة، يستطيع أن يستقر في أرضها ذلك الشعار الضئيل، حتى إذا ما امتد به الزمان قليلا، سطع لامعا وهاجا في عهد الأساطين الثلاث: سقراط وأفلاطون وأرسطو
حمل انكسجوراس إلى أثينا تلك البذرة الأولى للتفكير الفلسفي وقد كانت وليدة الأفكار السابقة التي نشأت في آسيا الصغرى وجنوب إيطاليا. فلعلك تذكر أني وقفت بك في تتبع السلسلة الفكرية عند المذهب الذري، الذي رد الكون إلى ذرات دقيقة تجتمع وتأتلف فتكون هذا الشيء أو ذاك، ولكنك تستطيع أن تسأل أشياع ذلك المذهب، ما الذي يبرر عقلا أن تجتمع طائفة معينة من الذرات في صورة ما دون صورة أخرى؟ خذ الإنسان مثلا، فهو عندهم مجموعة ذرية لا أكثر ولا أقل، فهل تظن أن من اليسير على عقل منطقي أن يقنع بان تلك الذرات الجامدة تأتلف بطريق المصادفة العمياء، فتنتج ملايين الأفراد على غرار واحد وفي هذه الدقة من التنسيق؟! كلا! يستحيل ألا يكون وراء هذه الذرات المادية عقل مدبر حكيم، يملك تصرفها فيجمع بينها ثم يفرق جمعها تبعاً لما يقتضيه قصد معين وهدف منشود. . . في الكون إذن عنصران متميزان: مادة ترى بالبصر وتحس بالأيدي، وعقل خفي يكمن وراء أستار المادة، يسلك بها ما شاء من سبل، وهو حكيم رشيد، يعرف أين يسير بمادته في سبيل سواء. . هذا ما حمله انكسجوراس إلى أثينا، فبدأت الفلسفة إذن طوراً جديداً. . . لم يعد العقل يلتمس أصل الكون وعلته في ماء ولا هواء، ولم يعد يلتمسه في قاعدة رياضية، أو في ذرات تفترق وتلتقي على غير هدى، بل جاوز العقل في جولته حدود الطبيعة المحسة، وضرب فيما وراءهن وإذن فما أجدرنا أن نضع انكسجوراس في مرتبة من تاريخ الفلسفة عالية رفيعة إذا كنا نفرق بين مراتب رجالها. فهو بين الفلاسفة أول من رأى في الكون رأيا ناضجا، يصرد عن رشد ووعي، بالقياس إلى أسلافه الذين لم تزد أقوالهم على سذاجة الطفولة الحالمة
ترى من هذا كله أن العقل قد لبث طويلا يبحث في حقيقة الكون فانتهى إلى نتائج متنافرة متباعدة، وتشعبت عليه السبل وكثرت الحلول، فكان طبعياً ان يقف منها جميعاً موقف الشك والريبة فكلها حق ان شئت. وكلها باطل ان شئت. ولنترك الكون وما يحوي لا نطرقه بالبحث الآن، وليكن موضوع بحثنا منذ اليوم هو الانسان، فهو سيد الأشياء، وهو وحده الفيصل الحكم إزاء هذه المذاهب الفكرية، يعتنق منها ما يشاء؛ ويطرح ما يشاء في زوايا الإهمال. وليس لأحد سلطان على أحد في ان يوحي إليه بفكرة أو رأي، فما تراه أنت حقاً فهو حق، وما تراه أنت باطلا فهو باطل. . ما تلمح فيه النفع لشخصك فهو الفضيلة العليا وكل ما يناقض هواك فهو رذيلة وشر، لا تأبه بتقاليد، ولا تصدق الناس فيما يذهبون إليه من خير وشر، فأنت دولة وأنت مالكها، لك أن تحكم فيها بما تشاء وتهوى. . . انظر! هذان رجلان يشخصان ببصريهما إلى الشمس تنحدر إلى خدرها ساعة الغروب فخلعت على الأفق غلالة حمراء، فيفتن جمالها واحداً منهما حتى ليكاد يطفر راقصاً مفتوناً بما يرى. وأما الآخر فينظر إليها شزرا واستخفافاً، بل انه ليسخر من صاحبه، فليس ثمة في الشمس جمال ولا شيء يشبه الجمال!! فمن ذا يستطيع أن يقنع أحد هذين بخطأ رأيه أو بصوابه؟ ولم لا يكون كلاهما على حق؟ وإذا كانت الأهواء والميول والمشاعر متضاربة متناقضة، لا تجتمع في نزعة واحدة، ولا يمكن أن تدور رحاها حول قطب واحد، أفلا يكون شططا منك واعتسافاً أن تقسر تلك المجموعة المتنافرة على أن تلتقي كلها عند حقيقة واحدة؟! ومن ترى يكون حقيقاً بمنصب الحكم بيني وبينك فيما نحن فيه مختلفان؟ كلا! ليس ثمت حقيقة واحدة، بل الحقائق في الدنيا بقدر ما يضطرب فيها من أفراد البشر، فليذهب كل فرد مذهبه في الكون وفي ظواهر الكون، ولا يخشين بأساً من نقد أو تجريح لما يذهب اليه، فهو لا يقل حقاً وصواباً فيما يرى عن أي رجل آخر، بالغاً ما بلغ من العبقرية والنبوغ. . . تلك هي العقيدة التي حملتها طائفة من الناس في أرض اليونان، وأخذت تجوب بها الأنحاء والأرجاء، تذيعها في الناس في ذلاقة وطلاقة وحسن بيان، حتى اجتمع حولهم طوائف الشباب جميعاً، يتلقون عليهم ذلك الشك، ويتعلمون عنهم درائق التشكيك وأساليب المحاورة والمداورة في الخطابة والحوار لقاء أجر يعظم ويضؤل تبعاُ لما يتلقى الشباب من عدد الدروس. . . وإنما أعني بتك الطائفة جماعة السفسطائيين، ولم يكن ذلك الاسم عندئذ يحمل ما يحمله اليوم من تحقير، بل هم جماعة أحبوا الحكمة كما يحبها كل فيلسوف، لولا هذه الزلة التي سقطوا فيها فأسقطت من قدرهم، وهي تقويم الحكمة بالأجر
وأبرز أولئك السفسطائيين رجال ثلاثة: بروتاغوراس وجورجيادس وهبياس، ولقد أنكر ثانيهما وجود الأشياء جميعاً وحتى لو فرضنا جدلاً أن ثمة في الكون أشياء لها حقائق ثابتة، فلا يمكن أن نوقن بأن الصورة الذهنية التي نعرفها لتلك الأشياء مطابقة لها تماماً، فمن الجائز، بل من المرجح، بل من المؤكد أن حقيقة هذا القلم الذي بيدي تخالف في وجوه كثيرة صورته الذهنية التي أحملها له. . . وهب أنك تستطيع أن تصل إلى معرفة مطابقة للواقع فانه يستحيل عليك أن تنقل هذه المعرفة للآخرين، لأنك مضطر إلى التعبير عنها في كلمات، ولا أحسب في الدنيا أحدا يشك في أن اللفظ شيء والمعرفة نفسها شيء آخر وإذن فمهما قلبت الأمر على وجوهه فلن تصل إلا إلى نتيجة واحدة، وهي أنه لا يمكن أن يكون في الوجود حقيقة موضوعية مجردة يجمع عليها، بل الحقائق ذاتية تختلف باختلاف الأشخاص، وإذن فمن العبث أن يستمع فرد إلى رأي فرد آخر، ولا يجوز لك أن تصغي لغير ما تراه وتشعر به، ولا تختار من كل ذلك إلا ما تصيب عنده نفعاً
أجمع السفسطائيون على ذلك، ولكنهم ذهبوا في السياسة مذهبين: ففريق يدعو إلى العودة إلى أحضان الطبيعة واستيحائها فيما يجب أن يرسم للجماعة من نظام وقانون - كما فعل روسو فيما بعد - ولما كانت الطبيعة عندهم تسوى بين الأفراد، لا ترفع أحدا ولا تخفض أحداً، إذن فسحقاً لهذه المدنية التي تجعل من الناس طبقات بعضها فوق بعض، فذلك نظام مفتعل دخيل على طبيعة الإنسان جدير بنا ان ننبذه في جرأة حازمة، ولا ينبغي لنا أن نأبه لهذا القانون الذي تواضعت عليه الجماعة، لأنه من وضع القوى، فرضه على الضعيف فرضاً لا يبرره حق ولا تجيزه عدالة، إنما القانون العادل هو الذي ينزل الأفراد منزلة سواء، ومعنى ذلك أن تكون الديمقراطية مثلا أعلى للحكم.
وأما الفريق الآخر، فقد دعا إلى النقيض - كما فعل نيتشه فيما بعد - الست ترى من الناس فيلسوفاً عبقرياً بجانب الغبي الأبله، أليس منهم الضعيف الخائر إلى جانب القوي ذي العود الصلب؟ إذن لم تسو الطبيعة بين الأفراد، كلا ولا الأخلاق ابتكرها القوي إنما هي على النقيض من ذلك، خدعة أوحى بها الضعيف ليحد من قوة القوي وسلطانه. . ولا يتردد هذا الفريق في الدعوة إلى الأرستقراطية في الحكم، وهذا الهجوم العنيف على الديمقراطية وحكمها يصور لنا نهوض جماعة من الأغنياء الأذكياء، أرادوا أن يغتصبوا من الشعب النفوذ والسلطان، بحجة إفلاسه في إدارة البلاد
فأنت تستطيع أن تسخر من مذهب السفسطائيين، ومن حقك أن تهمله اهمالا وان تنبذه نبذ النواة، لانه خطر على الاجتماع، خطر على الأخلاق، خطر على العقائد، خطر على كل نواحي الحياة الإنسانية، لأن قوام هذا اليقين والإيمان في مجموعة من الحقائق التي تفرض على الناس فرضا، سواء صادفت هوى من نفوسهم أم لم تصادف، أما أن يكون الأفراد أحراراً في اختيار الفضائل التي تتفق وأهواءهم فانحلال وفوضى، يقوضان أركان المجتمع في يوم وليلة.
تستطيع أن تقول هذا فيما ذهب إليه السفسطائيون، ولكنك لن تستطيع ان تنكر عليهم أنهم كانوا مرآة مجلوة انعكست عليها صورة الحياة في عصرهم، فقد تعددت العقائد الدينية فشك الناس في صحة الأديان، وقد تعددت الآراء الفلسفية فشك الناس في ثبوت المعرفة. وقد برهنت الديمقراطية في أثينا على أنها عاجزة بعض العجز عن تصريف شئون الدولة فتزعزع الإيمان في أسلوب الحكم
شك في الدين، وشك في المعرفة، وشك في نظام الحكومة، لا يمكن أن يلد إلا طائفة كهؤلاء السفسطائيين، ينكرون الحقائق جملة، ولا يؤمنون إلا بالمنفعة الشخصية والحقيقة الذاتية.
ولكن أراد ربك ألا يطول الأمد لهذا الانحلال الفكري، فسلط عليه ذهناً عاتياً جباراً، ما زال به نقدا وإصلاحاً، حتى أمحى وخلص من شره الانسان، ومن يكون هذا غير سقراط!؟
زكي نجيب محمود
مجلة الرسالة - العدد 45
بتاريخ: 14 - 05 - 1934
أنظر! فهذي بلاد اليونان قد صاغها الله يدا مبسوطة، كأنما تريد أن تلقف بأصابعها الناتئة في مياه البحر حضارة القدماء من الجنوب والشرق، بسطت كفها فتناولت من مصر مدنية كانت حينئذ قد بلغت شأوا بعيداً، واستعارت من بابل وأشور وآسيا الصغرى شذرات منثورة من العلم والمعرفة. . وقد أراد الله لتلك البلاد اليونانية أن تكون وعرة المسالك ملتوية الأديم، تنهض على صدرها الحزون وترتفع الجبال، فانحصرت بين شعابها طائفة من الأودية، كانت في عزلتها كالأوكار، نشأت في أكنافها مدن متفرقة، ليس إلى اتصالها سبيل هين ميسور، فسلكت كل واحدة منها طريقاً بعينها في الدين والثقافة ونظام الحكم. ولبثت تلك المدائن متنافرة متناكرة، لا تلتقي في وحدة قومية، اللهم إلا إذا أغار عليها مغير يطمع منها في غزو وسلطان. وذلك ما حدث عندما جاءت من الشرق جيوش الفرس يقودها عظيمهم دارا، عندئذ انعقدت الخناصر على التحالف بين اثنتين من تلك المدن اليونانية، كانتا أشدها بأساً، وأوفرها قوة وأبلغها رقياً وتقدماً، تحالفنا على ان تعد إحداهما الجيش، والأخرى تهيئ الأسطول، ومن ذا تظن أن ينهض بتهيئة أسطول ضخم قوي غير الأثينيين، الذين لهم من موقعهم صلة وثيقة بالملاحة وركوب الموج، وأما الأخرى - إسبرطة - التي عرف رجالها بالبأس والقوة، فقد جهزت جيش الدفاع.
وقعت الحرب وانتصر اليونان، فعاد الأثينيون بأسطولهم وقد اتخذوه بعدئذ إدارة للتجارة، ظلت تجوب جواريه المنشآت في جوف البحر الأبيض، تحمل منها واليها التجارة من كل صوب، وما هي إلا أن تزخر أثينا بتك التجارة الصادرة الواردة، ويعلو ذكرها في الأسواق، وتصبح مركزاً تلتقي عنده الأقوام والأجناس، لكل قوم دينه، ولك جنس ثقافته. وإذا بهذه الألوان المختلفة يضطرب بعضها في بعض، ويخالط بعضها بعضا، فتمتزج الثقافات جميعاً والديانات جميعاً في صعيد واحد، ويكون لذلك كله نتيجة محتمة، هي المقارنة والتحليل، وبالتالي نشأة الفكر الصحيح. وهذا بديهي معقول، فالمذاهب المتضاربة ينسخ بعضها بعضاً، وتدنو بالناس إلى الارتياب والشك فيها جميعاً.
وإذن فقد كانت أثينا، عندما طوح القدر بذلك القبس الخافت من آسيا الصغرى بيئة صالحة وتربة خصبة، يستطيع أن يستقر في أرضها ذلك الشعار الضئيل، حتى إذا ما امتد به الزمان قليلا، سطع لامعا وهاجا في عهد الأساطين الثلاث: سقراط وأفلاطون وأرسطو
حمل انكسجوراس إلى أثينا تلك البذرة الأولى للتفكير الفلسفي وقد كانت وليدة الأفكار السابقة التي نشأت في آسيا الصغرى وجنوب إيطاليا. فلعلك تذكر أني وقفت بك في تتبع السلسلة الفكرية عند المذهب الذري، الذي رد الكون إلى ذرات دقيقة تجتمع وتأتلف فتكون هذا الشيء أو ذاك، ولكنك تستطيع أن تسأل أشياع ذلك المذهب، ما الذي يبرر عقلا أن تجتمع طائفة معينة من الذرات في صورة ما دون صورة أخرى؟ خذ الإنسان مثلا، فهو عندهم مجموعة ذرية لا أكثر ولا أقل، فهل تظن أن من اليسير على عقل منطقي أن يقنع بان تلك الذرات الجامدة تأتلف بطريق المصادفة العمياء، فتنتج ملايين الأفراد على غرار واحد وفي هذه الدقة من التنسيق؟! كلا! يستحيل ألا يكون وراء هذه الذرات المادية عقل مدبر حكيم، يملك تصرفها فيجمع بينها ثم يفرق جمعها تبعاً لما يقتضيه قصد معين وهدف منشود. . . في الكون إذن عنصران متميزان: مادة ترى بالبصر وتحس بالأيدي، وعقل خفي يكمن وراء أستار المادة، يسلك بها ما شاء من سبل، وهو حكيم رشيد، يعرف أين يسير بمادته في سبيل سواء. . هذا ما حمله انكسجوراس إلى أثينا، فبدأت الفلسفة إذن طوراً جديداً. . . لم يعد العقل يلتمس أصل الكون وعلته في ماء ولا هواء، ولم يعد يلتمسه في قاعدة رياضية، أو في ذرات تفترق وتلتقي على غير هدى، بل جاوز العقل في جولته حدود الطبيعة المحسة، وضرب فيما وراءهن وإذن فما أجدرنا أن نضع انكسجوراس في مرتبة من تاريخ الفلسفة عالية رفيعة إذا كنا نفرق بين مراتب رجالها. فهو بين الفلاسفة أول من رأى في الكون رأيا ناضجا، يصرد عن رشد ووعي، بالقياس إلى أسلافه الذين لم تزد أقوالهم على سذاجة الطفولة الحالمة
ترى من هذا كله أن العقل قد لبث طويلا يبحث في حقيقة الكون فانتهى إلى نتائج متنافرة متباعدة، وتشعبت عليه السبل وكثرت الحلول، فكان طبعياً ان يقف منها جميعاً موقف الشك والريبة فكلها حق ان شئت. وكلها باطل ان شئت. ولنترك الكون وما يحوي لا نطرقه بالبحث الآن، وليكن موضوع بحثنا منذ اليوم هو الانسان، فهو سيد الأشياء، وهو وحده الفيصل الحكم إزاء هذه المذاهب الفكرية، يعتنق منها ما يشاء؛ ويطرح ما يشاء في زوايا الإهمال. وليس لأحد سلطان على أحد في ان يوحي إليه بفكرة أو رأي، فما تراه أنت حقاً فهو حق، وما تراه أنت باطلا فهو باطل. . ما تلمح فيه النفع لشخصك فهو الفضيلة العليا وكل ما يناقض هواك فهو رذيلة وشر، لا تأبه بتقاليد، ولا تصدق الناس فيما يذهبون إليه من خير وشر، فأنت دولة وأنت مالكها، لك أن تحكم فيها بما تشاء وتهوى. . . انظر! هذان رجلان يشخصان ببصريهما إلى الشمس تنحدر إلى خدرها ساعة الغروب فخلعت على الأفق غلالة حمراء، فيفتن جمالها واحداً منهما حتى ليكاد يطفر راقصاً مفتوناً بما يرى. وأما الآخر فينظر إليها شزرا واستخفافاً، بل انه ليسخر من صاحبه، فليس ثمة في الشمس جمال ولا شيء يشبه الجمال!! فمن ذا يستطيع أن يقنع أحد هذين بخطأ رأيه أو بصوابه؟ ولم لا يكون كلاهما على حق؟ وإذا كانت الأهواء والميول والمشاعر متضاربة متناقضة، لا تجتمع في نزعة واحدة، ولا يمكن أن تدور رحاها حول قطب واحد، أفلا يكون شططا منك واعتسافاً أن تقسر تلك المجموعة المتنافرة على أن تلتقي كلها عند حقيقة واحدة؟! ومن ترى يكون حقيقاً بمنصب الحكم بيني وبينك فيما نحن فيه مختلفان؟ كلا! ليس ثمت حقيقة واحدة، بل الحقائق في الدنيا بقدر ما يضطرب فيها من أفراد البشر، فليذهب كل فرد مذهبه في الكون وفي ظواهر الكون، ولا يخشين بأساً من نقد أو تجريح لما يذهب اليه، فهو لا يقل حقاً وصواباً فيما يرى عن أي رجل آخر، بالغاً ما بلغ من العبقرية والنبوغ. . . تلك هي العقيدة التي حملتها طائفة من الناس في أرض اليونان، وأخذت تجوب بها الأنحاء والأرجاء، تذيعها في الناس في ذلاقة وطلاقة وحسن بيان، حتى اجتمع حولهم طوائف الشباب جميعاً، يتلقون عليهم ذلك الشك، ويتعلمون عنهم درائق التشكيك وأساليب المحاورة والمداورة في الخطابة والحوار لقاء أجر يعظم ويضؤل تبعاُ لما يتلقى الشباب من عدد الدروس. . . وإنما أعني بتك الطائفة جماعة السفسطائيين، ولم يكن ذلك الاسم عندئذ يحمل ما يحمله اليوم من تحقير، بل هم جماعة أحبوا الحكمة كما يحبها كل فيلسوف، لولا هذه الزلة التي سقطوا فيها فأسقطت من قدرهم، وهي تقويم الحكمة بالأجر
وأبرز أولئك السفسطائيين رجال ثلاثة: بروتاغوراس وجورجيادس وهبياس، ولقد أنكر ثانيهما وجود الأشياء جميعاً وحتى لو فرضنا جدلاً أن ثمة في الكون أشياء لها حقائق ثابتة، فلا يمكن أن نوقن بأن الصورة الذهنية التي نعرفها لتلك الأشياء مطابقة لها تماماً، فمن الجائز، بل من المرجح، بل من المؤكد أن حقيقة هذا القلم الذي بيدي تخالف في وجوه كثيرة صورته الذهنية التي أحملها له. . . وهب أنك تستطيع أن تصل إلى معرفة مطابقة للواقع فانه يستحيل عليك أن تنقل هذه المعرفة للآخرين، لأنك مضطر إلى التعبير عنها في كلمات، ولا أحسب في الدنيا أحدا يشك في أن اللفظ شيء والمعرفة نفسها شيء آخر وإذن فمهما قلبت الأمر على وجوهه فلن تصل إلا إلى نتيجة واحدة، وهي أنه لا يمكن أن يكون في الوجود حقيقة موضوعية مجردة يجمع عليها، بل الحقائق ذاتية تختلف باختلاف الأشخاص، وإذن فمن العبث أن يستمع فرد إلى رأي فرد آخر، ولا يجوز لك أن تصغي لغير ما تراه وتشعر به، ولا تختار من كل ذلك إلا ما تصيب عنده نفعاً
أجمع السفسطائيون على ذلك، ولكنهم ذهبوا في السياسة مذهبين: ففريق يدعو إلى العودة إلى أحضان الطبيعة واستيحائها فيما يجب أن يرسم للجماعة من نظام وقانون - كما فعل روسو فيما بعد - ولما كانت الطبيعة عندهم تسوى بين الأفراد، لا ترفع أحدا ولا تخفض أحداً، إذن فسحقاً لهذه المدنية التي تجعل من الناس طبقات بعضها فوق بعض، فذلك نظام مفتعل دخيل على طبيعة الإنسان جدير بنا ان ننبذه في جرأة حازمة، ولا ينبغي لنا أن نأبه لهذا القانون الذي تواضعت عليه الجماعة، لأنه من وضع القوى، فرضه على الضعيف فرضاً لا يبرره حق ولا تجيزه عدالة، إنما القانون العادل هو الذي ينزل الأفراد منزلة سواء، ومعنى ذلك أن تكون الديمقراطية مثلا أعلى للحكم.
وأما الفريق الآخر، فقد دعا إلى النقيض - كما فعل نيتشه فيما بعد - الست ترى من الناس فيلسوفاً عبقرياً بجانب الغبي الأبله، أليس منهم الضعيف الخائر إلى جانب القوي ذي العود الصلب؟ إذن لم تسو الطبيعة بين الأفراد، كلا ولا الأخلاق ابتكرها القوي إنما هي على النقيض من ذلك، خدعة أوحى بها الضعيف ليحد من قوة القوي وسلطانه. . ولا يتردد هذا الفريق في الدعوة إلى الأرستقراطية في الحكم، وهذا الهجوم العنيف على الديمقراطية وحكمها يصور لنا نهوض جماعة من الأغنياء الأذكياء، أرادوا أن يغتصبوا من الشعب النفوذ والسلطان، بحجة إفلاسه في إدارة البلاد
فأنت تستطيع أن تسخر من مذهب السفسطائيين، ومن حقك أن تهمله اهمالا وان تنبذه نبذ النواة، لانه خطر على الاجتماع، خطر على الأخلاق، خطر على العقائد، خطر على كل نواحي الحياة الإنسانية، لأن قوام هذا اليقين والإيمان في مجموعة من الحقائق التي تفرض على الناس فرضا، سواء صادفت هوى من نفوسهم أم لم تصادف، أما أن يكون الأفراد أحراراً في اختيار الفضائل التي تتفق وأهواءهم فانحلال وفوضى، يقوضان أركان المجتمع في يوم وليلة.
تستطيع أن تقول هذا فيما ذهب إليه السفسطائيون، ولكنك لن تستطيع ان تنكر عليهم أنهم كانوا مرآة مجلوة انعكست عليها صورة الحياة في عصرهم، فقد تعددت العقائد الدينية فشك الناس في صحة الأديان، وقد تعددت الآراء الفلسفية فشك الناس في ثبوت المعرفة. وقد برهنت الديمقراطية في أثينا على أنها عاجزة بعض العجز عن تصريف شئون الدولة فتزعزع الإيمان في أسلوب الحكم
شك في الدين، وشك في المعرفة، وشك في نظام الحكومة، لا يمكن أن يلد إلا طائفة كهؤلاء السفسطائيين، ينكرون الحقائق جملة، ولا يؤمنون إلا بالمنفعة الشخصية والحقيقة الذاتية.
ولكن أراد ربك ألا يطول الأمد لهذا الانحلال الفكري، فسلط عليه ذهناً عاتياً جباراً، ما زال به نقدا وإصلاحاً، حتى أمحى وخلص من شره الانسان، ومن يكون هذا غير سقراط!؟
زكي نجيب محمود
مجلة الرسالة - العدد 45
بتاريخ: 14 - 05 - 1934