ويقال له الثابت والمحفوظ.
وفيه مسائل:
الأولى في حد اللغة وتصريفها
قال أبو الفتح ابن جني في الخصائص: حدُّ اللغةِ أصواتٌ يعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم، ثم قال: وأما تَصْريفها فهي فُعْلة من لَغَوْت أي تكلَّمت وأصلها لغوة ككُرَة وقُلَة وثُبَة، كلّها لاماتها واوات. وقالوا فيها لُغاتٌ ولُغُون كثُبَات وثُبُون. وقيل منها لَغِيَ [1] يَلْغَى إذا هَذَى، قال:
وربّ أسراب حَجِيجٍ كُظَّمِ ** عن اللغا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ
وكذلك اللغو، قال تعالى: { وَإذَا مَرُّوا بِاللغو مَرُّوا كِرَامًا } أي بالباطل، وفي الحديث: من قال في الجمعة صَهْ فقد لَغَا. أي تكلَّم. انتهى كلامُ ابن جني.
وقال إمامُ الحرمين في البرهان: اللغةُ من لَغِي [2] يَلْغَى من باب رَضِي إذا لهِج بالكلام، وقيل من لَغَى يَلْغَى.
وقال الأسنوي في شرح منهاج الأصول: اللغاتُ عبارةٌ عن الألفاظ الموضوعةِ للمعانِي.
الثانية في بيان واضع اللغة أتوقيف هي ووحي أم اصطلاح وتواطؤ
قال أبو الحسين أحمد بن فارس في فقه اللغة: اعلم أن لغة العرب توقيف. ودليل ذلك قوله تعالى { وعلم أدم الأسماء كلها }، فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي هذه التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وروى خصيف عن مجاهد قال: علمه اسم كل شيء. وقال غيرهما: إنما علمه أسماء الملائكة. وقال آخرون: علمه أسماء ذريته أجمعين.
قال ابن فارس: والذي نذهب إليه في ذلك ما ذكرناه عن ابن عباس. فإن قال قائل: لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال: "ثم عرضهن أو عرضها". فلما قال "عرضهم" علم أن ذلك لأعيان بني آدم أو الملائكة، لأن موضوع الكناية في كلام العرب يقال لما يعقل "عرضهم" ولما لا يعقل "عرضها أو عرضهن"؛ قيل له: إنما قال ذلك - والله أعلم - لأنه جمع ما يَعْقِل وما لا يعقل، فغلَّب ما يعقل وهي سُنَّةٌ من سُنن العرب، وذلك كقوله تعالى: { والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبع } فقال: منهم تغليبًا لمن يَمْشي على رِجْلين وهم بنو آدم.
فإن قال: أفتقولون في قولنا سيف وحُسام وعضب إلى غير ذلك من أوصافه إنه توقيف حتى لا يكون شيء منه مُصْطَلَحًا عليه؟ قيل له: كذلك نقولُ، والدليلُ على صحته إجماعُ العلماءِ على الاحتجاج بلغةِ القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهُم بأشعارهم. ولو كانت اللغة مُوَاضَعةً واصطلاحًا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأوْلَى منَّا فِي الاحتجاج [ بنا ] لو اصطلحنا على لغةِ اليوم؛ ولا فَرْق.
ولعل ظانًا يظنُّ أن اللغةَ التي دللنا على أنها توقيفٌ إنما جاءت جملةً واحدة وفي زمان واحد، وليس الأمر كذلك. بل وقّف الله عز وجل آدم عليه السلام على ما شاء أن يُعَلِّمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله. ثم عَلّم بعد آدم من الأنبياءِ - صلوات الله عليهم - نبيًّا نبيًّا ما شاء الله أن يُعَلِّمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد ﷺ، فآتاه الله من ذلك ما لم يُؤتِه أحدًا قبلَه تمامًا على ما أحسنه من اللغة المتقدمة. ثم قرّ الأمر قَراره فلا نعلمُ لغةً من بعده حدثَتْ. فإن تعمَّل اليوم لذلك متعمِّل وجدَ من نُقَّاد العلم من يَنْفيه ويَرُدّه. ولقد بلَغنا عن أبي الأسود الدؤلي أن امرءا كلَّمه ببعضِ ما أنكَره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه فقال: هذه لغةٌ لم تَبْلُغْك فقال له: يا بن أخي إنه لا خيرَ لك فيما لم يَبْلُغْني. فعرَّفَه بلُطْف أن الذي تكلَّم به مُخْتَلَق.
وخَلَّة أخرى: إنه لم يبلغنا أن قومًا من العرب في زمانٍ يقاربُ زماننا أجمعوا على تسميةِ شيء من الأشياءِ مُصْطَلِحِين عليه، فكنا نستدلّ بذلك على اصطلاحٍ قد كان قبلَهم.
وقد كان في الصحابة رضي الله عنهم - وهم البُلَغاءُ والفصحاءُ - من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاءَ به، وما عَلِمناهم اصطلَحوا على اختراعِ لغة أو إحْدَاث لفظةٍ لم تتقدمهم. ومعلوم أن حوادثَ العالَم لا تنقضي إلا بانْقِضَائِه ولا تزولُ إلا بِزَواله، وفي كل ذلك دليلٌ على صحَّة ما ذهَبْنا إليه من هذا الباب. هذا كله كلام ابن فارس، وكان من أهل السنة.
وقال ابن جني في الخصائص - وكان هو وشيخه أبو عليّ الفارسي مُعْتَزِلِيَّيْن -: باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح. هذا موضع مُحْوِج إلى فَضْل تأمُّل، غير أن أكثَر أهلِ النظر على أن أصلَ اللغةِ إنما هو تواضعٌ واصطلاح، لا وَحْيٌ ولا توقيفٌ، إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يومًا: هي من عند الله واحتج بقوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماءَ كُلَّها }، وهذا لا يتناول موضعَ الخلاف وذلك أنه قد يجوز أن يكونَ تأويلُه: أَقدَرَ آدَمَ على أَنْ واضَعَ عليها. وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا مَحالة؛ فإذا كان ذلك مُحْتَمَلًا غير مُسْتَنْكَر سقط الاسْتِدلال به. وقد كان أبو علي رحمه الله أيضا قال به في بعض كلامه وهذا أيضا رأي أبي الحسن على أنه لم يمنعْ قولَ مَنْ قال إنها تواضعٌ منه وعلى أنه قد فُسِّر هذا بأن قيل إنه تعالى علَّم آدمَ أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات: العربية والفارسية والسريانية والعِبرانية والرُّومية وغير ذلك من سائر اللغات، فكان آدمُ وولدُه يتكلمون بها ثم إن ولدَه تفرَّقوا في الدنيا وعَلِق كلُّ واحد منهم بلغة من تلك اللغات فغَلَبَتْ عليه واضمحلَّ عنه ما سواها لِبُعْدِ عَهْدهم بها. وإذا كان الخبرُ الصحيحُ قد ورد بهذا وجب تَلقِّيه باعتقاده والانطواء على القول به.
فإن قيل: فاللغةُ فيها أسماءٌ وأفعالٌ وحروف وليس يجوز أن يكون المُعلَّمُ من ذلك الأسماءَ [ وحدَها ] دونَ غيرها مما ليس بأسماء، فكيف خَصَّ الأسماءَ وحدَها؛ قيل: اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماءُ أقوى القُبُل الثلاثة، ولا بد لكل كلامٍ مفيدٍ [ منفرد ] من الاسم، وقد تستغني الجملةُ المستقلةُ عن كل واحد من الفعل والحرف؛ فلما كانت الأسماء من القوّة والأوليَّة في النفس على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها عما هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه عليها.
قال: ثم لِنعد [ فَلْنقل ] في الاعتلال لمن قال بأنَّ اللغة لا تكون وحْيًا؛ وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصلَ اللغة لا بدَّ فيه من المُوَاضعة قالوا: وذلك بأن يَجْتَمِعَ حكيمان أو ثلاثةٌ فصاعدًا فيحتاجوا إلى الإبانةِ عن الأشياءِ المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سِمَةً ولفظًا إذا ذُكِرَ عُرِفَ به ما مُسَمَّاه ليمتاز عن غيره وليُغْني بذِكْره عن إحْضَاره إلى مرآة العين فيكون ذلك أقربَ وأخَفَّ وأسهلَ من تَكلُّف إحضاره لبلوغ الغرضِ في إبانة حاله، بل قد يُحْتاج في كثير من الأحوال إلى ذِكْر ما لا يمكن إحضارُه ولا إدْنَاؤُه كالفاني وحال اجتماع الضدَّين على المحلِّ الواحد وكيف يكون ذلك لو جاز وغيرُ هذا مما هو جارٍ في الاستحالة والتَّعَذُّر مَجْراه فكأنهم جاؤوا إلى واحد من بني آدم فأومؤوا إليه وقالوا: إنسان إنسان إنسان، فأيّ وقتٍ سُمِع هذا اللفظ عُلِم أن المراد به هذا الضرْب من المخلوق، وإن أرادوا سِمَةَ عَيْنه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد، عين، رأس، قدَم أو نحو ذلك؛ فمتى سُمعت اللفظة من هذا عرف معْنِيُّهَا وهلمَّ جرًّا فيما سوى ذلك من الأسماء والأفعال والحروف.
ثم لك [ من بعد ذلك ] أن تنقلَ هذه المُواضعة إلى غيرها فتقول: الذي اسمهُ إنسان فليجعل مكانه مَرْد والذي اسمهُ رأس فليجعل مكانه سرّ، وعلى هذا بقيةُ الكلام.
وكذلك لو بُدِئت اللغةُ الفارسيَّة فوقعت المُوَاضعة عليها لجاز أن تُنْقَلَ ويُوَلَّد منها لغاتٌ كثيرة من الرومية والزِّنجية وغيرهما؛ وعلى هذا ما نشاهدُه الآن من اختراع الصُّنَّاع لآلاتِ صنائعهم من الأسماء كالنَّجار والصائغ والحائك والبنَّاء وكذلك الملّاح، قالوا: ولكن لا بد لأوَلها من أن يكون متواضعًا عليه بالمشاهدة والإيماء.
قالوا: والقديمُ [ سبحانه ] لا يجوزُ أن يُوصَف بأن يُوَاضِعَ أحدًا على شيء؛ إذ قد ثبتَ أن المُوَاضَعة لا بدَّ معها من إيماءٍ وإشارةٍ بالجارحةِ نحوُ المُومَأُ إليه والمشار نحوه. قالوا والقديمُ سبحانه لا جارحةَ له فيصحُّ الإيماء والإشارة منه بها، فبطل عندهم أن تَصِحَّ المُوَاضعة على اللغة منه تقدست أسماؤه. [3]
قالوا: ولكن يجوزُ أن يَنْقُلَ اللهُ تعالى اللغة التي قد وقَع التواضعُ بين عبادهِ عليها بأن يقولَ: الذي كنتم تعبِّرون عنه بكذا عَبِّروا عنه بكذا، والذي كنتم تسمُّونه كذا ينبغي أن تسمُّوه كذا. وجوازُ هذا منه سبحانه كجوازِه من عبادِه؛ ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناسُ الآن من مخالفة الأشْكال في حروف المُعْجَم كالصورة التي توضع للمُعَمَّيات والتراجم؛ وعلى ذلك أيضا اختلفت أقلامُ ذوي اللغات كما اختلفت ألسنُ الأصوات المرتَّبة على مذاهبهم في المواضعات فهذا قولٌ من الظهور على ما تراه.
إلا أنني سألتُ يومًا بعضَ أهله فقلت: ما تنكر أن تصحّ المواضعة من الله سبحانه وإن لم يكن ذا جارحة بأن يُحدث في جسم من الأجسام - خشبةٍ أو غيرها - إقبالًا على شخص من الأشخاص وتحريكًا لها نحوَه ويُسْمع - في حال تحرك الخشبة نحوَ ذلك الشخص - صَوْتًا يضَعُه اسمًا له ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعاتٍ، مع أنه - عزَّ اسمُه - قادرٌ على أن يُقْنِعَ في تعريفه ذلك بالمرَّة الواحدة فتقومُ الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقامَ جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة، وكما أن الإنسان أيضا قد يجوزُ إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبةٍ نحو المرادِ المتواضَعِ عليه فيقيمها في ذلك مقامَ يده لو أراد الإيماء بها نحوَه.
فلم يُجب عن هذا بأكثرَ من الاعترافِ بوجوبه ولم يخرج من جهته شيء أصلًا فأحكيه عنه، وهو عندي [ و ] على ما تراه الآن لازمٌ لمن قال بامتناع كون مواضعة القديم تعالى لغةً مُرْتجلة غير ناقلة لسانًا إلى لسان، فاعرف ذلك.
وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدَويِّ الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشَحِيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونَزيب الظبْي ونحو ذلك ثم وُلِّدت اللغاتُ عن ذلك فيما بعد.
وهذا عندي وجهٌ صالح ومذهب مُتَقَبَّل.
واعلم فيما بعد أنني على تَقَادم الوقت دائمُ التَّنْقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدَّواعي والخوالج قويَة التَّجاذب لي مختلفةَ جهاتِ التَّغَول على فكري؛ وذلك أنني [ إذا ] تأملتُ حالَ هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدِّقَّة والإرهاف والرِّقَّة ما يملك عليَّ جانب الفكر حتى يكاد يطمحُ به أمامَ غَلْوَةِ السِّحْرِ فمن ذلك ما نَبَّه عليه أصحابنا ومنه ما حَذَوْتُه على أمثلتهم فعرفت بتَتَابُعه وانْقِياده وبُعْدِ مَرَاميه وآماده صحةَ ما وُفِّقُوا لتقديمه منه ولُطْفِ ما أُسْعِدوا به وفُرِق لهم عنه وانْضَاف إلى ذلك واردُ الأخبار المأثورة بأنها من عند الله تعالى، فَقَويَ في نفسي اعتقادُ كونها توقيفًا من الله سبحانه وأنها وحيٌ.
ثم أَقول في ضد هذا: [ إنه ] كما وقع لأصحابنا ولنا وتَنَبَّهوا وتنبهنا على تأمُّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكونَ الله تعالى قد خَلق مِنْ قبلنا وإن بَعُدَ مَدَاهُ عَنّا مَنْ كان ألطفَ منا أذهانًا وأسْرَعَ خَوَاطِرَ وأجرأ جنانًا، فأقف بين [ تين ] الخلَّتين حسيرًا وأُكاثرهما فأَنْكَفئ مكثورًا. وإن خطر خاطرٌ فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به.
هذا كله كلامُ ابن جني.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول وتبعهُ تاج الدين الأرموي في الحاصل وسراج الدين الأرموي في التحصيل ما ملخَّصه: النظر الثاني في الواضع: الألفاظُ إما أن تدل على المعاني بذواتها أو بوَضْع الله إياها أو بوَضْع الناس أو بكَون البعْض بوَضْع الله والباقي بوضع الناس والأول مذهب عباد بن سليمان والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فُورَك والثالث مذهب أبي هاشم وأما الرابع فإما أن يكونَ الابتداءُ من الناس والتَّتِمَّة من الله وهو مذهب قوم أو الابتداءُ من الله والتتمة من الناس وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني.
والمحققون متوقفون في الكل إلا في مذهب عباد ودليل فسادِه أن اللفظَ لو دلَّ بالذات لفَهِم كلُّ واحد منهم كلَّ اللغات لعدم اختلاف الدلالات الذاتية واللازمُ باطلٌ فالملزوم كذلك.
واحتجَّ عبّاد بأنه لولا الدلالةُ الذاتيَّةُ لكان وضعُ لفظٍ من بين الألفاظ بإزاء معنًى من بين المعاني ترجيحًا بلا مُرَجِّح وهو محال.
وجوابُهُ أن الواضعَ إن كان هو الله فتخصيصُه الألفاظَ بالمعاني كتخصيص العالَم بالإيجاد في وقتٍ من بين سائر الأوقات وإن كان هو الناس فلعلَّه لتعيّن الخَطَران بالبال ودليلُ إمكانِ التوقّف احتمالُ خَلْقِ الله تعالى الألفاظَ وَوَضْعِها بإزاء المعاني وخَلْقِ علومٍ ضروريةٍ في ناس بأن تلك الألفاظَ موضوعةٌ لتلك المعانِي ودليل إمكان الاصطلاح إمكان أن يتولّى واحدٌ أو جمعٌ وضَع الألفاظِ لمعانٍ ثم يُفْهِموها لغيرهم بالإشارة كحال الوالداتِ مع أطفالهن وهذان الدليلان هما.
واحتجّ القائلون بالتوقيف بوجوه:
أولها قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } فالأسماء كلها معلّمة من عند الله بالنَّص وكذا الأفعالُ والحروف لعَدم القائل بالفَصْل ولأن الأفعال والحروف أيضا أسماء لأن الاسم ما كان علامةً والتمييزُ من تَصَرُّفِ النحاة لا منَ اللغة ولأنَّ التكلمَ بالأسماء وحْدَها متعذّر
وثانيها أنه سبحانَه وتعالى ذَمَّ قومًا في إطلاِقهم أسماء غيرَ توقيفيّة في قوله تعالى: { إنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا } وذلك يقتضي كونَ البواقي توقيفية.
وثالثها قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } والأَلْسنةُ اللُّحْمَانية غيرُ مُرادة لعدم اختلافها ولأن بدائعَ الصُّنْع في غيرها أكثرُ فالمراد هي اللغات.
ورابعها - وهو عقلي - لو كانت اللغاتُ اصطلاحية لاحْتِيج في التخاطب بوَضْعِها إلى اصطلاحٍ آخر من لغةٍ أو كتابةٍ ويعودُ إليه الكلامُ ويلزم إما الدَّور أو التسلسلُ في الأوضاع وهو محال فلا بد من الانتهاءِ إلى التوقيف.
واحتجَّ القائلون بالاصطلاح بوَجْهين:
أحدهما لو كانت اللغاتُ توقيفيةً لتقدَّمت واسطةُ البعثةِ على التوقيف والتقدّمُ باطلٌ وبيانُ الملازمة أنها إذا كانت توقيفيةً فلا بدَّ من واسطة بين الله والبشر وهو النبيُّ لاسْتِحالة خطابِ الله تعالى مع كلِّ أحد وبيانُ بُطْلان التَّقَدُّم قوله تعالى: { ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } وهذا يَقْتَضِي تقدُّمَ اللغة على البعثة.
والثاني لو كانت اللغاتُ توقيفيةً فذلك إما بأن يَخْلُق الله تعالى عِلمًا ضروريًّا في العاقل أنَّه وَضَع الألفاظ لكذا أو في غير العاقل أو بألا يخلقَ علمًا ضروريًا أصلًا والأولُ باطلٌ وإلا لكان العاقلُ عالمًا بالله بالضرورة لأنه إذا كان عالمًا بالضرورة بكَوْن اللهِ وضَع كذا لِكَذا كان علمُه بالله ضروريًّا ولو كان كذلك لبطَلَ التكليفُ والثاني باطلٌ لأن غيرَ العاقل لا يمكنُه إنهاءُ تمام هذه الألفاظ والثالثُ باطل لأن العلمَ بها إذا لم يكن ضروريًا احتيج إلى توقيفٍ آخر ولَزِم التسلسل.
والجواب عن الأولى من حُجَجِ أصحابِ التوقيف: لِمَ لا يَجُوزُ أن يكون المرادُ من تعليم الأسماء الإلهامَ إلى وضْعها ولا يقالُ: التعليمُ إيجادُ العلم فإنا لا نُسَلِّم ذلك بل التعليم فعلٌ يترتب عليه العلم ولأجله يُقال علَّمْتُه فلم يتعلَّم. سلمنا أن التعليمَ إيجاد العلم لكن قد تقرّر في الكلام أن أفعالَ العباد مخلوقةٌ لله تعالى فعلى هذا: العلمُ الحاصل بها مُوجَد للّه. سلَّمناه لكنَّ الأسماءَ هي سِماتُ الأشياء وعلاماتُها مثل أن يعلَّمَ آدَمُ صلاحَ الخيل لِلْعَدْو والجمال للحَمْل والثيران للحَرْث فَلِمَ قلتُم: إن المراد ليس ذلك وتخصيصُ الأَسماءِ بالألفاظ عرفٌ جديد سلمنا أن المرادَ هو الألفاظُ ولكن لِم لا يجوزُ أن تكون هذه الألفاظُ وضَعَها قومٌ آخرون قبل آدمَ وعلَّمها الله آدم
وعن الثانية أنه تعالى ذمَّهم لأنهم سمُّوا الأصنامَ آلهة واعتقدوها كذلك.
وعن الثالثة أن اللسانَ هو الجارحة المخصوصة وهي غيرُ مرادة بالاتفاق والمجازُ الذي ذكرتموه يعارِضُه مَجازاتٌ أخر نحو مخارج الحروف أو القدرة عليها فلم يثبت التَّرجيح.
وعن الرابعة أن الاصطلاح لا يَسْتَدعي تقدُّمَ اصطلاحٍ آخر بدليل تعليم الوالدين الطفلَ دون سابقةِ اصطلاحٍ ثمة.
والجوابُ عن الأولى من حُجَّتَي أصحابِ الاصطلاحِ: لا نُسَلِّمُ توقُّفَ التوقيف على البعثة لجوازِ أن يخلق الله فيهم العلمَ الضروري بأن الألفاظَ وُضِعَت لكذا وكذا.
وعن الثانية: لِمَ لا يجوز أن يخلق الله العلم الضروريَّ في العقلاء أن واضعًا وَضعَ تلك الألفاظ لتلكَ المعاني وعلى هذا لا يكونُ العلم بالله ضروريًا سلَّمناه لكن لِمَ لا يجوز أن يكون الإله معلومَ الوجود بالضرورة لبعض العقلاء قوله: لَبَطَلَ التكليف قُلْنا: بالمعرفة أمَّا بسائر التكاليف فلا. انتهى.
وقال أبو الفتح بن برهان: في كتاب الوصول إلى الأصول: اختلف العلماءُ في اللغة: هل تَثبُتُ توقيفًا أو اصطلاحًا فذهبت المعتزلةُ إلى أن اللغات بأسْرها تثبت اصطلاحًا وذهبت طائفةٌ إلى أنها تثبتُ توقيفًا.
وزعم الأستاذُ أبو إسحاق الإسفرائيني أن القَدْرَ الذي يدْعو به الإنسان غيرَه إلى التَّواضع يَثْبتُ توقيفًا وما عدا ذلك يجوز أن يثبت بكل واحدٍ من الطريقين.
وقال القاضي أبو بكر: يجوز أن يثبت توقيفًا ويجوز أن يثبت اصطلاحًا ويجوز أن يثبت بعضه توقيفًا وبعضه اصطلاحًا والكلّ ممكن.
وعمدة القاضي أن الممْكن هو الذي لو قُدِّر موجودًا لم يعرض لوجوده محال ويعلم أن هذه الوجوه لو قُدِّرَت لم يعرض من وجودها محال فوجب قَطْعُ القول بإمكانها.
وعمدةُ المعتزلة أن اللغات لا تدلُّ على مدلولاتها كالدلالة العقلية ولهذا المعنى يجوزُ اختلافُها ولو ثبتت توقيفًا من جهة الله تعالى لكان ينبغي أن يخلقَ الله العلم بالصِّيغَة ثم يخلق العلْمَ بالمدلول ثم يخلق لنا العلم بجَعْل الصيغة دليلًا على ذلك المدلول ولو خلقَ لنا العلمَ بصفاته لجاز أن يخْلُق لنا العلم بذاته ولو خلق لنا العلم بذاته بطل التكليف وبطلت المحنة.
قلْنا: هذا بناءٌ على أصل فاسد فإنا نقول: يجوز أن يخلق اللهُ لنا العلم بذاته ضرورة وهذه وعمدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني: أن القَدْر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع لو ثبتَ اصطلاحًا لافْتَقَرَ إلى اصطلاحٍ آخر يتقدَّمه وهكذا فيتسلسل إلى ما لا نهاية له.
قلنا: هذا باطل فإن الإنسان يمكنه أن يُفْهمَ غيرَه معانيَ الأسامي كالطفل ينشأُ غيرَ عالمٍ بمعاني الألفاظ ثم يتعلَّمها من الأبوين من غير تَقَدُّمِ اصطلاح.
وعمدةُ مَنْ قال: إنها تَثْبتُ توقيفًا قولُه تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } وهذا لا حجَّةَ فيه من جهة القَطْع فإنه عُمُوم والعمُوم ظاهرٌ في الاستغراق وليس بنصّ قال القاضي: أما الجوازُ فثابتٌ من جهة القطع بالدليل الذي قدَّمْتُه وأما كيفيةُ الوقوع فأنا متوقف فإن دلَّ دليل من السَّمْع على ذلك ثبت به.
وقال إمام الحرمين في البرهان: اختلفَ أربابُ الأصول في مأخَذ اللغات فذهب ذاهبون إلى أنها توقيفٌ من الله تعالى وصار صائرون إلى أنها تثبتُ اصطلاحًا وَتَوَاطُؤًا وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن القَدْر الذي يُفْهم منه قصدُ التواطؤ لا بدَّ أن يُفْرضَ فيه التوقيف.
والمختارُ عندنا أن العقلَ يجوِّزُ ذلك كلَّه فأما تجويزُ التوقيف فلا حاجةَ إلى تكلُّف دليلٍ فيه ومعناه أن يُثْبِتَ الله تعالى في الصدور علومًا بَدِيهيَّةً بِصَيغٍ مخصوصة بمعاني فتتبَيَّنُ العقلاءُ الصِّيَغَ ومعانيها ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وَضْع الصيغ على حكم الإرادة والاختيار وأما الدليلُ على تجويز وقوعها اصطلاحًا فهو أنه لا يبعدُ أن يحرك الله تعالى نفوسَ العقلاء لذلك ويُعْلِم بعضَهم مرادَ بعض ثم ينشئون على اختيارهم صِيغًا وتقترنُ بما يريدون أحوالٌ لهم وإشارات إلى مسمّيات وهذا غيرُ مُسْتَنْكَر وبهذا المسلك ينطلقُ الطفل على طَوَالِ ترديد المُسْمَع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه فإذا ثبت الجوازُ في الوجهين لم يبق لِما تخيَّله الأستاذ وجهٌ والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تَثْبُت في النفوس فإذا لم يمنع ثبوتها لم يبقَ لِمَنْع التوقيف والاصطلاح بعدَها معنى ولا أحد يمنعُ جوازَ ثبوت العلومِ الضرورية على النحو المبَيَّن.
فإن قيل: قد أثْبَتُّمُ الجواز في الوجهين عمومًا فما الذي اتفق عندكم وقوعه قلنا: ليس هذا مما يُتَطَرَّقُ إليه بمسالك العقول فإن وقوعَ الجائز لا يُسْتَدْرك إلا بالسَّمْعِ الْمَحْضِ ولم يَثْبت عندنا سمعٌ قاطع فيما كان من ذلك وليس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } دليل على أحد الجائزين فإنه لا يمتنعُ أن تكونَ اللغاتُ لم يكن يعلمها فعلَّمه الله تعالى إياها ولا يمتنع أن الله تعالى أثبتَها ابتداء وعلَّمه إياها.
وقال الغزالي في المنخول: قال قائلون: اللغاتُ كلُّها اصطلاحية إذ التَّوقيفُ يَثبت بقولِ الرسول عليه السلام ولا يُفْهم قولُه دون ثبوت اللغة وقال آخرون: هي توقيفية إذ الاصطلاحُ يعْرضُ بعد دعاءِ البعضِ البعضَ بالاصطلاح ولا بدَّ من عبارة يُفْهَم منها قصدُ الاصطلاح.
وقال آخرون ما يُفْهَمُ منه: قصدُ التَّوَاضُع توقيفيّ دون ما عَدَاه ونحنُ نجوّز كونَها اصطلاحية بأن يحرِّكَ اللهُ رأسَ واحدٍ فيفهم آخرُ أنه قصدَ الاصطلاح ويجوز كونُها توقيفية بأن يثبت الربّ تعالى مراسمَ وخطوطًا يفهمُ الناظر فيها العباراتِ ثم يتعلُم البعضُ عن البعضِ وكيف لا يجوزُ في العقل كلُّ واحدٍ منهما ونحن نرى الصبيَّ يتكلمُ بكلمة أبويه ويفهم ذلك من قرائن أحوالهما في حالة صِغَره فإذَنْ الكل جائزٌ.
وأما وقوعُ أحدِ الجائزين فلا يستدرك بالعقل ولا دليل في السمع وقوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ظاهرٌ في كونه توقيفيًا وليس بقاطع ويُحْتَمل كونُها مصطلحًا عليها من خَلْق الله تعالى قبل آدم. انتهى.
وقال ابن الحاجب في مختصره: الظاهرُ من هذه الأقوال قول أبي الحسن الأشعري.
قال القاضي تاج الدين السبكي في شرح منهاج البيضاوي: مَعْنى قولِ ابن الحاجب القولُ بالوقْفِ عن القَطْع بواحدٍ من هذه الاحتمالات وترجيحُ مذهب الأشعري بغلَبَة الظن قال: وقد كان بعضُ الضُّعفاءِ يقول: إن هذا الذي قاله ابن الحاجب مذهبٌ لم يقلْ به أحدٌ لأن العلماءَ في المسألة بين متوقِّفٍ وقاطع بمقالتِه فالقولُ بالظهور لا قائل به قال: وهذا ضعيف فإن المتوقِّف لعدم قاطع قد يرجّح بالظنّ ثم إن كانت المسألةُ ظنِّية اكتُفي في العمل بها بذلك التَّرجيح وإلا توقف عن العمل بها ثم قال: والإنصافُ أن الأدلةَ ظاهرةٌ فيما قاله الأشعري فالمتوقّف إن توقَّفَ لعدم القَطْعِ فهو مصيب وإن ادَّعى عدمَ الظهور فغيرُ مصيب هذا هو الحقُّ الذي فاه به جماعةٌ من المتأخرين منهم الشيخ تقي الدين بن دَقِيق العِيد في شرح العنوان.
وقال فِي رفع الحاجب: اعلم أن للمسألة مقامَين: أحدُهما الجوازُ فمن قائل: لا يجوزُ أن تكون اللغةُ إلا توقيفًا ومن قائل: لا يجوزُ أن تكون إلا اصطلاحًا والثاني أنه ما الذي وقع على تقدير جوازِ كلٍّ من الأمرين والقول بِتجْويز كل من الأمرين هو رأيُ المحققين ولم أرَ مَن صَرّح عن الأشعري بخلافه والذي أراه أنه إنما تكلم في الوقوع وأنه يجوّز صدور اللغة اصطلاحًا ولو مَنع الجواز لنَقَله عنه القاضي وغيره من محقِّقي كلامِه ولم أرَهم نقلوه عنه بل لم يَذكره القاضي وإمام الحرَمَين وابن القُشَيري والأشعري في مسألة مبدأ اللغات البتَّة وذكر إمامُ الحرَمين الاختلافَ في الجواز ثم قال: إن الوقوعَ لم يَثْبُتْ، وتَبِعه القُشَيري وغيرُه.
تنبيهات
أحدها - إذا قلنا بقول الأشعري إن اللغات توقيفيَّة - ففي الطريق إلى علمها مذاهب حكاها ابن الحاجب وغيره: أحدُها بالوَحْي إلى بعض الأنبياء والثاني بخَلق الأصوات في بعض قال ابن السبكي في رفع الحاجب: والظاهرُ من هذه هو الأول لأنه المعتادُ في عِلْم الله تعالى.
الثاني - قول الإمام الرازي فيما تقدّم: لِمَ لا يجُوزُ أنْ تكونَ هذه الألفاظُ وضَعَها قومٌ آخرون قبلَ آدم قال في رَفْع الحاجب: لسنا ندَّعي أن قبل آدم الجِنّ والبن [4] فذلك لم يَثْبُت عندنا بل قال القاضي في التقريب: جاز تواضُع الملائكةِ المخلوقة قبله، قال ابن القشيري: وقد كانوا قبلَه يتخاطبون ويفهمون.
الثالث - قولُ أهل الاصطلاح: لو كانت اللغات توقيفيةً لتقدَّمت واسطةُ البعْثَة على التوقيف أحسنُ من جواب الإمام عن جواب ابن الحاجب حيث قال: إذا كان آدمُ عليه السلام هو الذي عُلِّمَها اندفع الدور قال في رفع الحاجب: لأنَّ لآدم حالتين: حالة النبوّة وهي الأولى وفيها الوحْيُ الذي من جملته تعليمُ اللغات وعلمها الخلق إذ ذاك ثم بُعِث بعد أن عَلَّمَها قومَه فلم يكن مبعوثًا لهم إلا بعد علمهم اللغات فبُعِث بلسانهم قال: وحاصلُه أن نبوَّته متقدمةٌ على رسالته والتعليمُ متوسّط فهذا وجهُ اندفاع الدَّوْر.
الرابع - قال في رفع الحاجب: الصحيحُ عندي أنه لا فائدة لهذه المسألة وهو ما صحَّحه ابن الأنباري وغيرُه ولذلك قيل: ذِكْرُها في الأصول فضولٌ وقيل: فائدتها النظرُ في جواز قَلْب اللغة فحُكِي عن بعض القائلين بالتَّوْقيف منعُ القَلْب مطلقًا فلا يجوزُ تسمية الثَّوْب فرسًا والفرس ثوبًا وعن القائلين بالاصطلاح تجويزُه وأما المتوقِّفون - قال المازَرِي - فاختلَفوا فذهب بعضُهم إلى التجويز كمذهبِ قائلِ الاصطلاح وأشار أبو القاسم عبد الجليل الصَّابوني إلى المَنْع وجوَّزَ كونَ التوقيف واردًا على أنه وجبَ ألا يقعَ النطقُ إلا بهذه الألفاظ.
قال ابن السبكي والحقُّ عندي - وإليه يشيرُ كلامُ المازَري - أنه لا تَعَلُّقَ لهذا بالأصل السابق فإن التوقيفَ لو تمَّ ليس فيه حجرٌ علينا حتى لا يُنْطَقُ بسِواه فإن فُرِض حجرٌ فهو أمرٌ خارجي والفرعُ حكمُه حكم الأشياءِ قبل وُرودِ الشرائع فإنا لا نعلمُ في الشَّرْع ما يدلُّ عليه وما ذكره الصابوني من الاحتمال مدفوعٌ.
قال المازَرِي: وقد عُلِم أن الفقهاءَ المحقّقين لا يحرِّمون الشيء بمجرد احتمالِ ورود الشرع بتحريمه وإنما يحرِّمونه عند انْتهاضِ دليلِ تحريمه قال: وإن اسْتُنِد في التحريم إلى الاحتياط فهو نظرٌ في المسألة من جهة أخرى وهذا كلّه فيما لا يؤَدِّي قلبهُ إلى فسادِ النظام وتغييرُه إلى اختلاطِ الأحكام فإن أدَّى إلى ذلك - قال المازَري: فلا نختلفُ في تحريم قَلبِه لا لأَجل نفسه بل لأجلِ ما يُؤدِّي إليه قال في شرح المنهاج: إن بناءَ المسألة على هذا الأصل غيرُ صحيح فإن هذا الأصل في أن هذه اللغاتِ الواقعة بين أظْهُرِنا هل هي بالاصطلاح أو التوقيف لا في شخْصٍ خاص اصطلح مع صاحبه على إطلاق لفظِ الثوب على الفرس مثلًا.
وقال الزركشي في البحر: حكى الأستاذ أبو منصور قولًا: إن التوقيف وقعَ في الابتداء على لُغَة واحدة وما سواها من اللغات وقعَ التوقيف عليها بعد الطوفان من الله تعالى في أولاد نوح حين تفرَّقوا في أقطار الأرض قال: وقد رُوي عن ابن عباس: أول من تكلم بالعربية المحضة إسماعيل وأَرادَ به عربيةَ قريش التي نزل بها القرآن وأما عربية قَحْطان وحِمْير فكانت قبلَ إسماعيل عليه السلام.
وقال في شرح الأسماء: قال الجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين من المفسرين: إنها كلَّها توقيفٌ من الله تعالى وقال أهلُ التحقيق من أصحابنا: لا بدّ من التوقيف في أصل اللغةِ الواحدة لاسْتِحَالة وقوعِ الاصطلاح على أوَّل اللغات من غيرِ معرفةٍ من المصطلحين بعَينِ ما اصطلحوا عليه وإذا حصلَ التوقيفُ على لغةٍ واحدة جاز أن يكونَ ما بعدَها من اللغات اصطلاحًا وأن يكون تَوقيفًا ولا يُقْطَع بأحدهما إلا بدلالة قال: واختلفوا في لغة العرَب فمَن زعم أن اللغاتِ كلَّها اصطلاحٌ فكذا قوله في لغة العرب ومن قال بالتَّوقيف على اللغةِ الأولى وأجاز الاصطلاحَ فيما سواها من اللغات اختلفوا في لغة العرب فمنهم من قال: هي أول اللغات وكلُّ لغةٍ سواها حدثَتْ بعدها إما توقيفًا أو اصطلاحًا واستدلوا بأن القرآن كلامُ الله وهو عربي وهو دليلٌ على أن لغةَ العربِ أسبقُ اللغات وجودًا.
ومنهم من قال: لغة العرب نوعان: أحدهما - عربيةُ حِمْير وهي التي تكلّموا بها من عَهْد هود ومَنْ قَبله وبقي بعضُها إلى وقتنا. والثانية - العربيةُ المحْضَة التي نزل بها القرآن وأولُ من أُنْطقَ لسانُه بها إسماعيل فعلى هذا القول يكون توقيف إسماعيل على العربية المحْضة يَحْتَمِل أمرين: إما أن يكون اصطلاحًا بينه وبين جُرْهم النازلين عليه بمكة وإما أن يكون توقيفًا من الله تعالى وهو الصواب. انتهى.
ذكر الآثار الواردة في أن الله تعالى علم آدم عليه السلام اللغات
قال وكيع في تفسيره: حدثنا شَريك عن عاصم بن كليب الجرمي عن سعيد ابن معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علّمه كلَّ شيء، علَّمه القَصْعَةَ وَالْقُصَيْعَة والفَسوَة والفُسَيْوَةَ. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم بلفظ: علَّمه اسمَ الصحْفَة والقدْر وكلَّ شيءٍ حتى الفسوة والفسيّة.
وأخرج وَكِيع عن سعيد بن جُبَير في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه اسمَ كلِّ شيء حتى البعير والبقرة والشاة.
وأخرج وَكيع وعبد بن حميد في تفسيرهما عن مجاهد في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه كلَّ شيء ولفظ عبد بن حميد: ما خلقَ اللهُ كله.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيرهما من طريق السدّي عمن حدّثه عن ابن عباس في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: عرض عليه أسماءَ ولدِه إنسانًا إنسانًا والدَّوَاب، فقيل: هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس.
وأخرج ابن جزيّ في تفسيره من طريق الضَّحاك عن ابن عباس في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: هي هذه الأسماء التي يَتعارف بها الناسُ؛ إنسان ودابة وأرض وسهل وبَحْر وجَبَل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جُبَير في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: اسم الإنسان واسم الدابة واسم كلِّ شيء.
وأخرج عبد عن قَتَادة فِي قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علم آدم من أسماء خَلْقه ما لم يُعَلِّم الملائكة فسمَّى كلَّ شيء بِاسْمِه وأَلْجَأ كلَّ شيء إلى جنسه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علمه القصعة من القُصَيْعة والفسوة من الفسية.
وأخرج إسحاقُ بن بشر في كتاب المبتدأ وابن عساكر في تاريخ دمشق عن عطاء قال: { يا آدم أنْبئْهُم بأسمائهم } فقال آدم: هذه ناقةٌ جمل بقرة نعجة شاة وفرس وهو من خَلْق ربي فكلُّ شيء سَمَّى آدم فهو اسمُه إلى يوم القيامة وجعل يدعو كلَّ شيء باسمه وهو يمرُّ بين قلت: في هذا فضيلةٌ عظيمة ومَنْقَبَةٌ شريفة لِعلْمِ اللغة.
وأخرج الدَّيلمي في مسند الفردوس عن عطية بن بشر مرفوعًا في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه في تلك الأسماء ألْفَ حِرْفَة.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: أسماء ذُرِّيته أجمعين.
وأخرج عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: أَسماء الملائكة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن حميد الشامي قال: علَّم آدمَ أسماءَ النجوم.
وأخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغتُه في الجنّة العربيةَ فلما عَصَى سلَبه اللهُ العربية فتكلّم بالسريانية فلما تاب ردَّ الله عليه العربية.
قال عبد الملك بن حبيب: كان اللسانُ الأوّلُ الذي نزل به آدمُ من الجنة عربيًا إلى أن بَعُد العهدُ وطال حرّف وصار سُرْيانيًا وهو منسوب إلى أرض سُورَى أو سوريانة وهي أرضُ الجزيرة بها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغَرَق، قال: وكان يُشَاكِل اللسانَ العربي إلا أنه محرّف وهو كان لسانَ جميع مَنْ في سفينة نوح إلا رجلًا واحدًا يقال له جُرهم فكان لسانه لسانَ العربي الأول، فلما خرجُوا من السفينة تزوّج إرَم بن سام بعض بناته فمنهم صار اللسانُ العربي في ولده عَوْص أبي عاد وعَبيل وجاثر أبي ثمود وجديس، وسُمِّيَت عادٌ باسم جرهم لأنه كان جدَّهم من الأم، وبقي اللسان السرياني في ولد أرْفَخَشْذ بن سام إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذريته وكان باليمن، فنزل هناك بنو إسماعيل فتعلّم منهم بنو قحطان اللسانَ العربي.
وقال ابن دِحْيَة: العربُ أقسام:
الأول عاربة وعرباء وهم الخلَّص وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح وهي: عاد وثمود وأُمَيم وعَبيل وطَسْم وجَدِيس وعِمْلِيق وجُرْهم وَوَبار ومنهم تعلَّم إسماعيل عليه السلام العربية.
الثاني المتعربة قال في الصحاح: وهم الذين ليسوا بخُلَّص وهم بنو قحطان.
والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلّص أيضا كما في الصحاح.
وقال ابن دريد في الجمهرة: العربُ العاربة سبع قبائل: عاد وثمود وعمليق وطَسْم وجَديس وأُمَيم وجاسم وقد انْقرض أكثرُهم إلا بقايا متفرّقين في القبائل قال: وسُمي يعرب بن قحطان لأنه أولُ من انعدلَ لسانُه من السُّريانية إلى العربية وهذا معنى قول الجوهري في الصحاح: أولُ من تكلَّم بالعربية يعربُ بن قحطان.
وأخرج ابن عساكر في التاريخ بسَنَدٍ رواه عن أنس بن مالك موقوفًا قال: لما حَشرَ الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحًا فاجتمعوا ينظرون لماذا حُشِروا له فنادى مُنَادٍ: مَنْ جعل المَغرِب عن يمينه والمشرق عن يساره واقْتَصَد البيتَ الحرام بوَجْهِه فله كلامُ أهلِ السماء فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يَعْرُبُ بن قحطان بن هود أنت هو فكان أولَ من تكلم بالعربية المَبينَة فلم يزل المنادي يُنَادي مَنْ فَعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانًا وانقطع الصوتُ وَتَبَلْبَلَتِ الألسُن فسُمِّيت بابل وكان اللسان يومئذ بابليًا.
وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن بُرَيدة رضي الله عنه في قوله تعالى: { بلِسَانٍ عربي مُبينٍ } قال: بلسان جُرْهم.
وقال محمد بن سلام الجمحي في كتاب طبقات الشعراء: قال يونس بن حبيب: أولُ من تكلم بالعربية إسماعيلُ بن إبراهيم عليهما السلام ثم قال محمد بن سلّام: أخبرني مِسْمَع بن عبد الملك أنه سمع محمد بن عليّ يقول - قال ابن سلّام: لا أدري رَفَعَه أم لا وأظنه قد رفعه - أولُ من تكلَّم بالعربية ونَسِي لسانَ أبيه إسماعيلُ عليه السلام.
وأخرج الحاكم في المستدرك وصحَّحه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر: أن رسول الله صلى عليه وسلم تلا: { قرآنًا عربيًا لقومٍ يعلمون } ثم قال: أُلْهِمَ إسماعيلُ هذا اللسان العربي إلهامًا.
قال محمد بن سلّام وأخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال: العربُ كلُّها ولدُ إسماعيل إلا حِمْير وبقايا جُرْهم وكذلك يروى أن إسماعيل جاوَرهم وأصْهر إليهم ولكنَّ العربيةَ التي عنى محمد بن علي اللسان الذي نزل به القرآن وما تكلّمت به العربُ على عهد النبي، وتلك عربيةٌ أخرى غير كلامنا هذا.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه: قيل إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل عليه السلام والصحيح المشهور أن العربَ العاربة قبلَ إسماعيل، وهم عاد وثمود وطسم وجَديس وأُمَيم وجُرْهم والعماليق وأمم آخرون لا يعلَمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه أيضا، فأما العربُ المستعربة وهم عربُ الحجاز فمن ذرِّية إسماعيل عليه السلام، وأما عربُ اليمن وحِمْيرَ فالمشهورُ أنهم من قَحْطان واسمه مهزَّم؛ قاله ابن مَاكُولا. وذكروا أنهم كانوا أربعةَ إخوة: قحطان وقاحط ومقحط وفالَغ وقَحْطان بن هود، وقيل هود وقيل أخوه وقيل من ذريته، وقيل إن قحطان من سُلالة إسماعيل، حكاه ابن إسحاق وغيره. والجمهور على أن العربَ القحطانية من عرب اليمن وغيرُهم ليسوا من سلالة إسماعيل.
وقال الشيرازي في كتاب الألقاب: أخبرنا أحمد بن سعيد المعداني: أنبأنا محمد بن أحمد بن إسحاق الماسي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف يعقوب بن السكِّيت قال: حدثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه عن النبي ﷺ: أول مَن فُتق لسانُه بالعربية المتينة إسماعيلُ عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة فقال له يونس: صدقت يا أبا سيار هكذا حدثني به أبو جزيّ. هذه طريقةٌ موصولة للحديث السابق من طريق الجُمَحِي.
ذكر إيحاء اللغة إلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام
قال أبو أحمد الغِطْريف في جُزْئه: حدثنا أبو بكر بن محمد بن أبي شيبة ببغداد، أخبرنا أبو الفضل حاتم بن الليث الجوهري حدثنا حماد بن أبي حمزة اليشكري، حدثنا علي بن الحسين بن واقد، نبأنا أُبي عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه عن عمر بن الخطاب أنه قال: يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد دَرَست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها. أخرجه ابن عساكر في تاريخه.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق يونس بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ في يوم دَجْن: كيف ترون بواسقها قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها، قال: كيف ترون قواعدها قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها، قال: كيف ترون جَوْنَها قالوا: ما أحسنه وأشد سواده، قال: كيف ترون رَحَاها استدارت قالوا: نعم ما أحسنها وأشدّ استدارتها، قال: كيف ترون برقها أخفيًّا أم وميضًا أم يشق شقًّا قالوا: بل يشق شقا، فقال: الحياءُ فقال رجل: يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك، قال: حقّ لي فإنما أُنْزِلَ القرآن عليّ بلسانٍ عربي مبين.
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي رافع قال: قال رسول الله ﷺ: مُثِّلت لي أُمَّتي في الماء والطين وعُلِّمْت الأسماءَ كلَّها كما عُلّم آدمُ الأسماءَ كلها.
المسألة الثالثة: في بيان الحكمة الداعية إلى وضع اللغة
قال الكِيَا الهَرَّاسي في تعليقه في أُصول الفقه: وذلك أن الإنسانَ لمَّا لم يكن مكتفيًا بنفسه في معاشه ومُقِيمات معاشه لم يكن له بدٌّ من أن يسترفد المعاونة من غيره ولهذا اتَّخَذ الناسُ المدن ليجتمعوا ويتعاونوا.
وقيل: إن الإنسان هو المتمدّن بالطبع والتوحُّش دَأْبُ السباع ولهذا المعنى توزَّعَت الصنائع وانْقَسَمَت الحِرَف على الخَلْق فكلُّ واحدٍ قصَر وقتَه على حِرْفة يشتغل بها لأن كلَّ واحد من الخَلْق لا يمكنُه أن يقوم بجُمْلَة مَقَاصِده فحينئذ لا يخْلُو من أن يكونَ محلُّ حاجته حاضرةً عنده أو غائبةً بعيدةً عنه فإن كانت حاضرةً بين يديه أمكنه الإشارة إليها وإن كانت غائبةً فلا بدَّ له من أن يدلَّ على محل حاجاته وعلى مَقْصوده وغَرضه، فوضعوا الكلامَ دلالةً ووجدوا اللسانَ أسرعَ الأعضاءِ حركةً وقبولًا للترداد.
وهذا الكلام إنما هو حرفٌ وصوتٌ، فإن تركه سدًى غفلًا امتدَّ وطال، وإن قطعه تقطَّع. فقطَّعوه وجزّؤوه على حركات أعضاءِ الإنسان التي يخرج منها الصوت وهو من أقصى الرِّئة إلى منتهى الفم، فوجدوه تسعةً وعشرين حرفًا لا تزيد على ذلك. ثم قسَّموها على الحلْق والصَّدْر والشَّفَةِ واللثَّة. ثم رَأَوْا أن الكفاية لا تقعُ بهذه الحروف التي هي تسعةٌ وعشرون حرفًا ولا يحصل له المقصود بإفرادها فركّبوا منها الكلامَ ثُنائيًّا وثلاثيًّا ورباعيًّا وخماسيًّا؛ هذا هو الأصل في التركيب، وما زاد على ذلك يُستَثْقَل. فلم يضعوا كلمةً أصلية زائدة على خمسة أحرف إلا بطريق الإلْحاق والزيادة لحاجة. وكان الأصلُ أن يكون بإزاءِ كل معنى عبارةٌ تدلُ عليه غير أنه لا يمكنُ ذلك لأَن هذه الكلمات متناهيةٌ، وكيف لا تكون متناهية ومَوَارِدها ومَصَادرها متناهية، فدعت الحاجةُ إلى وضع الأسماء المشتَركة فجعلوا عبارةً واحدةً لمسَمَّيَاتٍ عِدَّة كالعين والجَوْن واللون؛ ثم وضعوا بإزاء هذا على نقيضه كلماتٍ لمعنًى واحد، لأن الحاجةَ تدعو إلى تأكيد المعْنى والتحريض والتقرير، فلو كُرّرَ اللفظ الواحد لسَمُجَ ومُجَّ ويقال: الشيء إذا تكرّر تكرَّج والطِّباعُ مجبولةٌ على مُعَاداة المُعَادات؛ فخالفوا بين الألفاظ والمعنى واحد.
ثم هذا ينقسم إلى ألفاظ متواردة وألفاظ مترادفة. فالمتواردة كما تسمَّى الخمرُ عَقارًا وصَهْباءَ وقهوة وسلسالًا، والسبعُ ليثًا وأسدًا وضِرْغامًا. والمترادفة هي التي يُقام لفظٌ مقام لفظٍ لمعانٍ مُتَقَاربة يجمعها معنًى واحد، كما يقال أَصْلَح الفاسِدَ ولمَّ الشَّعَث ورتقَ الفَتقَ وشعبَ الصَّدْع. وهذا أيضا مما يَحْتَاجُ إليه البليغ في بلاغته فيقال خطيبٌ مِصْقَع وشاعر مُفْلِق، فَبِحُسْنِ الألفاظ واختلافها على المعنى الواحد ترصع المعاني في القلوب وتَلْتَصِق بالصدور ويزيد حسنُه وحَلاوته وطَلاوته بضَرْب الأمثلة به والتشبيهات المجازية. وهذا ما يَسْتَعْمِلُه الشعراء والخطباء والمترسِّلون. ثم رأوا أنه يضيقُ نِطاقُ النُّطق عن استعمال الحقيقة في كل اسمٍ فعدَلوا إلى المجاز والاستعارات.
ثم هذه الألفاظ تنقسم إلى مشتركة وإلى عامَّة مطلقة - وتسمى مستغرقة - وإلى ما هو مفرد بإزاء مفرد، وسيأتي ذلك.
وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: السببُ في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحدَه لا يستقلُّ بجميع حاجاته بل لا بدَّ من التعاون ولا تعاونَ إلا بالتَّعارف ولا تعارفَ إلا بأسباب كحركات أو إشاراتٍ أو نقوش أو ألفاظٍ توضع بإزاء المقاصد، وأَيْسَرُها وأفيدُها وأعمُّها الألفاظ. أمَّا أنها أيسر فِلأَنَّ الحروفَ كيفيَّاتٌ تَعْرِضُ لأصواتٍ عارضة للهواء الخارج بالتّنفس الضروري الممدود من قبل الطبيعة دون تكلف اختياري. وأما أنها أفيدُ فلأَنها موجودةٌ عند الحاجة معدومةٌ عند عَدَمها. وأما أنها أعمُّها فليس يمكن أن يكونَ لكل شيءٍ نَقْشٌ، كذات الله تعالى والعلوم، أو إليه إشارة كالغائبات، ويمكن أن يكونَ لكل شيءٍ لفظٌ. فلما كانت الألفاظُ أيسرَ وأفيدَ وأعمَّ صارت موضوعةً بإزاء المعاني.
المسألة الرابعة: في حد الوضع
قال التاج السبكي في شرح منهاج البيضاوي: الوضع عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أُطلق الأوَّلُ فُهِم منه الثاني. قال: وهذا تعريفٌ سديد، فإنك إذا أطلقت قولك: قام زيد فُهِمَ منه صُدُور القيام منه. قال: فإن قلتَ: مدلولُ قولنا قام زيد صدور قيامه، سواءٌ أطلقنا هذا اللفظ أم لم نُطْلِقه فما وجهُ قولكم بحيث إذا أطلق؟ قلت: الكلامُ قد يخرج عن كونه كلامًا وقد يتغيَّر معناه بالتّقييد، فإنك إذا قلتَ: قام الناس اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم، فإذا قلتَ: إن قام الناس خرج عن كونه كلامًا بالكلية فإذا قلتَ: قام الناس إلا زيدا، لم يخرجْ عن كونه كلامًا ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدًا فعلم بهذا أن لإفادة قام الناس الإخبار بقيام جميعهم شرطين: أحدهما ألا تبتدئَه بما يخالِفُه والثاني ألا تختمَه بما يخالفه وله شرطٌ ثالث أيضا وهو أن يكونَ صادرًا عن قَصْد فلا اعتبارَ بكلام النائم والساهي فهذه ثلاثةُ شروط لا بدَّ منها وعلى السامع التنبه لها فوضحَ بهذا أنك لا تستفيدُ قيام الناس من قوله: قام الناس إلا بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه.
فإن قلت: مِنْ أين لنا اشتراطُ ذلك واللفظُ وحدَه كافٍ في ذلك لأن الواضع وضَعَه لذلك قلت: وضْعُ الواضع له معناه أنه جعله مُهَيَّأً لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلّم على الوجه المخصوص والمفيدُ في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظُ كالآلة الموضوعة لذلك.
فإن قلتَ: لو سمعنا قام الناس ولم نَعْلَم مِنْ قائِله هل قصده أم لا وهل ابتدأه أو ختمه بما يغيِّره أو لا هل لنا أن نُخبِر عنه بأنه قال: قام الناس قلت: فيه نظر يحتمل أن يُقال بجوازه لأن الأصل عدمُ الابتداء والختم بما يُغيّره ويحتمل أن يقال: لا يجوز لأن العُمْدة ليس هو اللفظ ولكنَّ الكلام النفساني القائم بذات المتكلم وهو حكمه واللفظ دليل عليه مشروط بشُروط ولم تتحقَّق ويُحْتَمل أن يقال: إن العلم بالقصد لا بدّ منه لأنه شَرْطٌ والشكُّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط والعلم بعدم الابتداء والختم بما يخالفُه لا يُشْتَرَط لأنهما مانعان والشكُّ في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن الأصلَ عدمه قال: واختار والدي - رحمه الله - أنه لا بدَّ من أن يعلم الثلاثة. انتهى.
المسألة الخامسة
اختلف هل وضَعَ الواضعُ المفرداتِ والمركَّبات الإسناديّة أو المفردات خاصة دون المركبات الإسنادية. فذهب الرازي وابن الحاجب وابن مالك وغيرُهم إلى الثاني وقالوا: ليس المركَّب بموضوع وإلا لتوقَّفَ استعمالُ الجُمل على النَّقْل عن العرب كالمفردات.
ورجَّح القرافي والتاج السبكي في جمع الجوامع وغيرهما من أهل الأصول أنه موضوع لأن العرب حَجَرت في التراكيب كما حَجَرت في المفردات.
وقال ابن إياز [5] في شرح الفصول في قول ابن عبد المعطي [6]: الكلامُ هو اللفظُ المركب المفيد بالوضع، كذا قال الجزولي، وكان شيخي سعد الدين يقول فيه بغير ذلك لأنَّ واضعَ اللغةِ لم يَضَع الجملَ كما وضعَ المفردات بل ترك الجُمل إلى اختيار المتكلِّم، يُبَيِّنُ ذلك لك أن حال الجُمل لو كانت حال المفردات لكان استعمالُ الجمل وفهمُ معانيها متوقفًا على نَقْلها عن العرب كما كانت المفرداتُ كذلك ولوجب على أهل اللغة أن يتتبعوا الجُمل ويودعوها كتبهم كما فعلوا ذلك
المسألة السادسة
قال الإمام فخر الدين الرَّازي وأتباعه: لا يجبُ أن يكون لكلِّ معنى لفظٌ لأنَّ المعانيَ التي يمكن أن تُعْقَل لا تَتَناهى والألفاظ متناهيةٌ لأنَّها مركبّة من الحروف والحروف متناهية والمركَّب من المُتناهي مُتَنَاهٍ والمتناهي لا يَضْبِطُ ما لا يَتَنَاهى وإلا لزم تَناهي المدلولات قالوا: فالمعاني منها ما تكثرُ الحاجةُ إليه فلا يَخْلُو عن الألفاظ لأن الداعيَ إلى وضْع الألفاظ لها حاصلٌ والمانعُ زائل فيجب الوضعُ والتي تَنْدُر الحاجة إليها يجوزُ أن يكون لها ألفاظ وألا يكون.
المسألة السابعة
قالوا أيضا: ليس الغرضُ من الوضع إفادةَ المعاني المفردة بل الغرضُ إفادةُ المركَّبَات والنسب بين المفردات كالفاعليَّة والمفعولية وغيرهما وإلا لَزِم الدَّور وذلك لأنّ إفادةَ الألفاظِ المفردة لمعانيها موقوفةٌ على العِلْم بكونها موضوعةً لتلك المسمّيات والعلم بذلك موقوفٌ على العلم بتلك المسمّيات فيكون العلمُ بالمعاني متقدمًا على العِلْم بالوضع فلو استَفَدْنا العلم بالمعاني من الوَضع لكان العلْمُ بها متأخرًا عن العلم بالوضع وهو دَوْرٌ.
فإنْ قِيلَ: هذا بَعْينِهِ قائمٌ فِي المركَّبَاتِ لأنَّ المركَّبَ لا يفيدُ مدلولَه إلا عند العلم بكونه موضوعًا لذلك المدلول والعلم به يَسْتدعي سبقَ العلم بذلك المدلول فلو استفدنا العلمَ بذلك المدلول من ذلك المركَّب لزِم الدَّوْر.
فالجواب أنَّا لا نُسَلِّم أن إفادةَ المركب لمدلوله تتوقَّفُ على العلم بكوْنه موضوعًا له بل على العلم بكون الألفاظ المفردة موضوعةً للمعاني المفردة حتى إذا تُلِيَت الألفاظ المفردةُ عُلِمَتْ مفردات المعاني منها والتناسبُ بينهما من حركاتِ تلك الألفاظ فظَهرَ الفرق.
المسألة الثامنة
اخْتُلِفَ: هل الألفاظ موضوعةٌ بإزاء الصُوَر الذهنية - أي الصورة التي تَصَوَّرها الواضع في ذِهْنِه عند إرادة الوضع - أو بإزاء الماهيات الخارجية فذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى الثاني وهو المختارُ وذهب الإمام فخر الدين وأتباعه إلى الأول واستدلّوا عليهِ بأن اللفظَ يتغيَّر بحسب تغيُّر الصورة في الذِّهن فإن مَنْ رأَى شَبحًا من بعيد وظَنَّه حَجرًا أطلق عليه لفظ الحجر فإذا دَنا منه وظنَّه شجرًا أطلق عليه لفظ الشجر فإذا دَنَا وظنَّه فرسًا أطلق عليه اسم الفرس فإذا تحقَّق أنه إنسان أطلق عليه لفظَ الإنسان فَبَانَ بهذا أن إطلاقَ اللفظ دائر مع المعاني الذهنيَّة دون الخارجية فدلّ على أن الوضْعَ للمعنى الذهنيّ لا الخارجيّ.
وأجاب صاحب التحصيل عن هذا بأنه إنما دار مع المعاني الذِّهنية لاعْتقاد أنها في الخارج كذلك لا لِمُجرَّد اختلافِها في الذهن.
قال الأسنوي في شرح منهاج الإمام البيضاوي: وهو جواب ظاهر قال: ويظهرُ أن يُقال: إن اللفظ موضوع بإزاءِ المعنى من حيث هو مع قَطْعِ النظر عن كونه ذهنيًّا أو خارجيًّا فإن حصولَ المعنى في الخارج والذّهن من الأوصاف الزائدة على المعنى واللفظُ إنما وُضِعَ للمعنى من غير تقييده بوَصْفٍ زائد ثم إن الموضوعَ له قد لا يُوجد إلا في الذهن فقط كالعلم ونحوه. انتهى.
وقال أبو حيّان في شرح التسهيل: العجبُ ممن يُجيز تركيبًا مَا في لغة من اللغات من غير أن يسمعَ من ذلك التركيب نظائرَ وهل التراكيب العربية إلا كالمفردات اللغوية فكما لا يجوز إحداثُ لفظٍ مفردٍ كذلك لا يجوز في التراكيب لأن جميعَ ذلك أمورٌ وضعية والأمورُ الوضعيةُ تحتاج إلى سماع من أهل ذلك اللسان والفرقُ بين علم النحو وبين علم اللغة أن علمَ النحو موضوعُه أمورٌ كليّة وموضوعُ علم اللغة أشياء جزئية وقد اشتركا معًا في الوضْع. انتهى.
وقال الزركشي في البحر المحيط: لا خِلافَ أن المفرداتِ موضوعةٌ، كوضع لفظ إنسان للحيوان الناطق وكوَضْعِ قام لحدوث القيام في زمن مخصوص وكَوَضْع لعلَّ للترجِّي ونحوها، واختلفوا في المركَّبَات نحو قام زيد وعمرو منطلق فقيل: ليست موضوعة؛ ولهذا لم يتكلم أهلُ اللغة في المركبات ولا في تأليفها وإنما تكلموا في وَضْع المفردات وما ذاك إلا لأن الأمر فيها مَوْكول إلى المتكلِّم بها؛ واختاره فخرُ الدين الرازي وهو ظاهرُ كلام ابن مالك حيث قال: إن دلالة الكلام عقليَّة لا وَضعيَّة، واحتجَّ له في كتاب الفيصل على المفصل بوجهين: أحدهما - أن من لا يَعْرف من الكلام العربي إلا لفظين مفردين صالحين لإسناد أحدهما إلى الآخر فإنه لا يَفْتَقر عند سماعهما مع الإسناد إلى مَعرّف بمعنى الإسناد بل يُدْرِكه ضرورة. وثانيهما - أن الدَّال بالوضع لا بدَّ من إحصائه ومنع الاستئناف فيه كما كان في المفردات والمركَّبات القائمة مقامها فلو كان الكلامُ دالًّا بالوضْع وجب ذلك فيه ولم يكن لنا أن نتكلم بكلام لم نُسْبَق إليه كما لم نَستعمل في المفردات إلا ما سَبَق اسْتِعماله وفي عدم ذلك برهانٌ على أنَّ الكلامَ ليس دالًّا بالوضع. انتهى.
وحكاه ابن إياز عن شيخه قال: ولو كان حال الجمل كحال المفردات في الوضع لكان استعمال الجُمَلِ وفهمُ معانيها متوقفًا على نَقْلِها عن العرب كما كانت المفرداتُ كذلك ولَوَجَبَ على أهل اللغة أن يَتَتَبَّعوا الجُمَل ويُودِعُوها كُتبَهم كما فعلوا ذلك بالمفردات ولأن المركّباتِ دلالتُها على معناها التركيبي بالعقل لا بالوضع فإنَّ مَنْ عرف مسمَّى زيد وعرف مسمَّى قائم وسمع زيد قائم بإعرابه المخصوص فَهِمَ بالضرورة معنى هذا الكلام وهو نِسْبَةُ القيام إلى زيد، نعم يصحّ أن يقالَ: إنها موضوعة باعتبار أنها متوقفة على معرفة مفرداتها التي لا تُستفاد إلا من جهة الوضع ولأَن لِلَّفْظ المركَّب أجزاء مادّية وجزءًا صوريًا وهو التأليفُ بينهما وكذلك لمعناه أجزاءٌ مادّية وجزءٌ صوريّ والأَجزاءُ المادّية من اللفظ تدلُّ على الأَجزاءِ المادية من المعنى والجزءُ الصوريّ منه يدل على الجزء الصوريّ من المعنى بالوضع.
والثاني - أنها موضوعة [7] فوضعت زيد قائم للإسناد دون التَّقوية في مفرداته ولا تَنَافي بين وَضْعها مفردةً للإسناد بدون التَّقوية وَوَضْعها مركَّبة للتَّقوية ولا تختلف باختلاف اللغات فالمضافُ مقدَّم على المضاف إليه في بعض اللغات ومؤخَّر عنه في بَعْض ولو كانت عقليّةً لفهم المعنى واحدًا سواءٌ تقدّم المضافُ على المضاف إليه أو تأخر. وهذا القولُ ظاهرُ كلام ابنِ الحاجب حيث قال: أقسامُها مفرد ومركب. قال القَرَافي: وهو الصحيح. وعزَاه غيرُه للجمهور بدليل أنها حَجَرت في التَّراكيب كما حَجَرت في المفردات فقالت: من قال: إن قائم زيدًا ليس من كلامنا ومن قال: إن زيدًا قائم فهو من كلامنا ومن قال: في الدار رجلٌ فهو من كلامنا ومن قال: رجل في الدار فليس من كلامنا إلى ما لا نهاية له في تراكيب الكلام وذلك يدلّ على تَعَرُّضِهَا بالوضعِ للمركبات.
قال الزَّرْكَشِيّ: والحقُّ أن العربَ إنما وَضَعَتْ أنواعَ المرَكَّبَاتِ أما جُزئيات الأنواع فلا فَوَضَعَتْ باب الفاعل لإسْناد كلِّ فعلٍ إلى مَنْ صَدَرَ منه أما الفاعلُ المخصوص فلا وكذلك باب إن وأخواتها أما اسمُها المخصوصُ فلا وكذلك سائر أنواعِ التراكيب وأحالت المعنى على اختيار المتكلم فإنْ أراد القائلِ بِوَضْع المركّبات هذا المعنى فصحيح وإلا فممنوع قال: ولم أر لهم كلامًا في المثنى والمجموع والظاهرُ أنهما موضوعان لأنهما مفردان وهو الذي يقتضيه حدُّهم للمفرد ولهذا عامَلُوا جُمُوعَ التكسير معاملةَ المفردِ في الأحكام لكنْ صَرَّح ابن مالك في كلامه على حدِّهما بأنهما غيرُ موضوعين ويبعدُ أن يقالَ: فرَّعه على رأيهِ في عدم وضْعِ المركّبات لأنه لا تركيب فيها لا سيما أن المركّب في الحقيقة إنما هو الإسنادُ وكذا القولُ في أسماء الجُموع والأجناس مما يدلُّ على متعدد والقول بعدم وضْعه عجيب لأن أكثره سماعيّ وقد صرَّح ابن مالك بأنَّ شَفْعًا ونحوه مما يدلّ على الاثنين موضوع.
وقال الجويني: الظاهرُ أن التثنية وُضِعَ لفظُها بعد الجمع لِمَسِيس الحاجة إلى الجمع كثيرا؛ ولهذا لم يُوجد في سائر اللغات تثنية، والجمع موجود في كل لغة، وَمِنْ ثمَّ قال بعضهم: أقلُّ الجمع اثنان كأَن الواضع قال: الشيءُ إما واحدٌ وإما كثير لا غيرُ، فجعل الاثنين في حدِّ الكثرة. انتهى.
المسألة التاسعة
قال الإمام عضد الدين الإيجي في رسالة له في الوضع: اللفظ قد يوضع لشخصٍ بعينه وقد يُوضع له باعتبار أمرٍ عام وذلك بأن يُعْقل أمرٌ مشتَرَك بين مشخصات ثم يُقال: هذا اللفظ موضوع لكلِّ واحدٍ من هذه المشخصات بخصوصه بحيث لا يُفاد ولا يُفْهم به إلا واحد بخصوصه دون القَدْر المشترك فتعقل ذلك المشترك آلة للوضع لا أنه الموضوع له فالوضع كلِّي والموضوعُ له مشخّص وذلك مثلُ اسم الإشارة فإنَّ هذا مثلًا موضوعُه ومسمّاه المشارُ إليه المشخّص بحيث لا يَقْبَلُ الشركة وما هو من هذا القبيل لا يُفيدُ التشخُّص إلا بقرينة تفيدُ تعيينه لاسْتواءِ نسبة الوضع إلى المسّميات.
قال: ثم اللفظُ مدلوله إما كلّي أو مشخّص والأول إما ذاتٌ وهو اسم الجنس أو حدَث وهو المصدر أو نسبة بينهما وذلك إما أن يكون يُعْتَبَر من طَرَفِ الذات وهو المشتقّ أو من طَرَف الحدَث وهو الفِعْل والثاني العلم فالوَضعُ إما كلي أو مشخّص والأول مدلولُه إما معنى في غيره يتعيَّنُ بانضمام غيره إليه وهو الحرف أولًا فالقرينةُ إن كانت في نحو الخطاب فالضميرُ وإن كانت في غيره فإما حسيَّة وهو اسمُ الإشارة أو عقليَّة وهو الموصول فالثلاثة مشتركة فإن مدلولَها ليس معاني في غيرها وإن كانت تتحصَّل بالغير فهي أسماء.
المسألة العاشرة
نقلَ أهلُ أُصول الفِقْه عن عبّاد بن سليمان الصيمري من المعتزلة أنه ذهبَ إلى أنَّ بين اللفظِ ومدلولهِ مناسبةً طبيعيةً حاملةً للواضع على أن يضعَ قال: وإلا لكانَ تخصيصُ الاسمِ المُعيّنِ بالمسمَّى المُعيَّن ترجيحًا من غير مُرَجِّح وكان بعضُ مَنْ يرَى رأْيَه يقول: إنه يعرفُ مناسبةَ الألفاظِ لمعانيها فَسُئِل ما مُسَمَّى اذغاغ وهو بالفارسية الحجر فقال: أجدُ فيه يُبْسًا شديدا، وأراه الحجر. وأنكَر الجمهور هذه المقالة وقال: لو ثبتَ ما قالَه لاهْتَدَى كلُّ إنسان إلى كل لغةٍ ولما صحَّ وضعُ اللفظِ للضدين كالقَرْءِ للحيض والطهر والجَوْن للأَبيض والأسود؛ وأجابوا عن دليله بأنَّ التخصيص بإرادة الواضع المختار خصوصًا إذا قلنا: الواضعُ هو الله تعالى فإن ذلك كتخصيصه وجود العالَم بوقت دون وقت وأما أهل اللغة والعربية فقد كادوا يُطْبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني لكن الفرقَ بين مذهبهم ومذهب عبّاد أن عبَّادًا يراها ذاتية موجبة بخلافهم وهذا كما تقول المعتزلة بمراعاة الأصْلح في أفعالِ الله تعالى وُجوبًا وأهل السنة لا يقولون بذلك مع قولهم إنه تعالى يفعل الأصْلَح لكن فضلًا منه ومَنًَّا لا وجوبًا ولو شاءَ لم يفعله.
وقد عقد ابن جني في الخصائص بابًا لمناسبة الألفاظ للمعاني وقال: هذا موضع شريف نبه عليه الخليل وسيبويه وَتَلَقَّتْه الجماعة بالقبول؛ قال الخليل: كأنهم تَوَهَّموا في صوت الجُنْدُب استطالةً فقالوا: صَرّ، وفي صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفَعَلان: إنها تأتي للاضطراب والحرَكة، نحو النَّقَزَان والغَليان والغَثيان، فقابلوا بِتَوَالي حركاتِ الأمثالِ تواليَ حركات الأفعال.
قال ابن جني: وقد وجدتُ أشياء كثيرة من هذا النَّمَط، من ذلك المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقة والقرقرة، والفعَلى تأتي للسرعة نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة والقرقرة، والفَعلى إنما تأتي للسرعة نحو البَشَكى والجَمَزى والوَلقى.
ومن ذلك باب اسْتفعل جعلوه للطَّلب لما فيه من تَقَدُّم حروفٍ زائدة على الأصول كما يتقدَّم الطلبُ الفعل وجعلوا الأفعالَ الواقعة عن غير طلب إنما تفجأُ حروفها الأصول أو ما ضارع [ بالصيغة ] الأصول؛ [ فالأصولُ نحو قولهم: طعِم ووهَب ودخل وخرج وصعِد ونزل فهذا إخبار بأصولٍ فاجأت عن أفعال وَقعت ولم يكن معها دلالة تدلّ على طلبٍ لها ولا إعمال فيها وكذلك ما تقدَّمت الزيادةُ فيه على سَمْت الأصل نحو أحسن وأكرم وأعطى وأولى فهذا من طريق الصيغة بوزن الأصل في نحو دَحْرج وسَرْهف... ]
وكذلك جعلوا تكرير العين نحو فرَّح وبَشَّر فجعلوا قوّة اللفظِ لقوّة المعنى وخصُّوا بذلك العين لأنها أقْوَى من الفاء واللام إذ هي واسطة لهما ومكنوفةٌ بهما فصارا كأنهما سِيَاج لها ومَبْذولان للعَوارِض دونها ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها.
[ فأما مقابلةُ الألفاظ بما يُشاكل أصواتها من الأحداث فبابٌ عظيم واسع ونَهْج مُتْلَئِبّ عند عَارِفيه مَأمُوم وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سَمت الأحداث المعبّر بها عنها فَيَعدِلونها بها ويَحتذُونها عليها وذلك أكثرُ مما نقدّره وأضعافُ ما نستشعره من ذلك قولهم: خَضَم وقضِم ف ] الخَضْم لأكل الرَّطْب [ كالبِطّيخِ والقِثَّاء وما كان من نحوها من المأكول الرطب ] والقضْمُ لأكل اليابس [ نحو قَضَمَت الدَّابة شعيرها ونحو ذلك. وفي الخبر: قد يُدْرَكُ الخَضْم بالقَضْم أي قد يُدرك الرخاء بالشدة واللّين بالشَّظَف وعليه قول أبي الدَّرْداء: يَخْضَمون ونقضَم والموعد الله ] فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب والقاف لصلابتها لليابس [ حَذْوًا لمسموع الأصوات على مَحْسوس الأحْداث ] و [ من ذلك قولهم ] النَّضْح للماء ونحوه، والنَّضْخ أقوى منه قال اللهُ سُبْحَانه: { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضّاخَتَانِ } فجعلوا الحاء لرقتها للماءِ الخفيف والخاءَ لِغَلظها لما هو أقوى [ منه ]؛ ومن ذلك القدّ طولًا والقطّ عرضًا لأن الطاءَ أخفض للصوت وأسرعُ قطعًا له من الدَّال [ المستطيلة ]؛ فجعلوا [ الطاء للمناجزة ] لِقَطْع العَرض لِقُرْبِه وسرعته، والدال الماطلة لما طال من الأثر، وهو قَطْعُهُ طولًا.
قال: وهذا الباب واسعٌ جدًا لا يمكنُ اسْتِقْصَاؤُه.
قُلت: ومِنْ أَمْثِلة ذلك ما في الجمهرة: الخَنَنَ في الكلام أشدُّ من الغَنَن، والخُنّة أشدّ من الغُنَّة، والأنِيتُ أشدّ من الأنِين، والرَّنين أشدّ من الحِنين.
وفي الإبدال لابن السكيت: يقال القَبْصة أصغرُ من القَبْضة، قال في الجمهرة: القَبْصُ الأخذُ بأطراف الأنامل، والقَبْضُ الأخذ بالكفِّ كلّها.
وفي الغريب المصنف عن أبي عمرو: هذا صَوْغُ هذا إذا كان على قَدْره، وهذا سَوْغُ هذا إذا وُلِدَ بعد ذاك على أَثره، ويقال نَقَبَ على قومه ينقُب نِقابةً من النَّقيب وهو العَرِيف، ونكَب عليهم ينكب نكابة وهو المَنكِب وهو عون العريف.
وقال الكسائي: القَضْمُ للفرس والخَضْمُ للإنسان. وقال غيرُه: القَضْم بأطراف الأسنان والخَضْم بأقْصى الأَضراس.
وقال أبو عمرو: النَّضْح بالضاد المعجمة: الشرب دون الرِّيّ، والنَّصْح بالصاد المهملة الشُّرْب حتى يَرْوَى، والنَّشْح بالشين المعجمة دون النَّضْح بالضاد المعجمة.
وقال الأَصمعي: من أصوات الخيل الشخِيرُ والنَّخِيرُ والكَريرُ، فالأوَّل من الفم والثاني من المَنْخَرين والثالث من الصَّدر.
وقال الأصمعي: الهَتْل من المطر أصغرُ من الهَطْل.
وفي الجمهرة: العَطْعَطَةُ بإهمال العين تتابعُ الأصوات في الحرب وغيرها، والغَطْغَطة بالإعجام: صوتُ غَلَيَان القِدْر وما أشبهه، والجَمْجَمَة بالجيم: أن يُخْفِي الرجلُ في صدره شيئا ولا يُبْدِيه، والحَمْحَمَةُ بالحاء أن يردِّد الفرسُ صوتَه ولا يَصْهَلِ، والدَّحْدَاح بالدال الرجل القصير، والرَّحْرَاح بالراء الإناء القصير الواسع، والجَفْجَفَةُ بالجيم هَزِيز المَوْكِب وحَفِيفُه في السير، والحَفْحَفَةُ بالحاء حفيفُ جَنَاحي الطائر، ورجل دَحْدَح بفتح الدالين وإهمال الحاءين قصير، ورجل دُخْدُخ بضم الدَّالين وإعجام الخاءين قصيرٌ ضخْم، والجَرْجَرَة بالجيم صوتُ جَرْعِ الماء في جَوف الشَّارب، والخَرْخَرة بالخاء صوتُ تردُّد النَّفَس في الصدْر وصوت جَرْي الماء في مضيق، والدَّرْدَرَة صوت الماء في بطون الأودية وغيرها إذا تدافع فَسَمِعْتَ له صوتًا، والغَرْغَرَة صوتُ ترديد الماء في الحَلْق من غير مَجّ ولا إسَاغة، والقَرْقَرَة صوتُ الشراب في الحلق، والهَرْهَرَةُ صوت تَرْدِيد الأسد زئيرَه، والكَهْكَهَة صوتُ تردِيد البعير هَدِيره، والقَهْقَهَةُ حكاية استِغْرَاب الضحك، والوَعْوَعَةُ صوت نُبَاح الكلب إذا رَدَّده، والوَقْوَقَةُ اختلاطُ [ أصوات ] الطير، والوَكْوَكَةٌُ هديرُ الحمام، والزَّعْزَعَةُ بالزاي اضطرابُ الأشياء بالريح، والرَّعْرَعَةُ بالراء اضطرابُ الماء الصافي والشراب على وجه الأرض، والزَّغْزَغَةُ بالزاي وإعجام الغين اضطراب الإنسان في خِفّة ونَزَق، والكَرْكَرَة بالكاف الضحك، والقَرْقَرَة بالقاف حكاية الضحك إذا اسْتَغْرَب الرجلُ فيه، والرَّفْرَفَة بالراء صوت أَجنِحة الطائر إذا حَام ولم يَبْرح، والزَّفْزَفَة بالزاي صوتُ حفيف الريح الشديدة الهبوب وسَمِعْتُ زفزفةَ الموكِب إذا سمعت هَزيزِه، والسَّغْسَغَةُ بإهمال السين تحريك الشيء من موضعه لِيُقْلَعَ مثل الوَتَدِ وما أشبهه ومثل السن، والشَّغْشَغَةُ بالإعجام تحريك الشيء في موضعه ليتَمكَّن يقال شَغْشَغ السِّنان في الطَّعْنة إذا حرَّكه ليتمكّن، والوَسْوَسَةُ بالسين حركة الشيء كالحَلْي والوَشْوَشة بالإعجام حركة القوم وهَمْسُ بعضِهم إلى بعض.
فانظر إلى بديع مناسبةِ الألفاظ لمعانيها وكيف فَاوَتَت العربُ في هذه الألفاظ المُقْتَرنة المتقاربة في المعاني، فجعلت الحرفَ الأضْعف فيها والألْين والأخْفَى والأسْهل والأهْمس لِمَا هو أدْنى وأقلّ وأخفّ عملًا أو صوتًا، وجعلت الحرفَ الأقْوى والأشدّ والأظهر والأجهر لِمَا هو أقوى عملًا وأعظم حِسًّا، ومن ذلك المدّ والمطّ فإنَّ فعْلَ المطّ أقوى لأنه مدٌّ وزيادةُ جَذْب فناسَب الطاء التي هي أَعلى من الدال.
قال ابن دريد: المدُّ والمتُّ والمطُّ متقاربةٌ في المعنى. ومن ذلك الجُفّ بالجيم: وعاءُ الطَّلْعة إذا جَفت، والخُفُّ بالخاء: الملبوس وخفُّ البعير والنعامة، ولا شكّ أن الثلاثة أقوى وأجلَد من وعاءِ الطَّلعة فخُصَّت بالحاءِ التي هي أعلى من الجيم.
وفي ديوان الأدب للفارابي: الشازِب: الضَّامر من الإبل وغيرها. والشاصب: أشد ضُمْرًا من الشازب.
وفيه قال الأصمعي: ما كان من الرياح من نفخ فهو برد وما كان من لفح فهو حَرٌّ.
وفي فقه اللغة للثعالبي: إذا انْحَسَرَ الشَّعرُ عن مقَدَّم الرأسِ فهو أَجْلَحُ فإن بلغ الانحسارُ نصف رأسِه فهوَ أَجْلَى وأَجْلَه.
وفيه: النَّقْشُ في الحائط والرَّقْشُ في القِرْطاس والوَشْمُ في اليد والوَسْمُ في الجِلْدِ والرَّشْمُ على الحِنْطَة والشَّعير والوَشْيُ في الثوب.
وفيه: الدُّبُر يقال له الاسْت، والشّعرُ الذي حوله يقال له الاسْبُ.
وفيه: الحَوَص ضِيقُ العينين، والخَوَص غُؤُورُهُما مع الضِّيق. وفيه: اللَّسْب من العقرب واللسع من الحية. وفيه: وسَخُ الأُذنِ أُفّ ووسَخ الأظفار تُفٌّ. وفيه: اللِّثَامُ: النِّقاب على حَرْف الشَّفة، واللغامُ على طرف الأنف.
وفيه: الضَّرْب بالرَّاحة على مُقَدَّم الرأس صَقْعٌ، وعلى القَفَا صَفْعٌ، وعلى الخَدِّ بِبَسْطِ الكَفِّ لَطْمٌ، وبقَبْضِ الكَفِّ لَكْم، وبِكلْتَا اليَدَيْنِ لَدْمٌ، وعلى الجَنْبِ بالإصْبَعِ وَخْزٌ، وعلى الصدْر والجَنْبِ وَكْزٌ ولَكْزٌ، وعلى الحَنَكِ والذَّقَنِ وَهْزٌ ولهْزٌ.
وفيه يُقَالُ: خَذَفَه بالحَصى وحَذَفَه بالعصا وقَذَفَه بالحجر.
وفيه: إذا أخرجَ المكْروبُ أو المريضُ صوتًا رَقِيقًا فهو الرَّنين فإنْ أخْفَاهُ فهو الهَنِينُ فإنْ أَظْهَرَه فخرج خافيًا فهو الحَنِينُ فإن زاد فيه فهو الأنين فإن زاد في رَفعه فهو الخَنِين.
فانْظُرْ إلى هذه الفُروق وأشباهها باختلاف الحرف بحسب القوَّة والضَّعف. وذلك في اللغة كثيرٌ جدًا وفيما أوردناه كفاية.
المسألة الحادية عشرة
قال ابن جني: الصواب - وهو رأي أبي الحسن الأَخفش - سواءٌ قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح أن اللغة لم تُوضع كلّها في وقت واحد بل وقعت متلاحقةً متتابعة.
قال الأخفش: اختلافُ لغاتِ العرب إنما جاءَ من قِبَل أنَّ أول ما وُضِع منها وُضِعَ على خلاف وإن كان كله مسوقًا على صحة وقياس ثم أَحدثوا من بعدُ أشياء كثيرة للحاجة إليها غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفا.
قال: ويجوز أن يكونَ الموضوعُ الأولُ ضَرْبًا واحدًا ثم رأى مَنْ جاءَ [ من ] بعد أن خالف قياسَ الأولِ إلى قياسٍ ثانٍ جارٍ في الصحة مَجْرَى الأوَّل.
قالَ: وأما أي الأجناس الثلاثة - الاسم والفعل والحرف - وُضِع قبلُ فلا يُدْرى ذلك ويحتمل في كل من الثلاثة أنه وُضِع قبل، وبه صرح أبو علي.
قال: وكان الأخفش يذهب إلى أن ما غُيِّر لكثرة استعماله إنما تصوَّرَتهُ العربُ قبل وضْعِه وعَلِمَت أنه لا بدَّ من كثرة استعمالهما إياه فابتدؤوا بتغييره عِلْمًا [ منهم ] بأنه لا بدَّ من كثرة الداعية إلى تغييره.
قال: ويجوزُ أن تكون كانت قديمة معربة فلما كثرت غُيِّرت فيما بعدُ.
قال: والمقُول عندي هو الأول لأنه أدلّ على حِكمتها وأشهدُ لها بعِلْمِها بمصاير أمْرِها فتركوا بعضَ الكلام مبنيًّا غير معرب نحو أمسِ [ وهؤلاء ] وأينَ وكيفَ وكم وإذ وحيثُ، عِلْمًا بأنهم سيستكْثِرُون منها فيما بعد فيجبُ لذلك تغييرها.
المسألة الثانية عشرة
في الطريق إلى معرفة اللغة: قال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول وأتباعه: الطريقُ إلى معرفة اللغة إما النقلُ المحْضُ كأكثرِ اللغة، أو استنباطُ العقل من النَّقْل كما إذا نُقِلَ إلينا أنَّ الجمع المعرَّف يدخله الاستثناء ونقل إلينا أن الاستثناءَ إخراجُ ما يتناوله اللفظ، فحينئذ يستدلُّ بهذين النَّقْلين على أن صِيَغ الجمع للعموم. وأما العقل الصِّرف فلا مجالَ له في ذلك.
قال: والنقلُ المحضُ إما تواترٌ أو آحاد.
قلت: وسيأتي بَسْطُ الكلام فيهما في النوع الثالث.
ولم يذكر ابن الحاجب في مختصره ولا الآمدي في الأحكام سوى الطريق الأول وهو النقل المَحْضُ: إما تواترًا وهو ما لا يَقْبَل التشكيك كالسماء والأرض والحرِّ والبَرْدِ ونحوها وإما آحادًا كالقُرْءِ ونحوه من الألفاظ العربية.
قال الإمام فخر الدين والآمدي: وأكثرُ ألفاظ القرآن من الأول أي المتواتر.
وقال ابن فارس في فقه اللغة: باب القول في مأْخذ اللغة: تُؤخَذ اللغة اعتيادًا كالصبيِّ العربي يسمعُ أبويه أو غيرهما فهو يأخذ اللغةَ عنهم على ممرِّ الأوقات وتؤخذ تلقُّنًا من مُلَقِّن وتؤخذُ سماعًا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة ويُتَّقَى المظنون.
وستأتي بقيةُ كلامه في نوعِ مَنْ تُقْبَل روايته ومن تُرَدُّ وكذا كلامُ ابن الأنباري في ذلك. ويؤْخذ من كلامهما أن ضابط الصحيح من اللغة ما اتَّصل سَنَدُه بنَقْل العَدْل الضابط عن مِثله إلى منتهاه، على حد الصحيح من الحديث.
وقال الزركشي في البحر المحيط: قال أبو الفضل بن عبدان في شرائط الأحكام وتبعه الجيلي في الإعجاز: لا تلزم اللغة إلا بخمس شرائط:
أحدها ثبوت ذلك عن العرب بسنَدٍ صحيح يُوجِبُ العملَ.
الثاني عدالةُ الناقلين كما تُعْتَبَرُ عدالتُهم في الشَّرعيات.
الثالث أن يكون النقلُ عَمّن قولُه حجة في أصل اللغة كالعرب العاربة مثل قحطان ومعدّ وعدنان؛ فأما إذا نقلوا عمَّن بعدهم بعد فَسَادِ لسانهم واختلاف المولّدين فلا.
قال الزركشي: ووقع في كلام الزمخشري وغيره الاستشهادُ بشِعْر أبي تمام، بل في الإيضاح للفارسي، ووجّه بأن الاستشهاد بتقرير النقَلة كلامَهم وأنه لم يخرج عن قوانين العرب. وقال ابن جنّي: يُسْتَشْهَدُ بشِعر المولَّدين في المعاني كما يُستَشْهد بشِعر العرب في الألفاظ.
والرابع أن يكون الناقل قد سمع منهم حِسًّا، وأمَّا بغيره فلا.
الخامس أن يسمع من الناقل حسًّا. انتهى.
وقال ابن جني في الخصائص: مَنْ قال إن اللغة لا تُعْرَف إلا نقلًا فقد أخطأ فإنها قد تُعَلمُ بالقرائن أيضا فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر:
قومٌ إذا الشرُّ أَبْدَى نَاجِذيه لهم ** طارُوا إليه زَرَافات وَوُحْدَانا
يعلم أن الزرافات بمعنى الجماعات.
وقال عبد اللطيف البغدادي في شرح الخطب النباتية: اعلم أن اللغوي شَأنُه أن يَنْقُل ما نطقت به العربُ ولا يتعدّاه، وأما النحوي فشأنُه أن يتصرّف فيما ينْقُله اللغوي ويقيس عليه؛ ومِثَالُهما المحدِّث والفقيه فشأنُ المحدّث نقلُ الحديث برُمَّته ثم إن الفقيهَ يتلقَّاه ويتصرَّفُ فيه ويبسط فيه عِلَله ويقيسُ عليه الأمثال والأشباه. قال أبو علي فيما حكاه ابن جنّي: يجوزُ لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم وشعرَنا على شعرهم.
المسألة الثالثة عشرة: في أن اللغة هل تثبت بالقياس
قال الكِيَا الهرَّاسي في تعليقه الذي استقرّ عليه آراء المحققين من الأصوليين: إن اللغة لا تَثْبت قياسا ولا يجري القياس فيها.
وقال كثيرٌ من الفقهاء: القياسُ يجري في اللغة وعُزِي هذا إلى الشافعيّ رضي الله عنه ولم يدُل عليه نصُّه إنما دلَّت عليه مسائلُه؛ فنُصدِّر المسألة بتصويرها فنقول: أما أسماء الأعلام الجامدة والألقاب المحضة فلا يجري القياسُ فيها لأنه لا يُفيد وصفًا للمُسَمَّى وإنما وُضِعَت لمجرَّد التعيين والتّعريف ولو قَلَبْتَ فَسَمَّيْت زيدًا بعمرو وعكسه لصحّ إذ كلُّ اسمٍ منها لم يختص بمن سُمِّي به لمعنًى حتى لا يجوزَ أن يُعْدَل به إلى غيره فليست هذه الصورةُ من محلّ الخلاف. ولا يجوزُ أيضا أن يكونَ محلّ الخلاف المصادر التي يُقال هي مشتَقةٌ من الأفعال نحو ضرب ضربًا فهو ضارب وقتل قَتْلًا فهو قاتل فهذا ليس بقياس بل هو معلومٌ ضرورة من لغتهم ونُطْقِهم به على هذا الوجه ولكنّ محلّ الخلاف الأسماءُ المشتقَّة من المعاني كما يُقال في الخمر إنه مشتقٌّ من المُخَامرة أو التَّخْمير فإذا سُمِّي خَمْرًا من هذا الاشتقاق كان ما وُجِد فيه ذلك خمرًا كالنبيذ وغيره.
قال: وهذا عندنا باطلٌ، والدليل عليه أن إجراءَ القياس في اللغة لا يخلُو إما أن يُعْلَمَ عقلًا أو نقلًا أما العقلُ فلا مجالَ له في ذلك لأنه يجوزُ أن يكونَ واضعُ اللغة قد قصدَ بهذا الاسم أن يختصّ بما سُمِّي به ويجوز أن يكُونَ لم يقصد الاختصاص بل يُسمّى به كلّ ما في معناه وإذا كان الأمران جائزين في العقل لم يرجَّح أحدُهما على الآخر من غير مرجّح. وإن كان بطريق النقل فالنقل إما تَوَاتُر أو آحاد. أما التواتر فلا مَطْمع فيه إذْ لو كان لَعَلِمْناه ولكان مُخَالِفُه مكابرًا وأما الآحادُ فظنٌّ وتخمين لا يستندُ إلى أصلٍ مَقطوع به.
فإن قيل: فالأقيسةُ الشرعيةُ كلُّها مظنونةٌ ويُعْمَل بها.
قلنا: تلك مستندة إلى سَمْعيّ مقطوعٍ به في وجوب العمل وهو إجماعُ الصحابة وليس في قياس اللغة شيءٌ من ذلك.
فإن قيل: فالمعنى الظاهرُ في موضع الاشتقاق أصلٌ يُقاس عليه فكلُّ محَلٍّ يوجدُ فيه ذلك المعنى ينبغي أن يَجْري عليه ذلك الاسم.
قلنا: قد بيَّنا أن ذلك ظنٌّ وتخمينٌ لا يَسْتَنِدُ العملُ به إلى أصلٍ مَقْطوع به فكيف يقاسُ عليه وقال أبو الفتح بن برهان في كتاب الوصول إلى الأُصول: لا يجوزُ إجراءُ القياس في الأسامي اللغوية المشتقّة خلافًا للقاضي وابن شُرَيح وطوائفَ من الفقهاء فإنهم أثبتوا الأسَامِي بالقياس وقالوا: النبيذُ يسمَّى خمرًا لأن فيه شدة مُطْرِبة فهو كعصير العنب. واللِّوَاط يسمى زنًا لأنه وَطْء في فرج مُشتهى طبعًا محرّمٍ قطعًا فكان زنًا كالوَطْءِ في القُبل.
وذَكَرَ الدليل على ردّه كما تقدم في كلام الكِيَا الهرّاسِي في تعليقه سواء.
ثم قال: وعمدةُ الخَصْم أن العرب وَضعت اسمَ الفرس للحيوان الذي كان في زمانهم موجودًا ثم انقَرضَ وحدَث حيوانٌ آخرُ فسمِّي بذلك بطريق الإلحاق والقياس. قلنا: هذا ليس بصحيح بل العرب وضعت هذا الاسم للجنس، والجنس لا ينقرض.
قالوا: إذا جاز إجراءُ القياسِ في الأحكام الشَّرعية عند فَهْم المعنى جاز إجراءُ القياس في الأسَامِي اللغوية عند فَهْم المعنى. قلنا: هذا باطلٌ فإن القياس الشَّرعي إنما جاز إثباتُ الأحكام به بالإجماع المتَّفَق عليه وليس فيما تنَازعْنَا فيه إجماع وليس المقصودُ من إثبات الاسم اللغوي إثباتَ الحكم فإن القياسَ يجري في الأسامي اللغوية قبل الشَّرع على رأي مُثْبتي القياس في اللغة ولأن المعنى في القياس الشَّرعي مطَّرِد وفي القياس اللغوي غيرُ مطَّرد فإن البَنْج لا يسمّى خمرًا وإن كان يخامِرُ العقل والدار لا تسَمَّى قارُورة وإن كانت الأشياء تستقرّ فيها والغرابُ لا يسمى أَبْلَق وإن اجتمع فيه السوادُ والبياض فليس القياسُ الشرعي كالقياس اللغوي في المعنى وإن تمسّكوا بأنَّ القياسَ يجري في المصادر نحو ضرب يضرِب ضربًا وأكل يأكل أكلًا فلسنا نسلّم أن [ اللغة ] تثبت بالقياس وإنما تثبتُ نقلًا عن العرب.
وقال إمامُ الحرَمين في البرهان: ذهب بعضُ أصحابنا في طوائف من الفِرَق إلى أن اللغةَ لا يمتنعُ إثباتها قياسًا وإنما قالوا ذلك في الأسماء المشتقّةِ كالخمر فإنها من التخمير أو المخامرة فقال هؤلاء: إن خَصّصَت العربُ في الوضع اسم الخمر بالخمر النيئة العتيقة يجوزُ تسميةُ النبيذ المشتدّ خمرًا لمشاركتِه الخمر النيئة فيما منه اشتقاقُ الاسم.
والذي نرتضيه أن ذلك باطلٌ لِعلْمنا أن العربَ لا تلتزم طردَ الاشتقاق وأقربُ مُمَالٍ إليه أن الخمرَ ليس في معناها الإطراب وإنما هي المخامرة أو التخمير فلو ساغ الاستمساكُ بالاشتقاق لكان كلُّ ما يَخْمِر العقل أو يُخامره ولا يُطْربُ خمرًا وليس الأمر كذلك والقولُ الضابطُ فيه أن الذي يدّعي ذلك إن كان يزعمُ أن العربَ أرادته ولم تَبُح به فهو متحكّم من غير تثبّت وتوقيف فإن اللغاتِ على خلاف ذلك ولم يصح فيها ادّعاءُ نَقْل وإن كان يزعمُ أن العربَ لم تَعْن ذلك فَيُلْحِق فإلحاق شيءٍ بلسانها - وهي لم تُرِده - محال. والقياسُ في حكم من يبتدئُ وضع صيغة.
فإن قيل: الأقيسة الحكمية يدور فيها هذا التقسيم. قلنا: أَجَل ولكنْ ثَبَتَ قاطعٌ سمعيّ على أنها متعلَّق الأحكام. فإن نقلتم قاطعًا من أهل اللسان اتَّبَعْنَاه. ثم السرُّ فيه أن الإجماع انعقَد على وجوب العمل عند قيام ظنون القائسين فلم تكن الظنونُ موجبةً علمًا ولا عملًا وليس في اللغات عَمل. وإن كنتم تظنون شيئا فلا نمنعكم من الظن ولكن لا يسوغُ الحكمُ بالظن المجرّد. فإن تعلّق هؤلاء بالأسماء المشتقَّة من الأفعال كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري على قضيَّةٍ واحدة فقد ثبت في هذه الفنون من طريق النقل اطّرادُ القياس فاتَّبعناه ولا يجري هذا في محلّ النزاع.
قال الغزالي في المنخول: اختلفوا في أن اللغات هل تثبتُ قياسًا ووجهُ تنقيح محلّ النزاع أن صوغَ التصاريف على القياس ثابتٌ في كل مصدر نُقِل بالاتّفاق وهو في حكم المنقول وتبديلُ العبارات ممتنعٌ بالاتّفاق كتسمية الفرس دارًا وتسميةِ الدار فرسًا ومحلُّ النزاع القياسُ على عبارة تشير إلى معنى وهو حائدٌ عن منهج القياس كقولهم للخمر خمرًا لأنه يُخامر العقل أو يَخْمِرُه فهل تسمَّى الأشربة المخامِرة للعقل خمرًا وكذا قولهم للبعير إذا استحقَّ الحمل فهو حِقّ.
وجوَّز الأستاذُ أبو إسحاق مثلَ هذا القياس. والمختار مَنْعه لنا؛ إن كان إثبات هذا القياس مظنونًا فلا يُقبل إذ ليس هذا في مَظِنّة وجوبِ عمل وإن كان معلومًا فأثْبتوا مستنده ولا نَقْل من أهل اللغة في جواز ذلك ولا من الشارع ومسلكُ العقل ضروريّة ونظريّة منحسم في الأسامي واللغات وإن قاسوا على القياس في الشرع فَتَحكُّم لأن مستند ذلك التأسّي بالصحابة فما مستندُ هذا القياس ثم أطبقوا على أن البَنْج لا يسمَّى خمرًا مع كونه مخَمِّرًا فإن سَمّوه فليسمُّوا الدار قارورة لمشاركتها القارورة في هذا المعنى وهذا محال.
المسألة الرابعة عشرة: في سعة اللغة
قال بعض الفقهاء: كلامُ العرب لا يحيطُ به إلا نبيٌّ.
قال ابن فارس: وهذا كلام حَرِيٌّ أن يكونَ صحيحًا وما بَلَغَنا أن أحدًا ممنْ مَضَى ادَّعى حفظَ اللغة كلِّها. فأما الكتابُ المنسوب إلى الخليل وما في خاتمته من قوله: هذا آخرُ كلام العرب فقد كان الخليلُ أورعَ وأتقى لله تعالى من أن يقول ذلك.
وقد سمعت علي بن محمد بن مِهْرُوَيه يقول: سمعت هارون بن هزاري يقول: سمعت سفيان بن عُيَيْنة يقول: مَن أحبَّ أن ينظرَ إلى رجلٍ خُلِقَ من الذَّهب والمِسك فليَنْظُر إلى الخليل بن أحمد.
وأخبرني أبو داود سليمان بن يزيد عن ذلَل المَصاحفي عن النَّضْر بن شُمَيل قال: كنا نُمَيِّل بين ابن عَوْنٍ والخليل بن أحمد أيهما نُقدّم في الزهد والعبادة فلا نَدْري أيهما نقدّم.
قال: وسمعتُ النضر بن شُمَيل يقول: ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بالسُّنَّة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد.
قال: وسمعتُ النضر يقول: أُكِلَت الدنيا بأدَب الخليل وكُتُبِه وهو في خُصّ لا يُشْعَر به.
قال ابن فارس: فهذا مكان الخليل من الدِّين، أَفَتُرَاه يُقْدِم على أن يقول: هذا آخرُ كلام العرب؟ ثم إن في الكتابِ المَوْسُوم به من الإخلال ما لا خفاءَ به على علماء اللغة، ومَنْ نظر في سائرِ الأصناف الصحيحة عَلِم صحَّةَ ما قُلْناه. انتهى كلام ابن فارس.
وهذا الذي نَقَله عن بعض الفقهاءِ نصَّ عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه فقال في أوائل الرسالة: لسانُ العرب أوسعُ الألسنة مذهبًا وأكثرُها ألفاظًا ولا نعلمُ أن يحيط بجميع عِلْمِه إنسان غير نبيّ ولكنه لا يذهبُ منه شيء على عامتها حتى لا يكونَ موجودًا فيها مَنْ يعرِفه والعلمُ به عند العرب كالعِلم بالسّنة عند أهلِ الفقه لا يعلمُ رجلٌ جميعَ السنن فلم يذهب منها عليه شيء وإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن. وإذا فرّق عِلْم كلِّ واحد منهم ذهب عليه الشيءُ منها ثم ما ذهب منها عليه موجودٌ عند غيره وهم في العلم طبقاتٌ منهم الجامعُ لأكْثَره وإن ذهب عليه بعضُه ومنهم الجامعُ لأقلَّ مما جمع غيرُه وليس قليلُ ما ذهب من السُّنن على مَنْ جمع أكثرَها دليلًا على أن يطلبَ عِلمه عند غير أهل طبقته من أهلِ العلم بل يَطلبُ عند نُظرائه ما ذهب عليه حتى يُؤتى على جميع سنن رسول الله ﷺ بأبي هو وأمي فتفرَّد جملة العلماء بجملتها وهم درجات فيما وعوا منها وهذا لسانُ العرب عند خاصتِها وعامتها لا يذهبُ منه شيءٌ عليها ولا يُطْلبُ عند غيرها ولا يعلمُه إلا من قبله منها ولا يَشْرَكها فيه إلا من اتَّبعها وقبِله منها فهو من أهل لسانها وعِلْمُ أكثر اللسان في أكثر العرب أعمُّ من عِلْم أكثر السنن في العلماءِ. هذا نص الشافعي بحُروفِه.
وقال ابن فارس في موضع آخر: باب القول على أن لغة العرب لم تنته إلينا بكلّيتها وأن الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير وأن كثيرا من الكلام ذهب بِذهَاب أهله.
ذهب علماؤُنا أو أكثرُهم إلى أنَّ الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلُّ ولو جاءَنا جميعُ ما قالوه لجاءنا شعرٌ كثيرٌ وكلامٌ كثير، وأَحْرِ بهذا القول أن يكونَ صحيحًا لأنَّا نرى علماء اللغة يختلفون في كثيرٍ مما قالَتْه العربُ فلا يكادُ واحدٌ منهم يُخبرُ عن حقيقةِ ما خُولف فيه بل يسلك طريقَ الاحتمال والإمكان. ألا ترى أنَّا نسألهم عن حقيقةِ قَوْل العرب في الإغراء: كَذَبك كذا. وعما جاءَ في الحديث من قَوْله: كَذَب عليكم الحجُّ. وكَذَبك العسَلُ. وعن قول القائل:
[ كذَبْتُ عليكم أَوْعِدُوني وعَلّلوا ** بِيَ الأرضَ والأقوامَ قِرْدانَ مَوْظَبا.
وعن قول الآخر: ]
كَذَبَ العَتِيقُ وماءُ شَنٍّ بارِدٌ ** إن كُنتِ سائِلتي غَبُ وقًا فاذْهبي
ونحن نعلم أن قول كذب يَبْعُدُ ظاهره عن باب الإغراء. وكذلك قولهم: عَنْكَ في الأرض، وعَنْكَ شيئا. وقول الأفْوَه:
عنكُم في الأرض إنَّا مَذْحِجٌ ** ورُوَيدًا يَفْضَح الليلَ النهارُ
ومن ذلك قولهم: أَعْمَدُ من سيِّدٍ قَتَله قومُه. أي هل زاد على هذا. فهذا من مُشْكِلِ الكلام الذي لم يُفَسَّر بعدُ وقال ابن مَيّادة:
وأعْمَدُ من قومٍ كَفَاهم أخُوهُمُ ** صِدامَ الأَعادي حين فُلَّتْ نُيوبُها
قال الخليل وغيره: معناه هل زدنا على أن كفينا [ إخواننا ]ز
وقال أبو ذؤيب:
صَخِبُ الشَّوَارِبِ لا يزالُ كأنَّه ** عبدٌ لآلِ أبي رَبيعةَ مُسْبَعُ
فقوله مسبع ما فُسِّر حتى الآنَ تَفْسيرًا شافيًا.
ومن هذا الباب قولهم: يا عِيد ما لَك، ويا هَيْء ما لك، ويا شيءَ ما لك. ولم يُفَسِّروا قولهم: صَهْ، وَوَيْهَك، وإنيهْ، ولا قول القائل: بخاي بِكَ الحَقْ يَهْتِفون وحَيَّ هَلْ[8] ويقولون: خاءِ بكما وخاء بكم.
فأما الزَّجْرُ والدُّعاءُ الذي لا يُفهَمُ موضوعُه فكثيرٌ كقولهم: حيَّ وحيَّ هَلا وبعَيْنٍ ما أَرَيَنَّك، في مَوْضعِ اعْجل. وهَجْ وهَجَا ودَعْ وَدَعًا ولَعًا للعاثر، يدعون له.
ويُروى عن النبيّ ﷺ أنه قال: لا تَقولوا دَعْدَعْ ولا لَعْلَعْ ولكن قولوا اللهمَّ ارْفَع وَانْفَعْ. فلولا أن للكلمتين معنًى مفهومًا عند القومِ ما كَرِههما ﷺ.
وقولهم في الزَّجْرِ: أخِّرْ وَأَخِّرِي وهَأْهَأْ وهَلا وهَابْ وَأَرْحِبْ وَأرْحِبي وَعَدْعَدْ وعاجِ وياعاطِ وِيَعَاطِ وإجِدْ واجْدَمْ وجِدِحْ. لا نعلم أحدًا فسَّر هذا. وهو باب يكثرُ ويُصَحِّحُ ما قلناه.
ومن المشتَبَه الذي لا يقالُ فيه اليومَ إلا بالتّقريب والاحتمال وما هو بغريب اللفظ لكنَّ الوقوف على كُنهه مُعتَاصٌ قولنا: الحِين والزمانُ والدهرُ والأوَان وبضع سنين والغِنَى والفَقْر والشريف والكريم واللئيم والسّفِيه والسِّفْلة وما أشبه ذلك مما يطول ولا وجه فيه غير التقريب والاحتمال وإلا فإن تحديدَه حتى لا يجوزَ غيرُه بعيد.
وقد كان لذلك كلِّه ناس يعرفونه وكذلك يعلمون معنى ما نَسْتَغْرِبه اليوم نحن من قولنا عُبْسور في الناقة وعَيْسَجُور وامرأة ضِناك وفرس أشقُّ أمَقُّ خِبَقُّ، ذهب هذا كله بذهاب أهله ولم يبق عندنا إلا الرَّسمُ الذي نراه.
قال: وعلماء هذه الشريعة وإن كانوا اقتصروا من علم هذا على معرفة رَسْمِه دون عِلْم حقائقه فقد اعتاضوا عنه دَقيقَ الكلام في أصول الدِّين وفروعه من الفقه والفرائض ومن دقيق النحو وجليله ومن عِلْم العَرُوض الذي يُربأْ بحُسْنِه ودقَّته واستقامته على كل ما تبجَّح به الناسبون أنفسهم إلى الفلسفة. ولكلّ زمانٍ علم وأشرف العلوم علوم زماننا هذا ولله الحمد. هذا كلُّه كلام ابن فارس.
المسألة الخامسة عشرة: في عدة أبنية الكلام
قال ابن دريد في الجمهرة: إذا أردت أن تُؤَلِّف بناءً ثُنائيًّا أو ثلاثيًّا أو رُباعيًّا أو خُماسيًّا فخذْ من كل جنس من أجناس الحروف المتباعدة ثم أَدِرْ دَارَةً فوّقع ثلاثة أحرف حَواليها ثم فُكَّها من عند كل حرفٍ يمنة ويسرة حتى تُفَكّ الأحرفُ الثلاثة فيخرج من الثلاثي
ستة أبنية [ ثلاثية ] وتسعة أبنية ثنائية - وهذه هي الصورة: [9]
ب ∆ ج
د
فإذا فعلت ذلك استقصيتَ من كلام العرب ما تكلَّموا به وما رغبوا عنه.
قال: وأنا مفسر لك ما يرتفع من الأبنية الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية إن شاء الله تعالى بضَرْبٍ من الحِساب واضح.
فإذا أردت أن تستقصي من كلام العرب ما كان على حرفين مما تكلموا به أو رغبوا عنه مما يَأتَلف أو لا يأتلف مثل: كم وقد وعن وأخواتها فانظر إلى الحروف المعجمة وهي ثمانيةٌ وعشرون حرفًا فاضْرب بعضها في بعض تبلغ سبعمائة وأربعة وثمانين حَرْفًا ولا يكون الحرف الواحد كلمة. فإذا أزوجتهن [10] حرفين حرفين صِرْن ثلاثمائة واثنتين وتسعين بناءً مثل دم وما أشبهه، فإذا قَلَبْتَهُ عاد إلى سبعمائة وأربعة وثمانين بناء، منها ثمانية وعشرون [ بناء ] مشتَبهة الحرفين مثل هه - قلْبُه وغير قَلبه [ لفظٌ ] واحد - ومنها مائة وخمسون بناء ثنائية ممزوجة بهذه الأحرف الثلاثة [ المعتلة ] الياء والواو والهمزة، ويجمعها خمسة وسبعون بناءً ثنائيًا قبل القلب، ومنها ستة أبنية معتلّة يَجْمَعُها ثلاثة أبنية قبل القلْب، ومنها ثلاثة أبنية مضاعفة وخمسة وعشرون بناء ثنائيًا صحاحًا مضاعفة. فافهم فقد بيَّنت لك عِدّة ما يخرج من الثنائي مما تكلَّموا به ورغبوا عنه.
وإذا أردت أن تؤلّف الثلاثي فاضرب ثلاثة أحرف معتَلات في التسعة الثنائية المعتلة فتصير سبعة وعشرين بناء ثلاثية معتلات كلها. وتضرب الثلاثة المعتلات أيضا في مائة وخمسين بناء ثنائيًا حرف منها صحيح وحرف منها معتل فتصير أربعمائة وخمسين بناء ثلاثيًا حرفان منها معتلّان وحرف صحيح، وتضرب الثلاثة المعتلات في ستمائة بناء صحيحة الحرفين فتصير ألفًا وثمانمائة بناء ثلاثي حرفان منها صحيحان وحرف معتل. وتضرب خمسة وعشرين حرفًا صحيحًا في ستمائة بناء ثنائي صحاح الحروف فتصير خمسة عشر ألفًا وستمائة [ وخمسة ] وعشرين بناء ثلاثيًا. فهذا أكثرُ ما يخرج من البناء الثلاثي.
فإذا أردت أن تؤلِّف الرباعي فعلى القياس تضرب الثلاثة المعتلات في السبعة والعشرين بناء ثلاثيًا، ثم تضرب في أربعمائة وخمسين، ثم في الألف والثمانمائة، ثم تضرب الخمسة والعشرين الصحاح في الخمسة عشر ألف بناء ثلاثي صحاح الحروف [ مضاعفة ]؛ فما بَلَغ فهو عدد الأبنية الرباعية. وكذلك سبيل الخماسي الصحيح؛ فأما السداسي فلا يكون إلا بالزوائد. انتهى.
وذكر حمزة الأصبهاني في كتاب الموازنة فيما نقله عنه المؤرخون قال: ذَكَر الخليل في كتاب العين أن مبلغ عدد أبنية كلام العرب المُسْتَعمَل والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائيّ والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار اثنا عشر ألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة آلاف وأربعمائة واثنا عشر: الثنائي سَبعِمائة وستة وخمسون، والثلاثي تسعة آلاف ألف وستمائة وخمسون، والرباعي أربعمائة مائة ألف وواحد وتسعون ألفًا وأربعمائة، والخماسي أحد عشر ألف ألف وسبعمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفًا وسِتمائة. [11]
وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي في مختصر كتاب العَين: عدّةُ مُسْتَعْمَلِ الكلام كلِّه ومُهمَلِه ستةُ آلاف ألف وسِتِّمائة ألف وتسعةٌ وخمسون ألفًا وأربعمائة، المستعملُ منها خمسةُ آلاف وسِتمائة وعشرون والمهملُ ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفًا وسبعمائة وثمانون، عِدَّةُ الصحيح منه ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وخمسون ألفًا وأربعمائة والمعتلَّ ستة آلاف. المستعملُ من الصحيح ثلاثة آلاف وتسعمائة وأربعة وأربعون والمهملُ منه ستة آلاف ألف وتسعة وثمانون ألفًا وأربعمائة وستة وخمسون المستعمل من المعتل ألف وستمائة وستة وسبعون والمهملُ منه أربعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وعشرون. عدّة الثنائيّ سبعمائة وخمسون والمستعملُ منه أربعمائة وتسعة وثمانون والمهملُ مائتان وواحد وستون الصحيح منه ستّمائة والمعتل مائة وخمسون المستعمل من الصحيح أربعمائة وثلاثة والمهمل مائة وسبعة وتسعون والمستعمل من المعتل ستة وثمانون والمهملُ أربعة وستون. وعدّة الثلاثي تسعة عشر ألفًا وستمائة وخمسون المستعمل منه أربعة آلاف ومائتان وتسعة وستون والمهملُ خمسة عشر ألفًا وثلاثمائة وواحد وثمانون. الصحيح منه ثلاثة عشر ألفًا وثمانمائة والمعتلُّ سوى اللفيف خمسة آلاف وأربعمائة واللَّفيفُ أربعمائة وخمسون. المستعمل من الصحيح ألفان وستمائة وتسعة وسبعون والمهملُ أحد عشر ألفًا ومائة وواحد وعشرون. والمستعملُ من المعتل سوى اللفيف ألف وأربعمائة وأربعة وثلاثون والمهملُ ثلاثة آلاف وتسعمائة وستة وستون. والمستعملُ من اللفيف مائة وستة وخمسون والمهملُ مائتان وأربعة وتسعون. وعدّة الرباعيّ ثلاثمائة ألف وثلاثة آلاف وأربعمائة المستعمل ثمانمائة وعشرون والمهملُ ثلاثمائة ألف وألفان وخمسائة وثمانون. وعدَّة الخماسيّ ستة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفًا وستمائة المستعمل منه اثنان وأربعون والمهملُ ستة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفًا وخمسمائة وثمانية وخمسون.
قال الزبيدي وهذا العددُ من الرباعي والخماسي على الخمسة والعشرين حرفًا من حروف المعجم خاصة دون الهمزة وغيرها وعلى ألا يتكرر في الرباعي والخماسيّ حرف من نَفْس الكلمة.
قال: وعدة الثنائي الخفيف والضربين من المضاعف على نحو ما ألحقناه في الكتاب: ألفا حرف ومائتا حرف وخمسة وسبعون حرفًا المستعملُ من ذلك ألف حرف وثمانمائة وخمسة وعشرون والمعتل أربعمائة وخمسون المستعملُ من الصحيح تسعة وخمسون والمهمل ألف وسبعمائة وستة وستون والمستعملُ من المعتل ثلاثة وأربعون والمهمل أربعمائة وسبعة.
المسألة السادسة عشرة
أول من صنف في جمع اللغة الخليل بن أحمد: ألف في ذلك كتاب العَين المشهور. قال الإمام فخر الدين في المحصول: أصلُ الكُتب المصنفة في اللغة كتابُ العين، وقد أَطْبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه. وقال السِّيرافِي في طبقات النحاة في ترجمة الخليل: عملَ أوَّل كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهيّأ ضبطُ اللغة وهذه العبارةُ من السِّيرافي صريحةٌ في أن الخليلَ لم يُكَمِّلْ كتابَ العين وهو الظَّاهرُ لما سيأتي من نَقْل كلام الناس في الطَّعْن فيه بل أكثرُ الناس أنْكَرُوا كونَه من تصنيف الخليل.
قال بعضهم: ليس كتابُ العين للخليل وإنما هو لِلَّيث بن نَصْر بن سيّار الخُرَاساني.
وقال الأزهري: كان الليثُ رجلًا صالحًا عمِل كتاب العين ونسبَه إلى الخليل ليَنْفُق كتابُهُ باسمِه ويَرْغب فيه [ من حوله ].
وقال بعضهم: عَمِلَ الخليلُ من كتاب العين قطعةً من أوَّله إلى حرف الغين وكَمَّله الليث ولهذا لا يُشْبِهُ أولَه آخرُه.
وقال ابن المعتز: كان الخليلُ منقطعًا إلى اللَّيْث فلما صنَّف كتابه العين خصَّه به فحظِيَ عنده جدا ووقع منه مَوْقِعًا عظيمًا ووهَبَ له مائة ألف [ درهم ] وأقبل على حِفْظِه ومُلازَمَتِهِ فحفظ منه النصف [ وكانت تحته ابنة عمه ] واتفق أنه اشترى جارية نفيسةً فَغَارَت ابنةُ عمه وقالت: والله لأغيظنَّه وإن غِظْتُه في المال لا يُبَالي ولكني أراهُ مُكِبًّا ليلَه ونهارَه على هذا الكتاب والله لأفجَعَّنه به فأحْرَقتْهُ فلما عَلِمَ اشتدَّ أسفُه ولم يكن عند غيرِه منه نسخةٌ وكان الخليلُ قد مات فأمْلَى النِّصْفَ من حِفْظه وجمع علماءَ عصره وأمرهم أن يُكَمِّلُوه على نَمَطه وقال لهم: مَثِّلوا واجتهدوا فعملوا هذا التَّصْنيف الذي بأيْدِي الناس. أَوْرَدَ ذلك ياقوت الحموي في معجم الأدباء.
وقال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي في كتاب مراتب النحويين: أبْدَعَ الخليلُ بَدائع لم يُسْبَق إليها، فمن ذلك تأليفُه كلامَ العرب على الحروف في كتابه المُسمَّى كتابَ العين فإنه هو الذي رتب أبوابه وتوفي من قبل أن يحشوه.
أخبرنا محمد بن يحيى قال: سمعت أحمد بن يحيى ثعْلَبَ يقول: إنما وقَع الغلطُ في كتاب العين لأَنَّ الخليلَ رسمَهُ ولم يَحْشه ولو كان هو حَشاه ما بقيَ فيه شيءٌ لأَن الخليل رجلٌ لم يُرَ مثلُه وقد حشا الكتاب أيضا قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤخذ منهم روايةً وإنما وُجد بنقل الورَّاقين فاختلَّ الكتابُ لهذه الجهة.
وقال محمد بن عبد الواحد الزاهد: قال: حدثني فتًى قَدِمَ علينا من خُراسان وكان يقرأ عليَّ كتاب العين قال: أخبرني أبي عن إسحاق بن راهَويْه قال: كان الليثُ صاحبُ الخليل بن أحمد رجلًا صالحًا وكان الخليلُ عَمِل من كتاب العين باب العين وحدَه وأحبَّ الليثُ أن يَنْفُق سوقُ الخليل فصنَّف باقي الكتاب وسمَّى نفسه الخليل وقال لي مرّةً أخرى: فسمَّى لسانه الخليل من حبِّه للخليل بن أحمد. فهو إذا قالَ في الكتاب: قال الخليل بن أحمد: فهو الخليل. وإذا قال: وقال الخليلُ مطلقًا فهو يحكي عن نفسه فكلُّ ما في الكتاب من خَلل فإنه منه لا من الخليل. انتهى.
وقال النووي في تحرير التنبيه: كتابُ العين المنسوبُ إلى الخليل إنما هو من جَمْع الليثِ عن الخليل.
ذكر قدح الناس في كتاب العين
تقدَّمَ في كلام الإمام فخر الدين أنَّ الجمهورَ من أهل اللغة أَطْبَقُوا على القَدْح فيه وتقدَّم كلامُ ابن فارس في ذلك في المسألة الرابعة عشرة.
وقال ابن جني في الخصائص: أما كتابُ العين ففيه من التَّخْلِيط والخَلَل والفَساد ما لا يَجُوزُ أن يُحْمَل على أصْغَر أتباع الخليل فَضْلًا عن نفسه ولا محالة أن هذا التَّخْليط لَحِق هذا الكتابَ من قِبَل غيره فإن كان للخليل فيه عَمَلٌ فلعلَّه أوْمَأ إلى عمل هذا الكتاب إيماءً ولم يَلِه بنفسه ولا قرَّره ولا حرَّره ويدلُّ على أنه كان نحَا نحْوَه أنني أجدُ فيه معاني غامضة ونَزَوَات للفكر لطيفة وصيغةً في بعض الأحوال مستحكمة وذاكرتُ به يومًا أبا عليّ فرأيتُه مُنْكِرًا له فقلت له: إن تصنيفَه مُنْساق متوجّه وليس فيه التعسُّف الذي في كتاب الجمهرة فقال: الآن إذا صنَّف إنسان لغة بالتركية تصنيفًا جيدًا يؤخذ به في العربية أو كلامًا هذا نحوه. انتهى.
وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي اللغوي مؤلّف مختصر العين في أول كتابه - اسْتِدْرَاكُ الغَلَطِ الواقع في كتاب العَين - وهو مجلَّد لطيف يخاطب بعضَ إخوانه: وصل إلينا أَيَّدَكَ الله كتابَك تذكُرُ فيه ما أُولع به قومٌ من ضَعَفَة أهل النَّظر من التحامل علينا والتسرّع بالقول فينا بما نسبُوه إلينا من الاعتراض على الخليل بن أحمد في كتابه والتَّخْطِئَة له في كثير من فُضُوله وقلت: إنهم قد استمالوا جماعةً من الحشوية إلى مذهبهم وعَدَلوا بهم إلى مقالتهم بما لبّسوا به وشنَّعوا القول فيه وسألتَ أن أَحْسم ما نَجَم من إفْكِهِم وأرد ما نَدَر من وقد كنتَ - أَيَّدَك الله في صحَّة تمييزك وعظيم النعمة عليك - في نظرك جديرًا ألا تُعرِّج على قوم هم بالحال التي ذَكرتَ وأن يقعَ لهم العذرُ لديك بوجوه جَمَّة منها: تخلّفهم في النظر وقلةُ مطالعتهم للكتب وجهلُهم بحُدُودِ الأدب مع أن العلَّة المُوجبة لمقالتهم والباعثةَ لتسرُّعِهم علةُ الحسد الذي لا يُدَاوى سَقَمه ولا يُؤْسَى جرحه فقد قال الحكيم: كلُّ العَداوات قد تُرجى إفاقتها إلا عداوةَ مَنْ عاداك من حَسدِ أوليسَ من العجب العجيب والنادِر الغريب أن يَتوهَّم علينا مَنْ به مُسْكَة من نظَرٍ أو رمَق من فَهْم تخطئةَ الخليل في شيءٍ من نظرِه والاعتراضَ عليه فيما دقَّ أو جلّ من مذهبه والخليلُ بنُ أحمد أَوْحَدُ العصر وقريعُ الدَّهر وجِهْبِذ الأُمة وأستاذُ أهل الفِطْنَة الذي لم يُرَ نظيرُه ولا عُرِف في الدنيا عديلُه وهو الذي بَسط النحوَ ومَدَّ أطنابَه وسبَّب عِلَلَه وفَتَقَ معانيه وأوضحَ الحِجاج فيه حتى بلغ أَقْصى حدودِه وانتهى إلى أبعدِ غاياته ثم لم يرضَ أن يؤلِّفَ فيه حرفًا أو يَرْسُمَ منه رَسْمًا نَزَاهَةً بنفسه وتَرَفُّعًا بقَدْرِه إذ كان قد تقدّم إلى القول عليه والتأليف فيه فَكَرِهَ أن يكونَ لمن تقدّمه تاليًا وعلى نظَرِ مَن سَبَقهُ مُحْتَذِيًا واكتفى في ذلك بما أَوْحَى إلى سيبويه من عِلْمِه ولقَّنه من دقائقِ نَظره ونتائج فِكره ولطائفَ حكمته فحَمل سيبويه ذلك عنه وتقلّده وألفَّ فيه الكتاب الذي أعجَزَ من تقدَّم قبلَه كما امتنع على من تأخَّرَ بعده.
ثم ألف على مذهب الاخْتراع وسبيل الإبداعِ كتابي الفرش والمثال في العَروض فحصرَ بذلك جميعَ أوزانِ الشعر وضمَّ كلَّ شيءٍ منه إلى حيِّزه وأَلْحَقَه بشَكْله وأقام ذلك عن دوائرَ أَعْجَزَتِ الأذهان وبَهَرَتِ الفِطَن وغمرتِ الألباب وكذلك ألَّف كتاب المُوسيقى فَزَمَّ فيه أصناف النَّغَم وحَصَر به أنواع اللحون وحدَّد ذلك كلّه ولخّصه وذكر مَبَالغ أقسامه ونهاياتِ أعداده فصار الكتابُ عِبرةً للمُعتبرين وآيةً للمتوسِّمين.
ولما صنعَ إسحاق بن إبراهيم كتابَه في النَّغم واللّحون عَرضه على إبراهيم بن المهدي فقال له: لقد أحسنتَ يا أبا محمد وكثيرا ما تُحْسِنُ فقال إسحاق: بل أحسنَ الخليلُ لأَنه جعلَ السبيلَ إلى الإحسان فقال إبراهيم: ما أحسن هذا الكلام فمِمَّنْ أخَذْتَهُ قال: من ابن مُقْبِل إذ سمع حمامةً فاهْتاج فقال: ولو قَبْلَ مَبْكاها بكيتُ صبابةً إذًا لشَفيت النفسَ قبل التندُّم ولكن بكَتْ قبلي فهاج ليَ البُكا بُكاها فقلت: الفضلُ للمتقدِّم ثم ذهب بعد - في حَصْر جمع الكلام - مذهبَهُ من الإحاطة التي لم يتعاطاها غيرُه ولا تعرّضها أحدٌ سواه فثقَّف الكلام وزمَّ جميعه وبيّن قيامَ الأبنية من حروف المُعْجم وتعاقب الحروف لها بنظَرٍ لم يُتَقَدَّم فيه وإبْداعٍ لم يُسْبَق إليه ورَسَمَ في ذلك رُسُومًا أكملَ قياسها وأعطى الفائدةَ بها فكان هذا قدرَه في العِلم ومبلغَه من النفاذ والفَهْم حتى قال بعضُ أهل العلم: إنه لا يجوزُ على الصِّراط بعد الأنبياءِ عليهم السلام أحدٌ أدقُّ ذِهْنًا من الخليل ولو أن الطاعنَ علينا يتصفّحُ صَدْر كتابُنا المختصر من كتاب العين لَعَلِمَ أنَّا نَزَّهْنا الخليل عن نِسْبَة المُحال إليه ونَفَيْنا عنه من القَوْل ما لا يليقُ به ولم نَعْدُ في ذلك ما كان عليه أهلُ العلم وحذَّاق أهل النظر.
وذلك أنَّا قلنا في صَدْر الكتاب: ونحن نَرْبأُ بالخليل عن نِسْبَة الخَلَل إليه أو التعرّض للمقاومة له بل نقول: إن الكتاب لا يصحّ له ولا يثبتُ عنه وأكثرُ الظن فيه أن الخليل سَبَّب أصله وثقَّف كلام العرب ثم هلَك قبل كَماله فتعاطى إتمامَه من لا يقومُ في ذلك مقامه فكان ذلك سببَ الخَللِ الواقع فيه والخطأِ الموجود فيه.
هذا لفظُنا نصًّا وقد وافقْنا بذلك مقالةَ أبي العباس أحمد بن يحيى ثَعْلب قبل أن نُطالِعَها أو نسمعَ بها حتى ألفيناها بخطّ الصولي في ذكر فضائل الخليل.
قال الصولي: سمعتُ أبا العباس ثعلبًا يقول: إنما وقع الغلطُ في كتاب العين لأنَّ الخليل رسَمهُ ولم يحشه ولو أن الخليل هو حشاه ما بقّى فيه شيئا لأن الخليلَ رجلٌ لم يُرَ مثلُه.
قال: وقد حَشَا الكتاب قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤْخذ عنهم رواية إنما وُجد بنقل الورَّاقين فلذلك اختل الكتاب.
ومن الدليل على ما ذكره أبو العبّاس من زيادات الناس فيه اختلافُ نُسَخِه واضطرابُ رواياته، إلى ما وقع فيه من الحكايات عن المتأخِّرِين والاستشهاد بالمرذول من أشعار المُحْدَثين. فهذا كتابُ ابن مُنذر بن سعيد القاضي الذي كتبه بالقَيْروَان وقابلَه بمصر بكتابِ ابن وَلّاد وكتابُ ابن ثابت المُنتسَخ بمكة قد طالعناهما فألفينا في كثير من أبوابهما: أخبرنا المسعريّ عن أبي عُبيد، وفي بعضها: قال ابن الأعرابي وقال الأصمعي؛ هل يجوزُ أن يكون الخليل يروي عن الأصمعي وابن الأعرابي أو أبي عُبيد فضلًا عن المسعري؟ وكيف يروي الخليل عن أبي عبيد وقد توفي الخليل سنة سبعين ومائة وفي بعض الروايات سنة خمس وسبعين ومائة وأبو عبيد يومئذ ابن ست عشرة سنة، وعلى الرواية الأخرى ابن إحدى وعشرين سنة لأنَّ مَوْلد أبي عبيد سنة أربع وخمسين ومائة ووفاتَه سنة أربع وعشرين ومائتين. ولا يجوز أن يُسْمَع عن المسعري عِلُم أبي عُبيد إلا بعد مَوْتِه؛ وكذلك كان سماعُ الخُشَني منه سنة سبع وأربعين ومائتين، فكيف يُسْمَع الموتى في حالِ مَوْتهم أو يَنْقُلُون عمّن وُلِد مِن بعدهم؟
وحدثنا إسماعيل بن القاسم البغدادي - وهو أبو عليّ القالي - قال: لما وَرَدَ كتابُ العَين من بلد خُراسان في زمن أبي حاتم أنكره أبو حاتم وأصحابه أشدّ الإنكار ودفعَهُ بأبْلَغِ الدَّفع. وكيف لا ينكِرُهُ أبو حاتم على أن يكون بريئًا من الخَلَل سليمًا من الزَّلل. وقد غَبر أصحابُ الخليل بعدُ مدةً طويلة لا يعرفون هذا الكتابَ ولا يَسمعون به؛ منهم النَّضر بن شُميل ومُؤَرِّج ونصر بن علي وأبو الحسن الأخفش وأمثالهم، ولو أن الخليل ألَّف الكتاب لَحَمَله هؤلاءِ عنه وكانوا أَوْلَى بذلك من رجلٍ مجهول الحال غير مشهور في العلم انفرَدَ به وتوحَّدَ بالنقل له. ثم دَرَجَ أصحابُ الخليل فتوفي النضر بن شُمَيل سنة ثلاث ومائتين والأخفش سنة خمس عشرة ومائتين ومؤَرّج سنة خمس وتسعين [ ومائة ] ومضت بعدُ مدة طويلة ثم ظهر الكتابُ بأخَرَةٍ في زمان أبي حاتم وفي حال رياسته وذلك فيما قارب الخمسين والمائتين لأن أبا حاتم تُوُفِّي سنة خمس وخمسين ومائتين، فلم يلتفت أحدٌ من العلماءِ إليه يومئذ ولا استجازوا روايةَ حرفٍ منه، ولو صحَّ الكتابُ عن الخليل لبدر الأصمعي واليَزيدي وابن الأعرابي وأشباههم إلى تزيين كُتُبهم وتَحْلِيَة علمهم بالحكاية عن الخليل والنَّقْلِ لِعِلْمِه وكذلك مَنْ بعدهم كأبي حاتم وأبي عُبيد ويعقوب وغيرهم من المصنفين فما عَلِمنا أحدًا منهم نَقَلَ في كتابه عن الخليل من اللغة حَرْفًا.
ومن الدليل على صحّة ما ذكرناه أن جميعَ ما وَقَع فيه من معاني النحو إنما هو على مذهب الكوفيين وبخلاف مذهب البصريين فمن ذلك ما بُدِئَ الكتابُ به وبُني عليه من ذكر مَخارج الحروف في تقديمها وتأخيرها وهو على خلاف ما ذكره سيبيويه عن الخليل في كتابه وسيبويه حاملٌ علمَ الخليل وأوْثَقُ الناس في الحكاية عنه ولم يكن لِيَخْتَلِف قولُه ولا لِيتناقَض مذهبُه ولسنا نريدُ تقديم حرفِ العين خاصة للوَجْه الذي اعتلَّ به ولكن تقديمَ غير ذلك من الحروف وتأخيرها. وكذلك ما مضى عليه الكتابُ كلُّه من إدْخال الرُّباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف وهو مذهبُ الكوفيين خاصة. وعلى ذلك استمرَّ الكتابُ من أوّله إلى آخره إلى ما سنذكره من نحو هذا.
ولو أن الكتاب للخليل لما أَعْجَزَه ولا أشْكل عليه تثقيفُ الثنائيّ الخفيف من الصحيح والمعتل والثنائي المضاعف من المعتل والثلاثي المعتل بعِلّتين ولما جعل ذلك كله في باب سمَّاه: اللفيف فأدْخَلَ بعضَه في بعض وخَلَط فيه خَلْطًا لا ينفصلُ منه شيءٌ عما هو بخلافه ولوَضع الثُّلاثي المعتل على أقسامه الثلاثة لِيسْتَبينَ معتلُّ الياءِ من معتل الواو والهمزة ولما خلَط الرباعيّ والخماسي من أولهما إلى آخرهما.
ونحن على قَدْرنا قد هذَّبْنا جميعَ ذلك في كتابنا المختصَر منه وجَعَلْنا لكلِّ شيءٍ منه بابًا يحصُره وعددًا يجمعه. وكان الخليلُ أَوْلَى بذلك وأَجْدَر ولم نحْكِ فيه عن الخليل حَرْفًا ولا نَسَبْنا ما وقع في الكتاب عنه توخِّيًا للحق وقصْدًا إلى الصدق وأنا ذَاكِرٌ الآنَ من الخطأ الواقع في كتاب العين ما لا يذهب على َمنْ شَدَا شيئا من النَّحو أو طالَع بابًا من الاشتقاق والتّصريف ليقومَ لنا العُذْر فيما نَزَّهْنا الخليل عنه.
انتهى كلام الزبيدي في صَدْر كتاب الاستدراك.
قلت: وقد طالعته إلى آخره فرأيت وجهَ التَّخْطِئَة فيما خُطّئ فيه غالبُه من جهة التصريف والاشتقاق كَذِكْرِ حرفٍ مَزِيدٍ في مادّة أصلية أو مادةٍ ثلاثية في مادة رباعية ونحو ذلك وبعضُه ادّعى فيه التصحيف وأما أنه يُخَطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال: هذه اللفظة كذبٌ أو لا تُعرف فمعاذَ الله لم يقع ذلك.
وحينئذ لا قَدْح في كتاب العين لأن الأولَ الإنكارُ فيه راجعٌ إلى الترتيب والوضْع في التأليف وهذا أمْرٌ هَيّن لأنَّ حاصله أن يقال: الأَوْلَى نقلُ هذه اللفظة من هذا الباب وإيرادُها في هذا الباب وهذا أمرٌ سَهلٌ وإن كان مقامُ الخليل يُنزَّه عن ارتكاب مثل ذلك إلا أنه لا يمنعُ الوثوقَ بالكتاب والاعتمادَ عليه في نقل اللغة. والثاني إن سُلِّم فيه ما ادّعى من التصحيف يقال فيه ما قالته الأئمة: ومَنْ ذا الذي سَلِمَ من التصحيف كما سيأتي في النوع الثالث والأربعين مع أنه قليل جدًا وحينئذ يزول الإشكال الذي يأتي نَقْله عن الإمام فخر الدين في النوع الثالث.
فائدة
ممن ألَّف أيضا الاستدراك على العين أبو طالب المُفَضَّل بن سَلَمَة بن عاصم الكُوفيّ من تلامذة ثعلب. قال أبو الطيب اللغوي: ردَّ أشياء من كتاب العين أكثرُها غيرُ مَردود. وأبو طالب هذا متقدِّم الوفاة على الزبيدي.
فائدة
قال أبو الحسن الشَّاري في فهرسته: كان شيخُنا أبو ذرّ يقول: المختصرات التي فُضِّلَت على الأمَّهات أربعة: مختصر العين للزَّبيدي ومختصر الزَّاهر للزَّجاجي ومختصر سيرة ابن إسحاق لابن هشام ومختصر الواضحة للفضل بن سلمة.
قال الشاري: وقد لهج الناسُ كثيرا بمختصر العين للزبيدي فاستعملوه وفضلوه على كتاب العين لكونه حذف ما أورده مؤلف كتاب العين من الشواهد المختلقة والحروف المصحّفة والأبنية المختلّة وفضَّلوه أيضا على سائر ما أُلِّف على حروف المعجم من كتب اللغة مثل جمهرة ابن دريد وكتب كُراع لأجل صِغَر حجمه وأَلْحَق به بعضهم ما زاده أبو علي البغدادي في البارع على كتاب العين فكَثُرَت الفائدة.
قال: ومذهبي ومذهب شيخي أبي ذرّ الخُشَني وأبي الحسن بن خَرُوف أن الزبيدي أخلَّ بكتاب العين كثيرا لحذفه شواهدَ القرآن والحديث وصحيح أشعار العرب منه.
ولما عَلِمَ ذلك من مُخْتَصَر العين الإمام أبو غالب تَمّام بن غالب المعروف بابن التَّيَّاني عمل كتابه العظيم الفائدة الذي سمَّاه بفَتْح العين وأتى فيه بما في العين من صحيح اللغة الذي لا اختِلاف فيه على وجهه دون إخْلالٍ بشيء من شواهد القرآن والحديث وصحيحِ أشعار العرب وطرَح ما فيه من الشواهد المختلقة والحروف المُصَحَّفة والأبنية المختلّة ثم زاد فيه ما زاده ابن دريد في الجمهرة فصار هذا الديوانُ محتويًا على الكتابين جميعًا وكانت الفائدةُ فيه فَصْلَ كتاب العين من الجمهرة وسِياقه بلفظه لِينْسب ما يحكى منه إلى الخليل إلا أن هذا الديوان قليلُ الوجود لم يعرّج الناسُ على نَسْخه بل مالوا إلى جمهرة ابن دريد ومُحكم ابن سيده وجامع ابن القَزَّاز وصِحَاح الجوهري ومُجْمَل ابن فارس وأفعال ابن القُوطيّة وابن طريف ولم يعرّجوا أيضا على بارع أبي عليّ البغدادي ومُوعَبُ أبي غالب بن التَّيَّاني المذكور وهما من أصحِّ ما أُلِّف في اللغة على حروف المعجم والكتُب التي مالوا إلى الاعتناءِ بها قد تكلَّم العلماءُ فيها إلا أن الجمْهرة لابنِ دريد أثنى عليه كثيرٌ من العلماءِ ويوجد منه النُّسَخُ الصحيحةُ المروِيَّة عن أكابر العلماء.
وقال بعضهم: إنه من أحسن الكتب المؤلَّفة على الحروف وأصحّها لغة وقد آخذه أبو علي الفارسي النحوي وأبو عليّ البَغدادي القَالِي وأبو سعيد السِّيرافي النحوي وغيرهم من الأئمة.
وأما كتاب العين المنسوب إلى الخليل فهو أصلٌ في معناه وهو الذي نهج طريقةَ تأليف اللغة على الحروف وقديمًا اعتَنى به العلماء وقبِلَه الجهَابذة فكان المبرد يَرْفع مِن قدره ورواه أبو محمد بن دَرَسْتويه وله كتاب في الردِّ على المفضَّل ابن سلمة فيما نسبَه من الخلَل إليه ويكادُ لا يوجدُ لأبي إسحاق الزجاجي حكايةٌ في اللغة إلا منه وقد تكلَّم الناس فيه بما هو مشهور. وأصح كتاب وضع في اللغة على الحروف بارع أبي علي البغدادي وموعب ابن التياني. انتهى.
فائدة
ترتيب كتاب العين ليس على التَّرتيب المعهود الآن في الحروف، وقد أكْثرَ الأدباءُ من نَظْم الأبيات في بيان ترتيبه؛ من ذلك قول أبي الفرج سلمة بن عبد الله [ بن دلان ] المعَافِري الجزيري:
يا سائلي عن حروف العين دونكَهَا ** في رتبة ضمَّها وزنٌ وإحْصاء
العين والحاء ثم الهاءُ والخاء ** والغين والقاف ثم الكاف أكْفاءُ
والجيم والشين ثم الضادُ يتبعها ** صاد وسين وزاي بَعْدها طاء
والدّال والتاء ثم الطاءُ متَّصِل ** بالظاءِ ذال وثاء بعدها راءُ
واللام والنون ثم الفاء والباء ** والميم والواو والمهموز والياء
قال أبو طالب المفضَّل بن سَلَمة الكوفي: ذكر صاحبُ العين أنه بدأ كتابَه بحرف العين لأنها أَقْصى الحروف مَخْرجًا. قال: والذي ذكره ِسيبَويْه أن الهمزةَ أَقْصى الحروف مخرجًا. قال: ولو قال بدأتُ بالعين لأنها أكثرُ في الكلام وأشدُّ اختلاطًا بالحروف لكان أولى.
وقال ابن كَيْسان: سمعتُ مَنْ يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبْدَأْ بالهمزة لأنها يلحقها النقصُ والتغييرُ والحذفُ ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداءِ كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مُبْدَلَةً ولا بالهاءِ لأنها مهموسة خفيَّة لا صوتَ لها فنزلتُ إلى الحيِّز الثاني وفيه العين والحاء فوجَدْت العين أنْصَعَ الحرفين فابتدأت به ليكون أحسنَ في التأليف وليس العلْمُ بتقدّم شيءٍ على شيء لأنه كلَّه مما يُحتاج إلى معرفته فبأيّ بدأت كان حَسنًا وأولاها بالتقديم أكثرُها تصرُّفًا. انتهى.
وقال أبو العباس أحمد بن ولّاد في كتاب المقصور والممدود: لعلَّ بعضَ مَنْ يقرأ كتابنا يُنْكِرُ ابتداءنا فيه بالألف على سائر حروف المعجم لأنها حرفٌ معتل ولأن الخليل تَرَك الابتداءَ به في كتاب العين لأنَّ كتاب العين لا يمكن طالب الحرفِ منه أن يَعلَمَ مَوْضعه من الكتاب من غير أن يقرأه إلا أن يكونَ قد نظر في التصريف وعرفَ الزائد والأصلي والمعتلَّ والصحيح والثلاثيّ والرباعيّ والخماسيّ ومراتبَ الحروف من الحَلْق واللّسان والشَّفَة وتصريفَ الكلمة على ما يمكنُ من وُجوهِ تصريفها في اللفظ على وجوه الحركات وإلحاقها ما تحتمل من الزائد ومواضع الزوائد بعد تصريفها بلا زيادةٍ. ويحتاجُ مع هذا إلى أن يعلمَ الطريقَ التي وصلَ الخليل منها إلى حَصْر كلام العرب فإذا عرفَ هذه الأشياءَ عرفَ مَوْضع ما يطلُبُ من كتاب العين. قال: وكتابُنا قَصَدْنا فيه التقريب على طالب الحَرْفَ وأن يستويَ في العلم منه بموضعه العالِم والمتعلّم. انتهى.
تذنيب
قال تاج الدين أحمد بن مكتوم في تذكرته: سُئل بعضُهم لِم سمي كتابُ الجيم - تصنيف أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني - بهذا الاسم فقال: لأن أوله حرف الجيم كما سمي كتاب العين لأن أولَه حرفُ العين قال: فاستحسنَّا ذلك ثم وقفنا على نسخةٍ من كتاب الجيم فلم نجده مبدوءًا بالجيم.
فائدة
روى أبو علي الغساني كتاب العين عن الحافظ أبي عمر بن عبد البر عن عبد الوارث بن سفيان عن القاضي مُنذر بن سعيد عن أبي العبّاس أحمد بن محمد بن ولّاد النحوي عن أبيه عن أبي الحسن علي بن مهدي عن أبي معاذ عبد الجبار بن يزيد عن الليث بن المظفر بن نصر بن سيار عن الخليل.
فرع
ومن مشاهير كتب اللغة التي نَسَجَت على مِنْوَال العين كتاب الجمهرة لأبي بكر بن دريد.
قال في خطبته: قد ألَّف [ أبو عبد الرحمن ] الخليلُ بنُ أحمد [ الفَرْهُودِي رضوان الله عليه ] كتابَ العين فأَتْعَبَ مَنْ تَصَدَّى لغَايته وعَنَّى من سَما إلى نهايته فالمُنْصِفُ له بالغَلب مُعْترف والمُعَاند متكلِّف وكلُّ مَنْ بَعْدَه له تَبَع أقرَّ بذلك أم جَحَد ولكنَّه رحمه الله - ألَّف كتابَه مُشاكِلًا لِثُقُوب فَهْمِه وذَكَاءِ فِطْنَتِه وحِدَّةِ أذهان أهل دَهْرِه. وأمْلينا هذا الكتاب والنَّقْص في الناس فاشٍ والعَجْزُ لهم شامل إلا خصائص كَدَرَارِيِّ النُّجوم في أَطْرَافِ الأُفق فسهَّلنا وَعْرَه ووطَّأْنا شَأْزَه وأَجْرَيْنَاه على تأليف الحروف المُعْجمة إذ كانت بالقلوب أَعْلَق وفي الأَسْماع أَنْفَذ وكان عِلْمُ العامَّة بها كعلم الخاصة وسَمَّيْناه كتاب الجمهرة لأنا اخْتَرْنا له الجمهور من كلام العرب وأَرْجَأْنا الوَحْشِيّ المستنكر. انتهى.
وقال ابن جني في الخصائص: وأما كتابُ الجمهرة ففيه أيضا من اضطراب التَّصْنيف وفسادِ التَّصْريف مما أَعْذِرُ واضعَه فيه لبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر ولمَّا كتبتُه وقعتُ في مَتونه وحواشيه جميعًا من التنبيه على هذه المواضع ما اسْتَحْيَيْت من كَثْرَته ثم إنه لما طال عليّ أوْمَأْتُ إلى بعضه وضربتُ البَتَّةَ عن بعضه.
قلت: مقصودُه الفسادُ من حيث أبنية التصريف وذكرُ الموادّ في غير محالّها كما تقدم في العين ولهذا قال: أعذر واضعَه فيه لِبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر يعني أن ابنَ دريد قصيرُ الباع في التصريف وإن كان طويلَ الباعِ في اللغة. وكان ابن جني في التصريف إمامًا لا يشُقُّ غبارُه فلذا قال ذلك.
وقال الأزهري: ممن ألَّف الكتبَ في زماننا فَرُمِي بافتعالِ العربيةِ وتوليد الألفاظ أبو بكر بن دريد، وقد سألتُ عنه إبراهيمَ بن محمد عرفة - يعني - نِفْطَويه فلم يَعْبَأْ به ولم يُوَثِّقْه في روايته.
قلت: معاذَ الله! هو بَريءٌ مما رُمِي به، وَمَنْ طالَع الجمهرة رأى تحرِّيه في روايته. وسَأَذْكرُ منها في هذا الكتاب ما يُعْرَفُ منه ذلك. ولا يُقْبل فيه طعنُ نِفْطَويه لأنه كانَ بينهما مُنافرةٌ عظيمةٌ بحيث أن ابن دريد هجاه بقَوْله:
لَوْ أُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى نِفْطَويْه ** لكان ذاك الوَحْيُ سُخْطًا عَلَيه
وشَاعِرٍ يُدْعَى بِنصْفِ اسْمِه ** مُسْتَأْهلٌ للصَّفْعِ في أَخْدَعَيْه
أَحْرَقَهُ اللهُ بنِصفِ اسْمِه ** وَصَيَّرَ الباقي صُرَاخًا عَلَيْه
وهجا هو ابنَ دريد بقوله:
ابن دريد بَقَرَه ** وفيه عِيّ وَشَرَه
وَيَدَّعِي مِنْ حُمْقِه ** وَضْعَ كِتَابِ الْجَمْهَرَه
وهو كتابُ العين إلا أَنَّهُ قدْ غَيَّرَه
وقد تقرر في علم الحديث أن كلامَ الأقران في بعضهم لا يقدح.
وقال بعضهم: أمْلَى ابن دريد الجمهرَة في فارس ثم أَمْلاها بالبصرة وببَغْداد مِنْ حِفْظه ولم يستَعِنْ عليها بالنظر في شيءٍ من الكُتُب إلا في الهَمزةِ واللفيف؛ فلذلك تختلف النسخ، والنُّسْخَة المعوَّل عليها هي الأخيرة وآخرُ ما صحَّ نسخة عبيد الله بن أحمد جَخْجَخْ لأنه كتبها من عِدَّةِ نسخ وقَرَأَها عليه.
قلت: ظَفِرْتُ بنسخة منها بخطِّ أبي النمر أحمد بن عبد الرحمن بن قابوس الطرابلسي اللغوي وقد قرأها على ابن خالويه بروايته لها عن ابن دريد وكتب عليها حواشي من استدراك ابن خالويه على مواضع منها ونبَّه على بعض أوهامٍ وتصحيفات.
وقال بعضهم: كان لأبي عليّ القالي نسخةٌ من الجمهرة بخطِّ مؤلفها وكان قد أُعْطِي بها ثلاثمائة مثقال فأبى فاشتدَّت به الحاجةُ فباعها بأربعين مثقالًا وكتبَ عليها هذه الأبيات:
أَنِسْتُ بها عشرين عامًا وبعتُها ** وقد طال وَجْدِي بعدَها وحَنيني
وما كان ظنِّي أنني سأبيعها ** ولو خَلَّدَتْني في السجون دُيوني
ولكن لِعَجْزٍ وافتقارٍ وصِبْيَة ** صغارٍ عليهم تستهلّ شؤوني
فقلت ولم أملك سوابقَ عَبْرتي ** مقالةَ مكوى الفؤاد حَزين
وقد تُخْرِجُ الحاجاتُ يا أم مالك ** كرائمَ من ربٍّ بِهِنَّ ضَنِين
قال: فأَرْسَلها الذي اشتراها وأرسل معها أربعين دينارًا أُخْرى رحمهم الله.
وجدت هذه الحكاية مكتوبةً بخطّ القاضي مجد الدين الفيروزابادي صاحبِالقاموس على ظَهْرِ نسخة من العُبَاب للصَّغاني، ونقلها من خَطِّه تلميذُه أبو حامد محمد بن الضياءِ الحنفي، ونقلتُها من خطِّه.
وقد اختصر الجمهرة الصاحب إسماعيل بن عباد في كتاب سماه الجوهرة، وفي آخره يقول:
لما فَرَغْنا من نِظَامِ الجَوْهره ** أعورت العين ومات الجَمْهَرَه
ووقف التَّصنيف عند القَنْطره
وألَّفَ أتباعُ الخليل وأتباعُ أتباعه وهلّم جَرًّا كُتُبًا شتى في اللغة ما بين مُطَوَّلٍ ومختَصر وعامٍّ في أنْواع اللغة وخاص بنوع منها كالأجناس للأصمعي والنوادر واللغات لأبي زيد والنوادر للكسائي والنوادر واللغات للفرَّاءِ واللغات لأبي عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى والجيم والنوادر والغريب لأبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني والغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام والنوادر لابن الأعرابي والبَارِع للمفضّل بن سلمة واليواقيت لأبي عمر الزاهد غلام ثعلب. والمنضد لكُراع والتهذيب للأزهري والمُجْمَل لابنِ فارس وديوان الأدب للفارابي والمحيط للصاحب ابن عبَّاد والجامع للقزَّاز وغير ذلك مما لا يُحْصى حتى حُكِي عن الصاحب ابن عبّاد أن بعضَ الملوك أرسل إليه يسألهُ القدومَ عليه فقال له في الجواب: أحتاجُ إلى ستين جمَلًا أنقل عليها كتبَ اللغة التي عندي وقد ذهب جلُّ الكتب في الفِتَنِ الكائنة من التَّتار وغيرهم بحيث إن الكتبَ الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدّمين والمتأخرين لا تجيء حِمْل جملٍ واحدٍ وغالبُ هذه الكتب لم يَلتزم فيها مؤلّفوها الصحيحَ بل جمعُوا فيها ما صحَّ وغيرَه وينبِّهون على ما لم يثبت غالبًا.
وأولُ مِن التزمَ الصحيح مقتصرًا عليه الإمامُ أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري ولهذا سمَّى كتابه بالصحاح وقال في خطبته: قد أوْدَعْتُ هذا الكتاب ما صحَّ عندي من هذه اللغة التي شرَّف الله منزلتَها وجعل عِلْم الدِّين والدنيا مَنُوطًا بمعرفتها على ترتيبٍ لم أُسْبَق إليه وتهذيبٍ لم أُغلبْ عليه بعد تحصيلها بالعراق روايةً وإتقانها دِراية ومُشافهتي بها العربَ العاربة في ديارهم بالبادية ولم آل في ذلك نُصْحًا ولا ادَّخَرتُ وسعًا.
قال أبو زكريا الخطيب التبريزي اللغوي: يقال كتاب الصحاح بالكسر وهو المشهور وهو جمع صحيح كظريف وظراف، ويقال الصحاح بالفتح وهو مفرد نعت كصحيح. وقد جاءَ فَعال بفتح الفاءِ لغةً في فعيل كصحيح وصَحاح وشحيح وشَحاح وبريءٍ وبَراءٍ. قال: وكتاب الصحاح هذا كتاب حسن الترتيب سهل المطلبِ لِما يُراد منه وقد أتى بأشياءَ حسنة وتفاسير مشكلات من اللغة إلا أنه مع ذلك فيه تصحيفٌ لا يُشَكُّ في أنه من المصنف لا من الناسخ لأنَّ الكِتاب مبنيٌّ على الحروف قال: ولا تخلو هذه الكتبُ الكِبار من سهْوٍ يقعُ فيها أو غلطٍ. [ وقد رد على أبي عبيد في الغريب مواضع كثيرة منه ] غير أن القليل من الغلط الذي يقع في الكُتب إلى جنبِ الكثير الذي اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفو عنه. هذا كلام الخطيب أبي زكريا.
وقال أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي اللغوي في كتابه يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر: كان الجوهري من أعاجيبِ الزمان وهو إمام في اللغة وله كتاب الصحاح وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوسٍ النيسابوري:
هذا كتابُ الصحاح سيّدُ ما ** صُنِّف قبل الصحاح في الأدبِ
تَشْمَلُ أبوابهُ وَتَجْمَعُ ما ** فُرِّق في غيره من الكُتُبِ
وقال ابن برِّي: الجوهري أنحَى اللغويين.
وقال ياقوت الحموي في معجم الأدباء: كتاب الصحاح هو الذي بأيْدي الناس اليوم وعليه اعتمادُهم أحْسنَ الجوهري تصنيفَه وجوَّدَ تأليفَه؛ هذا مع تصحيف فيه في عدّة مواضع تَتَبَّعَهَا عليه المحققون. وقيل: إن سببه أنه لما صنَّفَهُ سُمِع عليه إلى باب الضاد المعجمة وعَرَضَ له وسْوَسَة فألْقى نفسه من سَطْحٍ فمات وبقي سائر الكتاب مسوَّدة غيرَ مُنَقَّح ولا مبيَّض فبيَّضَه تلميذُه إبراهيم بن صالح الورَّاق فَغَلِطَ فيه في مواضع [ غلطًا فاحشًا ]؛ وكان وفاة الجوهري في حدود الأربعمائة.
وقد ألَّف الإمام أبو محمد عبد الله بن برِّي الحواشي على الصحاح وصَلَ فيها إلى أثناء حرف الشين فأكملها الشيخ عبد الله بن محمد البسطي.
وألَّف الإمام رضيّ الدين [ حسن بن محمد ] الصغاني التكملة على الصحاح ذَكَرَ فيها ما فاته من اللغة وهي أكبرُ حجمًا منه وكان في عَصْر صاحب الصحاح ابن فارس فالتزم أن يذكرَ في مُجْمَله الصحيح.
قال في أوله: قد ذَكرنا الواضحَ من كلام العرب والصحيحَ منه دون الوَحْشيّ المُسْتَنْكر ولم نألُ في اجتباءِ المشهور الدَّالِّ على غُرَر وتفسير حديث أو شعر والمقصودُ في كتابنا هذا من أوّله إلى آخره التقريبُ والإبانةُ عما ائْتَلف من حروف العربية فكان كلامًا وذِكْرُ ما صحَّ من ذلك سماعًا أو من كتابٍ لا يشكُّ في صحَّةِ نَسَبه لأنَّ مَنْ عَلِم أن الله تعالى عند مَقَالِ كلِّ قائل فهو حَرِيٌّ بالتَّحَرُّج من تطويل المؤلَّفات وتكثيرها بمُسْتَنْكَرِ الأقاويل وشنيع الحكايات وبُنَيَّات الطُّرُق فقد كان يُقال: مَنْ تتبَّع غرائبَ الأحاديث كَذَب ونحن نعوذ بالله من ذلك.
وقال في آخر المجمل: قد توخَّيْتُ فيه الاختصارَ وآثرتُ فيه الإيجازَ واقتصرتُ على ما صحَّ عندي سماعًا ومن كتابٍ صحيح النسب مشهورٍ ولولا توخِّي ما لم أشككّ فيه من كلام العرب لَوَجَدْتُ مقالًا.
وأعظمُ كتابٍ أُلِّفَ في اللغة بعد عَصْرِ الصحاح كتابُ المُحْكَم والمحيط الأعظم لأبي الحسن علي بن سِيدَه الأندلسي الضَّرير ثم كتابُ العُباب للرضي الصَّغاني ووصل فيه إلى فصل بكم حتى قال القائل:
إن الصغاني الذي ** حاز العلوم والحكم
كان قُصَارى أَمْرِه ** أن انتهى إلى بكم
ثم كتابُ القاموس للإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي شيخ شيوخنا. ولم يصل واحدٌ من هذه الثلاثة في كَثرَة التَّدَاول إلى ما وصل إليه الصحاح ولا نقصت رتبةُ الصحاح ولا شُهْرَته بوجود هذه وذلك لالتزامه ما صحَّ فهو في كُتب اللغة نظيرُ صحيح البخاري في كتب الحديث. وليس المَدَارُ في الاعتماد على كَثَرة الجمع بل على شرْط الصحة.
قال صاحبُ القاموس في خُطْبته: وكنتُ بُرْهَةً من الدَّهْر أَلتْمسُ كتابًا جامعًا [ صحيحًا ] بسيطًا ومُصَنَّفًا على الفُصُح والشوَارد مُحيطًا ولما أعياني الطلاب شرعتُ في كتابي الموسوم باللامع المُعْلَم العُجَاب الجامعِ بين المُحْكَم والعُبَاب فهما غُرَّتا الكُتب المصنفة في هذا الباب ونَيِّرَا بَرَاقِع الفضل والآداب وضَمَمْتُ إليهما زيادات امْتَلأَ بها الوطِاب واعْتَلَى منها الخِطَاب ففاقَ كلَّ مؤلف [ في هذا الفن ] هذا الكتابُ، غيرَ أني خَمَّنْتُه في ستين سِفْرًا يُعْجز تحصيلُه الطُّلاب وسُئِلْتُ تقديم كتاب وجيز على ذلك النظام وعَمَلٍ مُفَرَّغ في قالَبِ الإيجاز والإحكام مع التزام إتمام المعاني وإبرام المباني فصرفت صوبَ هذا القصد عِناني وألَّفتُ هذا الكتاب محذوفَ الشواهد مطروحَ الزوائد مُعْرِبًا عن الفُصُحِ والشَّوارد وجعلت [ بتوفيق الله ] زُفَرًَا في زِفْر ولَخَّصتُ كلَّ ثلاثين سِفرًا في سِفْر ثم قال: ولما رأيت إقْبالَ الناس على صحاح الجوهري وهو جدير بذلك غيرَ أنه فاتَه ثلثا اللغة أو أكثر إما بإهمال المادة أو بترك المعاني الغريبة النَّادّة أردتُ أن يظهر [ للناظر ] بادئَ بدءٍ فَضْلَ كتابي عليه ونَبَّهْت فيه على أشياء ركب الجوهري [ رحمه الله ] فيها خلاف الصواب غير طاعنٍ فيه ولا قاصد بذلك [ تنديدا له ] وإزراءً عليه [ وَغضًّا منه بل استيضاحًا للصواب واسْتِرْباحًا للثواب وتحرّزًا وحذارًا من أن ينمى إليّ التصحيف أو يُعْزَى إليّ الغلط والتحريف. ] واخْتَصَصْتُ كتابَ الجوهري من [ بين ] الكتب اللغوية مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة لِتَدَاوُله واشتهارِه بخصوصه واعتماد المدرسين على نُقُوله ونصوصه. انتهى.
وفي القاموس يقولُ بعضُ الأُدبَاء:
مذ مدَّ مجدُ الدين في أيامه ** من بعض بحر علومه القاموسا
ذهبت صحاح الجوهري كأنها ** سحر المدائن حين القى موسى
قلت: ومع كَثرةِ ما في القاموس من الجمع للنَّوادّ والشوارد فقد فاته أشياءُ ظفِرتُ بها في أثناء مطالعتي لكُتُب اللغة حتى هَمَمْتُ أن أجْمَعَها في جُزءِ مُذَيِّلًا عليه.
وهذا آخر الكلام في هذا النوع ونشرعُ بعده إن شاء الله تعالى في بقية الأنواع.
هامش
هكذا في الخصائص واللسان. لكن في المطبوعة: لغا.
في جميع النسخ: لغا، وفي القاموس: لغي به كرضي، لغا: لهج به. فالفعل من باب دعا وسعى ورضى.
في النسخ: سبحانه، والتصحيح من فقه اللغة.
في البداية والنهاية: قال كثير من علماء التفسير: خلقت الجن قبل آدم وكان قبلهم في الأرض الحِنّ والبن، فسلط الله الجن عليهم فقتلوهم...
ط: ابن إيار.
في النسخ: قول ابن معط.
مقابل قوله السابق "فقيل ليست موضوعة" بعد قوله فاختلفوا في المركبات...
هذه رواية اللسان، وفي النسخ: بخابك، وفي الصاحبي: بخائبك. وصدر البيت: إذا ما شحطن الحاديين سمعتهم
الصورة دائرة في الجمهرة
في الجمهرة: زوجتهن.
في كشف الظنون: الثنائي 956 والثلاثة 19650 وهو أقرب إلى مجموع العدد المذكور.
وفيه مسائل:
الأولى في حد اللغة وتصريفها
قال أبو الفتح ابن جني في الخصائص: حدُّ اللغةِ أصواتٌ يعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم، ثم قال: وأما تَصْريفها فهي فُعْلة من لَغَوْت أي تكلَّمت وأصلها لغوة ككُرَة وقُلَة وثُبَة، كلّها لاماتها واوات. وقالوا فيها لُغاتٌ ولُغُون كثُبَات وثُبُون. وقيل منها لَغِيَ [1] يَلْغَى إذا هَذَى، قال:
وربّ أسراب حَجِيجٍ كُظَّمِ ** عن اللغا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ
وكذلك اللغو، قال تعالى: { وَإذَا مَرُّوا بِاللغو مَرُّوا كِرَامًا } أي بالباطل، وفي الحديث: من قال في الجمعة صَهْ فقد لَغَا. أي تكلَّم. انتهى كلامُ ابن جني.
وقال إمامُ الحرمين في البرهان: اللغةُ من لَغِي [2] يَلْغَى من باب رَضِي إذا لهِج بالكلام، وقيل من لَغَى يَلْغَى.
وقال الأسنوي في شرح منهاج الأصول: اللغاتُ عبارةٌ عن الألفاظ الموضوعةِ للمعانِي.
الثانية في بيان واضع اللغة أتوقيف هي ووحي أم اصطلاح وتواطؤ
قال أبو الحسين أحمد بن فارس في فقه اللغة: اعلم أن لغة العرب توقيف. ودليل ذلك قوله تعالى { وعلم أدم الأسماء كلها }، فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي هذه التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وروى خصيف عن مجاهد قال: علمه اسم كل شيء. وقال غيرهما: إنما علمه أسماء الملائكة. وقال آخرون: علمه أسماء ذريته أجمعين.
قال ابن فارس: والذي نذهب إليه في ذلك ما ذكرناه عن ابن عباس. فإن قال قائل: لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال: "ثم عرضهن أو عرضها". فلما قال "عرضهم" علم أن ذلك لأعيان بني آدم أو الملائكة، لأن موضوع الكناية في كلام العرب يقال لما يعقل "عرضهم" ولما لا يعقل "عرضها أو عرضهن"؛ قيل له: إنما قال ذلك - والله أعلم - لأنه جمع ما يَعْقِل وما لا يعقل، فغلَّب ما يعقل وهي سُنَّةٌ من سُنن العرب، وذلك كقوله تعالى: { والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبع } فقال: منهم تغليبًا لمن يَمْشي على رِجْلين وهم بنو آدم.
فإن قال: أفتقولون في قولنا سيف وحُسام وعضب إلى غير ذلك من أوصافه إنه توقيف حتى لا يكون شيء منه مُصْطَلَحًا عليه؟ قيل له: كذلك نقولُ، والدليلُ على صحته إجماعُ العلماءِ على الاحتجاج بلغةِ القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهُم بأشعارهم. ولو كانت اللغة مُوَاضَعةً واصطلاحًا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأوْلَى منَّا فِي الاحتجاج [ بنا ] لو اصطلحنا على لغةِ اليوم؛ ولا فَرْق.
ولعل ظانًا يظنُّ أن اللغةَ التي دللنا على أنها توقيفٌ إنما جاءت جملةً واحدة وفي زمان واحد، وليس الأمر كذلك. بل وقّف الله عز وجل آدم عليه السلام على ما شاء أن يُعَلِّمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله. ثم عَلّم بعد آدم من الأنبياءِ - صلوات الله عليهم - نبيًّا نبيًّا ما شاء الله أن يُعَلِّمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد ﷺ، فآتاه الله من ذلك ما لم يُؤتِه أحدًا قبلَه تمامًا على ما أحسنه من اللغة المتقدمة. ثم قرّ الأمر قَراره فلا نعلمُ لغةً من بعده حدثَتْ. فإن تعمَّل اليوم لذلك متعمِّل وجدَ من نُقَّاد العلم من يَنْفيه ويَرُدّه. ولقد بلَغنا عن أبي الأسود الدؤلي أن امرءا كلَّمه ببعضِ ما أنكَره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه فقال: هذه لغةٌ لم تَبْلُغْك فقال له: يا بن أخي إنه لا خيرَ لك فيما لم يَبْلُغْني. فعرَّفَه بلُطْف أن الذي تكلَّم به مُخْتَلَق.
وخَلَّة أخرى: إنه لم يبلغنا أن قومًا من العرب في زمانٍ يقاربُ زماننا أجمعوا على تسميةِ شيء من الأشياءِ مُصْطَلِحِين عليه، فكنا نستدلّ بذلك على اصطلاحٍ قد كان قبلَهم.
وقد كان في الصحابة رضي الله عنهم - وهم البُلَغاءُ والفصحاءُ - من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاءَ به، وما عَلِمناهم اصطلَحوا على اختراعِ لغة أو إحْدَاث لفظةٍ لم تتقدمهم. ومعلوم أن حوادثَ العالَم لا تنقضي إلا بانْقِضَائِه ولا تزولُ إلا بِزَواله، وفي كل ذلك دليلٌ على صحَّة ما ذهَبْنا إليه من هذا الباب. هذا كله كلام ابن فارس، وكان من أهل السنة.
وقال ابن جني في الخصائص - وكان هو وشيخه أبو عليّ الفارسي مُعْتَزِلِيَّيْن -: باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح. هذا موضع مُحْوِج إلى فَضْل تأمُّل، غير أن أكثَر أهلِ النظر على أن أصلَ اللغةِ إنما هو تواضعٌ واصطلاح، لا وَحْيٌ ولا توقيفٌ، إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يومًا: هي من عند الله واحتج بقوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماءَ كُلَّها }، وهذا لا يتناول موضعَ الخلاف وذلك أنه قد يجوز أن يكونَ تأويلُه: أَقدَرَ آدَمَ على أَنْ واضَعَ عليها. وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا مَحالة؛ فإذا كان ذلك مُحْتَمَلًا غير مُسْتَنْكَر سقط الاسْتِدلال به. وقد كان أبو علي رحمه الله أيضا قال به في بعض كلامه وهذا أيضا رأي أبي الحسن على أنه لم يمنعْ قولَ مَنْ قال إنها تواضعٌ منه وعلى أنه قد فُسِّر هذا بأن قيل إنه تعالى علَّم آدمَ أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات: العربية والفارسية والسريانية والعِبرانية والرُّومية وغير ذلك من سائر اللغات، فكان آدمُ وولدُه يتكلمون بها ثم إن ولدَه تفرَّقوا في الدنيا وعَلِق كلُّ واحد منهم بلغة من تلك اللغات فغَلَبَتْ عليه واضمحلَّ عنه ما سواها لِبُعْدِ عَهْدهم بها. وإذا كان الخبرُ الصحيحُ قد ورد بهذا وجب تَلقِّيه باعتقاده والانطواء على القول به.
فإن قيل: فاللغةُ فيها أسماءٌ وأفعالٌ وحروف وليس يجوز أن يكون المُعلَّمُ من ذلك الأسماءَ [ وحدَها ] دونَ غيرها مما ليس بأسماء، فكيف خَصَّ الأسماءَ وحدَها؛ قيل: اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماءُ أقوى القُبُل الثلاثة، ولا بد لكل كلامٍ مفيدٍ [ منفرد ] من الاسم، وقد تستغني الجملةُ المستقلةُ عن كل واحد من الفعل والحرف؛ فلما كانت الأسماء من القوّة والأوليَّة في النفس على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها عما هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه عليها.
قال: ثم لِنعد [ فَلْنقل ] في الاعتلال لمن قال بأنَّ اللغة لا تكون وحْيًا؛ وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصلَ اللغة لا بدَّ فيه من المُوَاضعة قالوا: وذلك بأن يَجْتَمِعَ حكيمان أو ثلاثةٌ فصاعدًا فيحتاجوا إلى الإبانةِ عن الأشياءِ المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سِمَةً ولفظًا إذا ذُكِرَ عُرِفَ به ما مُسَمَّاه ليمتاز عن غيره وليُغْني بذِكْره عن إحْضَاره إلى مرآة العين فيكون ذلك أقربَ وأخَفَّ وأسهلَ من تَكلُّف إحضاره لبلوغ الغرضِ في إبانة حاله، بل قد يُحْتاج في كثير من الأحوال إلى ذِكْر ما لا يمكن إحضارُه ولا إدْنَاؤُه كالفاني وحال اجتماع الضدَّين على المحلِّ الواحد وكيف يكون ذلك لو جاز وغيرُ هذا مما هو جارٍ في الاستحالة والتَّعَذُّر مَجْراه فكأنهم جاؤوا إلى واحد من بني آدم فأومؤوا إليه وقالوا: إنسان إنسان إنسان، فأيّ وقتٍ سُمِع هذا اللفظ عُلِم أن المراد به هذا الضرْب من المخلوق، وإن أرادوا سِمَةَ عَيْنه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد، عين، رأس، قدَم أو نحو ذلك؛ فمتى سُمعت اللفظة من هذا عرف معْنِيُّهَا وهلمَّ جرًّا فيما سوى ذلك من الأسماء والأفعال والحروف.
ثم لك [ من بعد ذلك ] أن تنقلَ هذه المُواضعة إلى غيرها فتقول: الذي اسمهُ إنسان فليجعل مكانه مَرْد والذي اسمهُ رأس فليجعل مكانه سرّ، وعلى هذا بقيةُ الكلام.
وكذلك لو بُدِئت اللغةُ الفارسيَّة فوقعت المُوَاضعة عليها لجاز أن تُنْقَلَ ويُوَلَّد منها لغاتٌ كثيرة من الرومية والزِّنجية وغيرهما؛ وعلى هذا ما نشاهدُه الآن من اختراع الصُّنَّاع لآلاتِ صنائعهم من الأسماء كالنَّجار والصائغ والحائك والبنَّاء وكذلك الملّاح، قالوا: ولكن لا بد لأوَلها من أن يكون متواضعًا عليه بالمشاهدة والإيماء.
قالوا: والقديمُ [ سبحانه ] لا يجوزُ أن يُوصَف بأن يُوَاضِعَ أحدًا على شيء؛ إذ قد ثبتَ أن المُوَاضَعة لا بدَّ معها من إيماءٍ وإشارةٍ بالجارحةِ نحوُ المُومَأُ إليه والمشار نحوه. قالوا والقديمُ سبحانه لا جارحةَ له فيصحُّ الإيماء والإشارة منه بها، فبطل عندهم أن تَصِحَّ المُوَاضعة على اللغة منه تقدست أسماؤه. [3]
قالوا: ولكن يجوزُ أن يَنْقُلَ اللهُ تعالى اللغة التي قد وقَع التواضعُ بين عبادهِ عليها بأن يقولَ: الذي كنتم تعبِّرون عنه بكذا عَبِّروا عنه بكذا، والذي كنتم تسمُّونه كذا ينبغي أن تسمُّوه كذا. وجوازُ هذا منه سبحانه كجوازِه من عبادِه؛ ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناسُ الآن من مخالفة الأشْكال في حروف المُعْجَم كالصورة التي توضع للمُعَمَّيات والتراجم؛ وعلى ذلك أيضا اختلفت أقلامُ ذوي اللغات كما اختلفت ألسنُ الأصوات المرتَّبة على مذاهبهم في المواضعات فهذا قولٌ من الظهور على ما تراه.
إلا أنني سألتُ يومًا بعضَ أهله فقلت: ما تنكر أن تصحّ المواضعة من الله سبحانه وإن لم يكن ذا جارحة بأن يُحدث في جسم من الأجسام - خشبةٍ أو غيرها - إقبالًا على شخص من الأشخاص وتحريكًا لها نحوَه ويُسْمع - في حال تحرك الخشبة نحوَ ذلك الشخص - صَوْتًا يضَعُه اسمًا له ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعاتٍ، مع أنه - عزَّ اسمُه - قادرٌ على أن يُقْنِعَ في تعريفه ذلك بالمرَّة الواحدة فتقومُ الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقامَ جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة، وكما أن الإنسان أيضا قد يجوزُ إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبةٍ نحو المرادِ المتواضَعِ عليه فيقيمها في ذلك مقامَ يده لو أراد الإيماء بها نحوَه.
فلم يُجب عن هذا بأكثرَ من الاعترافِ بوجوبه ولم يخرج من جهته شيء أصلًا فأحكيه عنه، وهو عندي [ و ] على ما تراه الآن لازمٌ لمن قال بامتناع كون مواضعة القديم تعالى لغةً مُرْتجلة غير ناقلة لسانًا إلى لسان، فاعرف ذلك.
وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدَويِّ الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشَحِيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونَزيب الظبْي ونحو ذلك ثم وُلِّدت اللغاتُ عن ذلك فيما بعد.
وهذا عندي وجهٌ صالح ومذهب مُتَقَبَّل.
واعلم فيما بعد أنني على تَقَادم الوقت دائمُ التَّنْقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدَّواعي والخوالج قويَة التَّجاذب لي مختلفةَ جهاتِ التَّغَول على فكري؛ وذلك أنني [ إذا ] تأملتُ حالَ هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدِّقَّة والإرهاف والرِّقَّة ما يملك عليَّ جانب الفكر حتى يكاد يطمحُ به أمامَ غَلْوَةِ السِّحْرِ فمن ذلك ما نَبَّه عليه أصحابنا ومنه ما حَذَوْتُه على أمثلتهم فعرفت بتَتَابُعه وانْقِياده وبُعْدِ مَرَاميه وآماده صحةَ ما وُفِّقُوا لتقديمه منه ولُطْفِ ما أُسْعِدوا به وفُرِق لهم عنه وانْضَاف إلى ذلك واردُ الأخبار المأثورة بأنها من عند الله تعالى، فَقَويَ في نفسي اعتقادُ كونها توقيفًا من الله سبحانه وأنها وحيٌ.
ثم أَقول في ضد هذا: [ إنه ] كما وقع لأصحابنا ولنا وتَنَبَّهوا وتنبهنا على تأمُّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكونَ الله تعالى قد خَلق مِنْ قبلنا وإن بَعُدَ مَدَاهُ عَنّا مَنْ كان ألطفَ منا أذهانًا وأسْرَعَ خَوَاطِرَ وأجرأ جنانًا، فأقف بين [ تين ] الخلَّتين حسيرًا وأُكاثرهما فأَنْكَفئ مكثورًا. وإن خطر خاطرٌ فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به.
هذا كله كلامُ ابن جني.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول وتبعهُ تاج الدين الأرموي في الحاصل وسراج الدين الأرموي في التحصيل ما ملخَّصه: النظر الثاني في الواضع: الألفاظُ إما أن تدل على المعاني بذواتها أو بوَضْع الله إياها أو بوَضْع الناس أو بكَون البعْض بوَضْع الله والباقي بوضع الناس والأول مذهب عباد بن سليمان والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فُورَك والثالث مذهب أبي هاشم وأما الرابع فإما أن يكونَ الابتداءُ من الناس والتَّتِمَّة من الله وهو مذهب قوم أو الابتداءُ من الله والتتمة من الناس وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني.
والمحققون متوقفون في الكل إلا في مذهب عباد ودليل فسادِه أن اللفظَ لو دلَّ بالذات لفَهِم كلُّ واحد منهم كلَّ اللغات لعدم اختلاف الدلالات الذاتية واللازمُ باطلٌ فالملزوم كذلك.
واحتجَّ عبّاد بأنه لولا الدلالةُ الذاتيَّةُ لكان وضعُ لفظٍ من بين الألفاظ بإزاء معنًى من بين المعاني ترجيحًا بلا مُرَجِّح وهو محال.
وجوابُهُ أن الواضعَ إن كان هو الله فتخصيصُه الألفاظَ بالمعاني كتخصيص العالَم بالإيجاد في وقتٍ من بين سائر الأوقات وإن كان هو الناس فلعلَّه لتعيّن الخَطَران بالبال ودليلُ إمكانِ التوقّف احتمالُ خَلْقِ الله تعالى الألفاظَ وَوَضْعِها بإزاء المعاني وخَلْقِ علومٍ ضروريةٍ في ناس بأن تلك الألفاظَ موضوعةٌ لتلك المعانِي ودليل إمكان الاصطلاح إمكان أن يتولّى واحدٌ أو جمعٌ وضَع الألفاظِ لمعانٍ ثم يُفْهِموها لغيرهم بالإشارة كحال الوالداتِ مع أطفالهن وهذان الدليلان هما.
واحتجّ القائلون بالتوقيف بوجوه:
أولها قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } فالأسماء كلها معلّمة من عند الله بالنَّص وكذا الأفعالُ والحروف لعَدم القائل بالفَصْل ولأن الأفعال والحروف أيضا أسماء لأن الاسم ما كان علامةً والتمييزُ من تَصَرُّفِ النحاة لا منَ اللغة ولأنَّ التكلمَ بالأسماء وحْدَها متعذّر
وثانيها أنه سبحانَه وتعالى ذَمَّ قومًا في إطلاِقهم أسماء غيرَ توقيفيّة في قوله تعالى: { إنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا } وذلك يقتضي كونَ البواقي توقيفية.
وثالثها قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } والأَلْسنةُ اللُّحْمَانية غيرُ مُرادة لعدم اختلافها ولأن بدائعَ الصُّنْع في غيرها أكثرُ فالمراد هي اللغات.
ورابعها - وهو عقلي - لو كانت اللغاتُ اصطلاحية لاحْتِيج في التخاطب بوَضْعِها إلى اصطلاحٍ آخر من لغةٍ أو كتابةٍ ويعودُ إليه الكلامُ ويلزم إما الدَّور أو التسلسلُ في الأوضاع وهو محال فلا بد من الانتهاءِ إلى التوقيف.
واحتجَّ القائلون بالاصطلاح بوَجْهين:
أحدهما لو كانت اللغاتُ توقيفيةً لتقدَّمت واسطةُ البعثةِ على التوقيف والتقدّمُ باطلٌ وبيانُ الملازمة أنها إذا كانت توقيفيةً فلا بدَّ من واسطة بين الله والبشر وهو النبيُّ لاسْتِحالة خطابِ الله تعالى مع كلِّ أحد وبيانُ بُطْلان التَّقَدُّم قوله تعالى: { ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } وهذا يَقْتَضِي تقدُّمَ اللغة على البعثة.
والثاني لو كانت اللغاتُ توقيفيةً فذلك إما بأن يَخْلُق الله تعالى عِلمًا ضروريًّا في العاقل أنَّه وَضَع الألفاظ لكذا أو في غير العاقل أو بألا يخلقَ علمًا ضروريًا أصلًا والأولُ باطلٌ وإلا لكان العاقلُ عالمًا بالله بالضرورة لأنه إذا كان عالمًا بالضرورة بكَوْن اللهِ وضَع كذا لِكَذا كان علمُه بالله ضروريًّا ولو كان كذلك لبطَلَ التكليفُ والثاني باطلٌ لأن غيرَ العاقل لا يمكنُه إنهاءُ تمام هذه الألفاظ والثالثُ باطل لأن العلمَ بها إذا لم يكن ضروريًا احتيج إلى توقيفٍ آخر ولَزِم التسلسل.
والجواب عن الأولى من حُجَجِ أصحابِ التوقيف: لِمَ لا يَجُوزُ أن يكون المرادُ من تعليم الأسماء الإلهامَ إلى وضْعها ولا يقالُ: التعليمُ إيجادُ العلم فإنا لا نُسَلِّم ذلك بل التعليم فعلٌ يترتب عليه العلم ولأجله يُقال علَّمْتُه فلم يتعلَّم. سلمنا أن التعليمَ إيجاد العلم لكن قد تقرّر في الكلام أن أفعالَ العباد مخلوقةٌ لله تعالى فعلى هذا: العلمُ الحاصل بها مُوجَد للّه. سلَّمناه لكنَّ الأسماءَ هي سِماتُ الأشياء وعلاماتُها مثل أن يعلَّمَ آدَمُ صلاحَ الخيل لِلْعَدْو والجمال للحَمْل والثيران للحَرْث فَلِمَ قلتُم: إن المراد ليس ذلك وتخصيصُ الأَسماءِ بالألفاظ عرفٌ جديد سلمنا أن المرادَ هو الألفاظُ ولكن لِم لا يجوزُ أن تكون هذه الألفاظُ وضَعَها قومٌ آخرون قبل آدمَ وعلَّمها الله آدم
وعن الثانية أنه تعالى ذمَّهم لأنهم سمُّوا الأصنامَ آلهة واعتقدوها كذلك.
وعن الثالثة أن اللسانَ هو الجارحة المخصوصة وهي غيرُ مرادة بالاتفاق والمجازُ الذي ذكرتموه يعارِضُه مَجازاتٌ أخر نحو مخارج الحروف أو القدرة عليها فلم يثبت التَّرجيح.
وعن الرابعة أن الاصطلاح لا يَسْتَدعي تقدُّمَ اصطلاحٍ آخر بدليل تعليم الوالدين الطفلَ دون سابقةِ اصطلاحٍ ثمة.
والجوابُ عن الأولى من حُجَّتَي أصحابِ الاصطلاحِ: لا نُسَلِّمُ توقُّفَ التوقيف على البعثة لجوازِ أن يخلق الله فيهم العلمَ الضروري بأن الألفاظَ وُضِعَت لكذا وكذا.
وعن الثانية: لِمَ لا يجوز أن يخلق الله العلم الضروريَّ في العقلاء أن واضعًا وَضعَ تلك الألفاظ لتلكَ المعاني وعلى هذا لا يكونُ العلم بالله ضروريًا سلَّمناه لكن لِمَ لا يجوز أن يكون الإله معلومَ الوجود بالضرورة لبعض العقلاء قوله: لَبَطَلَ التكليف قُلْنا: بالمعرفة أمَّا بسائر التكاليف فلا. انتهى.
وقال أبو الفتح بن برهان: في كتاب الوصول إلى الأصول: اختلف العلماءُ في اللغة: هل تَثبُتُ توقيفًا أو اصطلاحًا فذهبت المعتزلةُ إلى أن اللغات بأسْرها تثبت اصطلاحًا وذهبت طائفةٌ إلى أنها تثبتُ توقيفًا.
وزعم الأستاذُ أبو إسحاق الإسفرائيني أن القَدْرَ الذي يدْعو به الإنسان غيرَه إلى التَّواضع يَثْبتُ توقيفًا وما عدا ذلك يجوز أن يثبت بكل واحدٍ من الطريقين.
وقال القاضي أبو بكر: يجوز أن يثبت توقيفًا ويجوز أن يثبت اصطلاحًا ويجوز أن يثبت بعضه توقيفًا وبعضه اصطلاحًا والكلّ ممكن.
وعمدة القاضي أن الممْكن هو الذي لو قُدِّر موجودًا لم يعرض لوجوده محال ويعلم أن هذه الوجوه لو قُدِّرَت لم يعرض من وجودها محال فوجب قَطْعُ القول بإمكانها.
وعمدةُ المعتزلة أن اللغات لا تدلُّ على مدلولاتها كالدلالة العقلية ولهذا المعنى يجوزُ اختلافُها ولو ثبتت توقيفًا من جهة الله تعالى لكان ينبغي أن يخلقَ الله العلم بالصِّيغَة ثم يخلق العلْمَ بالمدلول ثم يخلق لنا العلم بجَعْل الصيغة دليلًا على ذلك المدلول ولو خلقَ لنا العلمَ بصفاته لجاز أن يخْلُق لنا العلم بذاته ولو خلق لنا العلم بذاته بطل التكليف وبطلت المحنة.
قلْنا: هذا بناءٌ على أصل فاسد فإنا نقول: يجوز أن يخلق اللهُ لنا العلم بذاته ضرورة وهذه وعمدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني: أن القَدْر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع لو ثبتَ اصطلاحًا لافْتَقَرَ إلى اصطلاحٍ آخر يتقدَّمه وهكذا فيتسلسل إلى ما لا نهاية له.
قلنا: هذا باطل فإن الإنسان يمكنه أن يُفْهمَ غيرَه معانيَ الأسامي كالطفل ينشأُ غيرَ عالمٍ بمعاني الألفاظ ثم يتعلَّمها من الأبوين من غير تَقَدُّمِ اصطلاح.
وعمدةُ مَنْ قال: إنها تَثْبتُ توقيفًا قولُه تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } وهذا لا حجَّةَ فيه من جهة القَطْع فإنه عُمُوم والعمُوم ظاهرٌ في الاستغراق وليس بنصّ قال القاضي: أما الجوازُ فثابتٌ من جهة القطع بالدليل الذي قدَّمْتُه وأما كيفيةُ الوقوع فأنا متوقف فإن دلَّ دليل من السَّمْع على ذلك ثبت به.
وقال إمام الحرمين في البرهان: اختلفَ أربابُ الأصول في مأخَذ اللغات فذهب ذاهبون إلى أنها توقيفٌ من الله تعالى وصار صائرون إلى أنها تثبتُ اصطلاحًا وَتَوَاطُؤًا وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن القَدْر الذي يُفْهم منه قصدُ التواطؤ لا بدَّ أن يُفْرضَ فيه التوقيف.
والمختارُ عندنا أن العقلَ يجوِّزُ ذلك كلَّه فأما تجويزُ التوقيف فلا حاجةَ إلى تكلُّف دليلٍ فيه ومعناه أن يُثْبِتَ الله تعالى في الصدور علومًا بَدِيهيَّةً بِصَيغٍ مخصوصة بمعاني فتتبَيَّنُ العقلاءُ الصِّيَغَ ومعانيها ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وَضْع الصيغ على حكم الإرادة والاختيار وأما الدليلُ على تجويز وقوعها اصطلاحًا فهو أنه لا يبعدُ أن يحرك الله تعالى نفوسَ العقلاء لذلك ويُعْلِم بعضَهم مرادَ بعض ثم ينشئون على اختيارهم صِيغًا وتقترنُ بما يريدون أحوالٌ لهم وإشارات إلى مسمّيات وهذا غيرُ مُسْتَنْكَر وبهذا المسلك ينطلقُ الطفل على طَوَالِ ترديد المُسْمَع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه فإذا ثبت الجوازُ في الوجهين لم يبق لِما تخيَّله الأستاذ وجهٌ والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تَثْبُت في النفوس فإذا لم يمنع ثبوتها لم يبقَ لِمَنْع التوقيف والاصطلاح بعدَها معنى ولا أحد يمنعُ جوازَ ثبوت العلومِ الضرورية على النحو المبَيَّن.
فإن قيل: قد أثْبَتُّمُ الجواز في الوجهين عمومًا فما الذي اتفق عندكم وقوعه قلنا: ليس هذا مما يُتَطَرَّقُ إليه بمسالك العقول فإن وقوعَ الجائز لا يُسْتَدْرك إلا بالسَّمْعِ الْمَحْضِ ولم يَثْبت عندنا سمعٌ قاطع فيما كان من ذلك وليس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } دليل على أحد الجائزين فإنه لا يمتنعُ أن تكونَ اللغاتُ لم يكن يعلمها فعلَّمه الله تعالى إياها ولا يمتنع أن الله تعالى أثبتَها ابتداء وعلَّمه إياها.
وقال الغزالي في المنخول: قال قائلون: اللغاتُ كلُّها اصطلاحية إذ التَّوقيفُ يَثبت بقولِ الرسول عليه السلام ولا يُفْهم قولُه دون ثبوت اللغة وقال آخرون: هي توقيفية إذ الاصطلاحُ يعْرضُ بعد دعاءِ البعضِ البعضَ بالاصطلاح ولا بدَّ من عبارة يُفْهَم منها قصدُ الاصطلاح.
وقال آخرون ما يُفْهَمُ منه: قصدُ التَّوَاضُع توقيفيّ دون ما عَدَاه ونحنُ نجوّز كونَها اصطلاحية بأن يحرِّكَ اللهُ رأسَ واحدٍ فيفهم آخرُ أنه قصدَ الاصطلاح ويجوز كونُها توقيفية بأن يثبت الربّ تعالى مراسمَ وخطوطًا يفهمُ الناظر فيها العباراتِ ثم يتعلُم البعضُ عن البعضِ وكيف لا يجوزُ في العقل كلُّ واحدٍ منهما ونحن نرى الصبيَّ يتكلمُ بكلمة أبويه ويفهم ذلك من قرائن أحوالهما في حالة صِغَره فإذَنْ الكل جائزٌ.
وأما وقوعُ أحدِ الجائزين فلا يستدرك بالعقل ولا دليل في السمع وقوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ظاهرٌ في كونه توقيفيًا وليس بقاطع ويُحْتَمل كونُها مصطلحًا عليها من خَلْق الله تعالى قبل آدم. انتهى.
وقال ابن الحاجب في مختصره: الظاهرُ من هذه الأقوال قول أبي الحسن الأشعري.
قال القاضي تاج الدين السبكي في شرح منهاج البيضاوي: مَعْنى قولِ ابن الحاجب القولُ بالوقْفِ عن القَطْع بواحدٍ من هذه الاحتمالات وترجيحُ مذهب الأشعري بغلَبَة الظن قال: وقد كان بعضُ الضُّعفاءِ يقول: إن هذا الذي قاله ابن الحاجب مذهبٌ لم يقلْ به أحدٌ لأن العلماءَ في المسألة بين متوقِّفٍ وقاطع بمقالتِه فالقولُ بالظهور لا قائل به قال: وهذا ضعيف فإن المتوقِّف لعدم قاطع قد يرجّح بالظنّ ثم إن كانت المسألةُ ظنِّية اكتُفي في العمل بها بذلك التَّرجيح وإلا توقف عن العمل بها ثم قال: والإنصافُ أن الأدلةَ ظاهرةٌ فيما قاله الأشعري فالمتوقّف إن توقَّفَ لعدم القَطْعِ فهو مصيب وإن ادَّعى عدمَ الظهور فغيرُ مصيب هذا هو الحقُّ الذي فاه به جماعةٌ من المتأخرين منهم الشيخ تقي الدين بن دَقِيق العِيد في شرح العنوان.
وقال فِي رفع الحاجب: اعلم أن للمسألة مقامَين: أحدُهما الجوازُ فمن قائل: لا يجوزُ أن تكون اللغةُ إلا توقيفًا ومن قائل: لا يجوزُ أن تكون إلا اصطلاحًا والثاني أنه ما الذي وقع على تقدير جوازِ كلٍّ من الأمرين والقول بِتجْويز كل من الأمرين هو رأيُ المحققين ولم أرَ مَن صَرّح عن الأشعري بخلافه والذي أراه أنه إنما تكلم في الوقوع وأنه يجوّز صدور اللغة اصطلاحًا ولو مَنع الجواز لنَقَله عنه القاضي وغيره من محقِّقي كلامِه ولم أرَهم نقلوه عنه بل لم يَذكره القاضي وإمام الحرَمَين وابن القُشَيري والأشعري في مسألة مبدأ اللغات البتَّة وذكر إمامُ الحرَمين الاختلافَ في الجواز ثم قال: إن الوقوعَ لم يَثْبُتْ، وتَبِعه القُشَيري وغيرُه.
تنبيهات
أحدها - إذا قلنا بقول الأشعري إن اللغات توقيفيَّة - ففي الطريق إلى علمها مذاهب حكاها ابن الحاجب وغيره: أحدُها بالوَحْي إلى بعض الأنبياء والثاني بخَلق الأصوات في بعض قال ابن السبكي في رفع الحاجب: والظاهرُ من هذه هو الأول لأنه المعتادُ في عِلْم الله تعالى.
الثاني - قول الإمام الرازي فيما تقدّم: لِمَ لا يجُوزُ أنْ تكونَ هذه الألفاظُ وضَعَها قومٌ آخرون قبلَ آدم قال في رَفْع الحاجب: لسنا ندَّعي أن قبل آدم الجِنّ والبن [4] فذلك لم يَثْبُت عندنا بل قال القاضي في التقريب: جاز تواضُع الملائكةِ المخلوقة قبله، قال ابن القشيري: وقد كانوا قبلَه يتخاطبون ويفهمون.
الثالث - قولُ أهل الاصطلاح: لو كانت اللغات توقيفيةً لتقدَّمت واسطةُ البعْثَة على التوقيف أحسنُ من جواب الإمام عن جواب ابن الحاجب حيث قال: إذا كان آدمُ عليه السلام هو الذي عُلِّمَها اندفع الدور قال في رفع الحاجب: لأنَّ لآدم حالتين: حالة النبوّة وهي الأولى وفيها الوحْيُ الذي من جملته تعليمُ اللغات وعلمها الخلق إذ ذاك ثم بُعِث بعد أن عَلَّمَها قومَه فلم يكن مبعوثًا لهم إلا بعد علمهم اللغات فبُعِث بلسانهم قال: وحاصلُه أن نبوَّته متقدمةٌ على رسالته والتعليمُ متوسّط فهذا وجهُ اندفاع الدَّوْر.
الرابع - قال في رفع الحاجب: الصحيحُ عندي أنه لا فائدة لهذه المسألة وهو ما صحَّحه ابن الأنباري وغيرُه ولذلك قيل: ذِكْرُها في الأصول فضولٌ وقيل: فائدتها النظرُ في جواز قَلْب اللغة فحُكِي عن بعض القائلين بالتَّوْقيف منعُ القَلْب مطلقًا فلا يجوزُ تسمية الثَّوْب فرسًا والفرس ثوبًا وعن القائلين بالاصطلاح تجويزُه وأما المتوقِّفون - قال المازَرِي - فاختلَفوا فذهب بعضُهم إلى التجويز كمذهبِ قائلِ الاصطلاح وأشار أبو القاسم عبد الجليل الصَّابوني إلى المَنْع وجوَّزَ كونَ التوقيف واردًا على أنه وجبَ ألا يقعَ النطقُ إلا بهذه الألفاظ.
قال ابن السبكي والحقُّ عندي - وإليه يشيرُ كلامُ المازَري - أنه لا تَعَلُّقَ لهذا بالأصل السابق فإن التوقيفَ لو تمَّ ليس فيه حجرٌ علينا حتى لا يُنْطَقُ بسِواه فإن فُرِض حجرٌ فهو أمرٌ خارجي والفرعُ حكمُه حكم الأشياءِ قبل وُرودِ الشرائع فإنا لا نعلمُ في الشَّرْع ما يدلُّ عليه وما ذكره الصابوني من الاحتمال مدفوعٌ.
قال المازَرِي: وقد عُلِم أن الفقهاءَ المحقّقين لا يحرِّمون الشيء بمجرد احتمالِ ورود الشرع بتحريمه وإنما يحرِّمونه عند انْتهاضِ دليلِ تحريمه قال: وإن اسْتُنِد في التحريم إلى الاحتياط فهو نظرٌ في المسألة من جهة أخرى وهذا كلّه فيما لا يؤَدِّي قلبهُ إلى فسادِ النظام وتغييرُه إلى اختلاطِ الأحكام فإن أدَّى إلى ذلك - قال المازَري: فلا نختلفُ في تحريم قَلبِه لا لأَجل نفسه بل لأجلِ ما يُؤدِّي إليه قال في شرح المنهاج: إن بناءَ المسألة على هذا الأصل غيرُ صحيح فإن هذا الأصل في أن هذه اللغاتِ الواقعة بين أظْهُرِنا هل هي بالاصطلاح أو التوقيف لا في شخْصٍ خاص اصطلح مع صاحبه على إطلاق لفظِ الثوب على الفرس مثلًا.
وقال الزركشي في البحر: حكى الأستاذ أبو منصور قولًا: إن التوقيف وقعَ في الابتداء على لُغَة واحدة وما سواها من اللغات وقعَ التوقيف عليها بعد الطوفان من الله تعالى في أولاد نوح حين تفرَّقوا في أقطار الأرض قال: وقد رُوي عن ابن عباس: أول من تكلم بالعربية المحضة إسماعيل وأَرادَ به عربيةَ قريش التي نزل بها القرآن وأما عربية قَحْطان وحِمْير فكانت قبلَ إسماعيل عليه السلام.
وقال في شرح الأسماء: قال الجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين من المفسرين: إنها كلَّها توقيفٌ من الله تعالى وقال أهلُ التحقيق من أصحابنا: لا بدّ من التوقيف في أصل اللغةِ الواحدة لاسْتِحَالة وقوعِ الاصطلاح على أوَّل اللغات من غيرِ معرفةٍ من المصطلحين بعَينِ ما اصطلحوا عليه وإذا حصلَ التوقيفُ على لغةٍ واحدة جاز أن يكونَ ما بعدَها من اللغات اصطلاحًا وأن يكون تَوقيفًا ولا يُقْطَع بأحدهما إلا بدلالة قال: واختلفوا في لغة العرَب فمَن زعم أن اللغاتِ كلَّها اصطلاحٌ فكذا قوله في لغة العرب ومن قال بالتَّوقيف على اللغةِ الأولى وأجاز الاصطلاحَ فيما سواها من اللغات اختلفوا في لغة العرب فمنهم من قال: هي أول اللغات وكلُّ لغةٍ سواها حدثَتْ بعدها إما توقيفًا أو اصطلاحًا واستدلوا بأن القرآن كلامُ الله وهو عربي وهو دليلٌ على أن لغةَ العربِ أسبقُ اللغات وجودًا.
ومنهم من قال: لغة العرب نوعان: أحدهما - عربيةُ حِمْير وهي التي تكلّموا بها من عَهْد هود ومَنْ قَبله وبقي بعضُها إلى وقتنا. والثانية - العربيةُ المحْضَة التي نزل بها القرآن وأولُ من أُنْطقَ لسانُه بها إسماعيل فعلى هذا القول يكون توقيف إسماعيل على العربية المحْضة يَحْتَمِل أمرين: إما أن يكون اصطلاحًا بينه وبين جُرْهم النازلين عليه بمكة وإما أن يكون توقيفًا من الله تعالى وهو الصواب. انتهى.
ذكر الآثار الواردة في أن الله تعالى علم آدم عليه السلام اللغات
قال وكيع في تفسيره: حدثنا شَريك عن عاصم بن كليب الجرمي عن سعيد ابن معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علّمه كلَّ شيء، علَّمه القَصْعَةَ وَالْقُصَيْعَة والفَسوَة والفُسَيْوَةَ. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم بلفظ: علَّمه اسمَ الصحْفَة والقدْر وكلَّ شيءٍ حتى الفسوة والفسيّة.
وأخرج وَكِيع عن سعيد بن جُبَير في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه اسمَ كلِّ شيء حتى البعير والبقرة والشاة.
وأخرج وَكيع وعبد بن حميد في تفسيرهما عن مجاهد في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه كلَّ شيء ولفظ عبد بن حميد: ما خلقَ اللهُ كله.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيرهما من طريق السدّي عمن حدّثه عن ابن عباس في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: عرض عليه أسماءَ ولدِه إنسانًا إنسانًا والدَّوَاب، فقيل: هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس.
وأخرج ابن جزيّ في تفسيره من طريق الضَّحاك عن ابن عباس في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: هي هذه الأسماء التي يَتعارف بها الناسُ؛ إنسان ودابة وأرض وسهل وبَحْر وجَبَل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جُبَير في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: اسم الإنسان واسم الدابة واسم كلِّ شيء.
وأخرج عبد عن قَتَادة فِي قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علم آدم من أسماء خَلْقه ما لم يُعَلِّم الملائكة فسمَّى كلَّ شيء بِاسْمِه وأَلْجَأ كلَّ شيء إلى جنسه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علمه القصعة من القُصَيْعة والفسوة من الفسية.
وأخرج إسحاقُ بن بشر في كتاب المبتدأ وابن عساكر في تاريخ دمشق عن عطاء قال: { يا آدم أنْبئْهُم بأسمائهم } فقال آدم: هذه ناقةٌ جمل بقرة نعجة شاة وفرس وهو من خَلْق ربي فكلُّ شيء سَمَّى آدم فهو اسمُه إلى يوم القيامة وجعل يدعو كلَّ شيء باسمه وهو يمرُّ بين قلت: في هذا فضيلةٌ عظيمة ومَنْقَبَةٌ شريفة لِعلْمِ اللغة.
وأخرج الدَّيلمي في مسند الفردوس عن عطية بن بشر مرفوعًا في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه في تلك الأسماء ألْفَ حِرْفَة.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: أسماء ذُرِّيته أجمعين.
وأخرج عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: أَسماء الملائكة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن حميد الشامي قال: علَّم آدمَ أسماءَ النجوم.
وأخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغتُه في الجنّة العربيةَ فلما عَصَى سلَبه اللهُ العربية فتكلّم بالسريانية فلما تاب ردَّ الله عليه العربية.
قال عبد الملك بن حبيب: كان اللسانُ الأوّلُ الذي نزل به آدمُ من الجنة عربيًا إلى أن بَعُد العهدُ وطال حرّف وصار سُرْيانيًا وهو منسوب إلى أرض سُورَى أو سوريانة وهي أرضُ الجزيرة بها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغَرَق، قال: وكان يُشَاكِل اللسانَ العربي إلا أنه محرّف وهو كان لسانَ جميع مَنْ في سفينة نوح إلا رجلًا واحدًا يقال له جُرهم فكان لسانه لسانَ العربي الأول، فلما خرجُوا من السفينة تزوّج إرَم بن سام بعض بناته فمنهم صار اللسانُ العربي في ولده عَوْص أبي عاد وعَبيل وجاثر أبي ثمود وجديس، وسُمِّيَت عادٌ باسم جرهم لأنه كان جدَّهم من الأم، وبقي اللسان السرياني في ولد أرْفَخَشْذ بن سام إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذريته وكان باليمن، فنزل هناك بنو إسماعيل فتعلّم منهم بنو قحطان اللسانَ العربي.
وقال ابن دِحْيَة: العربُ أقسام:
الأول عاربة وعرباء وهم الخلَّص وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح وهي: عاد وثمود وأُمَيم وعَبيل وطَسْم وجَدِيس وعِمْلِيق وجُرْهم وَوَبار ومنهم تعلَّم إسماعيل عليه السلام العربية.
الثاني المتعربة قال في الصحاح: وهم الذين ليسوا بخُلَّص وهم بنو قحطان.
والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلّص أيضا كما في الصحاح.
وقال ابن دريد في الجمهرة: العربُ العاربة سبع قبائل: عاد وثمود وعمليق وطَسْم وجَديس وأُمَيم وجاسم وقد انْقرض أكثرُهم إلا بقايا متفرّقين في القبائل قال: وسُمي يعرب بن قحطان لأنه أولُ من انعدلَ لسانُه من السُّريانية إلى العربية وهذا معنى قول الجوهري في الصحاح: أولُ من تكلَّم بالعربية يعربُ بن قحطان.
وأخرج ابن عساكر في التاريخ بسَنَدٍ رواه عن أنس بن مالك موقوفًا قال: لما حَشرَ الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحًا فاجتمعوا ينظرون لماذا حُشِروا له فنادى مُنَادٍ: مَنْ جعل المَغرِب عن يمينه والمشرق عن يساره واقْتَصَد البيتَ الحرام بوَجْهِه فله كلامُ أهلِ السماء فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يَعْرُبُ بن قحطان بن هود أنت هو فكان أولَ من تكلم بالعربية المَبينَة فلم يزل المنادي يُنَادي مَنْ فَعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانًا وانقطع الصوتُ وَتَبَلْبَلَتِ الألسُن فسُمِّيت بابل وكان اللسان يومئذ بابليًا.
وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن بُرَيدة رضي الله عنه في قوله تعالى: { بلِسَانٍ عربي مُبينٍ } قال: بلسان جُرْهم.
وقال محمد بن سلام الجمحي في كتاب طبقات الشعراء: قال يونس بن حبيب: أولُ من تكلم بالعربية إسماعيلُ بن إبراهيم عليهما السلام ثم قال محمد بن سلّام: أخبرني مِسْمَع بن عبد الملك أنه سمع محمد بن عليّ يقول - قال ابن سلّام: لا أدري رَفَعَه أم لا وأظنه قد رفعه - أولُ من تكلَّم بالعربية ونَسِي لسانَ أبيه إسماعيلُ عليه السلام.
وأخرج الحاكم في المستدرك وصحَّحه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر: أن رسول الله صلى عليه وسلم تلا: { قرآنًا عربيًا لقومٍ يعلمون } ثم قال: أُلْهِمَ إسماعيلُ هذا اللسان العربي إلهامًا.
قال محمد بن سلّام وأخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال: العربُ كلُّها ولدُ إسماعيل إلا حِمْير وبقايا جُرْهم وكذلك يروى أن إسماعيل جاوَرهم وأصْهر إليهم ولكنَّ العربيةَ التي عنى محمد بن علي اللسان الذي نزل به القرآن وما تكلّمت به العربُ على عهد النبي، وتلك عربيةٌ أخرى غير كلامنا هذا.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه: قيل إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل عليه السلام والصحيح المشهور أن العربَ العاربة قبلَ إسماعيل، وهم عاد وثمود وطسم وجَديس وأُمَيم وجُرْهم والعماليق وأمم آخرون لا يعلَمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه أيضا، فأما العربُ المستعربة وهم عربُ الحجاز فمن ذرِّية إسماعيل عليه السلام، وأما عربُ اليمن وحِمْيرَ فالمشهورُ أنهم من قَحْطان واسمه مهزَّم؛ قاله ابن مَاكُولا. وذكروا أنهم كانوا أربعةَ إخوة: قحطان وقاحط ومقحط وفالَغ وقَحْطان بن هود، وقيل هود وقيل أخوه وقيل من ذريته، وقيل إن قحطان من سُلالة إسماعيل، حكاه ابن إسحاق وغيره. والجمهور على أن العربَ القحطانية من عرب اليمن وغيرُهم ليسوا من سلالة إسماعيل.
وقال الشيرازي في كتاب الألقاب: أخبرنا أحمد بن سعيد المعداني: أنبأنا محمد بن أحمد بن إسحاق الماسي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف يعقوب بن السكِّيت قال: حدثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه عن النبي ﷺ: أول مَن فُتق لسانُه بالعربية المتينة إسماعيلُ عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة فقال له يونس: صدقت يا أبا سيار هكذا حدثني به أبو جزيّ. هذه طريقةٌ موصولة للحديث السابق من طريق الجُمَحِي.
ذكر إيحاء اللغة إلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام
قال أبو أحمد الغِطْريف في جُزْئه: حدثنا أبو بكر بن محمد بن أبي شيبة ببغداد، أخبرنا أبو الفضل حاتم بن الليث الجوهري حدثنا حماد بن أبي حمزة اليشكري، حدثنا علي بن الحسين بن واقد، نبأنا أُبي عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه عن عمر بن الخطاب أنه قال: يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد دَرَست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها. أخرجه ابن عساكر في تاريخه.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق يونس بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ في يوم دَجْن: كيف ترون بواسقها قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها، قال: كيف ترون قواعدها قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها، قال: كيف ترون جَوْنَها قالوا: ما أحسنه وأشد سواده، قال: كيف ترون رَحَاها استدارت قالوا: نعم ما أحسنها وأشدّ استدارتها، قال: كيف ترون برقها أخفيًّا أم وميضًا أم يشق شقًّا قالوا: بل يشق شقا، فقال: الحياءُ فقال رجل: يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك، قال: حقّ لي فإنما أُنْزِلَ القرآن عليّ بلسانٍ عربي مبين.
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي رافع قال: قال رسول الله ﷺ: مُثِّلت لي أُمَّتي في الماء والطين وعُلِّمْت الأسماءَ كلَّها كما عُلّم آدمُ الأسماءَ كلها.
المسألة الثالثة: في بيان الحكمة الداعية إلى وضع اللغة
قال الكِيَا الهَرَّاسي في تعليقه في أُصول الفقه: وذلك أن الإنسانَ لمَّا لم يكن مكتفيًا بنفسه في معاشه ومُقِيمات معاشه لم يكن له بدٌّ من أن يسترفد المعاونة من غيره ولهذا اتَّخَذ الناسُ المدن ليجتمعوا ويتعاونوا.
وقيل: إن الإنسان هو المتمدّن بالطبع والتوحُّش دَأْبُ السباع ولهذا المعنى توزَّعَت الصنائع وانْقَسَمَت الحِرَف على الخَلْق فكلُّ واحدٍ قصَر وقتَه على حِرْفة يشتغل بها لأن كلَّ واحد من الخَلْق لا يمكنُه أن يقوم بجُمْلَة مَقَاصِده فحينئذ لا يخْلُو من أن يكونَ محلُّ حاجته حاضرةً عنده أو غائبةً بعيدةً عنه فإن كانت حاضرةً بين يديه أمكنه الإشارة إليها وإن كانت غائبةً فلا بدَّ له من أن يدلَّ على محل حاجاته وعلى مَقْصوده وغَرضه، فوضعوا الكلامَ دلالةً ووجدوا اللسانَ أسرعَ الأعضاءِ حركةً وقبولًا للترداد.
وهذا الكلام إنما هو حرفٌ وصوتٌ، فإن تركه سدًى غفلًا امتدَّ وطال، وإن قطعه تقطَّع. فقطَّعوه وجزّؤوه على حركات أعضاءِ الإنسان التي يخرج منها الصوت وهو من أقصى الرِّئة إلى منتهى الفم، فوجدوه تسعةً وعشرين حرفًا لا تزيد على ذلك. ثم قسَّموها على الحلْق والصَّدْر والشَّفَةِ واللثَّة. ثم رَأَوْا أن الكفاية لا تقعُ بهذه الحروف التي هي تسعةٌ وعشرون حرفًا ولا يحصل له المقصود بإفرادها فركّبوا منها الكلامَ ثُنائيًّا وثلاثيًّا ورباعيًّا وخماسيًّا؛ هذا هو الأصل في التركيب، وما زاد على ذلك يُستَثْقَل. فلم يضعوا كلمةً أصلية زائدة على خمسة أحرف إلا بطريق الإلْحاق والزيادة لحاجة. وكان الأصلُ أن يكون بإزاءِ كل معنى عبارةٌ تدلُ عليه غير أنه لا يمكنُ ذلك لأَن هذه الكلمات متناهيةٌ، وكيف لا تكون متناهية ومَوَارِدها ومَصَادرها متناهية، فدعت الحاجةُ إلى وضع الأسماء المشتَركة فجعلوا عبارةً واحدةً لمسَمَّيَاتٍ عِدَّة كالعين والجَوْن واللون؛ ثم وضعوا بإزاء هذا على نقيضه كلماتٍ لمعنًى واحد، لأن الحاجةَ تدعو إلى تأكيد المعْنى والتحريض والتقرير، فلو كُرّرَ اللفظ الواحد لسَمُجَ ومُجَّ ويقال: الشيء إذا تكرّر تكرَّج والطِّباعُ مجبولةٌ على مُعَاداة المُعَادات؛ فخالفوا بين الألفاظ والمعنى واحد.
ثم هذا ينقسم إلى ألفاظ متواردة وألفاظ مترادفة. فالمتواردة كما تسمَّى الخمرُ عَقارًا وصَهْباءَ وقهوة وسلسالًا، والسبعُ ليثًا وأسدًا وضِرْغامًا. والمترادفة هي التي يُقام لفظٌ مقام لفظٍ لمعانٍ مُتَقَاربة يجمعها معنًى واحد، كما يقال أَصْلَح الفاسِدَ ولمَّ الشَّعَث ورتقَ الفَتقَ وشعبَ الصَّدْع. وهذا أيضا مما يَحْتَاجُ إليه البليغ في بلاغته فيقال خطيبٌ مِصْقَع وشاعر مُفْلِق، فَبِحُسْنِ الألفاظ واختلافها على المعنى الواحد ترصع المعاني في القلوب وتَلْتَصِق بالصدور ويزيد حسنُه وحَلاوته وطَلاوته بضَرْب الأمثلة به والتشبيهات المجازية. وهذا ما يَسْتَعْمِلُه الشعراء والخطباء والمترسِّلون. ثم رأوا أنه يضيقُ نِطاقُ النُّطق عن استعمال الحقيقة في كل اسمٍ فعدَلوا إلى المجاز والاستعارات.
ثم هذه الألفاظ تنقسم إلى مشتركة وإلى عامَّة مطلقة - وتسمى مستغرقة - وإلى ما هو مفرد بإزاء مفرد، وسيأتي ذلك.
وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: السببُ في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحدَه لا يستقلُّ بجميع حاجاته بل لا بدَّ من التعاون ولا تعاونَ إلا بالتَّعارف ولا تعارفَ إلا بأسباب كحركات أو إشاراتٍ أو نقوش أو ألفاظٍ توضع بإزاء المقاصد، وأَيْسَرُها وأفيدُها وأعمُّها الألفاظ. أمَّا أنها أيسر فِلأَنَّ الحروفَ كيفيَّاتٌ تَعْرِضُ لأصواتٍ عارضة للهواء الخارج بالتّنفس الضروري الممدود من قبل الطبيعة دون تكلف اختياري. وأما أنها أفيدُ فلأَنها موجودةٌ عند الحاجة معدومةٌ عند عَدَمها. وأما أنها أعمُّها فليس يمكن أن يكونَ لكل شيءٍ نَقْشٌ، كذات الله تعالى والعلوم، أو إليه إشارة كالغائبات، ويمكن أن يكونَ لكل شيءٍ لفظٌ. فلما كانت الألفاظُ أيسرَ وأفيدَ وأعمَّ صارت موضوعةً بإزاء المعاني.
المسألة الرابعة: في حد الوضع
قال التاج السبكي في شرح منهاج البيضاوي: الوضع عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أُطلق الأوَّلُ فُهِم منه الثاني. قال: وهذا تعريفٌ سديد، فإنك إذا أطلقت قولك: قام زيد فُهِمَ منه صُدُور القيام منه. قال: فإن قلتَ: مدلولُ قولنا قام زيد صدور قيامه، سواءٌ أطلقنا هذا اللفظ أم لم نُطْلِقه فما وجهُ قولكم بحيث إذا أطلق؟ قلت: الكلامُ قد يخرج عن كونه كلامًا وقد يتغيَّر معناه بالتّقييد، فإنك إذا قلتَ: قام الناس اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم، فإذا قلتَ: إن قام الناس خرج عن كونه كلامًا بالكلية فإذا قلتَ: قام الناس إلا زيدا، لم يخرجْ عن كونه كلامًا ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدًا فعلم بهذا أن لإفادة قام الناس الإخبار بقيام جميعهم شرطين: أحدهما ألا تبتدئَه بما يخالِفُه والثاني ألا تختمَه بما يخالفه وله شرطٌ ثالث أيضا وهو أن يكونَ صادرًا عن قَصْد فلا اعتبارَ بكلام النائم والساهي فهذه ثلاثةُ شروط لا بدَّ منها وعلى السامع التنبه لها فوضحَ بهذا أنك لا تستفيدُ قيام الناس من قوله: قام الناس إلا بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه.
فإن قلت: مِنْ أين لنا اشتراطُ ذلك واللفظُ وحدَه كافٍ في ذلك لأن الواضع وضَعَه لذلك قلت: وضْعُ الواضع له معناه أنه جعله مُهَيَّأً لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلّم على الوجه المخصوص والمفيدُ في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظُ كالآلة الموضوعة لذلك.
فإن قلتَ: لو سمعنا قام الناس ولم نَعْلَم مِنْ قائِله هل قصده أم لا وهل ابتدأه أو ختمه بما يغيِّره أو لا هل لنا أن نُخبِر عنه بأنه قال: قام الناس قلت: فيه نظر يحتمل أن يُقال بجوازه لأن الأصل عدمُ الابتداء والختم بما يُغيّره ويحتمل أن يقال: لا يجوز لأن العُمْدة ليس هو اللفظ ولكنَّ الكلام النفساني القائم بذات المتكلم وهو حكمه واللفظ دليل عليه مشروط بشُروط ولم تتحقَّق ويُحْتَمل أن يقال: إن العلم بالقصد لا بدّ منه لأنه شَرْطٌ والشكُّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط والعلم بعدم الابتداء والختم بما يخالفُه لا يُشْتَرَط لأنهما مانعان والشكُّ في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن الأصلَ عدمه قال: واختار والدي - رحمه الله - أنه لا بدَّ من أن يعلم الثلاثة. انتهى.
المسألة الخامسة
اختلف هل وضَعَ الواضعُ المفرداتِ والمركَّبات الإسناديّة أو المفردات خاصة دون المركبات الإسنادية. فذهب الرازي وابن الحاجب وابن مالك وغيرُهم إلى الثاني وقالوا: ليس المركَّب بموضوع وإلا لتوقَّفَ استعمالُ الجُمل على النَّقْل عن العرب كالمفردات.
ورجَّح القرافي والتاج السبكي في جمع الجوامع وغيرهما من أهل الأصول أنه موضوع لأن العرب حَجَرت في التراكيب كما حَجَرت في المفردات.
وقال ابن إياز [5] في شرح الفصول في قول ابن عبد المعطي [6]: الكلامُ هو اللفظُ المركب المفيد بالوضع، كذا قال الجزولي، وكان شيخي سعد الدين يقول فيه بغير ذلك لأنَّ واضعَ اللغةِ لم يَضَع الجملَ كما وضعَ المفردات بل ترك الجُمل إلى اختيار المتكلِّم، يُبَيِّنُ ذلك لك أن حال الجُمل لو كانت حال المفردات لكان استعمالُ الجمل وفهمُ معانيها متوقفًا على نَقْلها عن العرب كما كانت المفرداتُ كذلك ولوجب على أهل اللغة أن يتتبعوا الجُمل ويودعوها كتبهم كما فعلوا ذلك
المسألة السادسة
قال الإمام فخر الدين الرَّازي وأتباعه: لا يجبُ أن يكون لكلِّ معنى لفظٌ لأنَّ المعانيَ التي يمكن أن تُعْقَل لا تَتَناهى والألفاظ متناهيةٌ لأنَّها مركبّة من الحروف والحروف متناهية والمركَّب من المُتناهي مُتَنَاهٍ والمتناهي لا يَضْبِطُ ما لا يَتَنَاهى وإلا لزم تَناهي المدلولات قالوا: فالمعاني منها ما تكثرُ الحاجةُ إليه فلا يَخْلُو عن الألفاظ لأن الداعيَ إلى وضْع الألفاظ لها حاصلٌ والمانعُ زائل فيجب الوضعُ والتي تَنْدُر الحاجة إليها يجوزُ أن يكون لها ألفاظ وألا يكون.
المسألة السابعة
قالوا أيضا: ليس الغرضُ من الوضع إفادةَ المعاني المفردة بل الغرضُ إفادةُ المركَّبَات والنسب بين المفردات كالفاعليَّة والمفعولية وغيرهما وإلا لَزِم الدَّور وذلك لأنّ إفادةَ الألفاظِ المفردة لمعانيها موقوفةٌ على العِلْم بكونها موضوعةً لتلك المسمّيات والعلم بذلك موقوفٌ على العلم بتلك المسمّيات فيكون العلمُ بالمعاني متقدمًا على العِلْم بالوضع فلو استَفَدْنا العلم بالمعاني من الوَضع لكان العلْمُ بها متأخرًا عن العلم بالوضع وهو دَوْرٌ.
فإنْ قِيلَ: هذا بَعْينِهِ قائمٌ فِي المركَّبَاتِ لأنَّ المركَّبَ لا يفيدُ مدلولَه إلا عند العلم بكونه موضوعًا لذلك المدلول والعلم به يَسْتدعي سبقَ العلم بذلك المدلول فلو استفدنا العلمَ بذلك المدلول من ذلك المركَّب لزِم الدَّوْر.
فالجواب أنَّا لا نُسَلِّم أن إفادةَ المركب لمدلوله تتوقَّفُ على العلم بكوْنه موضوعًا له بل على العلم بكون الألفاظ المفردة موضوعةً للمعاني المفردة حتى إذا تُلِيَت الألفاظ المفردةُ عُلِمَتْ مفردات المعاني منها والتناسبُ بينهما من حركاتِ تلك الألفاظ فظَهرَ الفرق.
المسألة الثامنة
اخْتُلِفَ: هل الألفاظ موضوعةٌ بإزاء الصُوَر الذهنية - أي الصورة التي تَصَوَّرها الواضع في ذِهْنِه عند إرادة الوضع - أو بإزاء الماهيات الخارجية فذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى الثاني وهو المختارُ وذهب الإمام فخر الدين وأتباعه إلى الأول واستدلّوا عليهِ بأن اللفظَ يتغيَّر بحسب تغيُّر الصورة في الذِّهن فإن مَنْ رأَى شَبحًا من بعيد وظَنَّه حَجرًا أطلق عليه لفظ الحجر فإذا دَنا منه وظنَّه شجرًا أطلق عليه لفظ الشجر فإذا دَنَا وظنَّه فرسًا أطلق عليه اسم الفرس فإذا تحقَّق أنه إنسان أطلق عليه لفظَ الإنسان فَبَانَ بهذا أن إطلاقَ اللفظ دائر مع المعاني الذهنيَّة دون الخارجية فدلّ على أن الوضْعَ للمعنى الذهنيّ لا الخارجيّ.
وأجاب صاحب التحصيل عن هذا بأنه إنما دار مع المعاني الذِّهنية لاعْتقاد أنها في الخارج كذلك لا لِمُجرَّد اختلافِها في الذهن.
قال الأسنوي في شرح منهاج الإمام البيضاوي: وهو جواب ظاهر قال: ويظهرُ أن يُقال: إن اللفظ موضوع بإزاءِ المعنى من حيث هو مع قَطْعِ النظر عن كونه ذهنيًّا أو خارجيًّا فإن حصولَ المعنى في الخارج والذّهن من الأوصاف الزائدة على المعنى واللفظُ إنما وُضِعَ للمعنى من غير تقييده بوَصْفٍ زائد ثم إن الموضوعَ له قد لا يُوجد إلا في الذهن فقط كالعلم ونحوه. انتهى.
وقال أبو حيّان في شرح التسهيل: العجبُ ممن يُجيز تركيبًا مَا في لغة من اللغات من غير أن يسمعَ من ذلك التركيب نظائرَ وهل التراكيب العربية إلا كالمفردات اللغوية فكما لا يجوز إحداثُ لفظٍ مفردٍ كذلك لا يجوز في التراكيب لأن جميعَ ذلك أمورٌ وضعية والأمورُ الوضعيةُ تحتاج إلى سماع من أهل ذلك اللسان والفرقُ بين علم النحو وبين علم اللغة أن علمَ النحو موضوعُه أمورٌ كليّة وموضوعُ علم اللغة أشياء جزئية وقد اشتركا معًا في الوضْع. انتهى.
وقال الزركشي في البحر المحيط: لا خِلافَ أن المفرداتِ موضوعةٌ، كوضع لفظ إنسان للحيوان الناطق وكوَضْعِ قام لحدوث القيام في زمن مخصوص وكَوَضْع لعلَّ للترجِّي ونحوها، واختلفوا في المركَّبَات نحو قام زيد وعمرو منطلق فقيل: ليست موضوعة؛ ولهذا لم يتكلم أهلُ اللغة في المركبات ولا في تأليفها وإنما تكلموا في وَضْع المفردات وما ذاك إلا لأن الأمر فيها مَوْكول إلى المتكلِّم بها؛ واختاره فخرُ الدين الرازي وهو ظاهرُ كلام ابن مالك حيث قال: إن دلالة الكلام عقليَّة لا وَضعيَّة، واحتجَّ له في كتاب الفيصل على المفصل بوجهين: أحدهما - أن من لا يَعْرف من الكلام العربي إلا لفظين مفردين صالحين لإسناد أحدهما إلى الآخر فإنه لا يَفْتَقر عند سماعهما مع الإسناد إلى مَعرّف بمعنى الإسناد بل يُدْرِكه ضرورة. وثانيهما - أن الدَّال بالوضع لا بدَّ من إحصائه ومنع الاستئناف فيه كما كان في المفردات والمركَّبات القائمة مقامها فلو كان الكلامُ دالًّا بالوضْع وجب ذلك فيه ولم يكن لنا أن نتكلم بكلام لم نُسْبَق إليه كما لم نَستعمل في المفردات إلا ما سَبَق اسْتِعماله وفي عدم ذلك برهانٌ على أنَّ الكلامَ ليس دالًّا بالوضع. انتهى.
وحكاه ابن إياز عن شيخه قال: ولو كان حال الجمل كحال المفردات في الوضع لكان استعمال الجُمَلِ وفهمُ معانيها متوقفًا على نَقْلِها عن العرب كما كانت المفرداتُ كذلك ولَوَجَبَ على أهل اللغة أن يَتَتَبَّعوا الجُمَل ويُودِعُوها كُتبَهم كما فعلوا ذلك بالمفردات ولأن المركّباتِ دلالتُها على معناها التركيبي بالعقل لا بالوضع فإنَّ مَنْ عرف مسمَّى زيد وعرف مسمَّى قائم وسمع زيد قائم بإعرابه المخصوص فَهِمَ بالضرورة معنى هذا الكلام وهو نِسْبَةُ القيام إلى زيد، نعم يصحّ أن يقالَ: إنها موضوعة باعتبار أنها متوقفة على معرفة مفرداتها التي لا تُستفاد إلا من جهة الوضع ولأَن لِلَّفْظ المركَّب أجزاء مادّية وجزءًا صوريًا وهو التأليفُ بينهما وكذلك لمعناه أجزاءٌ مادّية وجزءٌ صوريّ والأَجزاءُ المادّية من اللفظ تدلُّ على الأَجزاءِ المادية من المعنى والجزءُ الصوريّ منه يدل على الجزء الصوريّ من المعنى بالوضع.
والثاني - أنها موضوعة [7] فوضعت زيد قائم للإسناد دون التَّقوية في مفرداته ولا تَنَافي بين وَضْعها مفردةً للإسناد بدون التَّقوية وَوَضْعها مركَّبة للتَّقوية ولا تختلف باختلاف اللغات فالمضافُ مقدَّم على المضاف إليه في بعض اللغات ومؤخَّر عنه في بَعْض ولو كانت عقليّةً لفهم المعنى واحدًا سواءٌ تقدّم المضافُ على المضاف إليه أو تأخر. وهذا القولُ ظاهرُ كلام ابنِ الحاجب حيث قال: أقسامُها مفرد ومركب. قال القَرَافي: وهو الصحيح. وعزَاه غيرُه للجمهور بدليل أنها حَجَرت في التَّراكيب كما حَجَرت في المفردات فقالت: من قال: إن قائم زيدًا ليس من كلامنا ومن قال: إن زيدًا قائم فهو من كلامنا ومن قال: في الدار رجلٌ فهو من كلامنا ومن قال: رجل في الدار فليس من كلامنا إلى ما لا نهاية له في تراكيب الكلام وذلك يدلّ على تَعَرُّضِهَا بالوضعِ للمركبات.
قال الزَّرْكَشِيّ: والحقُّ أن العربَ إنما وَضَعَتْ أنواعَ المرَكَّبَاتِ أما جُزئيات الأنواع فلا فَوَضَعَتْ باب الفاعل لإسْناد كلِّ فعلٍ إلى مَنْ صَدَرَ منه أما الفاعلُ المخصوص فلا وكذلك باب إن وأخواتها أما اسمُها المخصوصُ فلا وكذلك سائر أنواعِ التراكيب وأحالت المعنى على اختيار المتكلم فإنْ أراد القائلِ بِوَضْع المركّبات هذا المعنى فصحيح وإلا فممنوع قال: ولم أر لهم كلامًا في المثنى والمجموع والظاهرُ أنهما موضوعان لأنهما مفردان وهو الذي يقتضيه حدُّهم للمفرد ولهذا عامَلُوا جُمُوعَ التكسير معاملةَ المفردِ في الأحكام لكنْ صَرَّح ابن مالك في كلامه على حدِّهما بأنهما غيرُ موضوعين ويبعدُ أن يقالَ: فرَّعه على رأيهِ في عدم وضْعِ المركّبات لأنه لا تركيب فيها لا سيما أن المركّب في الحقيقة إنما هو الإسنادُ وكذا القولُ في أسماء الجُموع والأجناس مما يدلُّ على متعدد والقول بعدم وضْعه عجيب لأن أكثره سماعيّ وقد صرَّح ابن مالك بأنَّ شَفْعًا ونحوه مما يدلّ على الاثنين موضوع.
وقال الجويني: الظاهرُ أن التثنية وُضِعَ لفظُها بعد الجمع لِمَسِيس الحاجة إلى الجمع كثيرا؛ ولهذا لم يُوجد في سائر اللغات تثنية، والجمع موجود في كل لغة، وَمِنْ ثمَّ قال بعضهم: أقلُّ الجمع اثنان كأَن الواضع قال: الشيءُ إما واحدٌ وإما كثير لا غيرُ، فجعل الاثنين في حدِّ الكثرة. انتهى.
المسألة التاسعة
قال الإمام عضد الدين الإيجي في رسالة له في الوضع: اللفظ قد يوضع لشخصٍ بعينه وقد يُوضع له باعتبار أمرٍ عام وذلك بأن يُعْقل أمرٌ مشتَرَك بين مشخصات ثم يُقال: هذا اللفظ موضوع لكلِّ واحدٍ من هذه المشخصات بخصوصه بحيث لا يُفاد ولا يُفْهم به إلا واحد بخصوصه دون القَدْر المشترك فتعقل ذلك المشترك آلة للوضع لا أنه الموضوع له فالوضع كلِّي والموضوعُ له مشخّص وذلك مثلُ اسم الإشارة فإنَّ هذا مثلًا موضوعُه ومسمّاه المشارُ إليه المشخّص بحيث لا يَقْبَلُ الشركة وما هو من هذا القبيل لا يُفيدُ التشخُّص إلا بقرينة تفيدُ تعيينه لاسْتواءِ نسبة الوضع إلى المسّميات.
قال: ثم اللفظُ مدلوله إما كلّي أو مشخّص والأول إما ذاتٌ وهو اسم الجنس أو حدَث وهو المصدر أو نسبة بينهما وذلك إما أن يكون يُعْتَبَر من طَرَفِ الذات وهو المشتقّ أو من طَرَف الحدَث وهو الفِعْل والثاني العلم فالوَضعُ إما كلي أو مشخّص والأول مدلولُه إما معنى في غيره يتعيَّنُ بانضمام غيره إليه وهو الحرف أولًا فالقرينةُ إن كانت في نحو الخطاب فالضميرُ وإن كانت في غيره فإما حسيَّة وهو اسمُ الإشارة أو عقليَّة وهو الموصول فالثلاثة مشتركة فإن مدلولَها ليس معاني في غيرها وإن كانت تتحصَّل بالغير فهي أسماء.
المسألة العاشرة
نقلَ أهلُ أُصول الفِقْه عن عبّاد بن سليمان الصيمري من المعتزلة أنه ذهبَ إلى أنَّ بين اللفظِ ومدلولهِ مناسبةً طبيعيةً حاملةً للواضع على أن يضعَ قال: وإلا لكانَ تخصيصُ الاسمِ المُعيّنِ بالمسمَّى المُعيَّن ترجيحًا من غير مُرَجِّح وكان بعضُ مَنْ يرَى رأْيَه يقول: إنه يعرفُ مناسبةَ الألفاظِ لمعانيها فَسُئِل ما مُسَمَّى اذغاغ وهو بالفارسية الحجر فقال: أجدُ فيه يُبْسًا شديدا، وأراه الحجر. وأنكَر الجمهور هذه المقالة وقال: لو ثبتَ ما قالَه لاهْتَدَى كلُّ إنسان إلى كل لغةٍ ولما صحَّ وضعُ اللفظِ للضدين كالقَرْءِ للحيض والطهر والجَوْن للأَبيض والأسود؛ وأجابوا عن دليله بأنَّ التخصيص بإرادة الواضع المختار خصوصًا إذا قلنا: الواضعُ هو الله تعالى فإن ذلك كتخصيصه وجود العالَم بوقت دون وقت وأما أهل اللغة والعربية فقد كادوا يُطْبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني لكن الفرقَ بين مذهبهم ومذهب عبّاد أن عبَّادًا يراها ذاتية موجبة بخلافهم وهذا كما تقول المعتزلة بمراعاة الأصْلح في أفعالِ الله تعالى وُجوبًا وأهل السنة لا يقولون بذلك مع قولهم إنه تعالى يفعل الأصْلَح لكن فضلًا منه ومَنًَّا لا وجوبًا ولو شاءَ لم يفعله.
وقد عقد ابن جني في الخصائص بابًا لمناسبة الألفاظ للمعاني وقال: هذا موضع شريف نبه عليه الخليل وسيبويه وَتَلَقَّتْه الجماعة بالقبول؛ قال الخليل: كأنهم تَوَهَّموا في صوت الجُنْدُب استطالةً فقالوا: صَرّ، وفي صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفَعَلان: إنها تأتي للاضطراب والحرَكة، نحو النَّقَزَان والغَليان والغَثيان، فقابلوا بِتَوَالي حركاتِ الأمثالِ تواليَ حركات الأفعال.
قال ابن جني: وقد وجدتُ أشياء كثيرة من هذا النَّمَط، من ذلك المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقة والقرقرة، والفعَلى تأتي للسرعة نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة والقرقرة، والفَعلى إنما تأتي للسرعة نحو البَشَكى والجَمَزى والوَلقى.
ومن ذلك باب اسْتفعل جعلوه للطَّلب لما فيه من تَقَدُّم حروفٍ زائدة على الأصول كما يتقدَّم الطلبُ الفعل وجعلوا الأفعالَ الواقعة عن غير طلب إنما تفجأُ حروفها الأصول أو ما ضارع [ بالصيغة ] الأصول؛ [ فالأصولُ نحو قولهم: طعِم ووهَب ودخل وخرج وصعِد ونزل فهذا إخبار بأصولٍ فاجأت عن أفعال وَقعت ولم يكن معها دلالة تدلّ على طلبٍ لها ولا إعمال فيها وكذلك ما تقدَّمت الزيادةُ فيه على سَمْت الأصل نحو أحسن وأكرم وأعطى وأولى فهذا من طريق الصيغة بوزن الأصل في نحو دَحْرج وسَرْهف... ]
وكذلك جعلوا تكرير العين نحو فرَّح وبَشَّر فجعلوا قوّة اللفظِ لقوّة المعنى وخصُّوا بذلك العين لأنها أقْوَى من الفاء واللام إذ هي واسطة لهما ومكنوفةٌ بهما فصارا كأنهما سِيَاج لها ومَبْذولان للعَوارِض دونها ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها.
[ فأما مقابلةُ الألفاظ بما يُشاكل أصواتها من الأحداث فبابٌ عظيم واسع ونَهْج مُتْلَئِبّ عند عَارِفيه مَأمُوم وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سَمت الأحداث المعبّر بها عنها فَيَعدِلونها بها ويَحتذُونها عليها وذلك أكثرُ مما نقدّره وأضعافُ ما نستشعره من ذلك قولهم: خَضَم وقضِم ف ] الخَضْم لأكل الرَّطْب [ كالبِطّيخِ والقِثَّاء وما كان من نحوها من المأكول الرطب ] والقضْمُ لأكل اليابس [ نحو قَضَمَت الدَّابة شعيرها ونحو ذلك. وفي الخبر: قد يُدْرَكُ الخَضْم بالقَضْم أي قد يُدرك الرخاء بالشدة واللّين بالشَّظَف وعليه قول أبي الدَّرْداء: يَخْضَمون ونقضَم والموعد الله ] فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب والقاف لصلابتها لليابس [ حَذْوًا لمسموع الأصوات على مَحْسوس الأحْداث ] و [ من ذلك قولهم ] النَّضْح للماء ونحوه، والنَّضْخ أقوى منه قال اللهُ سُبْحَانه: { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضّاخَتَانِ } فجعلوا الحاء لرقتها للماءِ الخفيف والخاءَ لِغَلظها لما هو أقوى [ منه ]؛ ومن ذلك القدّ طولًا والقطّ عرضًا لأن الطاءَ أخفض للصوت وأسرعُ قطعًا له من الدَّال [ المستطيلة ]؛ فجعلوا [ الطاء للمناجزة ] لِقَطْع العَرض لِقُرْبِه وسرعته، والدال الماطلة لما طال من الأثر، وهو قَطْعُهُ طولًا.
قال: وهذا الباب واسعٌ جدًا لا يمكنُ اسْتِقْصَاؤُه.
قُلت: ومِنْ أَمْثِلة ذلك ما في الجمهرة: الخَنَنَ في الكلام أشدُّ من الغَنَن، والخُنّة أشدّ من الغُنَّة، والأنِيتُ أشدّ من الأنِين، والرَّنين أشدّ من الحِنين.
وفي الإبدال لابن السكيت: يقال القَبْصة أصغرُ من القَبْضة، قال في الجمهرة: القَبْصُ الأخذُ بأطراف الأنامل، والقَبْضُ الأخذ بالكفِّ كلّها.
وفي الغريب المصنف عن أبي عمرو: هذا صَوْغُ هذا إذا كان على قَدْره، وهذا سَوْغُ هذا إذا وُلِدَ بعد ذاك على أَثره، ويقال نَقَبَ على قومه ينقُب نِقابةً من النَّقيب وهو العَرِيف، ونكَب عليهم ينكب نكابة وهو المَنكِب وهو عون العريف.
وقال الكسائي: القَضْمُ للفرس والخَضْمُ للإنسان. وقال غيرُه: القَضْم بأطراف الأسنان والخَضْم بأقْصى الأَضراس.
وقال أبو عمرو: النَّضْح بالضاد المعجمة: الشرب دون الرِّيّ، والنَّصْح بالصاد المهملة الشُّرْب حتى يَرْوَى، والنَّشْح بالشين المعجمة دون النَّضْح بالضاد المعجمة.
وقال الأَصمعي: من أصوات الخيل الشخِيرُ والنَّخِيرُ والكَريرُ، فالأوَّل من الفم والثاني من المَنْخَرين والثالث من الصَّدر.
وقال الأصمعي: الهَتْل من المطر أصغرُ من الهَطْل.
وفي الجمهرة: العَطْعَطَةُ بإهمال العين تتابعُ الأصوات في الحرب وغيرها، والغَطْغَطة بالإعجام: صوتُ غَلَيَان القِدْر وما أشبهه، والجَمْجَمَة بالجيم: أن يُخْفِي الرجلُ في صدره شيئا ولا يُبْدِيه، والحَمْحَمَةُ بالحاء أن يردِّد الفرسُ صوتَه ولا يَصْهَلِ، والدَّحْدَاح بالدال الرجل القصير، والرَّحْرَاح بالراء الإناء القصير الواسع، والجَفْجَفَةُ بالجيم هَزِيز المَوْكِب وحَفِيفُه في السير، والحَفْحَفَةُ بالحاء حفيفُ جَنَاحي الطائر، ورجل دَحْدَح بفتح الدالين وإهمال الحاءين قصير، ورجل دُخْدُخ بضم الدَّالين وإعجام الخاءين قصيرٌ ضخْم، والجَرْجَرَة بالجيم صوتُ جَرْعِ الماء في جَوف الشَّارب، والخَرْخَرة بالخاء صوتُ تردُّد النَّفَس في الصدْر وصوت جَرْي الماء في مضيق، والدَّرْدَرَة صوت الماء في بطون الأودية وغيرها إذا تدافع فَسَمِعْتَ له صوتًا، والغَرْغَرَة صوتُ ترديد الماء في الحَلْق من غير مَجّ ولا إسَاغة، والقَرْقَرَة صوتُ الشراب في الحلق، والهَرْهَرَةُ صوت تَرْدِيد الأسد زئيرَه، والكَهْكَهَة صوتُ تردِيد البعير هَدِيره، والقَهْقَهَةُ حكاية استِغْرَاب الضحك، والوَعْوَعَةُ صوت نُبَاح الكلب إذا رَدَّده، والوَقْوَقَةُ اختلاطُ [ أصوات ] الطير، والوَكْوَكَةٌُ هديرُ الحمام، والزَّعْزَعَةُ بالزاي اضطرابُ الأشياء بالريح، والرَّعْرَعَةُ بالراء اضطرابُ الماء الصافي والشراب على وجه الأرض، والزَّغْزَغَةُ بالزاي وإعجام الغين اضطراب الإنسان في خِفّة ونَزَق، والكَرْكَرَة بالكاف الضحك، والقَرْقَرَة بالقاف حكاية الضحك إذا اسْتَغْرَب الرجلُ فيه، والرَّفْرَفَة بالراء صوت أَجنِحة الطائر إذا حَام ولم يَبْرح، والزَّفْزَفَة بالزاي صوتُ حفيف الريح الشديدة الهبوب وسَمِعْتُ زفزفةَ الموكِب إذا سمعت هَزيزِه، والسَّغْسَغَةُ بإهمال السين تحريك الشيء من موضعه لِيُقْلَعَ مثل الوَتَدِ وما أشبهه ومثل السن، والشَّغْشَغَةُ بالإعجام تحريك الشيء في موضعه ليتَمكَّن يقال شَغْشَغ السِّنان في الطَّعْنة إذا حرَّكه ليتمكّن، والوَسْوَسَةُ بالسين حركة الشيء كالحَلْي والوَشْوَشة بالإعجام حركة القوم وهَمْسُ بعضِهم إلى بعض.
فانظر إلى بديع مناسبةِ الألفاظ لمعانيها وكيف فَاوَتَت العربُ في هذه الألفاظ المُقْتَرنة المتقاربة في المعاني، فجعلت الحرفَ الأضْعف فيها والألْين والأخْفَى والأسْهل والأهْمس لِمَا هو أدْنى وأقلّ وأخفّ عملًا أو صوتًا، وجعلت الحرفَ الأقْوى والأشدّ والأظهر والأجهر لِمَا هو أقوى عملًا وأعظم حِسًّا، ومن ذلك المدّ والمطّ فإنَّ فعْلَ المطّ أقوى لأنه مدٌّ وزيادةُ جَذْب فناسَب الطاء التي هي أَعلى من الدال.
قال ابن دريد: المدُّ والمتُّ والمطُّ متقاربةٌ في المعنى. ومن ذلك الجُفّ بالجيم: وعاءُ الطَّلْعة إذا جَفت، والخُفُّ بالخاء: الملبوس وخفُّ البعير والنعامة، ولا شكّ أن الثلاثة أقوى وأجلَد من وعاءِ الطَّلعة فخُصَّت بالحاءِ التي هي أعلى من الجيم.
وفي ديوان الأدب للفارابي: الشازِب: الضَّامر من الإبل وغيرها. والشاصب: أشد ضُمْرًا من الشازب.
وفيه قال الأصمعي: ما كان من الرياح من نفخ فهو برد وما كان من لفح فهو حَرٌّ.
وفي فقه اللغة للثعالبي: إذا انْحَسَرَ الشَّعرُ عن مقَدَّم الرأسِ فهو أَجْلَحُ فإن بلغ الانحسارُ نصف رأسِه فهوَ أَجْلَى وأَجْلَه.
وفيه: النَّقْشُ في الحائط والرَّقْشُ في القِرْطاس والوَشْمُ في اليد والوَسْمُ في الجِلْدِ والرَّشْمُ على الحِنْطَة والشَّعير والوَشْيُ في الثوب.
وفيه: الدُّبُر يقال له الاسْت، والشّعرُ الذي حوله يقال له الاسْبُ.
وفيه: الحَوَص ضِيقُ العينين، والخَوَص غُؤُورُهُما مع الضِّيق. وفيه: اللَّسْب من العقرب واللسع من الحية. وفيه: وسَخُ الأُذنِ أُفّ ووسَخ الأظفار تُفٌّ. وفيه: اللِّثَامُ: النِّقاب على حَرْف الشَّفة، واللغامُ على طرف الأنف.
وفيه: الضَّرْب بالرَّاحة على مُقَدَّم الرأس صَقْعٌ، وعلى القَفَا صَفْعٌ، وعلى الخَدِّ بِبَسْطِ الكَفِّ لَطْمٌ، وبقَبْضِ الكَفِّ لَكْم، وبِكلْتَا اليَدَيْنِ لَدْمٌ، وعلى الجَنْبِ بالإصْبَعِ وَخْزٌ، وعلى الصدْر والجَنْبِ وَكْزٌ ولَكْزٌ، وعلى الحَنَكِ والذَّقَنِ وَهْزٌ ولهْزٌ.
وفيه يُقَالُ: خَذَفَه بالحَصى وحَذَفَه بالعصا وقَذَفَه بالحجر.
وفيه: إذا أخرجَ المكْروبُ أو المريضُ صوتًا رَقِيقًا فهو الرَّنين فإنْ أخْفَاهُ فهو الهَنِينُ فإنْ أَظْهَرَه فخرج خافيًا فهو الحَنِينُ فإن زاد فيه فهو الأنين فإن زاد في رَفعه فهو الخَنِين.
فانْظُرْ إلى هذه الفُروق وأشباهها باختلاف الحرف بحسب القوَّة والضَّعف. وذلك في اللغة كثيرٌ جدًا وفيما أوردناه كفاية.
المسألة الحادية عشرة
قال ابن جني: الصواب - وهو رأي أبي الحسن الأَخفش - سواءٌ قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح أن اللغة لم تُوضع كلّها في وقت واحد بل وقعت متلاحقةً متتابعة.
قال الأخفش: اختلافُ لغاتِ العرب إنما جاءَ من قِبَل أنَّ أول ما وُضِع منها وُضِعَ على خلاف وإن كان كله مسوقًا على صحة وقياس ثم أَحدثوا من بعدُ أشياء كثيرة للحاجة إليها غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفا.
قال: ويجوز أن يكونَ الموضوعُ الأولُ ضَرْبًا واحدًا ثم رأى مَنْ جاءَ [ من ] بعد أن خالف قياسَ الأولِ إلى قياسٍ ثانٍ جارٍ في الصحة مَجْرَى الأوَّل.
قالَ: وأما أي الأجناس الثلاثة - الاسم والفعل والحرف - وُضِع قبلُ فلا يُدْرى ذلك ويحتمل في كل من الثلاثة أنه وُضِع قبل، وبه صرح أبو علي.
قال: وكان الأخفش يذهب إلى أن ما غُيِّر لكثرة استعماله إنما تصوَّرَتهُ العربُ قبل وضْعِه وعَلِمَت أنه لا بدَّ من كثرة استعمالهما إياه فابتدؤوا بتغييره عِلْمًا [ منهم ] بأنه لا بدَّ من كثرة الداعية إلى تغييره.
قال: ويجوزُ أن تكون كانت قديمة معربة فلما كثرت غُيِّرت فيما بعدُ.
قال: والمقُول عندي هو الأول لأنه أدلّ على حِكمتها وأشهدُ لها بعِلْمِها بمصاير أمْرِها فتركوا بعضَ الكلام مبنيًّا غير معرب نحو أمسِ [ وهؤلاء ] وأينَ وكيفَ وكم وإذ وحيثُ، عِلْمًا بأنهم سيستكْثِرُون منها فيما بعد فيجبُ لذلك تغييرها.
المسألة الثانية عشرة
في الطريق إلى معرفة اللغة: قال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول وأتباعه: الطريقُ إلى معرفة اللغة إما النقلُ المحْضُ كأكثرِ اللغة، أو استنباطُ العقل من النَّقْل كما إذا نُقِلَ إلينا أنَّ الجمع المعرَّف يدخله الاستثناء ونقل إلينا أن الاستثناءَ إخراجُ ما يتناوله اللفظ، فحينئذ يستدلُّ بهذين النَّقْلين على أن صِيَغ الجمع للعموم. وأما العقل الصِّرف فلا مجالَ له في ذلك.
قال: والنقلُ المحضُ إما تواترٌ أو آحاد.
قلت: وسيأتي بَسْطُ الكلام فيهما في النوع الثالث.
ولم يذكر ابن الحاجب في مختصره ولا الآمدي في الأحكام سوى الطريق الأول وهو النقل المَحْضُ: إما تواترًا وهو ما لا يَقْبَل التشكيك كالسماء والأرض والحرِّ والبَرْدِ ونحوها وإما آحادًا كالقُرْءِ ونحوه من الألفاظ العربية.
قال الإمام فخر الدين والآمدي: وأكثرُ ألفاظ القرآن من الأول أي المتواتر.
وقال ابن فارس في فقه اللغة: باب القول في مأْخذ اللغة: تُؤخَذ اللغة اعتيادًا كالصبيِّ العربي يسمعُ أبويه أو غيرهما فهو يأخذ اللغةَ عنهم على ممرِّ الأوقات وتؤخذ تلقُّنًا من مُلَقِّن وتؤخذُ سماعًا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة ويُتَّقَى المظنون.
وستأتي بقيةُ كلامه في نوعِ مَنْ تُقْبَل روايته ومن تُرَدُّ وكذا كلامُ ابن الأنباري في ذلك. ويؤْخذ من كلامهما أن ضابط الصحيح من اللغة ما اتَّصل سَنَدُه بنَقْل العَدْل الضابط عن مِثله إلى منتهاه، على حد الصحيح من الحديث.
وقال الزركشي في البحر المحيط: قال أبو الفضل بن عبدان في شرائط الأحكام وتبعه الجيلي في الإعجاز: لا تلزم اللغة إلا بخمس شرائط:
أحدها ثبوت ذلك عن العرب بسنَدٍ صحيح يُوجِبُ العملَ.
الثاني عدالةُ الناقلين كما تُعْتَبَرُ عدالتُهم في الشَّرعيات.
الثالث أن يكون النقلُ عَمّن قولُه حجة في أصل اللغة كالعرب العاربة مثل قحطان ومعدّ وعدنان؛ فأما إذا نقلوا عمَّن بعدهم بعد فَسَادِ لسانهم واختلاف المولّدين فلا.
قال الزركشي: ووقع في كلام الزمخشري وغيره الاستشهادُ بشِعْر أبي تمام، بل في الإيضاح للفارسي، ووجّه بأن الاستشهاد بتقرير النقَلة كلامَهم وأنه لم يخرج عن قوانين العرب. وقال ابن جنّي: يُسْتَشْهَدُ بشِعر المولَّدين في المعاني كما يُستَشْهد بشِعر العرب في الألفاظ.
والرابع أن يكون الناقل قد سمع منهم حِسًّا، وأمَّا بغيره فلا.
الخامس أن يسمع من الناقل حسًّا. انتهى.
وقال ابن جني في الخصائص: مَنْ قال إن اللغة لا تُعْرَف إلا نقلًا فقد أخطأ فإنها قد تُعَلمُ بالقرائن أيضا فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر:
قومٌ إذا الشرُّ أَبْدَى نَاجِذيه لهم ** طارُوا إليه زَرَافات وَوُحْدَانا
يعلم أن الزرافات بمعنى الجماعات.
وقال عبد اللطيف البغدادي في شرح الخطب النباتية: اعلم أن اللغوي شَأنُه أن يَنْقُل ما نطقت به العربُ ولا يتعدّاه، وأما النحوي فشأنُه أن يتصرّف فيما ينْقُله اللغوي ويقيس عليه؛ ومِثَالُهما المحدِّث والفقيه فشأنُ المحدّث نقلُ الحديث برُمَّته ثم إن الفقيهَ يتلقَّاه ويتصرَّفُ فيه ويبسط فيه عِلَله ويقيسُ عليه الأمثال والأشباه. قال أبو علي فيما حكاه ابن جنّي: يجوزُ لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم وشعرَنا على شعرهم.
المسألة الثالثة عشرة: في أن اللغة هل تثبت بالقياس
قال الكِيَا الهرَّاسي في تعليقه الذي استقرّ عليه آراء المحققين من الأصوليين: إن اللغة لا تَثْبت قياسا ولا يجري القياس فيها.
وقال كثيرٌ من الفقهاء: القياسُ يجري في اللغة وعُزِي هذا إلى الشافعيّ رضي الله عنه ولم يدُل عليه نصُّه إنما دلَّت عليه مسائلُه؛ فنُصدِّر المسألة بتصويرها فنقول: أما أسماء الأعلام الجامدة والألقاب المحضة فلا يجري القياسُ فيها لأنه لا يُفيد وصفًا للمُسَمَّى وإنما وُضِعَت لمجرَّد التعيين والتّعريف ولو قَلَبْتَ فَسَمَّيْت زيدًا بعمرو وعكسه لصحّ إذ كلُّ اسمٍ منها لم يختص بمن سُمِّي به لمعنًى حتى لا يجوزَ أن يُعْدَل به إلى غيره فليست هذه الصورةُ من محلّ الخلاف. ولا يجوزُ أيضا أن يكونَ محلّ الخلاف المصادر التي يُقال هي مشتَقةٌ من الأفعال نحو ضرب ضربًا فهو ضارب وقتل قَتْلًا فهو قاتل فهذا ليس بقياس بل هو معلومٌ ضرورة من لغتهم ونُطْقِهم به على هذا الوجه ولكنّ محلّ الخلاف الأسماءُ المشتقَّة من المعاني كما يُقال في الخمر إنه مشتقٌّ من المُخَامرة أو التَّخْمير فإذا سُمِّي خَمْرًا من هذا الاشتقاق كان ما وُجِد فيه ذلك خمرًا كالنبيذ وغيره.
قال: وهذا عندنا باطلٌ، والدليل عليه أن إجراءَ القياس في اللغة لا يخلُو إما أن يُعْلَمَ عقلًا أو نقلًا أما العقلُ فلا مجالَ له في ذلك لأنه يجوزُ أن يكونَ واضعُ اللغة قد قصدَ بهذا الاسم أن يختصّ بما سُمِّي به ويجوز أن يكُونَ لم يقصد الاختصاص بل يُسمّى به كلّ ما في معناه وإذا كان الأمران جائزين في العقل لم يرجَّح أحدُهما على الآخر من غير مرجّح. وإن كان بطريق النقل فالنقل إما تَوَاتُر أو آحاد. أما التواتر فلا مَطْمع فيه إذْ لو كان لَعَلِمْناه ولكان مُخَالِفُه مكابرًا وأما الآحادُ فظنٌّ وتخمين لا يستندُ إلى أصلٍ مَقطوع به.
فإن قيل: فالأقيسةُ الشرعيةُ كلُّها مظنونةٌ ويُعْمَل بها.
قلنا: تلك مستندة إلى سَمْعيّ مقطوعٍ به في وجوب العمل وهو إجماعُ الصحابة وليس في قياس اللغة شيءٌ من ذلك.
فإن قيل: فالمعنى الظاهرُ في موضع الاشتقاق أصلٌ يُقاس عليه فكلُّ محَلٍّ يوجدُ فيه ذلك المعنى ينبغي أن يَجْري عليه ذلك الاسم.
قلنا: قد بيَّنا أن ذلك ظنٌّ وتخمينٌ لا يَسْتَنِدُ العملُ به إلى أصلٍ مَقْطوع به فكيف يقاسُ عليه وقال أبو الفتح بن برهان في كتاب الوصول إلى الأُصول: لا يجوزُ إجراءُ القياس في الأسامي اللغوية المشتقّة خلافًا للقاضي وابن شُرَيح وطوائفَ من الفقهاء فإنهم أثبتوا الأسَامِي بالقياس وقالوا: النبيذُ يسمَّى خمرًا لأن فيه شدة مُطْرِبة فهو كعصير العنب. واللِّوَاط يسمى زنًا لأنه وَطْء في فرج مُشتهى طبعًا محرّمٍ قطعًا فكان زنًا كالوَطْءِ في القُبل.
وذَكَرَ الدليل على ردّه كما تقدم في كلام الكِيَا الهرّاسِي في تعليقه سواء.
ثم قال: وعمدةُ الخَصْم أن العرب وَضعت اسمَ الفرس للحيوان الذي كان في زمانهم موجودًا ثم انقَرضَ وحدَث حيوانٌ آخرُ فسمِّي بذلك بطريق الإلحاق والقياس. قلنا: هذا ليس بصحيح بل العرب وضعت هذا الاسم للجنس، والجنس لا ينقرض.
قالوا: إذا جاز إجراءُ القياسِ في الأحكام الشَّرعية عند فَهْم المعنى جاز إجراءُ القياس في الأسَامِي اللغوية عند فَهْم المعنى. قلنا: هذا باطلٌ فإن القياس الشَّرعي إنما جاز إثباتُ الأحكام به بالإجماع المتَّفَق عليه وليس فيما تنَازعْنَا فيه إجماع وليس المقصودُ من إثبات الاسم اللغوي إثباتَ الحكم فإن القياسَ يجري في الأسامي اللغوية قبل الشَّرع على رأي مُثْبتي القياس في اللغة ولأن المعنى في القياس الشَّرعي مطَّرِد وفي القياس اللغوي غيرُ مطَّرد فإن البَنْج لا يسمّى خمرًا وإن كان يخامِرُ العقل والدار لا تسَمَّى قارُورة وإن كانت الأشياء تستقرّ فيها والغرابُ لا يسمى أَبْلَق وإن اجتمع فيه السوادُ والبياض فليس القياسُ الشرعي كالقياس اللغوي في المعنى وإن تمسّكوا بأنَّ القياسَ يجري في المصادر نحو ضرب يضرِب ضربًا وأكل يأكل أكلًا فلسنا نسلّم أن [ اللغة ] تثبت بالقياس وإنما تثبتُ نقلًا عن العرب.
وقال إمامُ الحرَمين في البرهان: ذهب بعضُ أصحابنا في طوائف من الفِرَق إلى أن اللغةَ لا يمتنعُ إثباتها قياسًا وإنما قالوا ذلك في الأسماء المشتقّةِ كالخمر فإنها من التخمير أو المخامرة فقال هؤلاء: إن خَصّصَت العربُ في الوضع اسم الخمر بالخمر النيئة العتيقة يجوزُ تسميةُ النبيذ المشتدّ خمرًا لمشاركتِه الخمر النيئة فيما منه اشتقاقُ الاسم.
والذي نرتضيه أن ذلك باطلٌ لِعلْمنا أن العربَ لا تلتزم طردَ الاشتقاق وأقربُ مُمَالٍ إليه أن الخمرَ ليس في معناها الإطراب وإنما هي المخامرة أو التخمير فلو ساغ الاستمساكُ بالاشتقاق لكان كلُّ ما يَخْمِر العقل أو يُخامره ولا يُطْربُ خمرًا وليس الأمر كذلك والقولُ الضابطُ فيه أن الذي يدّعي ذلك إن كان يزعمُ أن العربَ أرادته ولم تَبُح به فهو متحكّم من غير تثبّت وتوقيف فإن اللغاتِ على خلاف ذلك ولم يصح فيها ادّعاءُ نَقْل وإن كان يزعمُ أن العربَ لم تَعْن ذلك فَيُلْحِق فإلحاق شيءٍ بلسانها - وهي لم تُرِده - محال. والقياسُ في حكم من يبتدئُ وضع صيغة.
فإن قيل: الأقيسة الحكمية يدور فيها هذا التقسيم. قلنا: أَجَل ولكنْ ثَبَتَ قاطعٌ سمعيّ على أنها متعلَّق الأحكام. فإن نقلتم قاطعًا من أهل اللسان اتَّبَعْنَاه. ثم السرُّ فيه أن الإجماع انعقَد على وجوب العمل عند قيام ظنون القائسين فلم تكن الظنونُ موجبةً علمًا ولا عملًا وليس في اللغات عَمل. وإن كنتم تظنون شيئا فلا نمنعكم من الظن ولكن لا يسوغُ الحكمُ بالظن المجرّد. فإن تعلّق هؤلاء بالأسماء المشتقَّة من الأفعال كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري على قضيَّةٍ واحدة فقد ثبت في هذه الفنون من طريق النقل اطّرادُ القياس فاتَّبعناه ولا يجري هذا في محلّ النزاع.
قال الغزالي في المنخول: اختلفوا في أن اللغات هل تثبتُ قياسًا ووجهُ تنقيح محلّ النزاع أن صوغَ التصاريف على القياس ثابتٌ في كل مصدر نُقِل بالاتّفاق وهو في حكم المنقول وتبديلُ العبارات ممتنعٌ بالاتّفاق كتسمية الفرس دارًا وتسميةِ الدار فرسًا ومحلُّ النزاع القياسُ على عبارة تشير إلى معنى وهو حائدٌ عن منهج القياس كقولهم للخمر خمرًا لأنه يُخامر العقل أو يَخْمِرُه فهل تسمَّى الأشربة المخامِرة للعقل خمرًا وكذا قولهم للبعير إذا استحقَّ الحمل فهو حِقّ.
وجوَّز الأستاذُ أبو إسحاق مثلَ هذا القياس. والمختار مَنْعه لنا؛ إن كان إثبات هذا القياس مظنونًا فلا يُقبل إذ ليس هذا في مَظِنّة وجوبِ عمل وإن كان معلومًا فأثْبتوا مستنده ولا نَقْل من أهل اللغة في جواز ذلك ولا من الشارع ومسلكُ العقل ضروريّة ونظريّة منحسم في الأسامي واللغات وإن قاسوا على القياس في الشرع فَتَحكُّم لأن مستند ذلك التأسّي بالصحابة فما مستندُ هذا القياس ثم أطبقوا على أن البَنْج لا يسمَّى خمرًا مع كونه مخَمِّرًا فإن سَمّوه فليسمُّوا الدار قارورة لمشاركتها القارورة في هذا المعنى وهذا محال.
المسألة الرابعة عشرة: في سعة اللغة
قال بعض الفقهاء: كلامُ العرب لا يحيطُ به إلا نبيٌّ.
قال ابن فارس: وهذا كلام حَرِيٌّ أن يكونَ صحيحًا وما بَلَغَنا أن أحدًا ممنْ مَضَى ادَّعى حفظَ اللغة كلِّها. فأما الكتابُ المنسوب إلى الخليل وما في خاتمته من قوله: هذا آخرُ كلام العرب فقد كان الخليلُ أورعَ وأتقى لله تعالى من أن يقول ذلك.
وقد سمعت علي بن محمد بن مِهْرُوَيه يقول: سمعت هارون بن هزاري يقول: سمعت سفيان بن عُيَيْنة يقول: مَن أحبَّ أن ينظرَ إلى رجلٍ خُلِقَ من الذَّهب والمِسك فليَنْظُر إلى الخليل بن أحمد.
وأخبرني أبو داود سليمان بن يزيد عن ذلَل المَصاحفي عن النَّضْر بن شُمَيل قال: كنا نُمَيِّل بين ابن عَوْنٍ والخليل بن أحمد أيهما نُقدّم في الزهد والعبادة فلا نَدْري أيهما نقدّم.
قال: وسمعتُ النضر بن شُمَيل يقول: ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بالسُّنَّة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد.
قال: وسمعتُ النضر يقول: أُكِلَت الدنيا بأدَب الخليل وكُتُبِه وهو في خُصّ لا يُشْعَر به.
قال ابن فارس: فهذا مكان الخليل من الدِّين، أَفَتُرَاه يُقْدِم على أن يقول: هذا آخرُ كلام العرب؟ ثم إن في الكتابِ المَوْسُوم به من الإخلال ما لا خفاءَ به على علماء اللغة، ومَنْ نظر في سائرِ الأصناف الصحيحة عَلِم صحَّةَ ما قُلْناه. انتهى كلام ابن فارس.
وهذا الذي نَقَله عن بعض الفقهاءِ نصَّ عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه فقال في أوائل الرسالة: لسانُ العرب أوسعُ الألسنة مذهبًا وأكثرُها ألفاظًا ولا نعلمُ أن يحيط بجميع عِلْمِه إنسان غير نبيّ ولكنه لا يذهبُ منه شيء على عامتها حتى لا يكونَ موجودًا فيها مَنْ يعرِفه والعلمُ به عند العرب كالعِلم بالسّنة عند أهلِ الفقه لا يعلمُ رجلٌ جميعَ السنن فلم يذهب منها عليه شيء وإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن. وإذا فرّق عِلْم كلِّ واحد منهم ذهب عليه الشيءُ منها ثم ما ذهب منها عليه موجودٌ عند غيره وهم في العلم طبقاتٌ منهم الجامعُ لأكْثَره وإن ذهب عليه بعضُه ومنهم الجامعُ لأقلَّ مما جمع غيرُه وليس قليلُ ما ذهب من السُّنن على مَنْ جمع أكثرَها دليلًا على أن يطلبَ عِلمه عند غير أهل طبقته من أهلِ العلم بل يَطلبُ عند نُظرائه ما ذهب عليه حتى يُؤتى على جميع سنن رسول الله ﷺ بأبي هو وأمي فتفرَّد جملة العلماء بجملتها وهم درجات فيما وعوا منها وهذا لسانُ العرب عند خاصتِها وعامتها لا يذهبُ منه شيءٌ عليها ولا يُطْلبُ عند غيرها ولا يعلمُه إلا من قبله منها ولا يَشْرَكها فيه إلا من اتَّبعها وقبِله منها فهو من أهل لسانها وعِلْمُ أكثر اللسان في أكثر العرب أعمُّ من عِلْم أكثر السنن في العلماءِ. هذا نص الشافعي بحُروفِه.
وقال ابن فارس في موضع آخر: باب القول على أن لغة العرب لم تنته إلينا بكلّيتها وأن الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير وأن كثيرا من الكلام ذهب بِذهَاب أهله.
ذهب علماؤُنا أو أكثرُهم إلى أنَّ الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلُّ ولو جاءَنا جميعُ ما قالوه لجاءنا شعرٌ كثيرٌ وكلامٌ كثير، وأَحْرِ بهذا القول أن يكونَ صحيحًا لأنَّا نرى علماء اللغة يختلفون في كثيرٍ مما قالَتْه العربُ فلا يكادُ واحدٌ منهم يُخبرُ عن حقيقةِ ما خُولف فيه بل يسلك طريقَ الاحتمال والإمكان. ألا ترى أنَّا نسألهم عن حقيقةِ قَوْل العرب في الإغراء: كَذَبك كذا. وعما جاءَ في الحديث من قَوْله: كَذَب عليكم الحجُّ. وكَذَبك العسَلُ. وعن قول القائل:
[ كذَبْتُ عليكم أَوْعِدُوني وعَلّلوا ** بِيَ الأرضَ والأقوامَ قِرْدانَ مَوْظَبا.
وعن قول الآخر: ]
كَذَبَ العَتِيقُ وماءُ شَنٍّ بارِدٌ ** إن كُنتِ سائِلتي غَبُ وقًا فاذْهبي
ونحن نعلم أن قول كذب يَبْعُدُ ظاهره عن باب الإغراء. وكذلك قولهم: عَنْكَ في الأرض، وعَنْكَ شيئا. وقول الأفْوَه:
عنكُم في الأرض إنَّا مَذْحِجٌ ** ورُوَيدًا يَفْضَح الليلَ النهارُ
ومن ذلك قولهم: أَعْمَدُ من سيِّدٍ قَتَله قومُه. أي هل زاد على هذا. فهذا من مُشْكِلِ الكلام الذي لم يُفَسَّر بعدُ وقال ابن مَيّادة:
وأعْمَدُ من قومٍ كَفَاهم أخُوهُمُ ** صِدامَ الأَعادي حين فُلَّتْ نُيوبُها
قال الخليل وغيره: معناه هل زدنا على أن كفينا [ إخواننا ]ز
وقال أبو ذؤيب:
صَخِبُ الشَّوَارِبِ لا يزالُ كأنَّه ** عبدٌ لآلِ أبي رَبيعةَ مُسْبَعُ
فقوله مسبع ما فُسِّر حتى الآنَ تَفْسيرًا شافيًا.
ومن هذا الباب قولهم: يا عِيد ما لَك، ويا هَيْء ما لك، ويا شيءَ ما لك. ولم يُفَسِّروا قولهم: صَهْ، وَوَيْهَك، وإنيهْ، ولا قول القائل: بخاي بِكَ الحَقْ يَهْتِفون وحَيَّ هَلْ[8] ويقولون: خاءِ بكما وخاء بكم.
فأما الزَّجْرُ والدُّعاءُ الذي لا يُفهَمُ موضوعُه فكثيرٌ كقولهم: حيَّ وحيَّ هَلا وبعَيْنٍ ما أَرَيَنَّك، في مَوْضعِ اعْجل. وهَجْ وهَجَا ودَعْ وَدَعًا ولَعًا للعاثر، يدعون له.
ويُروى عن النبيّ ﷺ أنه قال: لا تَقولوا دَعْدَعْ ولا لَعْلَعْ ولكن قولوا اللهمَّ ارْفَع وَانْفَعْ. فلولا أن للكلمتين معنًى مفهومًا عند القومِ ما كَرِههما ﷺ.
وقولهم في الزَّجْرِ: أخِّرْ وَأَخِّرِي وهَأْهَأْ وهَلا وهَابْ وَأَرْحِبْ وَأرْحِبي وَعَدْعَدْ وعاجِ وياعاطِ وِيَعَاطِ وإجِدْ واجْدَمْ وجِدِحْ. لا نعلم أحدًا فسَّر هذا. وهو باب يكثرُ ويُصَحِّحُ ما قلناه.
ومن المشتَبَه الذي لا يقالُ فيه اليومَ إلا بالتّقريب والاحتمال وما هو بغريب اللفظ لكنَّ الوقوف على كُنهه مُعتَاصٌ قولنا: الحِين والزمانُ والدهرُ والأوَان وبضع سنين والغِنَى والفَقْر والشريف والكريم واللئيم والسّفِيه والسِّفْلة وما أشبه ذلك مما يطول ولا وجه فيه غير التقريب والاحتمال وإلا فإن تحديدَه حتى لا يجوزَ غيرُه بعيد.
وقد كان لذلك كلِّه ناس يعرفونه وكذلك يعلمون معنى ما نَسْتَغْرِبه اليوم نحن من قولنا عُبْسور في الناقة وعَيْسَجُور وامرأة ضِناك وفرس أشقُّ أمَقُّ خِبَقُّ، ذهب هذا كله بذهاب أهله ولم يبق عندنا إلا الرَّسمُ الذي نراه.
قال: وعلماء هذه الشريعة وإن كانوا اقتصروا من علم هذا على معرفة رَسْمِه دون عِلْم حقائقه فقد اعتاضوا عنه دَقيقَ الكلام في أصول الدِّين وفروعه من الفقه والفرائض ومن دقيق النحو وجليله ومن عِلْم العَرُوض الذي يُربأْ بحُسْنِه ودقَّته واستقامته على كل ما تبجَّح به الناسبون أنفسهم إلى الفلسفة. ولكلّ زمانٍ علم وأشرف العلوم علوم زماننا هذا ولله الحمد. هذا كلُّه كلام ابن فارس.
المسألة الخامسة عشرة: في عدة أبنية الكلام
قال ابن دريد في الجمهرة: إذا أردت أن تُؤَلِّف بناءً ثُنائيًّا أو ثلاثيًّا أو رُباعيًّا أو خُماسيًّا فخذْ من كل جنس من أجناس الحروف المتباعدة ثم أَدِرْ دَارَةً فوّقع ثلاثة أحرف حَواليها ثم فُكَّها من عند كل حرفٍ يمنة ويسرة حتى تُفَكّ الأحرفُ الثلاثة فيخرج من الثلاثي
ستة أبنية [ ثلاثية ] وتسعة أبنية ثنائية - وهذه هي الصورة: [9]
ب ∆ ج
د
فإذا فعلت ذلك استقصيتَ من كلام العرب ما تكلَّموا به وما رغبوا عنه.
قال: وأنا مفسر لك ما يرتفع من الأبنية الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية إن شاء الله تعالى بضَرْبٍ من الحِساب واضح.
فإذا أردت أن تستقصي من كلام العرب ما كان على حرفين مما تكلموا به أو رغبوا عنه مما يَأتَلف أو لا يأتلف مثل: كم وقد وعن وأخواتها فانظر إلى الحروف المعجمة وهي ثمانيةٌ وعشرون حرفًا فاضْرب بعضها في بعض تبلغ سبعمائة وأربعة وثمانين حَرْفًا ولا يكون الحرف الواحد كلمة. فإذا أزوجتهن [10] حرفين حرفين صِرْن ثلاثمائة واثنتين وتسعين بناءً مثل دم وما أشبهه، فإذا قَلَبْتَهُ عاد إلى سبعمائة وأربعة وثمانين بناء، منها ثمانية وعشرون [ بناء ] مشتَبهة الحرفين مثل هه - قلْبُه وغير قَلبه [ لفظٌ ] واحد - ومنها مائة وخمسون بناء ثنائية ممزوجة بهذه الأحرف الثلاثة [ المعتلة ] الياء والواو والهمزة، ويجمعها خمسة وسبعون بناءً ثنائيًا قبل القلب، ومنها ستة أبنية معتلّة يَجْمَعُها ثلاثة أبنية قبل القلْب، ومنها ثلاثة أبنية مضاعفة وخمسة وعشرون بناء ثنائيًا صحاحًا مضاعفة. فافهم فقد بيَّنت لك عِدّة ما يخرج من الثنائي مما تكلَّموا به ورغبوا عنه.
وإذا أردت أن تؤلّف الثلاثي فاضرب ثلاثة أحرف معتَلات في التسعة الثنائية المعتلة فتصير سبعة وعشرين بناء ثلاثية معتلات كلها. وتضرب الثلاثة المعتلات أيضا في مائة وخمسين بناء ثنائيًا حرف منها صحيح وحرف منها معتل فتصير أربعمائة وخمسين بناء ثلاثيًا حرفان منها معتلّان وحرف صحيح، وتضرب الثلاثة المعتلات في ستمائة بناء صحيحة الحرفين فتصير ألفًا وثمانمائة بناء ثلاثي حرفان منها صحيحان وحرف معتل. وتضرب خمسة وعشرين حرفًا صحيحًا في ستمائة بناء ثنائي صحاح الحروف فتصير خمسة عشر ألفًا وستمائة [ وخمسة ] وعشرين بناء ثلاثيًا. فهذا أكثرُ ما يخرج من البناء الثلاثي.
فإذا أردت أن تؤلِّف الرباعي فعلى القياس تضرب الثلاثة المعتلات في السبعة والعشرين بناء ثلاثيًا، ثم تضرب في أربعمائة وخمسين، ثم في الألف والثمانمائة، ثم تضرب الخمسة والعشرين الصحاح في الخمسة عشر ألف بناء ثلاثي صحاح الحروف [ مضاعفة ]؛ فما بَلَغ فهو عدد الأبنية الرباعية. وكذلك سبيل الخماسي الصحيح؛ فأما السداسي فلا يكون إلا بالزوائد. انتهى.
وذكر حمزة الأصبهاني في كتاب الموازنة فيما نقله عنه المؤرخون قال: ذَكَر الخليل في كتاب العين أن مبلغ عدد أبنية كلام العرب المُسْتَعمَل والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائيّ والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار اثنا عشر ألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة آلاف وأربعمائة واثنا عشر: الثنائي سَبعِمائة وستة وخمسون، والثلاثي تسعة آلاف ألف وستمائة وخمسون، والرباعي أربعمائة مائة ألف وواحد وتسعون ألفًا وأربعمائة، والخماسي أحد عشر ألف ألف وسبعمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفًا وسِتمائة. [11]
وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي في مختصر كتاب العَين: عدّةُ مُسْتَعْمَلِ الكلام كلِّه ومُهمَلِه ستةُ آلاف ألف وسِتِّمائة ألف وتسعةٌ وخمسون ألفًا وأربعمائة، المستعملُ منها خمسةُ آلاف وسِتمائة وعشرون والمهملُ ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفًا وسبعمائة وثمانون، عِدَّةُ الصحيح منه ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وخمسون ألفًا وأربعمائة والمعتلَّ ستة آلاف. المستعملُ من الصحيح ثلاثة آلاف وتسعمائة وأربعة وأربعون والمهملُ منه ستة آلاف ألف وتسعة وثمانون ألفًا وأربعمائة وستة وخمسون المستعمل من المعتل ألف وستمائة وستة وسبعون والمهملُ منه أربعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وعشرون. عدّة الثنائيّ سبعمائة وخمسون والمستعملُ منه أربعمائة وتسعة وثمانون والمهملُ مائتان وواحد وستون الصحيح منه ستّمائة والمعتل مائة وخمسون المستعمل من الصحيح أربعمائة وثلاثة والمهمل مائة وسبعة وتسعون والمستعمل من المعتل ستة وثمانون والمهملُ أربعة وستون. وعدّة الثلاثي تسعة عشر ألفًا وستمائة وخمسون المستعمل منه أربعة آلاف ومائتان وتسعة وستون والمهملُ خمسة عشر ألفًا وثلاثمائة وواحد وثمانون. الصحيح منه ثلاثة عشر ألفًا وثمانمائة والمعتلُّ سوى اللفيف خمسة آلاف وأربعمائة واللَّفيفُ أربعمائة وخمسون. المستعمل من الصحيح ألفان وستمائة وتسعة وسبعون والمهملُ أحد عشر ألفًا ومائة وواحد وعشرون. والمستعملُ من المعتل سوى اللفيف ألف وأربعمائة وأربعة وثلاثون والمهملُ ثلاثة آلاف وتسعمائة وستة وستون. والمستعملُ من اللفيف مائة وستة وخمسون والمهملُ مائتان وأربعة وتسعون. وعدّة الرباعيّ ثلاثمائة ألف وثلاثة آلاف وأربعمائة المستعمل ثمانمائة وعشرون والمهملُ ثلاثمائة ألف وألفان وخمسائة وثمانون. وعدَّة الخماسيّ ستة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفًا وستمائة المستعمل منه اثنان وأربعون والمهملُ ستة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفًا وخمسمائة وثمانية وخمسون.
قال الزبيدي وهذا العددُ من الرباعي والخماسي على الخمسة والعشرين حرفًا من حروف المعجم خاصة دون الهمزة وغيرها وعلى ألا يتكرر في الرباعي والخماسيّ حرف من نَفْس الكلمة.
قال: وعدة الثنائي الخفيف والضربين من المضاعف على نحو ما ألحقناه في الكتاب: ألفا حرف ومائتا حرف وخمسة وسبعون حرفًا المستعملُ من ذلك ألف حرف وثمانمائة وخمسة وعشرون والمعتل أربعمائة وخمسون المستعملُ من الصحيح تسعة وخمسون والمهمل ألف وسبعمائة وستة وستون والمستعملُ من المعتل ثلاثة وأربعون والمهمل أربعمائة وسبعة.
المسألة السادسة عشرة
أول من صنف في جمع اللغة الخليل بن أحمد: ألف في ذلك كتاب العَين المشهور. قال الإمام فخر الدين في المحصول: أصلُ الكُتب المصنفة في اللغة كتابُ العين، وقد أَطْبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه. وقال السِّيرافِي في طبقات النحاة في ترجمة الخليل: عملَ أوَّل كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهيّأ ضبطُ اللغة وهذه العبارةُ من السِّيرافي صريحةٌ في أن الخليلَ لم يُكَمِّلْ كتابَ العين وهو الظَّاهرُ لما سيأتي من نَقْل كلام الناس في الطَّعْن فيه بل أكثرُ الناس أنْكَرُوا كونَه من تصنيف الخليل.
قال بعضهم: ليس كتابُ العين للخليل وإنما هو لِلَّيث بن نَصْر بن سيّار الخُرَاساني.
وقال الأزهري: كان الليثُ رجلًا صالحًا عمِل كتاب العين ونسبَه إلى الخليل ليَنْفُق كتابُهُ باسمِه ويَرْغب فيه [ من حوله ].
وقال بعضهم: عَمِلَ الخليلُ من كتاب العين قطعةً من أوَّله إلى حرف الغين وكَمَّله الليث ولهذا لا يُشْبِهُ أولَه آخرُه.
وقال ابن المعتز: كان الخليلُ منقطعًا إلى اللَّيْث فلما صنَّف كتابه العين خصَّه به فحظِيَ عنده جدا ووقع منه مَوْقِعًا عظيمًا ووهَبَ له مائة ألف [ درهم ] وأقبل على حِفْظِه ومُلازَمَتِهِ فحفظ منه النصف [ وكانت تحته ابنة عمه ] واتفق أنه اشترى جارية نفيسةً فَغَارَت ابنةُ عمه وقالت: والله لأغيظنَّه وإن غِظْتُه في المال لا يُبَالي ولكني أراهُ مُكِبًّا ليلَه ونهارَه على هذا الكتاب والله لأفجَعَّنه به فأحْرَقتْهُ فلما عَلِمَ اشتدَّ أسفُه ولم يكن عند غيرِه منه نسخةٌ وكان الخليلُ قد مات فأمْلَى النِّصْفَ من حِفْظه وجمع علماءَ عصره وأمرهم أن يُكَمِّلُوه على نَمَطه وقال لهم: مَثِّلوا واجتهدوا فعملوا هذا التَّصْنيف الذي بأيْدِي الناس. أَوْرَدَ ذلك ياقوت الحموي في معجم الأدباء.
وقال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي في كتاب مراتب النحويين: أبْدَعَ الخليلُ بَدائع لم يُسْبَق إليها، فمن ذلك تأليفُه كلامَ العرب على الحروف في كتابه المُسمَّى كتابَ العين فإنه هو الذي رتب أبوابه وتوفي من قبل أن يحشوه.
أخبرنا محمد بن يحيى قال: سمعت أحمد بن يحيى ثعْلَبَ يقول: إنما وقَع الغلطُ في كتاب العين لأَنَّ الخليلَ رسمَهُ ولم يَحْشه ولو كان هو حَشاه ما بقيَ فيه شيءٌ لأَن الخليل رجلٌ لم يُرَ مثلُه وقد حشا الكتاب أيضا قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤخذ منهم روايةً وإنما وُجد بنقل الورَّاقين فاختلَّ الكتابُ لهذه الجهة.
وقال محمد بن عبد الواحد الزاهد: قال: حدثني فتًى قَدِمَ علينا من خُراسان وكان يقرأ عليَّ كتاب العين قال: أخبرني أبي عن إسحاق بن راهَويْه قال: كان الليثُ صاحبُ الخليل بن أحمد رجلًا صالحًا وكان الخليلُ عَمِل من كتاب العين باب العين وحدَه وأحبَّ الليثُ أن يَنْفُق سوقُ الخليل فصنَّف باقي الكتاب وسمَّى نفسه الخليل وقال لي مرّةً أخرى: فسمَّى لسانه الخليل من حبِّه للخليل بن أحمد. فهو إذا قالَ في الكتاب: قال الخليل بن أحمد: فهو الخليل. وإذا قال: وقال الخليلُ مطلقًا فهو يحكي عن نفسه فكلُّ ما في الكتاب من خَلل فإنه منه لا من الخليل. انتهى.
وقال النووي في تحرير التنبيه: كتابُ العين المنسوبُ إلى الخليل إنما هو من جَمْع الليثِ عن الخليل.
ذكر قدح الناس في كتاب العين
تقدَّمَ في كلام الإمام فخر الدين أنَّ الجمهورَ من أهل اللغة أَطْبَقُوا على القَدْح فيه وتقدَّم كلامُ ابن فارس في ذلك في المسألة الرابعة عشرة.
وقال ابن جني في الخصائص: أما كتابُ العين ففيه من التَّخْلِيط والخَلَل والفَساد ما لا يَجُوزُ أن يُحْمَل على أصْغَر أتباع الخليل فَضْلًا عن نفسه ولا محالة أن هذا التَّخْليط لَحِق هذا الكتابَ من قِبَل غيره فإن كان للخليل فيه عَمَلٌ فلعلَّه أوْمَأ إلى عمل هذا الكتاب إيماءً ولم يَلِه بنفسه ولا قرَّره ولا حرَّره ويدلُّ على أنه كان نحَا نحْوَه أنني أجدُ فيه معاني غامضة ونَزَوَات للفكر لطيفة وصيغةً في بعض الأحوال مستحكمة وذاكرتُ به يومًا أبا عليّ فرأيتُه مُنْكِرًا له فقلت له: إن تصنيفَه مُنْساق متوجّه وليس فيه التعسُّف الذي في كتاب الجمهرة فقال: الآن إذا صنَّف إنسان لغة بالتركية تصنيفًا جيدًا يؤخذ به في العربية أو كلامًا هذا نحوه. انتهى.
وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي اللغوي مؤلّف مختصر العين في أول كتابه - اسْتِدْرَاكُ الغَلَطِ الواقع في كتاب العَين - وهو مجلَّد لطيف يخاطب بعضَ إخوانه: وصل إلينا أَيَّدَكَ الله كتابَك تذكُرُ فيه ما أُولع به قومٌ من ضَعَفَة أهل النَّظر من التحامل علينا والتسرّع بالقول فينا بما نسبُوه إلينا من الاعتراض على الخليل بن أحمد في كتابه والتَّخْطِئَة له في كثير من فُضُوله وقلت: إنهم قد استمالوا جماعةً من الحشوية إلى مذهبهم وعَدَلوا بهم إلى مقالتهم بما لبّسوا به وشنَّعوا القول فيه وسألتَ أن أَحْسم ما نَجَم من إفْكِهِم وأرد ما نَدَر من وقد كنتَ - أَيَّدَك الله في صحَّة تمييزك وعظيم النعمة عليك - في نظرك جديرًا ألا تُعرِّج على قوم هم بالحال التي ذَكرتَ وأن يقعَ لهم العذرُ لديك بوجوه جَمَّة منها: تخلّفهم في النظر وقلةُ مطالعتهم للكتب وجهلُهم بحُدُودِ الأدب مع أن العلَّة المُوجبة لمقالتهم والباعثةَ لتسرُّعِهم علةُ الحسد الذي لا يُدَاوى سَقَمه ولا يُؤْسَى جرحه فقد قال الحكيم: كلُّ العَداوات قد تُرجى إفاقتها إلا عداوةَ مَنْ عاداك من حَسدِ أوليسَ من العجب العجيب والنادِر الغريب أن يَتوهَّم علينا مَنْ به مُسْكَة من نظَرٍ أو رمَق من فَهْم تخطئةَ الخليل في شيءٍ من نظرِه والاعتراضَ عليه فيما دقَّ أو جلّ من مذهبه والخليلُ بنُ أحمد أَوْحَدُ العصر وقريعُ الدَّهر وجِهْبِذ الأُمة وأستاذُ أهل الفِطْنَة الذي لم يُرَ نظيرُه ولا عُرِف في الدنيا عديلُه وهو الذي بَسط النحوَ ومَدَّ أطنابَه وسبَّب عِلَلَه وفَتَقَ معانيه وأوضحَ الحِجاج فيه حتى بلغ أَقْصى حدودِه وانتهى إلى أبعدِ غاياته ثم لم يرضَ أن يؤلِّفَ فيه حرفًا أو يَرْسُمَ منه رَسْمًا نَزَاهَةً بنفسه وتَرَفُّعًا بقَدْرِه إذ كان قد تقدّم إلى القول عليه والتأليف فيه فَكَرِهَ أن يكونَ لمن تقدّمه تاليًا وعلى نظَرِ مَن سَبَقهُ مُحْتَذِيًا واكتفى في ذلك بما أَوْحَى إلى سيبويه من عِلْمِه ولقَّنه من دقائقِ نَظره ونتائج فِكره ولطائفَ حكمته فحَمل سيبويه ذلك عنه وتقلّده وألفَّ فيه الكتاب الذي أعجَزَ من تقدَّم قبلَه كما امتنع على من تأخَّرَ بعده.
ثم ألف على مذهب الاخْتراع وسبيل الإبداعِ كتابي الفرش والمثال في العَروض فحصرَ بذلك جميعَ أوزانِ الشعر وضمَّ كلَّ شيءٍ منه إلى حيِّزه وأَلْحَقَه بشَكْله وأقام ذلك عن دوائرَ أَعْجَزَتِ الأذهان وبَهَرَتِ الفِطَن وغمرتِ الألباب وكذلك ألَّف كتاب المُوسيقى فَزَمَّ فيه أصناف النَّغَم وحَصَر به أنواع اللحون وحدَّد ذلك كلّه ولخّصه وذكر مَبَالغ أقسامه ونهاياتِ أعداده فصار الكتابُ عِبرةً للمُعتبرين وآيةً للمتوسِّمين.
ولما صنعَ إسحاق بن إبراهيم كتابَه في النَّغم واللّحون عَرضه على إبراهيم بن المهدي فقال له: لقد أحسنتَ يا أبا محمد وكثيرا ما تُحْسِنُ فقال إسحاق: بل أحسنَ الخليلُ لأَنه جعلَ السبيلَ إلى الإحسان فقال إبراهيم: ما أحسن هذا الكلام فمِمَّنْ أخَذْتَهُ قال: من ابن مُقْبِل إذ سمع حمامةً فاهْتاج فقال: ولو قَبْلَ مَبْكاها بكيتُ صبابةً إذًا لشَفيت النفسَ قبل التندُّم ولكن بكَتْ قبلي فهاج ليَ البُكا بُكاها فقلت: الفضلُ للمتقدِّم ثم ذهب بعد - في حَصْر جمع الكلام - مذهبَهُ من الإحاطة التي لم يتعاطاها غيرُه ولا تعرّضها أحدٌ سواه فثقَّف الكلام وزمَّ جميعه وبيّن قيامَ الأبنية من حروف المُعْجم وتعاقب الحروف لها بنظَرٍ لم يُتَقَدَّم فيه وإبْداعٍ لم يُسْبَق إليه ورَسَمَ في ذلك رُسُومًا أكملَ قياسها وأعطى الفائدةَ بها فكان هذا قدرَه في العِلم ومبلغَه من النفاذ والفَهْم حتى قال بعضُ أهل العلم: إنه لا يجوزُ على الصِّراط بعد الأنبياءِ عليهم السلام أحدٌ أدقُّ ذِهْنًا من الخليل ولو أن الطاعنَ علينا يتصفّحُ صَدْر كتابُنا المختصر من كتاب العين لَعَلِمَ أنَّا نَزَّهْنا الخليل عن نِسْبَة المُحال إليه ونَفَيْنا عنه من القَوْل ما لا يليقُ به ولم نَعْدُ في ذلك ما كان عليه أهلُ العلم وحذَّاق أهل النظر.
وذلك أنَّا قلنا في صَدْر الكتاب: ونحن نَرْبأُ بالخليل عن نِسْبَة الخَلَل إليه أو التعرّض للمقاومة له بل نقول: إن الكتاب لا يصحّ له ولا يثبتُ عنه وأكثرُ الظن فيه أن الخليل سَبَّب أصله وثقَّف كلام العرب ثم هلَك قبل كَماله فتعاطى إتمامَه من لا يقومُ في ذلك مقامه فكان ذلك سببَ الخَللِ الواقع فيه والخطأِ الموجود فيه.
هذا لفظُنا نصًّا وقد وافقْنا بذلك مقالةَ أبي العباس أحمد بن يحيى ثَعْلب قبل أن نُطالِعَها أو نسمعَ بها حتى ألفيناها بخطّ الصولي في ذكر فضائل الخليل.
قال الصولي: سمعتُ أبا العباس ثعلبًا يقول: إنما وقع الغلطُ في كتاب العين لأنَّ الخليل رسَمهُ ولم يحشه ولو أن الخليل هو حشاه ما بقّى فيه شيئا لأن الخليلَ رجلٌ لم يُرَ مثلُه.
قال: وقد حَشَا الكتاب قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤْخذ عنهم رواية إنما وُجد بنقل الورَّاقين فلذلك اختل الكتاب.
ومن الدليل على ما ذكره أبو العبّاس من زيادات الناس فيه اختلافُ نُسَخِه واضطرابُ رواياته، إلى ما وقع فيه من الحكايات عن المتأخِّرِين والاستشهاد بالمرذول من أشعار المُحْدَثين. فهذا كتابُ ابن مُنذر بن سعيد القاضي الذي كتبه بالقَيْروَان وقابلَه بمصر بكتابِ ابن وَلّاد وكتابُ ابن ثابت المُنتسَخ بمكة قد طالعناهما فألفينا في كثير من أبوابهما: أخبرنا المسعريّ عن أبي عُبيد، وفي بعضها: قال ابن الأعرابي وقال الأصمعي؛ هل يجوزُ أن يكون الخليل يروي عن الأصمعي وابن الأعرابي أو أبي عُبيد فضلًا عن المسعري؟ وكيف يروي الخليل عن أبي عبيد وقد توفي الخليل سنة سبعين ومائة وفي بعض الروايات سنة خمس وسبعين ومائة وأبو عبيد يومئذ ابن ست عشرة سنة، وعلى الرواية الأخرى ابن إحدى وعشرين سنة لأنَّ مَوْلد أبي عبيد سنة أربع وخمسين ومائة ووفاتَه سنة أربع وعشرين ومائتين. ولا يجوز أن يُسْمَع عن المسعري عِلُم أبي عُبيد إلا بعد مَوْتِه؛ وكذلك كان سماعُ الخُشَني منه سنة سبع وأربعين ومائتين، فكيف يُسْمَع الموتى في حالِ مَوْتهم أو يَنْقُلُون عمّن وُلِد مِن بعدهم؟
وحدثنا إسماعيل بن القاسم البغدادي - وهو أبو عليّ القالي - قال: لما وَرَدَ كتابُ العَين من بلد خُراسان في زمن أبي حاتم أنكره أبو حاتم وأصحابه أشدّ الإنكار ودفعَهُ بأبْلَغِ الدَّفع. وكيف لا ينكِرُهُ أبو حاتم على أن يكون بريئًا من الخَلَل سليمًا من الزَّلل. وقد غَبر أصحابُ الخليل بعدُ مدةً طويلة لا يعرفون هذا الكتابَ ولا يَسمعون به؛ منهم النَّضر بن شُميل ومُؤَرِّج ونصر بن علي وأبو الحسن الأخفش وأمثالهم، ولو أن الخليل ألَّف الكتاب لَحَمَله هؤلاءِ عنه وكانوا أَوْلَى بذلك من رجلٍ مجهول الحال غير مشهور في العلم انفرَدَ به وتوحَّدَ بالنقل له. ثم دَرَجَ أصحابُ الخليل فتوفي النضر بن شُمَيل سنة ثلاث ومائتين والأخفش سنة خمس عشرة ومائتين ومؤَرّج سنة خمس وتسعين [ ومائة ] ومضت بعدُ مدة طويلة ثم ظهر الكتابُ بأخَرَةٍ في زمان أبي حاتم وفي حال رياسته وذلك فيما قارب الخمسين والمائتين لأن أبا حاتم تُوُفِّي سنة خمس وخمسين ومائتين، فلم يلتفت أحدٌ من العلماءِ إليه يومئذ ولا استجازوا روايةَ حرفٍ منه، ولو صحَّ الكتابُ عن الخليل لبدر الأصمعي واليَزيدي وابن الأعرابي وأشباههم إلى تزيين كُتُبهم وتَحْلِيَة علمهم بالحكاية عن الخليل والنَّقْلِ لِعِلْمِه وكذلك مَنْ بعدهم كأبي حاتم وأبي عُبيد ويعقوب وغيرهم من المصنفين فما عَلِمنا أحدًا منهم نَقَلَ في كتابه عن الخليل من اللغة حَرْفًا.
ومن الدليل على صحّة ما ذكرناه أن جميعَ ما وَقَع فيه من معاني النحو إنما هو على مذهب الكوفيين وبخلاف مذهب البصريين فمن ذلك ما بُدِئَ الكتابُ به وبُني عليه من ذكر مَخارج الحروف في تقديمها وتأخيرها وهو على خلاف ما ذكره سيبيويه عن الخليل في كتابه وسيبويه حاملٌ علمَ الخليل وأوْثَقُ الناس في الحكاية عنه ولم يكن لِيَخْتَلِف قولُه ولا لِيتناقَض مذهبُه ولسنا نريدُ تقديم حرفِ العين خاصة للوَجْه الذي اعتلَّ به ولكن تقديمَ غير ذلك من الحروف وتأخيرها. وكذلك ما مضى عليه الكتابُ كلُّه من إدْخال الرُّباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف وهو مذهبُ الكوفيين خاصة. وعلى ذلك استمرَّ الكتابُ من أوّله إلى آخره إلى ما سنذكره من نحو هذا.
ولو أن الكتاب للخليل لما أَعْجَزَه ولا أشْكل عليه تثقيفُ الثنائيّ الخفيف من الصحيح والمعتل والثنائي المضاعف من المعتل والثلاثي المعتل بعِلّتين ولما جعل ذلك كله في باب سمَّاه: اللفيف فأدْخَلَ بعضَه في بعض وخَلَط فيه خَلْطًا لا ينفصلُ منه شيءٌ عما هو بخلافه ولوَضع الثُّلاثي المعتل على أقسامه الثلاثة لِيسْتَبينَ معتلُّ الياءِ من معتل الواو والهمزة ولما خلَط الرباعيّ والخماسي من أولهما إلى آخرهما.
ونحن على قَدْرنا قد هذَّبْنا جميعَ ذلك في كتابنا المختصَر منه وجَعَلْنا لكلِّ شيءٍ منه بابًا يحصُره وعددًا يجمعه. وكان الخليلُ أَوْلَى بذلك وأَجْدَر ولم نحْكِ فيه عن الخليل حَرْفًا ولا نَسَبْنا ما وقع في الكتاب عنه توخِّيًا للحق وقصْدًا إلى الصدق وأنا ذَاكِرٌ الآنَ من الخطأ الواقع في كتاب العين ما لا يذهب على َمنْ شَدَا شيئا من النَّحو أو طالَع بابًا من الاشتقاق والتّصريف ليقومَ لنا العُذْر فيما نَزَّهْنا الخليل عنه.
انتهى كلام الزبيدي في صَدْر كتاب الاستدراك.
قلت: وقد طالعته إلى آخره فرأيت وجهَ التَّخْطِئَة فيما خُطّئ فيه غالبُه من جهة التصريف والاشتقاق كَذِكْرِ حرفٍ مَزِيدٍ في مادّة أصلية أو مادةٍ ثلاثية في مادة رباعية ونحو ذلك وبعضُه ادّعى فيه التصحيف وأما أنه يُخَطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال: هذه اللفظة كذبٌ أو لا تُعرف فمعاذَ الله لم يقع ذلك.
وحينئذ لا قَدْح في كتاب العين لأن الأولَ الإنكارُ فيه راجعٌ إلى الترتيب والوضْع في التأليف وهذا أمْرٌ هَيّن لأنَّ حاصله أن يقال: الأَوْلَى نقلُ هذه اللفظة من هذا الباب وإيرادُها في هذا الباب وهذا أمرٌ سَهلٌ وإن كان مقامُ الخليل يُنزَّه عن ارتكاب مثل ذلك إلا أنه لا يمنعُ الوثوقَ بالكتاب والاعتمادَ عليه في نقل اللغة. والثاني إن سُلِّم فيه ما ادّعى من التصحيف يقال فيه ما قالته الأئمة: ومَنْ ذا الذي سَلِمَ من التصحيف كما سيأتي في النوع الثالث والأربعين مع أنه قليل جدًا وحينئذ يزول الإشكال الذي يأتي نَقْله عن الإمام فخر الدين في النوع الثالث.
فائدة
ممن ألَّف أيضا الاستدراك على العين أبو طالب المُفَضَّل بن سَلَمَة بن عاصم الكُوفيّ من تلامذة ثعلب. قال أبو الطيب اللغوي: ردَّ أشياء من كتاب العين أكثرُها غيرُ مَردود. وأبو طالب هذا متقدِّم الوفاة على الزبيدي.
فائدة
قال أبو الحسن الشَّاري في فهرسته: كان شيخُنا أبو ذرّ يقول: المختصرات التي فُضِّلَت على الأمَّهات أربعة: مختصر العين للزَّبيدي ومختصر الزَّاهر للزَّجاجي ومختصر سيرة ابن إسحاق لابن هشام ومختصر الواضحة للفضل بن سلمة.
قال الشاري: وقد لهج الناسُ كثيرا بمختصر العين للزبيدي فاستعملوه وفضلوه على كتاب العين لكونه حذف ما أورده مؤلف كتاب العين من الشواهد المختلقة والحروف المصحّفة والأبنية المختلّة وفضَّلوه أيضا على سائر ما أُلِّف على حروف المعجم من كتب اللغة مثل جمهرة ابن دريد وكتب كُراع لأجل صِغَر حجمه وأَلْحَق به بعضهم ما زاده أبو علي البغدادي في البارع على كتاب العين فكَثُرَت الفائدة.
قال: ومذهبي ومذهب شيخي أبي ذرّ الخُشَني وأبي الحسن بن خَرُوف أن الزبيدي أخلَّ بكتاب العين كثيرا لحذفه شواهدَ القرآن والحديث وصحيح أشعار العرب منه.
ولما عَلِمَ ذلك من مُخْتَصَر العين الإمام أبو غالب تَمّام بن غالب المعروف بابن التَّيَّاني عمل كتابه العظيم الفائدة الذي سمَّاه بفَتْح العين وأتى فيه بما في العين من صحيح اللغة الذي لا اختِلاف فيه على وجهه دون إخْلالٍ بشيء من شواهد القرآن والحديث وصحيحِ أشعار العرب وطرَح ما فيه من الشواهد المختلقة والحروف المُصَحَّفة والأبنية المختلّة ثم زاد فيه ما زاده ابن دريد في الجمهرة فصار هذا الديوانُ محتويًا على الكتابين جميعًا وكانت الفائدةُ فيه فَصْلَ كتاب العين من الجمهرة وسِياقه بلفظه لِينْسب ما يحكى منه إلى الخليل إلا أن هذا الديوان قليلُ الوجود لم يعرّج الناسُ على نَسْخه بل مالوا إلى جمهرة ابن دريد ومُحكم ابن سيده وجامع ابن القَزَّاز وصِحَاح الجوهري ومُجْمَل ابن فارس وأفعال ابن القُوطيّة وابن طريف ولم يعرّجوا أيضا على بارع أبي عليّ البغدادي ومُوعَبُ أبي غالب بن التَّيَّاني المذكور وهما من أصحِّ ما أُلِّف في اللغة على حروف المعجم والكتُب التي مالوا إلى الاعتناءِ بها قد تكلَّم العلماءُ فيها إلا أن الجمْهرة لابنِ دريد أثنى عليه كثيرٌ من العلماءِ ويوجد منه النُّسَخُ الصحيحةُ المروِيَّة عن أكابر العلماء.
وقال بعضهم: إنه من أحسن الكتب المؤلَّفة على الحروف وأصحّها لغة وقد آخذه أبو علي الفارسي النحوي وأبو عليّ البَغدادي القَالِي وأبو سعيد السِّيرافي النحوي وغيرهم من الأئمة.
وأما كتاب العين المنسوب إلى الخليل فهو أصلٌ في معناه وهو الذي نهج طريقةَ تأليف اللغة على الحروف وقديمًا اعتَنى به العلماء وقبِلَه الجهَابذة فكان المبرد يَرْفع مِن قدره ورواه أبو محمد بن دَرَسْتويه وله كتاب في الردِّ على المفضَّل ابن سلمة فيما نسبَه من الخلَل إليه ويكادُ لا يوجدُ لأبي إسحاق الزجاجي حكايةٌ في اللغة إلا منه وقد تكلَّم الناس فيه بما هو مشهور. وأصح كتاب وضع في اللغة على الحروف بارع أبي علي البغدادي وموعب ابن التياني. انتهى.
فائدة
ترتيب كتاب العين ليس على التَّرتيب المعهود الآن في الحروف، وقد أكْثرَ الأدباءُ من نَظْم الأبيات في بيان ترتيبه؛ من ذلك قول أبي الفرج سلمة بن عبد الله [ بن دلان ] المعَافِري الجزيري:
يا سائلي عن حروف العين دونكَهَا ** في رتبة ضمَّها وزنٌ وإحْصاء
العين والحاء ثم الهاءُ والخاء ** والغين والقاف ثم الكاف أكْفاءُ
والجيم والشين ثم الضادُ يتبعها ** صاد وسين وزاي بَعْدها طاء
والدّال والتاء ثم الطاءُ متَّصِل ** بالظاءِ ذال وثاء بعدها راءُ
واللام والنون ثم الفاء والباء ** والميم والواو والمهموز والياء
قال أبو طالب المفضَّل بن سَلَمة الكوفي: ذكر صاحبُ العين أنه بدأ كتابَه بحرف العين لأنها أَقْصى الحروف مَخْرجًا. قال: والذي ذكره ِسيبَويْه أن الهمزةَ أَقْصى الحروف مخرجًا. قال: ولو قال بدأتُ بالعين لأنها أكثرُ في الكلام وأشدُّ اختلاطًا بالحروف لكان أولى.
وقال ابن كَيْسان: سمعتُ مَنْ يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبْدَأْ بالهمزة لأنها يلحقها النقصُ والتغييرُ والحذفُ ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداءِ كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مُبْدَلَةً ولا بالهاءِ لأنها مهموسة خفيَّة لا صوتَ لها فنزلتُ إلى الحيِّز الثاني وفيه العين والحاء فوجَدْت العين أنْصَعَ الحرفين فابتدأت به ليكون أحسنَ في التأليف وليس العلْمُ بتقدّم شيءٍ على شيء لأنه كلَّه مما يُحتاج إلى معرفته فبأيّ بدأت كان حَسنًا وأولاها بالتقديم أكثرُها تصرُّفًا. انتهى.
وقال أبو العباس أحمد بن ولّاد في كتاب المقصور والممدود: لعلَّ بعضَ مَنْ يقرأ كتابنا يُنْكِرُ ابتداءنا فيه بالألف على سائر حروف المعجم لأنها حرفٌ معتل ولأن الخليل تَرَك الابتداءَ به في كتاب العين لأنَّ كتاب العين لا يمكن طالب الحرفِ منه أن يَعلَمَ مَوْضعه من الكتاب من غير أن يقرأه إلا أن يكونَ قد نظر في التصريف وعرفَ الزائد والأصلي والمعتلَّ والصحيح والثلاثيّ والرباعيّ والخماسيّ ومراتبَ الحروف من الحَلْق واللّسان والشَّفَة وتصريفَ الكلمة على ما يمكنُ من وُجوهِ تصريفها في اللفظ على وجوه الحركات وإلحاقها ما تحتمل من الزائد ومواضع الزوائد بعد تصريفها بلا زيادةٍ. ويحتاجُ مع هذا إلى أن يعلمَ الطريقَ التي وصلَ الخليل منها إلى حَصْر كلام العرب فإذا عرفَ هذه الأشياءَ عرفَ مَوْضع ما يطلُبُ من كتاب العين. قال: وكتابُنا قَصَدْنا فيه التقريب على طالب الحَرْفَ وأن يستويَ في العلم منه بموضعه العالِم والمتعلّم. انتهى.
تذنيب
قال تاج الدين أحمد بن مكتوم في تذكرته: سُئل بعضُهم لِم سمي كتابُ الجيم - تصنيف أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني - بهذا الاسم فقال: لأن أوله حرف الجيم كما سمي كتاب العين لأن أولَه حرفُ العين قال: فاستحسنَّا ذلك ثم وقفنا على نسخةٍ من كتاب الجيم فلم نجده مبدوءًا بالجيم.
فائدة
روى أبو علي الغساني كتاب العين عن الحافظ أبي عمر بن عبد البر عن عبد الوارث بن سفيان عن القاضي مُنذر بن سعيد عن أبي العبّاس أحمد بن محمد بن ولّاد النحوي عن أبيه عن أبي الحسن علي بن مهدي عن أبي معاذ عبد الجبار بن يزيد عن الليث بن المظفر بن نصر بن سيار عن الخليل.
فرع
ومن مشاهير كتب اللغة التي نَسَجَت على مِنْوَال العين كتاب الجمهرة لأبي بكر بن دريد.
قال في خطبته: قد ألَّف [ أبو عبد الرحمن ] الخليلُ بنُ أحمد [ الفَرْهُودِي رضوان الله عليه ] كتابَ العين فأَتْعَبَ مَنْ تَصَدَّى لغَايته وعَنَّى من سَما إلى نهايته فالمُنْصِفُ له بالغَلب مُعْترف والمُعَاند متكلِّف وكلُّ مَنْ بَعْدَه له تَبَع أقرَّ بذلك أم جَحَد ولكنَّه رحمه الله - ألَّف كتابَه مُشاكِلًا لِثُقُوب فَهْمِه وذَكَاءِ فِطْنَتِه وحِدَّةِ أذهان أهل دَهْرِه. وأمْلينا هذا الكتاب والنَّقْص في الناس فاشٍ والعَجْزُ لهم شامل إلا خصائص كَدَرَارِيِّ النُّجوم في أَطْرَافِ الأُفق فسهَّلنا وَعْرَه ووطَّأْنا شَأْزَه وأَجْرَيْنَاه على تأليف الحروف المُعْجمة إذ كانت بالقلوب أَعْلَق وفي الأَسْماع أَنْفَذ وكان عِلْمُ العامَّة بها كعلم الخاصة وسَمَّيْناه كتاب الجمهرة لأنا اخْتَرْنا له الجمهور من كلام العرب وأَرْجَأْنا الوَحْشِيّ المستنكر. انتهى.
وقال ابن جني في الخصائص: وأما كتابُ الجمهرة ففيه أيضا من اضطراب التَّصْنيف وفسادِ التَّصْريف مما أَعْذِرُ واضعَه فيه لبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر ولمَّا كتبتُه وقعتُ في مَتونه وحواشيه جميعًا من التنبيه على هذه المواضع ما اسْتَحْيَيْت من كَثْرَته ثم إنه لما طال عليّ أوْمَأْتُ إلى بعضه وضربتُ البَتَّةَ عن بعضه.
قلت: مقصودُه الفسادُ من حيث أبنية التصريف وذكرُ الموادّ في غير محالّها كما تقدم في العين ولهذا قال: أعذر واضعَه فيه لِبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر يعني أن ابنَ دريد قصيرُ الباع في التصريف وإن كان طويلَ الباعِ في اللغة. وكان ابن جني في التصريف إمامًا لا يشُقُّ غبارُه فلذا قال ذلك.
وقال الأزهري: ممن ألَّف الكتبَ في زماننا فَرُمِي بافتعالِ العربيةِ وتوليد الألفاظ أبو بكر بن دريد، وقد سألتُ عنه إبراهيمَ بن محمد عرفة - يعني - نِفْطَويه فلم يَعْبَأْ به ولم يُوَثِّقْه في روايته.
قلت: معاذَ الله! هو بَريءٌ مما رُمِي به، وَمَنْ طالَع الجمهرة رأى تحرِّيه في روايته. وسَأَذْكرُ منها في هذا الكتاب ما يُعْرَفُ منه ذلك. ولا يُقْبل فيه طعنُ نِفْطَويه لأنه كانَ بينهما مُنافرةٌ عظيمةٌ بحيث أن ابن دريد هجاه بقَوْله:
لَوْ أُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى نِفْطَويْه ** لكان ذاك الوَحْيُ سُخْطًا عَلَيه
وشَاعِرٍ يُدْعَى بِنصْفِ اسْمِه ** مُسْتَأْهلٌ للصَّفْعِ في أَخْدَعَيْه
أَحْرَقَهُ اللهُ بنِصفِ اسْمِه ** وَصَيَّرَ الباقي صُرَاخًا عَلَيْه
وهجا هو ابنَ دريد بقوله:
ابن دريد بَقَرَه ** وفيه عِيّ وَشَرَه
وَيَدَّعِي مِنْ حُمْقِه ** وَضْعَ كِتَابِ الْجَمْهَرَه
وهو كتابُ العين إلا أَنَّهُ قدْ غَيَّرَه
وقد تقرر في علم الحديث أن كلامَ الأقران في بعضهم لا يقدح.
وقال بعضهم: أمْلَى ابن دريد الجمهرَة في فارس ثم أَمْلاها بالبصرة وببَغْداد مِنْ حِفْظه ولم يستَعِنْ عليها بالنظر في شيءٍ من الكُتُب إلا في الهَمزةِ واللفيف؛ فلذلك تختلف النسخ، والنُّسْخَة المعوَّل عليها هي الأخيرة وآخرُ ما صحَّ نسخة عبيد الله بن أحمد جَخْجَخْ لأنه كتبها من عِدَّةِ نسخ وقَرَأَها عليه.
قلت: ظَفِرْتُ بنسخة منها بخطِّ أبي النمر أحمد بن عبد الرحمن بن قابوس الطرابلسي اللغوي وقد قرأها على ابن خالويه بروايته لها عن ابن دريد وكتب عليها حواشي من استدراك ابن خالويه على مواضع منها ونبَّه على بعض أوهامٍ وتصحيفات.
وقال بعضهم: كان لأبي عليّ القالي نسخةٌ من الجمهرة بخطِّ مؤلفها وكان قد أُعْطِي بها ثلاثمائة مثقال فأبى فاشتدَّت به الحاجةُ فباعها بأربعين مثقالًا وكتبَ عليها هذه الأبيات:
أَنِسْتُ بها عشرين عامًا وبعتُها ** وقد طال وَجْدِي بعدَها وحَنيني
وما كان ظنِّي أنني سأبيعها ** ولو خَلَّدَتْني في السجون دُيوني
ولكن لِعَجْزٍ وافتقارٍ وصِبْيَة ** صغارٍ عليهم تستهلّ شؤوني
فقلت ولم أملك سوابقَ عَبْرتي ** مقالةَ مكوى الفؤاد حَزين
وقد تُخْرِجُ الحاجاتُ يا أم مالك ** كرائمَ من ربٍّ بِهِنَّ ضَنِين
قال: فأَرْسَلها الذي اشتراها وأرسل معها أربعين دينارًا أُخْرى رحمهم الله.
وجدت هذه الحكاية مكتوبةً بخطّ القاضي مجد الدين الفيروزابادي صاحبِالقاموس على ظَهْرِ نسخة من العُبَاب للصَّغاني، ونقلها من خَطِّه تلميذُه أبو حامد محمد بن الضياءِ الحنفي، ونقلتُها من خطِّه.
وقد اختصر الجمهرة الصاحب إسماعيل بن عباد في كتاب سماه الجوهرة، وفي آخره يقول:
لما فَرَغْنا من نِظَامِ الجَوْهره ** أعورت العين ومات الجَمْهَرَه
ووقف التَّصنيف عند القَنْطره
وألَّفَ أتباعُ الخليل وأتباعُ أتباعه وهلّم جَرًّا كُتُبًا شتى في اللغة ما بين مُطَوَّلٍ ومختَصر وعامٍّ في أنْواع اللغة وخاص بنوع منها كالأجناس للأصمعي والنوادر واللغات لأبي زيد والنوادر للكسائي والنوادر واللغات للفرَّاءِ واللغات لأبي عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى والجيم والنوادر والغريب لأبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني والغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام والنوادر لابن الأعرابي والبَارِع للمفضّل بن سلمة واليواقيت لأبي عمر الزاهد غلام ثعلب. والمنضد لكُراع والتهذيب للأزهري والمُجْمَل لابنِ فارس وديوان الأدب للفارابي والمحيط للصاحب ابن عبَّاد والجامع للقزَّاز وغير ذلك مما لا يُحْصى حتى حُكِي عن الصاحب ابن عبّاد أن بعضَ الملوك أرسل إليه يسألهُ القدومَ عليه فقال له في الجواب: أحتاجُ إلى ستين جمَلًا أنقل عليها كتبَ اللغة التي عندي وقد ذهب جلُّ الكتب في الفِتَنِ الكائنة من التَّتار وغيرهم بحيث إن الكتبَ الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدّمين والمتأخرين لا تجيء حِمْل جملٍ واحدٍ وغالبُ هذه الكتب لم يَلتزم فيها مؤلّفوها الصحيحَ بل جمعُوا فيها ما صحَّ وغيرَه وينبِّهون على ما لم يثبت غالبًا.
وأولُ مِن التزمَ الصحيح مقتصرًا عليه الإمامُ أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري ولهذا سمَّى كتابه بالصحاح وقال في خطبته: قد أوْدَعْتُ هذا الكتاب ما صحَّ عندي من هذه اللغة التي شرَّف الله منزلتَها وجعل عِلْم الدِّين والدنيا مَنُوطًا بمعرفتها على ترتيبٍ لم أُسْبَق إليه وتهذيبٍ لم أُغلبْ عليه بعد تحصيلها بالعراق روايةً وإتقانها دِراية ومُشافهتي بها العربَ العاربة في ديارهم بالبادية ولم آل في ذلك نُصْحًا ولا ادَّخَرتُ وسعًا.
قال أبو زكريا الخطيب التبريزي اللغوي: يقال كتاب الصحاح بالكسر وهو المشهور وهو جمع صحيح كظريف وظراف، ويقال الصحاح بالفتح وهو مفرد نعت كصحيح. وقد جاءَ فَعال بفتح الفاءِ لغةً في فعيل كصحيح وصَحاح وشحيح وشَحاح وبريءٍ وبَراءٍ. قال: وكتاب الصحاح هذا كتاب حسن الترتيب سهل المطلبِ لِما يُراد منه وقد أتى بأشياءَ حسنة وتفاسير مشكلات من اللغة إلا أنه مع ذلك فيه تصحيفٌ لا يُشَكُّ في أنه من المصنف لا من الناسخ لأنَّ الكِتاب مبنيٌّ على الحروف قال: ولا تخلو هذه الكتبُ الكِبار من سهْوٍ يقعُ فيها أو غلطٍ. [ وقد رد على أبي عبيد في الغريب مواضع كثيرة منه ] غير أن القليل من الغلط الذي يقع في الكُتب إلى جنبِ الكثير الذي اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفو عنه. هذا كلام الخطيب أبي زكريا.
وقال أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي اللغوي في كتابه يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر: كان الجوهري من أعاجيبِ الزمان وهو إمام في اللغة وله كتاب الصحاح وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوسٍ النيسابوري:
هذا كتابُ الصحاح سيّدُ ما ** صُنِّف قبل الصحاح في الأدبِ
تَشْمَلُ أبوابهُ وَتَجْمَعُ ما ** فُرِّق في غيره من الكُتُبِ
وقال ابن برِّي: الجوهري أنحَى اللغويين.
وقال ياقوت الحموي في معجم الأدباء: كتاب الصحاح هو الذي بأيْدي الناس اليوم وعليه اعتمادُهم أحْسنَ الجوهري تصنيفَه وجوَّدَ تأليفَه؛ هذا مع تصحيف فيه في عدّة مواضع تَتَبَّعَهَا عليه المحققون. وقيل: إن سببه أنه لما صنَّفَهُ سُمِع عليه إلى باب الضاد المعجمة وعَرَضَ له وسْوَسَة فألْقى نفسه من سَطْحٍ فمات وبقي سائر الكتاب مسوَّدة غيرَ مُنَقَّح ولا مبيَّض فبيَّضَه تلميذُه إبراهيم بن صالح الورَّاق فَغَلِطَ فيه في مواضع [ غلطًا فاحشًا ]؛ وكان وفاة الجوهري في حدود الأربعمائة.
وقد ألَّف الإمام أبو محمد عبد الله بن برِّي الحواشي على الصحاح وصَلَ فيها إلى أثناء حرف الشين فأكملها الشيخ عبد الله بن محمد البسطي.
وألَّف الإمام رضيّ الدين [ حسن بن محمد ] الصغاني التكملة على الصحاح ذَكَرَ فيها ما فاته من اللغة وهي أكبرُ حجمًا منه وكان في عَصْر صاحب الصحاح ابن فارس فالتزم أن يذكرَ في مُجْمَله الصحيح.
قال في أوله: قد ذَكرنا الواضحَ من كلام العرب والصحيحَ منه دون الوَحْشيّ المُسْتَنْكر ولم نألُ في اجتباءِ المشهور الدَّالِّ على غُرَر وتفسير حديث أو شعر والمقصودُ في كتابنا هذا من أوّله إلى آخره التقريبُ والإبانةُ عما ائْتَلف من حروف العربية فكان كلامًا وذِكْرُ ما صحَّ من ذلك سماعًا أو من كتابٍ لا يشكُّ في صحَّةِ نَسَبه لأنَّ مَنْ عَلِم أن الله تعالى عند مَقَالِ كلِّ قائل فهو حَرِيٌّ بالتَّحَرُّج من تطويل المؤلَّفات وتكثيرها بمُسْتَنْكَرِ الأقاويل وشنيع الحكايات وبُنَيَّات الطُّرُق فقد كان يُقال: مَنْ تتبَّع غرائبَ الأحاديث كَذَب ونحن نعوذ بالله من ذلك.
وقال في آخر المجمل: قد توخَّيْتُ فيه الاختصارَ وآثرتُ فيه الإيجازَ واقتصرتُ على ما صحَّ عندي سماعًا ومن كتابٍ صحيح النسب مشهورٍ ولولا توخِّي ما لم أشككّ فيه من كلام العرب لَوَجَدْتُ مقالًا.
وأعظمُ كتابٍ أُلِّفَ في اللغة بعد عَصْرِ الصحاح كتابُ المُحْكَم والمحيط الأعظم لأبي الحسن علي بن سِيدَه الأندلسي الضَّرير ثم كتابُ العُباب للرضي الصَّغاني ووصل فيه إلى فصل بكم حتى قال القائل:
إن الصغاني الذي ** حاز العلوم والحكم
كان قُصَارى أَمْرِه ** أن انتهى إلى بكم
ثم كتابُ القاموس للإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي شيخ شيوخنا. ولم يصل واحدٌ من هذه الثلاثة في كَثرَة التَّدَاول إلى ما وصل إليه الصحاح ولا نقصت رتبةُ الصحاح ولا شُهْرَته بوجود هذه وذلك لالتزامه ما صحَّ فهو في كُتب اللغة نظيرُ صحيح البخاري في كتب الحديث. وليس المَدَارُ في الاعتماد على كَثَرة الجمع بل على شرْط الصحة.
قال صاحبُ القاموس في خُطْبته: وكنتُ بُرْهَةً من الدَّهْر أَلتْمسُ كتابًا جامعًا [ صحيحًا ] بسيطًا ومُصَنَّفًا على الفُصُح والشوَارد مُحيطًا ولما أعياني الطلاب شرعتُ في كتابي الموسوم باللامع المُعْلَم العُجَاب الجامعِ بين المُحْكَم والعُبَاب فهما غُرَّتا الكُتب المصنفة في هذا الباب ونَيِّرَا بَرَاقِع الفضل والآداب وضَمَمْتُ إليهما زيادات امْتَلأَ بها الوطِاب واعْتَلَى منها الخِطَاب ففاقَ كلَّ مؤلف [ في هذا الفن ] هذا الكتابُ، غيرَ أني خَمَّنْتُه في ستين سِفْرًا يُعْجز تحصيلُه الطُّلاب وسُئِلْتُ تقديم كتاب وجيز على ذلك النظام وعَمَلٍ مُفَرَّغ في قالَبِ الإيجاز والإحكام مع التزام إتمام المعاني وإبرام المباني فصرفت صوبَ هذا القصد عِناني وألَّفتُ هذا الكتاب محذوفَ الشواهد مطروحَ الزوائد مُعْرِبًا عن الفُصُحِ والشَّوارد وجعلت [ بتوفيق الله ] زُفَرًَا في زِفْر ولَخَّصتُ كلَّ ثلاثين سِفرًا في سِفْر ثم قال: ولما رأيت إقْبالَ الناس على صحاح الجوهري وهو جدير بذلك غيرَ أنه فاتَه ثلثا اللغة أو أكثر إما بإهمال المادة أو بترك المعاني الغريبة النَّادّة أردتُ أن يظهر [ للناظر ] بادئَ بدءٍ فَضْلَ كتابي عليه ونَبَّهْت فيه على أشياء ركب الجوهري [ رحمه الله ] فيها خلاف الصواب غير طاعنٍ فيه ولا قاصد بذلك [ تنديدا له ] وإزراءً عليه [ وَغضًّا منه بل استيضاحًا للصواب واسْتِرْباحًا للثواب وتحرّزًا وحذارًا من أن ينمى إليّ التصحيف أو يُعْزَى إليّ الغلط والتحريف. ] واخْتَصَصْتُ كتابَ الجوهري من [ بين ] الكتب اللغوية مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة لِتَدَاوُله واشتهارِه بخصوصه واعتماد المدرسين على نُقُوله ونصوصه. انتهى.
وفي القاموس يقولُ بعضُ الأُدبَاء:
مذ مدَّ مجدُ الدين في أيامه ** من بعض بحر علومه القاموسا
ذهبت صحاح الجوهري كأنها ** سحر المدائن حين القى موسى
قلت: ومع كَثرةِ ما في القاموس من الجمع للنَّوادّ والشوارد فقد فاته أشياءُ ظفِرتُ بها في أثناء مطالعتي لكُتُب اللغة حتى هَمَمْتُ أن أجْمَعَها في جُزءِ مُذَيِّلًا عليه.
وهذا آخر الكلام في هذا النوع ونشرعُ بعده إن شاء الله تعالى في بقية الأنواع.
هامش
هكذا في الخصائص واللسان. لكن في المطبوعة: لغا.
في جميع النسخ: لغا، وفي القاموس: لغي به كرضي، لغا: لهج به. فالفعل من باب دعا وسعى ورضى.
في النسخ: سبحانه، والتصحيح من فقه اللغة.
في البداية والنهاية: قال كثير من علماء التفسير: خلقت الجن قبل آدم وكان قبلهم في الأرض الحِنّ والبن، فسلط الله الجن عليهم فقتلوهم...
ط: ابن إيار.
في النسخ: قول ابن معط.
مقابل قوله السابق "فقيل ليست موضوعة" بعد قوله فاختلفوا في المركبات...
هذه رواية اللسان، وفي النسخ: بخابك، وفي الصاحبي: بخائبك. وصدر البيت: إذا ما شحطن الحاديين سمعتهم
الصورة دائرة في الجمهرة
في الجمهرة: زوجتهن.
في كشف الظنون: الثنائي 956 والثلاثة 19650 وهو أقرب إلى مجموع العدد المذكور.