كانت ليلة خريفية قاتمة الظلمة ، الصراف العجوز يتجول في غرفته من زاوية لأخرى، يتذكر حفل استقبال نظمه قبل خمسة عشر عاما في أحد أيام الخريف.
حضر ذلك الحفل شخصيات تتمتع بذكاء كبير ، تناقش مختلف القضايا بمهارة عالية ، من بين المواضيع التي أثارت جدلا كبيرا في تلك الأمسية عقوبة الإعدام. غالبية المدعوين – أكادميون ، إعلاميون ، مهندسون و أطباء – لا يؤيدون استمرار قتل الناس بحكم المحاكم و يجدون فيه طريقة قديمة للاقتصاص عديمة الفائدة و غير أخلاقية للأمم المسيحية، البعض قال بأن حكم الإعدام يجب أن يستبدل بالسجن المؤبد.
لست متفقا – قال صاحب البيت – لم أجرب الإعدام و لا السجن المؤبد و لكن الإعدام في رأيي أكثر إنسانية و رحمة من السجن المؤبد ، الإعدام يقتل في ثانية و المؤبد يفعل نفس الشيء و لكن على امتداد سنوات طويلة ، هل نفضل العدو الذي ينتزع روحنا في برهة من الزمن أم الذي يطيل مدة عذابنا و يقتلنا في نهاية المطاف.
كلاهما غير أخلاقي – لاحظ أحدهم – لأنهم يؤدون إلى نفس النتيجة: القتل. الدولة ليست إلها ، ليس لديها الحق في انتزاع شيء لا يمكنها رده.
من بين المدعوين كان هناك محام شاب ذو خمسة و عشرين عاما ، عند سؤاله حول رأيه في الموضوع أجاب:
ـ الإعدام و السجن المؤبد سيان، و لكن إذا أتيحت لي فرصة الاختيار فلن أتردد في الاختيار الثاني ، الحياة بأي طريقة خير من الفناء.
كان نقاشا ساخنا ، الصراف – الذي كان حينها مفعما باندفاع الشباب – ضرب بقبضة يده فوق أقرب منضدة منه و صاح في الشاب المحامي:
ـ غير صحيح ، أراهن بمليونين على أنك لن تتحمل سجن خمس سنوات.
ـ إذا كنت تتكلم بجد – أجاب المحامي – سأراهنك ليس على خمس سنين و إنما على خمسة عشر سنة.
ـ حسنا – قال صاحب البيت – أيها السادة ، إني أضع مليونين كاملين.
- اتفقنا، أنت تضع المليونين و أنا أقدم حريتي – قال الشاب -
لم يعارض أحد هذا الرهان السخيف ، فاتفق الطرفان على إنفاذه. الصراف الذي لا يعرف عدد ملايينه كان متحمسا ، و أثناء العشاء لم يتوقف عن إهانة المحامي ، حيث قال له:
ـ فكر في الأمر جيدا أيها الشاب قبل فوات الأوان ، بالنسبة لي مليونان لا يعنيان شيئا ، لكن أنت ستخسر ثلاث أو أربع سنوات هي الأجمل في حياتك، أقول ثلاث أو أربع سنوات فقط لأنه لا يمكنك تحمل أكثر، و لا تنسى أيها البائس أن سجنا اختياريا سيكون قاسيا عليك، إن إمكانية مغادرتك في أية لحظة ستسمم عليك مقامك فيه ، إني آسف على وضعك.
في هذه اللحظات و الصراف يذرع الغرفة جيئة و ذهابا ، يتذكر كل تلك الحكاية و يسائل نفسه ، لماذا راهنت ؟ ما فائدة ضياع خمسة عشر سنة من حياة المحامي و خسراني للمليونين ؟هل نفع كل هذا في حسم قضية حكم الإعدام و السجن المؤبد ؟ لا ثم لا، إنه هراء و خطأ كبير. من جانبي كانت نزوة رجل سعيد و مغرور و من جانب المحامي كانت طمعا في المال. أخذ العجوز يتذكر مجريات الأحداث بعد تلك الليلة.
تقرر أن يمضي المحامي مدة سجنه في كوخ تابع لبيت الصراف تحت نظر حراسه ، اتفق الطرفان على أنه طيلة خمسة عشر عاما يمنع عليه تجاوز عتبة الكوخ أو مشاهدة أي إنسان أو سماع أصوات بشرية أو تلقي الرسائل و الجرائد ، بالمقابل سمح له بآلة موسيقية و قراءة الكتب و كتابة الرسائل و طلب النبيذ و التدخين.لا يمكن أن يتواصل مع العالم الخارجي إلا بالصمت و ذلك من خلال نافذة صغيرة أعدت لهذا الغرض ، و عبرها يحصل على طلباته من خلال كتابتها في أوراق خاصة و بالكمية التي يريد. كان الاتفاق واضحا في منع أي شكل من أشكال التواصل مع الآخر و في تحديد مدة السجن خمسة عشر سنة تبدأ في الساعة الثانية عشر من يوم الرابع عشر من شهر نونبر سنة 1970 و تنتهي في نفس الساعة و اليوم من عام 1985 ، و أي محاولة لمخالفة هذه الشروط من طرف المحامي تحرر الصراف من أداء المبلغ المتفق عليه.
في السنة الأولى من سجنه عانى المحامي من الوحدة و الملل ، على الرغم من إنكاره ذلك في قصاصاته التي كان يكتبها. بين الفينة و الأخرى تنبعث من كوخه أنغام البيانو و كان يرفض النبيذ و السجائر ، لأن النبيذ يوقظ الأحلام و الملذات و هما خصمان كبيران للسجين ، و ليس هناك شيئ أفظع من شرب نبيذ جيد و عدم مشاهدة أي شيئ ، و بالنسبة للسجائر فإنها تلوث هواء الغرفة. في هذه السنة كان يطلب كتبا أدبية ، روايات رومانسية ، قصص الخيال العلمي و الجريمة و الكوميديا...
في العام الثاني تخلى المحامي السجين عن الموسيقى فلم يعد يسمع أثر البيانو و بدأ يطلب الكتب القديمة. في السنة الخامسة عادت أنغام الموسيقى إلى الكوخ و أخذ السجين في طلب النبيذ ، لم يكن يفعل شيئا آخر غير الأكل و الشرب و البقاء فوق السرير متثائبا و محدثا نفسه ، حتى الكتب لم يعد يقرأها ، و عند الليل يكتب بنهم و لمدة طويلة و في الفجر يمزق كل ما كتبه ، و بين الفينة و الأخرى كان يدخل في نوبات من البكاء.
في النصف الثاني من السنة السادسة أقبل السجين بحماس كبير على دراسة اللغات و الفلسفة و التاريخ ، درس هذه العلوم بمهارة و سرعة حتى أن الصراف العجوز كان يسابق الزمن لتوفير الكتب له.
على امتداد الأربع سنوات الأولى كان العجوز يطلب الكتب لسجينه بواسطة البريد حيث توصل المحامي بحوالي ستمائة كتاب.
في أواخر العام السادس توصل العجوز برسالة من المحامي يقول فيها:
" عزيزي السجان ، أكتب إليك هاته الأسطر بست لغات ، اعرضها على علماء اللغة ليقرأوها ، إذا وجدوها خالية من الأخطاء أتوسل إليك أن تعلمني بذلك بإطلاق رصاصة في سماء الحديقة ، هذه الطلقة ستخبرني أن مجهوداتي لم تذهب سدى، عباقرة كل الأزمان و الأوطان يتحدثون لغات مختلفة و يسكنهم هاجس واحد ، آه لو علمت أن ذلك الهاجس
أنفذ الصراف بسخاء ما طلبه السجين ، فأطلقت رصاصتان.!العظيم يسكنني و أني أفهمهم
انطلاقا من العام العاشر كان المحامي يمضي جل وقته جالسا على الكرسي لا يتحرك أبدا ، يقرأ الكتاب المقدس بخشوع و تأمل. بدا الأمر غريبا للصراف العجوز فكيف لرجل قرأ ستمائة مجلد في أربع سنوات و في علوم صعبة و مختلفة يقضي ما يقارب السنة في قراءة !كتاب سهل و صغير
بعد فراغه من دراسة الإنجيل طلب المحامي كتبا جديدة حول تاريخ الأديان و اللاهوت.
في السنتين الأخيرتين من حبسه ، قرأ المحامي مجموعة كبيرة من الكتب في مواضيع شتى، مرة يدرس العلوم الطبيعية و مرة يطلب مؤلفات بيرون و شكسبير ، و في بعض الأحيان كان يطلب في نفس الوقت كتابا في الكيمياء و آخر في الطب و رواية أدبية و نصا فلسفيا أو لاهوتيا. قراءاته تعطي انطباعا بأنه كان يسبح في بحر بين جنبي سفينة كبيرة محاولا النجاة بحياته متشبثا بيأس بأحد أطرافها.
يتذكر الصراف العجوز قصته مع المحامي محدثا نفسه : " غدا في الثانية عشر زوالا سيصبح المحامي حرا ، و حسب الاتفاق يجب علي أن أعطيه مليونين من أموالي ، و إذا أخرجت هذا المبلغ فسأفقد كل شيئ و سيخرب بيتي نهائيا.."
قبل خمسة عشر عاما لم يكن الصراف يعلم مقدار الأموال التي بحوزته ، أما الآن فإنه يخشى أن يسأل عن ذلك. ما الذي يتراكم لديه أكثر المال أم الديون ؟
المخاطرة في البورصة و المضاربات غير المحسوبة و الحماس الزائد – الذي لم ينجح في التخلص منه حتى في شيخوخته – أسباب أدت إلى قربه من الإفلاس. ذاك الصراف الجريء الواثق من نفسه الفخور بماله ، تحول إلى رجل أعمال من الدرجة الثانية ترتعد فرائصه مع كل انخفاض في الأسهم.
صاح العجوز و هو ممسك برأسه ، لماذا لم يمت هذا الرجل ؟!ـ اللعنة على هذا الرهان
لديه فقط أربعون سنة ، سينتزع مني آخر ما لدي ، سيتزوج و يستمتع بحياته ، سيضارب في البورصة ، و أنا كمتسول حقير سأنظر إليه بحسد و سأسمعه كل يوم و هو يردد علي نفس العبارة: أنا مدين لك بسعادتي ، اسمح لي بمساعدتك أيها المسكين.
ـ لا ، لا هذا كثير ، الطريقة الوحيدة للتخلص من الإفلاس و ازدراء الناس هي في موت هذا الشخص اللعين.
تشير الساعة إلى الثالثة بعد منتصف الليل ، العجوز يتحسس المشهد بأذنيه ، الكل نائم داخل البيت ، هناك صوت واحد ، حفيف الأشجار المتجمدة خلف النوافذ.
أخرج الصراف مفتاح الكوخ – الذي لم يفتح لمدة خمسة عشر عاما ـ من الخزانة محاولا أن لا يحدث أي ضجيج ، لبس معطفه و خرج من البيت.
الحديقة كانت مظلمة و باردة ، المطر يهطل و ريح رطبة تتجول زاحفة بين الأشجار ، حاول العجوز أن يرى شيئا لكنه لم يفلح في رؤية حتى التراب الذي يمشي فوقه و لا التماثيل البيضاء و لا الكوخ و لا الأشجار.. اقترب من المكان الذي يوجد فيه الكوخ و نادى مرتين على الحارس ، لكنه لم يسمع جوابا ، التجأ الحارس – على ما يبدو ـ إلى المطبخ أو المدفئة فرارا من البرد ، و ظل نائما هناك.
إذا استطعت أن أنفذ خطتي بنجاح فالجميع سيتهم الحارس – أسر الصراف في نفسه ـ
صعد الأدراج و الظلام يعم المكان ، فتح باب الكوخ و دخل إلى البهو ثم توغل إلى الممر الصغير و أشعل فتيل الضوء. لم يكن أحد هناك ، بدا له السرير غير مرتب و موقد من حديد موضع في الزاوية...
عندما انطفأت شعلة الضوء ،ألقى العجوز – مذعورا ـ نظرة على السجين من النافذة ، كانت حجرته مضاءة بنور شمعة خافت و كان جالسا بجوار الطاولة لا يظهر سوى ظهره و شعره و يديه ، كانت الكتب منثورة فوق المائدة و السجاد..
مرت خمس دقائق دون أن يتحرك السجين من مكانه ، خمسة عشر سنة من السجن علمته كيف يبقى جامدا دون حركة. طرق العجوز النافذة بإصبعه فلم يلق جوابا ، أزال الأختام التي كانت على الباب و أدخل المفتاح محدثا ضجيجا قويا ، انتظر ردة فعل لكن دون نتيجة ، لازال الصمت مهيمنا على المكان ، عندها قرر العجوز أن يدخل الغرفة.
بجانب الطاولة كان المحامي لازال جامدا ، كائن غريب لا يشبه أحدا ، هيكل عظمي مغطى بالجلد ، شعر طويل و لحية مجعدة ، لون وجهه أصفر و خدوده غائرة ، كان ظهره طويلا و نحيفا و يده النحيلة التي تحمل رأسه ذو الشعر الكثيف تبعث على الخوف ، لون شعره أصبح رماديا بفعل انتشار الشيب ، حالة وجهه الرث توحي بأن الرجل قد وصل إلى الشيخوخة و لن يصدق أحد أنه لازال في عقده الرابع، كان نائما و فوق الطاولة ورقة مكتوبة بأحرف صغيرة.
ـ يا له من بائس – قال الصراف ـ ينام و ربما يحلم بالملايين، سأوقظه و أرميه فوق السرير و أخنقه بالوسادة ، و لن يشك أحد في موته ، و لكني سأقرأ هذه الأسطر أولا.
أخذ العجوز الورقة و قرأ ما يلي: غدا عند الثانية عشر زوالا سأسترجع حريتي و سأرى الناس ، و لكن قبل أن أغادر هذه الغرفة و أرى الشمس أجد من الضروري أن أوجه لك بعض الكلمات. أمام الرب الذي يراني و بضمير حي و هادئ أعلن أني أحتقر الحرية و الحياة و الصحة و كل ما اعتبرته كتبك ملذات الدنيا. خلال خمسة عشر عاما درست بتأن الحياة الدنيوية ، صحيح أنني لم أكن أرى بشرا و لا أرضا ، لكنني من خلال الكتب شربت النبيذ المعتق و غنيت الأغاني ، و في الغابات اصطدت الأيول و الخنازير البرية و أحببت النساء الجميلات و الخفيفات مثل السحاب ، اللائي أبدعتهن مخيلة الشعراء كن يزرنني ليلا و يهمسن في أذني قصصا عجائبية تتركني ثملا.
في كتبك تسلقت قمم جبال إلبروز و الجبل الأبيض و من هناك رأيت الشمس تشرق في الصباح كما رأيتها في الغروب و هي تصب ذهبها الأرجواني فوق السماء و المحيط و الجبل ، رأيت أيضا الغابات الخضراء و المروج و الوديان و البحيرات و المدائن، سمعت غناء الحوريات و صوت ناي الراعي ، لمست أجنحة الشياطين التي تنزل من السماء لتحدثني عن الرب، من خلال كتبك ارتميت في أعماق سحيقة نحو المعجزات ، أحرقت مدنا و اعتنقت أديانا جديدة و سيطرت على إمبراطوريات كاملة..
منحتني كتبك الحكمة و بفضلها استطعت أن أحفظ الفكر الإنساني المتراكم عبر قرون طويلة داخل جمجمتي ، أعلم أني أذكى منكم جميعا.
أحتقر كتبك و جميع ملذات العالم و الحكمة أيضا أحتقرها ، كل هذه الأشياء بائسة و زائلة ، شبحية و مضللة كالجنية الخرقاء. لا يهم إن كانت تجلب الفخر و الجمال ، إن كان الموت سيمحوها جميعا من على وجه الأرض مع الفئران.إن أحفادك و التاريخ و خلود عباقرتك سيتجمدون أو سيحرقون مع الكرة الأرضية ، لقد أصابكم الجنون لذا فإنكم تسلكون الطريق الخطأ ، تفضلون الكذب على الحقيقة و القبح على الجمال. ستشعرون بمفاجأة عظيمة إذا اقتضت الظروف أن تثمر أشجار التفاح و الأرانج عوض الفواكه ضفاضع و سحليات أو إذا فاحت الورود برائحة حصان عفن ، و سأفاجأ بكم إذا فضلتم الأرض على السماء ، إني لا أستطيع فهمكم.
لكي أظهر لكم احتقاري لحياتكم فإني أرفض أموالكم التي حلمت بها في وقت سابق كأنها الجنة ، إني لا أقبلها الآن. و لكي أخلصكم من هذا الوعد سأخرج من هنا قبل خمس ساعات من الوقت المحدد ، و بذلك أكون قد خالفت بنود الاتفاق.
وضع الصراف الورقة فوق الطاولة بعد قراءتها و قبل رأس الرجل الغريب ثم خرج من الكوخ باكيا. رغم حياته الطويلة و خسارته في البورصة مرات متعددة لم يحس العجوز بازدراء لنفسه مثل هذه اللحظة. عندما عاد إلى بيته حاول أن ينام لكن أحاسيسه المتضاربة و دموعه الغزيرة منعتاه من النوم لفترة طويلة.
عند صبيحة اليوم الموالي أتى إليه حراسه مهلوعين ليخبروه أنهم رأوا سجين الكوخ ينزل من النافذة إلى الحديقة متجها نحو البوابة ثم اختفى . توجه الصراف إلى الكوخ بمعية خدمه و تأكد من غياب السجين ، و لكي لا تثار إشاعات لا لزوم لها ، أخذ الورقة و رجع بها إلى البيت و وضعها في الخزانة.
حضر ذلك الحفل شخصيات تتمتع بذكاء كبير ، تناقش مختلف القضايا بمهارة عالية ، من بين المواضيع التي أثارت جدلا كبيرا في تلك الأمسية عقوبة الإعدام. غالبية المدعوين – أكادميون ، إعلاميون ، مهندسون و أطباء – لا يؤيدون استمرار قتل الناس بحكم المحاكم و يجدون فيه طريقة قديمة للاقتصاص عديمة الفائدة و غير أخلاقية للأمم المسيحية، البعض قال بأن حكم الإعدام يجب أن يستبدل بالسجن المؤبد.
لست متفقا – قال صاحب البيت – لم أجرب الإعدام و لا السجن المؤبد و لكن الإعدام في رأيي أكثر إنسانية و رحمة من السجن المؤبد ، الإعدام يقتل في ثانية و المؤبد يفعل نفس الشيء و لكن على امتداد سنوات طويلة ، هل نفضل العدو الذي ينتزع روحنا في برهة من الزمن أم الذي يطيل مدة عذابنا و يقتلنا في نهاية المطاف.
كلاهما غير أخلاقي – لاحظ أحدهم – لأنهم يؤدون إلى نفس النتيجة: القتل. الدولة ليست إلها ، ليس لديها الحق في انتزاع شيء لا يمكنها رده.
من بين المدعوين كان هناك محام شاب ذو خمسة و عشرين عاما ، عند سؤاله حول رأيه في الموضوع أجاب:
ـ الإعدام و السجن المؤبد سيان، و لكن إذا أتيحت لي فرصة الاختيار فلن أتردد في الاختيار الثاني ، الحياة بأي طريقة خير من الفناء.
كان نقاشا ساخنا ، الصراف – الذي كان حينها مفعما باندفاع الشباب – ضرب بقبضة يده فوق أقرب منضدة منه و صاح في الشاب المحامي:
ـ غير صحيح ، أراهن بمليونين على أنك لن تتحمل سجن خمس سنوات.
ـ إذا كنت تتكلم بجد – أجاب المحامي – سأراهنك ليس على خمس سنين و إنما على خمسة عشر سنة.
ـ حسنا – قال صاحب البيت – أيها السادة ، إني أضع مليونين كاملين.
- اتفقنا، أنت تضع المليونين و أنا أقدم حريتي – قال الشاب -
لم يعارض أحد هذا الرهان السخيف ، فاتفق الطرفان على إنفاذه. الصراف الذي لا يعرف عدد ملايينه كان متحمسا ، و أثناء العشاء لم يتوقف عن إهانة المحامي ، حيث قال له:
ـ فكر في الأمر جيدا أيها الشاب قبل فوات الأوان ، بالنسبة لي مليونان لا يعنيان شيئا ، لكن أنت ستخسر ثلاث أو أربع سنوات هي الأجمل في حياتك، أقول ثلاث أو أربع سنوات فقط لأنه لا يمكنك تحمل أكثر، و لا تنسى أيها البائس أن سجنا اختياريا سيكون قاسيا عليك، إن إمكانية مغادرتك في أية لحظة ستسمم عليك مقامك فيه ، إني آسف على وضعك.
في هذه اللحظات و الصراف يذرع الغرفة جيئة و ذهابا ، يتذكر كل تلك الحكاية و يسائل نفسه ، لماذا راهنت ؟ ما فائدة ضياع خمسة عشر سنة من حياة المحامي و خسراني للمليونين ؟هل نفع كل هذا في حسم قضية حكم الإعدام و السجن المؤبد ؟ لا ثم لا، إنه هراء و خطأ كبير. من جانبي كانت نزوة رجل سعيد و مغرور و من جانب المحامي كانت طمعا في المال. أخذ العجوز يتذكر مجريات الأحداث بعد تلك الليلة.
تقرر أن يمضي المحامي مدة سجنه في كوخ تابع لبيت الصراف تحت نظر حراسه ، اتفق الطرفان على أنه طيلة خمسة عشر عاما يمنع عليه تجاوز عتبة الكوخ أو مشاهدة أي إنسان أو سماع أصوات بشرية أو تلقي الرسائل و الجرائد ، بالمقابل سمح له بآلة موسيقية و قراءة الكتب و كتابة الرسائل و طلب النبيذ و التدخين.لا يمكن أن يتواصل مع العالم الخارجي إلا بالصمت و ذلك من خلال نافذة صغيرة أعدت لهذا الغرض ، و عبرها يحصل على طلباته من خلال كتابتها في أوراق خاصة و بالكمية التي يريد. كان الاتفاق واضحا في منع أي شكل من أشكال التواصل مع الآخر و في تحديد مدة السجن خمسة عشر سنة تبدأ في الساعة الثانية عشر من يوم الرابع عشر من شهر نونبر سنة 1970 و تنتهي في نفس الساعة و اليوم من عام 1985 ، و أي محاولة لمخالفة هذه الشروط من طرف المحامي تحرر الصراف من أداء المبلغ المتفق عليه.
في السنة الأولى من سجنه عانى المحامي من الوحدة و الملل ، على الرغم من إنكاره ذلك في قصاصاته التي كان يكتبها. بين الفينة و الأخرى تنبعث من كوخه أنغام البيانو و كان يرفض النبيذ و السجائر ، لأن النبيذ يوقظ الأحلام و الملذات و هما خصمان كبيران للسجين ، و ليس هناك شيئ أفظع من شرب نبيذ جيد و عدم مشاهدة أي شيئ ، و بالنسبة للسجائر فإنها تلوث هواء الغرفة. في هذه السنة كان يطلب كتبا أدبية ، روايات رومانسية ، قصص الخيال العلمي و الجريمة و الكوميديا...
في العام الثاني تخلى المحامي السجين عن الموسيقى فلم يعد يسمع أثر البيانو و بدأ يطلب الكتب القديمة. في السنة الخامسة عادت أنغام الموسيقى إلى الكوخ و أخذ السجين في طلب النبيذ ، لم يكن يفعل شيئا آخر غير الأكل و الشرب و البقاء فوق السرير متثائبا و محدثا نفسه ، حتى الكتب لم يعد يقرأها ، و عند الليل يكتب بنهم و لمدة طويلة و في الفجر يمزق كل ما كتبه ، و بين الفينة و الأخرى كان يدخل في نوبات من البكاء.
في النصف الثاني من السنة السادسة أقبل السجين بحماس كبير على دراسة اللغات و الفلسفة و التاريخ ، درس هذه العلوم بمهارة و سرعة حتى أن الصراف العجوز كان يسابق الزمن لتوفير الكتب له.
على امتداد الأربع سنوات الأولى كان العجوز يطلب الكتب لسجينه بواسطة البريد حيث توصل المحامي بحوالي ستمائة كتاب.
في أواخر العام السادس توصل العجوز برسالة من المحامي يقول فيها:
" عزيزي السجان ، أكتب إليك هاته الأسطر بست لغات ، اعرضها على علماء اللغة ليقرأوها ، إذا وجدوها خالية من الأخطاء أتوسل إليك أن تعلمني بذلك بإطلاق رصاصة في سماء الحديقة ، هذه الطلقة ستخبرني أن مجهوداتي لم تذهب سدى، عباقرة كل الأزمان و الأوطان يتحدثون لغات مختلفة و يسكنهم هاجس واحد ، آه لو علمت أن ذلك الهاجس
أنفذ الصراف بسخاء ما طلبه السجين ، فأطلقت رصاصتان.!العظيم يسكنني و أني أفهمهم
انطلاقا من العام العاشر كان المحامي يمضي جل وقته جالسا على الكرسي لا يتحرك أبدا ، يقرأ الكتاب المقدس بخشوع و تأمل. بدا الأمر غريبا للصراف العجوز فكيف لرجل قرأ ستمائة مجلد في أربع سنوات و في علوم صعبة و مختلفة يقضي ما يقارب السنة في قراءة !كتاب سهل و صغير
بعد فراغه من دراسة الإنجيل طلب المحامي كتبا جديدة حول تاريخ الأديان و اللاهوت.
في السنتين الأخيرتين من حبسه ، قرأ المحامي مجموعة كبيرة من الكتب في مواضيع شتى، مرة يدرس العلوم الطبيعية و مرة يطلب مؤلفات بيرون و شكسبير ، و في بعض الأحيان كان يطلب في نفس الوقت كتابا في الكيمياء و آخر في الطب و رواية أدبية و نصا فلسفيا أو لاهوتيا. قراءاته تعطي انطباعا بأنه كان يسبح في بحر بين جنبي سفينة كبيرة محاولا النجاة بحياته متشبثا بيأس بأحد أطرافها.
يتذكر الصراف العجوز قصته مع المحامي محدثا نفسه : " غدا في الثانية عشر زوالا سيصبح المحامي حرا ، و حسب الاتفاق يجب علي أن أعطيه مليونين من أموالي ، و إذا أخرجت هذا المبلغ فسأفقد كل شيئ و سيخرب بيتي نهائيا.."
قبل خمسة عشر عاما لم يكن الصراف يعلم مقدار الأموال التي بحوزته ، أما الآن فإنه يخشى أن يسأل عن ذلك. ما الذي يتراكم لديه أكثر المال أم الديون ؟
المخاطرة في البورصة و المضاربات غير المحسوبة و الحماس الزائد – الذي لم ينجح في التخلص منه حتى في شيخوخته – أسباب أدت إلى قربه من الإفلاس. ذاك الصراف الجريء الواثق من نفسه الفخور بماله ، تحول إلى رجل أعمال من الدرجة الثانية ترتعد فرائصه مع كل انخفاض في الأسهم.
صاح العجوز و هو ممسك برأسه ، لماذا لم يمت هذا الرجل ؟!ـ اللعنة على هذا الرهان
لديه فقط أربعون سنة ، سينتزع مني آخر ما لدي ، سيتزوج و يستمتع بحياته ، سيضارب في البورصة ، و أنا كمتسول حقير سأنظر إليه بحسد و سأسمعه كل يوم و هو يردد علي نفس العبارة: أنا مدين لك بسعادتي ، اسمح لي بمساعدتك أيها المسكين.
ـ لا ، لا هذا كثير ، الطريقة الوحيدة للتخلص من الإفلاس و ازدراء الناس هي في موت هذا الشخص اللعين.
تشير الساعة إلى الثالثة بعد منتصف الليل ، العجوز يتحسس المشهد بأذنيه ، الكل نائم داخل البيت ، هناك صوت واحد ، حفيف الأشجار المتجمدة خلف النوافذ.
أخرج الصراف مفتاح الكوخ – الذي لم يفتح لمدة خمسة عشر عاما ـ من الخزانة محاولا أن لا يحدث أي ضجيج ، لبس معطفه و خرج من البيت.
الحديقة كانت مظلمة و باردة ، المطر يهطل و ريح رطبة تتجول زاحفة بين الأشجار ، حاول العجوز أن يرى شيئا لكنه لم يفلح في رؤية حتى التراب الذي يمشي فوقه و لا التماثيل البيضاء و لا الكوخ و لا الأشجار.. اقترب من المكان الذي يوجد فيه الكوخ و نادى مرتين على الحارس ، لكنه لم يسمع جوابا ، التجأ الحارس – على ما يبدو ـ إلى المطبخ أو المدفئة فرارا من البرد ، و ظل نائما هناك.
إذا استطعت أن أنفذ خطتي بنجاح فالجميع سيتهم الحارس – أسر الصراف في نفسه ـ
صعد الأدراج و الظلام يعم المكان ، فتح باب الكوخ و دخل إلى البهو ثم توغل إلى الممر الصغير و أشعل فتيل الضوء. لم يكن أحد هناك ، بدا له السرير غير مرتب و موقد من حديد موضع في الزاوية...
عندما انطفأت شعلة الضوء ،ألقى العجوز – مذعورا ـ نظرة على السجين من النافذة ، كانت حجرته مضاءة بنور شمعة خافت و كان جالسا بجوار الطاولة لا يظهر سوى ظهره و شعره و يديه ، كانت الكتب منثورة فوق المائدة و السجاد..
مرت خمس دقائق دون أن يتحرك السجين من مكانه ، خمسة عشر سنة من السجن علمته كيف يبقى جامدا دون حركة. طرق العجوز النافذة بإصبعه فلم يلق جوابا ، أزال الأختام التي كانت على الباب و أدخل المفتاح محدثا ضجيجا قويا ، انتظر ردة فعل لكن دون نتيجة ، لازال الصمت مهيمنا على المكان ، عندها قرر العجوز أن يدخل الغرفة.
بجانب الطاولة كان المحامي لازال جامدا ، كائن غريب لا يشبه أحدا ، هيكل عظمي مغطى بالجلد ، شعر طويل و لحية مجعدة ، لون وجهه أصفر و خدوده غائرة ، كان ظهره طويلا و نحيفا و يده النحيلة التي تحمل رأسه ذو الشعر الكثيف تبعث على الخوف ، لون شعره أصبح رماديا بفعل انتشار الشيب ، حالة وجهه الرث توحي بأن الرجل قد وصل إلى الشيخوخة و لن يصدق أحد أنه لازال في عقده الرابع، كان نائما و فوق الطاولة ورقة مكتوبة بأحرف صغيرة.
ـ يا له من بائس – قال الصراف ـ ينام و ربما يحلم بالملايين، سأوقظه و أرميه فوق السرير و أخنقه بالوسادة ، و لن يشك أحد في موته ، و لكني سأقرأ هذه الأسطر أولا.
أخذ العجوز الورقة و قرأ ما يلي: غدا عند الثانية عشر زوالا سأسترجع حريتي و سأرى الناس ، و لكن قبل أن أغادر هذه الغرفة و أرى الشمس أجد من الضروري أن أوجه لك بعض الكلمات. أمام الرب الذي يراني و بضمير حي و هادئ أعلن أني أحتقر الحرية و الحياة و الصحة و كل ما اعتبرته كتبك ملذات الدنيا. خلال خمسة عشر عاما درست بتأن الحياة الدنيوية ، صحيح أنني لم أكن أرى بشرا و لا أرضا ، لكنني من خلال الكتب شربت النبيذ المعتق و غنيت الأغاني ، و في الغابات اصطدت الأيول و الخنازير البرية و أحببت النساء الجميلات و الخفيفات مثل السحاب ، اللائي أبدعتهن مخيلة الشعراء كن يزرنني ليلا و يهمسن في أذني قصصا عجائبية تتركني ثملا.
في كتبك تسلقت قمم جبال إلبروز و الجبل الأبيض و من هناك رأيت الشمس تشرق في الصباح كما رأيتها في الغروب و هي تصب ذهبها الأرجواني فوق السماء و المحيط و الجبل ، رأيت أيضا الغابات الخضراء و المروج و الوديان و البحيرات و المدائن، سمعت غناء الحوريات و صوت ناي الراعي ، لمست أجنحة الشياطين التي تنزل من السماء لتحدثني عن الرب، من خلال كتبك ارتميت في أعماق سحيقة نحو المعجزات ، أحرقت مدنا و اعتنقت أديانا جديدة و سيطرت على إمبراطوريات كاملة..
منحتني كتبك الحكمة و بفضلها استطعت أن أحفظ الفكر الإنساني المتراكم عبر قرون طويلة داخل جمجمتي ، أعلم أني أذكى منكم جميعا.
أحتقر كتبك و جميع ملذات العالم و الحكمة أيضا أحتقرها ، كل هذه الأشياء بائسة و زائلة ، شبحية و مضللة كالجنية الخرقاء. لا يهم إن كانت تجلب الفخر و الجمال ، إن كان الموت سيمحوها جميعا من على وجه الأرض مع الفئران.إن أحفادك و التاريخ و خلود عباقرتك سيتجمدون أو سيحرقون مع الكرة الأرضية ، لقد أصابكم الجنون لذا فإنكم تسلكون الطريق الخطأ ، تفضلون الكذب على الحقيقة و القبح على الجمال. ستشعرون بمفاجأة عظيمة إذا اقتضت الظروف أن تثمر أشجار التفاح و الأرانج عوض الفواكه ضفاضع و سحليات أو إذا فاحت الورود برائحة حصان عفن ، و سأفاجأ بكم إذا فضلتم الأرض على السماء ، إني لا أستطيع فهمكم.
لكي أظهر لكم احتقاري لحياتكم فإني أرفض أموالكم التي حلمت بها في وقت سابق كأنها الجنة ، إني لا أقبلها الآن. و لكي أخلصكم من هذا الوعد سأخرج من هنا قبل خمس ساعات من الوقت المحدد ، و بذلك أكون قد خالفت بنود الاتفاق.
وضع الصراف الورقة فوق الطاولة بعد قراءتها و قبل رأس الرجل الغريب ثم خرج من الكوخ باكيا. رغم حياته الطويلة و خسارته في البورصة مرات متعددة لم يحس العجوز بازدراء لنفسه مثل هذه اللحظة. عندما عاد إلى بيته حاول أن ينام لكن أحاسيسه المتضاربة و دموعه الغزيرة منعتاه من النوم لفترة طويلة.
عند صبيحة اليوم الموالي أتى إليه حراسه مهلوعين ليخبروه أنهم رأوا سجين الكوخ ينزل من النافذة إلى الحديقة متجها نحو البوابة ثم اختفى . توجه الصراف إلى الكوخ بمعية خدمه و تأكد من غياب السجين ، و لكي لا تثار إشاعات لا لزوم لها ، أخذ الورقة و رجع بها إلى البيت و وضعها في الخزانة.