جاء في كتاب المستجاد لأبي علي التنوخي:
حدثنا ابنُ عباس، المعروف بسجين الرجز، قال:
لما هربتُ من سجن ابن علي، أرسلَ رجالَهُ في طلبي، وجعلَ لمن يأتيه بي مائة ألف أورو، فخفتُ عندئذ على نفسي وانطلقتُ لا ألوي على شيء. ولم أزلْ هائما على وجهي إلى أن بلغتُ الجَريب، وهو موضع ذكرَه ياقوت في معجم البلدان، كما أشار إليه الشاعر القديم حين قال:
حَلَّتْ سُليمى جانبَ الجَريبِ = محلَّ لا دانٍ و لا قريبِ
ورأيتُ تلّا غير بعيد، وعنده بضعة مساكن متراصّة، فمضيتُ صوبها فإذا برجُل واقف على باب مسكنه، فخفتُ أن يرتاب في أمري، ولم أجد مع ذلك بدا من التقدم إليه والسلام عليه. فلما رد السلام كأحسن ما يكون، تشجعتُ وقلتُ له: " يا سيدي، هل عندك موضع أقيم فيه ساعةً من نهار؟ "، فقال: " على الرحب و السعة "، ثم فتح الباب ودعاني إلى الدخول فدخلت. وما لبثَ أن جاءني بطعام وشراب، وبقيَ يوفيني حقي بالخدمة وأنا أعجب من ذلك . فلما رُفع الخوان، نهض إلى خزانة له وأخرجَ عودا مُصَفّحاً، ثم قال لي: " أتأذن لي يا سيدي بالغناء؟ "، فقلتُ: " وكيف لا آذن لك وأنا في بيتك أنعم بكرمك؟"، فأخذ العود وجسّه، ثم اندفع يغني:
ألَا أيها النّوّامُ ويحكمُ هُبّوا = أسائلكمْ هل يَقتلُ الرَّجُلَ الحُبُّ
فخُيل إلي وأنا أسمع ذلك الغناء أن الأشياء كلها من حولنا تغني معه وبقيتُ أنظر إليه وأستمع لغنائه وأنا عاجز عن الكلام، من شدة الطرب. ثم إنه خرج بعض الوقت وعاد، فتناول العود ثانية وغنى:
تمتعْ منْ شميم عرارِ نجْدٍ = فما بَعْد العشيةِ منْ عرارِ
فكدت أجنُّ من الطرب. فلما انتهى من غنائه، وضع عوده جانبا، ثم إني طلبت منه الإذن بأن أنام قليلا، ونمتُ حتى وقت المغرب. فلما صحوتُ أردت الانصراف، فمنعني من ذلك فأقمتُ عنده أياما وأنا في أحسن حال. وبعد ذلك تركته وصرتُ في الطريق، فلما بلغتُ الجانب الغربي من التل، إذا برجال مسلحين يتقدمون نحوي وأحدهم يخاطبني بقوله: " ها قد ظفرنا بالغنى وبالعملة الصعبة... أنت السجين الهارب من ابن علي، وقد جعل لمن يأتيه بك مائة ألف أورو". إثر ذلك قيدوني واقتادوني إلى ابن علي. فلما أدخلوني، وجدته في مجلسه، وحوله رجال تبدو عليهم علامات الهيبة والوقار، وفيهم أبو علي بن حمزة الكسائي وأبو زكريا الفراء ويعقوب بن السكيت وأبو العباس ثعلب وابن الأعرابي والمفضل الضبي، فانقبض قلبي عند ذاك وقلتُ في نفسي: " هؤلاء كلهم من علماء الكوفة، فأين يا تُرى شيوخ البصرة الذين سيدافعون عني؟ "، وكأنما أدرك ابن علي ما يجول بخاطري، فتوجه إلي بالكلام قائلا:
- أيها السجين الهارب، سأناظرك اليوم في النحو واللغة، بحضور شيوخنا الأجلاء، على أن نتناظر غدا في الرجز، فإن أنتَ أحسنتَ الدفاع عن نفسك عفونا عنك وأعدناك إلى بلدك، وإلا فسوف نرجعك إلى سجنك البعيد..."
قال ابن عباس:
فاستبد بي عند ذاك خوف شديد وأسقط في يدي، وأيقنتُ أن الشيوخ الحاضرين سيشيرون كلهم بإرجاعي إلى السجن، بعد انتهاء المناظرة مع ابن علي. ثم حدثَ أمر لا يُصَدق، في تلك اللحظة بالذات. فقد دخل رجل غريب، قد شارف الستين من العمر، ذو ملامح شبيهة بملامح الشاعر محمد عنيبة الحمري، ولكنه كان يتقلد سيفا ويضع على رأسه عمامة من خز. فتقدم حتى وقف وسط القاعة، ثم توجه بالكلام إلى ابن علي:
- على رسلك يا بن علي، كيف تناظر ابنَ عباس في اللغة والنحو بحضور شيوخك الكوفيين فحسب؟، أنسيتَ أن أهل الكوفة كلهم يأخذون عن البصريين، وأن البصريين يمتنعون عن الأخذ عنهم؟، أنسيتَ أن شيوخك هؤلاء قد تركوا الأصول واعتمدوا الفروعَ، فانتهى الأمرُ باختلاط العلم؟، أين أساتذتنا البصريون، يابن علي؟، أين أبو الأسود الدؤلي الذي احتجّ على معاوية بالقرآن، حينما رد على أصهاره بني قُشير؟، أين عبدالله بن إسحاق الحضرمي، الذي كان أولَ من مدَّ القياسَ وشَرح العلل؟، أين أبو عمرو بن العلاء، الذي اشتهرَ بعلو كعبه في الرواية والقراءات وسائر علوم العربية؟، أين الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي كان من عباقرة الزمان؟، أين سيبويه، إمام النحويين وزعيم المصنفين؟، أين يونس بن حبيب وميمون الأقرن وعنبسة الفيل؟، وأين اليزيدي وقطرب والجرمي والمازني والآخرون؟، وأين الأصمعي وهو أعرفُ القوم باللغة وأعلمهم بالشعر؟
قال ابنُ عباس:
فاضطرب المجلس اضطرابا عظيما واختلطت أصوات المنددين بأصوات المستحسنين، واختفى شبيهُ عنيبة الحمري بسرعة البرق، وشرع الناس في مغادرة قصر ابن علي، فخرجتُ مع الخارجين. بيد أنني لم أبتعد بضعة أمتار حتى لحق بي الجنود وأمسكوني وقيدوني من جديد.
حدثنا ابنُ عباس، المعروف بسجين الرجز، قال:
لما هربتُ من سجن ابن علي، أرسلَ رجالَهُ في طلبي، وجعلَ لمن يأتيه بي مائة ألف أورو، فخفتُ عندئذ على نفسي وانطلقتُ لا ألوي على شيء. ولم أزلْ هائما على وجهي إلى أن بلغتُ الجَريب، وهو موضع ذكرَه ياقوت في معجم البلدان، كما أشار إليه الشاعر القديم حين قال:
حَلَّتْ سُليمى جانبَ الجَريبِ = محلَّ لا دانٍ و لا قريبِ
ورأيتُ تلّا غير بعيد، وعنده بضعة مساكن متراصّة، فمضيتُ صوبها فإذا برجُل واقف على باب مسكنه، فخفتُ أن يرتاب في أمري، ولم أجد مع ذلك بدا من التقدم إليه والسلام عليه. فلما رد السلام كأحسن ما يكون، تشجعتُ وقلتُ له: " يا سيدي، هل عندك موضع أقيم فيه ساعةً من نهار؟ "، فقال: " على الرحب و السعة "، ثم فتح الباب ودعاني إلى الدخول فدخلت. وما لبثَ أن جاءني بطعام وشراب، وبقيَ يوفيني حقي بالخدمة وأنا أعجب من ذلك . فلما رُفع الخوان، نهض إلى خزانة له وأخرجَ عودا مُصَفّحاً، ثم قال لي: " أتأذن لي يا سيدي بالغناء؟ "، فقلتُ: " وكيف لا آذن لك وأنا في بيتك أنعم بكرمك؟"، فأخذ العود وجسّه، ثم اندفع يغني:
ألَا أيها النّوّامُ ويحكمُ هُبّوا = أسائلكمْ هل يَقتلُ الرَّجُلَ الحُبُّ
فخُيل إلي وأنا أسمع ذلك الغناء أن الأشياء كلها من حولنا تغني معه وبقيتُ أنظر إليه وأستمع لغنائه وأنا عاجز عن الكلام، من شدة الطرب. ثم إنه خرج بعض الوقت وعاد، فتناول العود ثانية وغنى:
تمتعْ منْ شميم عرارِ نجْدٍ = فما بَعْد العشيةِ منْ عرارِ
فكدت أجنُّ من الطرب. فلما انتهى من غنائه، وضع عوده جانبا، ثم إني طلبت منه الإذن بأن أنام قليلا، ونمتُ حتى وقت المغرب. فلما صحوتُ أردت الانصراف، فمنعني من ذلك فأقمتُ عنده أياما وأنا في أحسن حال. وبعد ذلك تركته وصرتُ في الطريق، فلما بلغتُ الجانب الغربي من التل، إذا برجال مسلحين يتقدمون نحوي وأحدهم يخاطبني بقوله: " ها قد ظفرنا بالغنى وبالعملة الصعبة... أنت السجين الهارب من ابن علي، وقد جعل لمن يأتيه بك مائة ألف أورو". إثر ذلك قيدوني واقتادوني إلى ابن علي. فلما أدخلوني، وجدته في مجلسه، وحوله رجال تبدو عليهم علامات الهيبة والوقار، وفيهم أبو علي بن حمزة الكسائي وأبو زكريا الفراء ويعقوب بن السكيت وأبو العباس ثعلب وابن الأعرابي والمفضل الضبي، فانقبض قلبي عند ذاك وقلتُ في نفسي: " هؤلاء كلهم من علماء الكوفة، فأين يا تُرى شيوخ البصرة الذين سيدافعون عني؟ "، وكأنما أدرك ابن علي ما يجول بخاطري، فتوجه إلي بالكلام قائلا:
- أيها السجين الهارب، سأناظرك اليوم في النحو واللغة، بحضور شيوخنا الأجلاء، على أن نتناظر غدا في الرجز، فإن أنتَ أحسنتَ الدفاع عن نفسك عفونا عنك وأعدناك إلى بلدك، وإلا فسوف نرجعك إلى سجنك البعيد..."
قال ابن عباس:
فاستبد بي عند ذاك خوف شديد وأسقط في يدي، وأيقنتُ أن الشيوخ الحاضرين سيشيرون كلهم بإرجاعي إلى السجن، بعد انتهاء المناظرة مع ابن علي. ثم حدثَ أمر لا يُصَدق، في تلك اللحظة بالذات. فقد دخل رجل غريب، قد شارف الستين من العمر، ذو ملامح شبيهة بملامح الشاعر محمد عنيبة الحمري، ولكنه كان يتقلد سيفا ويضع على رأسه عمامة من خز. فتقدم حتى وقف وسط القاعة، ثم توجه بالكلام إلى ابن علي:
- على رسلك يا بن علي، كيف تناظر ابنَ عباس في اللغة والنحو بحضور شيوخك الكوفيين فحسب؟، أنسيتَ أن أهل الكوفة كلهم يأخذون عن البصريين، وأن البصريين يمتنعون عن الأخذ عنهم؟، أنسيتَ أن شيوخك هؤلاء قد تركوا الأصول واعتمدوا الفروعَ، فانتهى الأمرُ باختلاط العلم؟، أين أساتذتنا البصريون، يابن علي؟، أين أبو الأسود الدؤلي الذي احتجّ على معاوية بالقرآن، حينما رد على أصهاره بني قُشير؟، أين عبدالله بن إسحاق الحضرمي، الذي كان أولَ من مدَّ القياسَ وشَرح العلل؟، أين أبو عمرو بن العلاء، الذي اشتهرَ بعلو كعبه في الرواية والقراءات وسائر علوم العربية؟، أين الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي كان من عباقرة الزمان؟، أين سيبويه، إمام النحويين وزعيم المصنفين؟، أين يونس بن حبيب وميمون الأقرن وعنبسة الفيل؟، وأين اليزيدي وقطرب والجرمي والمازني والآخرون؟، وأين الأصمعي وهو أعرفُ القوم باللغة وأعلمهم بالشعر؟
قال ابنُ عباس:
فاضطرب المجلس اضطرابا عظيما واختلطت أصوات المنددين بأصوات المستحسنين، واختفى شبيهُ عنيبة الحمري بسرعة البرق، وشرع الناس في مغادرة قصر ابن علي، فخرجتُ مع الخارجين. بيد أنني لم أبتعد بضعة أمتار حتى لحق بي الجنود وأمسكوني وقيدوني من جديد.