الروائي المصري يؤكد أن دراسته الكيمائية ساهمت في إثراء تجربته الحياتية مما أثر على كتاباته بالتركيز والتكثيف والتحليل والتركيب والتفاعل.
الثلاثاء 2018/07/31
أكتب كما أحب وعما أحب
خلال أسابيع يبلغ الروائي المصري سعيد سالم عامه الخامس بعد السبعين، وهو ينتظر صدور روايته العشرين “صعاليك الأنفوشي”، نسأله وهو ابن الإسكندرية، وأحد أبرز روائييها، عن مدى الاختلاف والتشابه بين صورة المدينة عنده وصورتها في روايات مجايليه مثل إبراهيم عبدالمجيد ومصطفى نصر والراحل سعيد بكر، ليقول “لكل إسكندريته كما لكل بصمة إصبعه، وعن نفسي فمدينتي ابنة البحر، ولو سئلت ماذا يمثل البحر بالنسبة إلي لقلت إنني أرى فيه الله، الحب، البراءة، الصفاء، القسوة، الهياج، الهدوء، النورس، الحياة.. التفاعل الإنسانى مع الصيادين وصناع شباك الصيد ومراكبه”.
يرى سالم أن البحر هو الحياة وهو العنصر الأساسي في الإسكندرية كمكان ووجود. ولكون العمل الروائي بناء عضويا متكاملا، فإنه ما لم يكن المكان يشكل عنصرا جوهريا من عناصر هذا البناء، فإنه لا يزيد على كونه مجرد حلية كمالية للعمل، ويضيف الروائي “حين أكتب عن الإسكندرية فليس بالضرورة أن أكتب عن شوارعها ومبانيها وبحرها وشواطئها، لأنني أتناول الإنسان في ما أكتب سواء أكان يقيم بزقاق في حي الأنفوشي أو في هوليود بوليفار”.
[SIZE=5]عوالم الكتابة[/SIZE]
يعترف سعيد سالم بأن الإسكندرية لم تعد اليوم تغريه أدبيا كمكان، رغم عشقه الطاغي لها بعد أن أخذ طابعها الجمالي المتفرد في الانهيار والتشوه البشع على أيدي السادة المحافظين الذين تناوبوا رئاستها على مدى ما يقرب من نصف قرن، إذ لم يمتلك أحدهم الحس الجمالي الذي يدفعه إلى الحفاظ على جمال المدينة الكوزموبوليتانية، كما لم يمتلك واحد منهم الذوق الفني الذي يجعله يدرك أهمية حماية تراث المدينة العتيق وتناسقها المثالي الفريد.
عما قيل عن تخفيه خلف شخصية عادل المصري في رواية “الفصل والوصل”، مما يجعلها تبدو مثل سيرة ذاتية، ينفي سعيد سالم ذلك قائلا “مرور المكتوب على مصفاة الكاتب الفكرية والنفسية والوجدانية أمر حتمي في العملية الإبداعية، من هنا يمكن القول إن جميع الكتاب يتخفون حول شخصياتهم أو البعض منها، والبارع منهم وحده هو الذي يتيح له مكره الفني حسن التخفي. أما بالنسبة إلى ‘الفصل والوصل‘ فهي لا تعتبر سيرة ذاتية، وإنما بعض التجارب الخاصة التي مزجتها فنيا بالفكرة العامة لمضمون الفصل والوصل كمصطلح صوفي من جهة ودنيوي من جهة أخرى. أما الرواية التي كانت سيرة شبه ذاتية وليست ذاتية كاملة فهي رواية ‘استرسال‘”.
في البدايات كان الكاتب مفتونا بالفانتازيا، فلما تخلص من فتنتها افتتن بالصوفية، فظهرت في أكثر من رواية له
وعن النزوع الصوفي لديه في نفس الرواية وقبلها ”آلهة من طين”، يقول الكاتب “في البدايات كنت مفتونا بالفانتازيا، فلما تخلصت من فتنتها حلت الخوارق الصوفية محلها، ظهرت في أكثر من رواية وكانت على أشدها في ‘كف مريم‘، حيث تتناول قصة حب بين سيدة مسيحية هي ‘مريم‘ قتل الإرهابيون شقيقها ورجل مسلم هو ‘حليم‘، يعمل في مجال الآثار ويشغف بالبحث في عوالم الأسرار العلوية، ففيها امتزج الحب الإنساني الناسوتي مع الحب الإلهي اللاهوتي امتزاجا يصعب فصله”.
وكان الروائي في “الفصل والوصل”، أتاح لعادل المصري أن يحكي عن نفسه وعن الآخرين، فلم يتح للأصوات الأخرى فرصة الحكي، ولم يلجأ إلى الراوي العليم بدلا من الأنا الراوي، ويبرر سعيد سالم ذلك بتفضيله للسرد بضمير المتكلم، ويضيف “لم أحب أبدا اتباع أسلوب الراوي العليم، لست دكتاتورا لأهيمن على شخصيات رواياتي، أحب جدا ضمير المتكلم لأنني على يقين من أنه أقرب إلى عقل القارئ وقلبه كما تعلمت من التجربة والممارسة، ولذلك تجد الكثير من رواياتي مكتوبة بأسلوب الأصوات حتى يقتنع القارئ بصدق ما يقوله هؤلاء المتحدثون عن أنفسهم دون تدخل من جانبي، وهذا لا يمنعني بالطبع من دس البعض من فكري بمكر فني بين كلمات هذه الشخصيات”.
[SIZE=5]الكاتب الكيميائي[/SIZE]
يؤكد سالم أنه يكتب كما يحب، وعما يحب، لذلك فهو لم يحاول الكتابة في مجال الخيال العلمي، بالرغم من دراسته وعمله المرتبطين بالعلم، فضلا عن تجربته الأدبية التي تؤهله لذلك، فقد درس الهندسة الكيميائية في جامعة الإسكندرية وحصل على الماجستير في نفس المجال، وارتبط عمله به لمدة خمسة وثلاثين عاما كان يمارس خلالها الكتابة الأدبية، لكنه ظل يسير في خطين متوازيين: الهواية الأدبية والعمل المرتبط بالعلم، ويرى أن تأثير دراسته العلمية يبدو في طريقة تفكيره ونظرته إلى الأشياء.
امتزاج الحب الإنساني الناسوتي مع الحب الإلهي اللاهوتي
وعن تأثر أدبه بدراسته يقول “طبيعة تكويني الذهني كمهندس كيميائي ساهمت في إثراء تجربتي الحياتية مما أثر على كتاباتي بالتركيز والتكثيف والتحليل والتركيب والتفاعل، وكلها عناصر مشتركة بين الهندسة الكيمائية والهندسة الروائية”.
الهندسة الكيميائية، كما يقول سالم، تحليل وتركيب وتكثيف وتركيز وتفاعل، والرواية تحليل شخصيات وتركيب أحداث وتكثيف للغة السرد وتركيز في عرض الفكرة دون إسهاب، وتفاعل بين المواقف والشخصيات في بعدي الزمان والمكان، وبوجه عام فإن لأسلوب التفكير العلمي أثره القوي والفعال على مستوى العمل الأدبي، والذي يجعل صاحبه متميزا عمن يكتبون في غياب تلك الخلفية الهامة، الأدب هو السحر الحلال والكيمياء هي سحر العلم، و”المبدع الكيميائي” مهووس بسحر كيمياء الكتابة.
ويضيف سالم “عشقي للرواية جعلني أفضلها على القصة القصيرة في بادئ رحلتي، لكني تعلمت بعد ذلك أن هناك مضامين لا يصلح التعبير عنها إلا في شكل القصة القصيرة، وبينما غيرها تتسع له الرواية. المهم أن ينجح الشكل الفني في توصيل المضمون بما يحقق للقارئ الإمتاع والتنوير، فهذه هي رسالة الفن الحقيقية. وهكذا كتبت قصصا قصيرة صدرت في إحدى عشرة مجموعة، بينما تبلغ رواياتي ضعف هذا العدد”.
يرجع الروائي ميوله الأدبية المبكرة إلى تجربة موت أبيه وهو بعد طفل، يقول “توفي والدي وأنا في الثانية من العمر تقريبا، حيث تولت أمي باقتدار عظيم إدارة شؤون الأسرة بمساعدة شقيقي الأكبر، كنت أصغر إخوتي لذا نلت قدرا كبيرا من الاهتمام والحنان، والحق أنني قد عشت حياة جميلة وسط أسرة متحابة متضامنة، تلقيت منها تعاطفا خاصا بسبب يتمي المبكر.. وشخصية اليتيم بطبعها تأملية”.
ويتابع “لم يكن هناك من يجيب على تساؤلاتي المحيرة الكثيرة في طفولتي، والناتجة عن عشقي الشديد للتأمل والتفكير في معضلات إنسانية تفوق قدراتي العقلية كصبي، مثل الحياة والموت والحب والزمن والكثير من المتناقضات المحيرة في الحياة لعقل مراهق صغير، فكان أن لجأت إلى القراءة منذ صغري أملا في العثور فيها على الإجابة، وجدت نفسي مدفوعا إلى الكتابة من قبل أن أتخصص في أي شيء على سبيل الحوار الداخلي مع النفس، وبتطور الكتابة عرفت القصة والرواية وانجذبت إليهما بشدة باعتبارهما مجالا خصبا للتنفيس عن كل ما أنطوى عليه عقلي الباطن من حيرة وجودية”.
الثلاثاء 2018/07/31
أكتب كما أحب وعما أحب
خلال أسابيع يبلغ الروائي المصري سعيد سالم عامه الخامس بعد السبعين، وهو ينتظر صدور روايته العشرين “صعاليك الأنفوشي”، نسأله وهو ابن الإسكندرية، وأحد أبرز روائييها، عن مدى الاختلاف والتشابه بين صورة المدينة عنده وصورتها في روايات مجايليه مثل إبراهيم عبدالمجيد ومصطفى نصر والراحل سعيد بكر، ليقول “لكل إسكندريته كما لكل بصمة إصبعه، وعن نفسي فمدينتي ابنة البحر، ولو سئلت ماذا يمثل البحر بالنسبة إلي لقلت إنني أرى فيه الله، الحب، البراءة، الصفاء، القسوة، الهياج، الهدوء، النورس، الحياة.. التفاعل الإنسانى مع الصيادين وصناع شباك الصيد ومراكبه”.
يرى سالم أن البحر هو الحياة وهو العنصر الأساسي في الإسكندرية كمكان ووجود. ولكون العمل الروائي بناء عضويا متكاملا، فإنه ما لم يكن المكان يشكل عنصرا جوهريا من عناصر هذا البناء، فإنه لا يزيد على كونه مجرد حلية كمالية للعمل، ويضيف الروائي “حين أكتب عن الإسكندرية فليس بالضرورة أن أكتب عن شوارعها ومبانيها وبحرها وشواطئها، لأنني أتناول الإنسان في ما أكتب سواء أكان يقيم بزقاق في حي الأنفوشي أو في هوليود بوليفار”.
[SIZE=5]عوالم الكتابة[/SIZE]
يعترف سعيد سالم بأن الإسكندرية لم تعد اليوم تغريه أدبيا كمكان، رغم عشقه الطاغي لها بعد أن أخذ طابعها الجمالي المتفرد في الانهيار والتشوه البشع على أيدي السادة المحافظين الذين تناوبوا رئاستها على مدى ما يقرب من نصف قرن، إذ لم يمتلك أحدهم الحس الجمالي الذي يدفعه إلى الحفاظ على جمال المدينة الكوزموبوليتانية، كما لم يمتلك واحد منهم الذوق الفني الذي يجعله يدرك أهمية حماية تراث المدينة العتيق وتناسقها المثالي الفريد.
عما قيل عن تخفيه خلف شخصية عادل المصري في رواية “الفصل والوصل”، مما يجعلها تبدو مثل سيرة ذاتية، ينفي سعيد سالم ذلك قائلا “مرور المكتوب على مصفاة الكاتب الفكرية والنفسية والوجدانية أمر حتمي في العملية الإبداعية، من هنا يمكن القول إن جميع الكتاب يتخفون حول شخصياتهم أو البعض منها، والبارع منهم وحده هو الذي يتيح له مكره الفني حسن التخفي. أما بالنسبة إلى ‘الفصل والوصل‘ فهي لا تعتبر سيرة ذاتية، وإنما بعض التجارب الخاصة التي مزجتها فنيا بالفكرة العامة لمضمون الفصل والوصل كمصطلح صوفي من جهة ودنيوي من جهة أخرى. أما الرواية التي كانت سيرة شبه ذاتية وليست ذاتية كاملة فهي رواية ‘استرسال‘”.
في البدايات كان الكاتب مفتونا بالفانتازيا، فلما تخلص من فتنتها افتتن بالصوفية، فظهرت في أكثر من رواية له
وعن النزوع الصوفي لديه في نفس الرواية وقبلها ”آلهة من طين”، يقول الكاتب “في البدايات كنت مفتونا بالفانتازيا، فلما تخلصت من فتنتها حلت الخوارق الصوفية محلها، ظهرت في أكثر من رواية وكانت على أشدها في ‘كف مريم‘، حيث تتناول قصة حب بين سيدة مسيحية هي ‘مريم‘ قتل الإرهابيون شقيقها ورجل مسلم هو ‘حليم‘، يعمل في مجال الآثار ويشغف بالبحث في عوالم الأسرار العلوية، ففيها امتزج الحب الإنساني الناسوتي مع الحب الإلهي اللاهوتي امتزاجا يصعب فصله”.
وكان الروائي في “الفصل والوصل”، أتاح لعادل المصري أن يحكي عن نفسه وعن الآخرين، فلم يتح للأصوات الأخرى فرصة الحكي، ولم يلجأ إلى الراوي العليم بدلا من الأنا الراوي، ويبرر سعيد سالم ذلك بتفضيله للسرد بضمير المتكلم، ويضيف “لم أحب أبدا اتباع أسلوب الراوي العليم، لست دكتاتورا لأهيمن على شخصيات رواياتي، أحب جدا ضمير المتكلم لأنني على يقين من أنه أقرب إلى عقل القارئ وقلبه كما تعلمت من التجربة والممارسة، ولذلك تجد الكثير من رواياتي مكتوبة بأسلوب الأصوات حتى يقتنع القارئ بصدق ما يقوله هؤلاء المتحدثون عن أنفسهم دون تدخل من جانبي، وهذا لا يمنعني بالطبع من دس البعض من فكري بمكر فني بين كلمات هذه الشخصيات”.
[SIZE=5]الكاتب الكيميائي[/SIZE]
يؤكد سالم أنه يكتب كما يحب، وعما يحب، لذلك فهو لم يحاول الكتابة في مجال الخيال العلمي، بالرغم من دراسته وعمله المرتبطين بالعلم، فضلا عن تجربته الأدبية التي تؤهله لذلك، فقد درس الهندسة الكيميائية في جامعة الإسكندرية وحصل على الماجستير في نفس المجال، وارتبط عمله به لمدة خمسة وثلاثين عاما كان يمارس خلالها الكتابة الأدبية، لكنه ظل يسير في خطين متوازيين: الهواية الأدبية والعمل المرتبط بالعلم، ويرى أن تأثير دراسته العلمية يبدو في طريقة تفكيره ونظرته إلى الأشياء.
امتزاج الحب الإنساني الناسوتي مع الحب الإلهي اللاهوتي
وعن تأثر أدبه بدراسته يقول “طبيعة تكويني الذهني كمهندس كيميائي ساهمت في إثراء تجربتي الحياتية مما أثر على كتاباتي بالتركيز والتكثيف والتحليل والتركيب والتفاعل، وكلها عناصر مشتركة بين الهندسة الكيمائية والهندسة الروائية”.
الهندسة الكيميائية، كما يقول سالم، تحليل وتركيب وتكثيف وتركيز وتفاعل، والرواية تحليل شخصيات وتركيب أحداث وتكثيف للغة السرد وتركيز في عرض الفكرة دون إسهاب، وتفاعل بين المواقف والشخصيات في بعدي الزمان والمكان، وبوجه عام فإن لأسلوب التفكير العلمي أثره القوي والفعال على مستوى العمل الأدبي، والذي يجعل صاحبه متميزا عمن يكتبون في غياب تلك الخلفية الهامة، الأدب هو السحر الحلال والكيمياء هي سحر العلم، و”المبدع الكيميائي” مهووس بسحر كيمياء الكتابة.
ويضيف سالم “عشقي للرواية جعلني أفضلها على القصة القصيرة في بادئ رحلتي، لكني تعلمت بعد ذلك أن هناك مضامين لا يصلح التعبير عنها إلا في شكل القصة القصيرة، وبينما غيرها تتسع له الرواية. المهم أن ينجح الشكل الفني في توصيل المضمون بما يحقق للقارئ الإمتاع والتنوير، فهذه هي رسالة الفن الحقيقية. وهكذا كتبت قصصا قصيرة صدرت في إحدى عشرة مجموعة، بينما تبلغ رواياتي ضعف هذا العدد”.
يرجع الروائي ميوله الأدبية المبكرة إلى تجربة موت أبيه وهو بعد طفل، يقول “توفي والدي وأنا في الثانية من العمر تقريبا، حيث تولت أمي باقتدار عظيم إدارة شؤون الأسرة بمساعدة شقيقي الأكبر، كنت أصغر إخوتي لذا نلت قدرا كبيرا من الاهتمام والحنان، والحق أنني قد عشت حياة جميلة وسط أسرة متحابة متضامنة، تلقيت منها تعاطفا خاصا بسبب يتمي المبكر.. وشخصية اليتيم بطبعها تأملية”.
ويتابع “لم يكن هناك من يجيب على تساؤلاتي المحيرة الكثيرة في طفولتي، والناتجة عن عشقي الشديد للتأمل والتفكير في معضلات إنسانية تفوق قدراتي العقلية كصبي، مثل الحياة والموت والحب والزمن والكثير من المتناقضات المحيرة في الحياة لعقل مراهق صغير، فكان أن لجأت إلى القراءة منذ صغري أملا في العثور فيها على الإجابة، وجدت نفسي مدفوعا إلى الكتابة من قبل أن أتخصص في أي شيء على سبيل الحوار الداخلي مع النفس، وبتطور الكتابة عرفت القصة والرواية وانجذبت إليهما بشدة باعتبارهما مجالا خصبا للتنفيس عن كل ما أنطوى عليه عقلي الباطن من حيرة وجودية”.