ب - كسر السجن:
وكان يحدث كثيراً أن يكسر السجناء أو العامة السجن ويخرج مَنْ في السجون، كلما غضبت العامة، أو ثار الجيش، أو قامت فتنة في البلد. وكثيراً ما نقرأ في الطبري (وفي هذه السنة كسر العامة السجن. . .) فمن ذلك أنه لما خرج الراوندية على أبي جعفر المنصور، وكانوا قوماً يقولون بتناسخ الأرواح، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور. أخذ أبو جعفر رؤساءهم فحبسهم. فأقبلوا يطوفون حول قصر الخلافة وقد غضبوا. وأعدوا نعشاً، وحملوا السرير، وليس في النعش أحد، ثم مروا في المدينة حتى صاروا على باب السجن، فرموا بالنعش، وشدّوا على الناس، وكسروا باب السجن فدخلوا وأخرجوا أصحابهم.
ولما شغب الجند على الأمين نقب أهل السجون سجونهم وخرجوا منها فلم يجازهم أحد. وحاول أهل السجن أن يشغبوا زمن المأمون، وأن ينقبوا السجن. فسدوا الباب من داخل ولم يدعوا أحداً يدخل عليهم، وأخذوا في نقب السجن. فلما كان الليل، وعلا شغبهم وصوتهم ذهب المأمون، فدعا بنفر من الشُطّار وأصحاب الشغب في السجن، فضربت أعناقهم، وصُلبوا على الجسر.
وفي زمن المستعين سنة 249 اجتمع العامة في بغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمت إليها الشاكرية، ففتحوا سجن نصر ابن مالك، وأخرجوا من كان فيه. وانتهب ديوان قصص المحبسين، وقطعت الدفاتر وألقيت في الماء.
وفي زمن المهتدي (255) اجتمع جماعة من الجند والشاكرية ومعهم جماعة من العامة، حتى صاروا إلى سجن باب الشام، فكسروا بابه في الليلة الثالثة عشرة من رمضان، وأطلقوا أكثر من كان فيه. ولم يبق من أصحاب الجرائم إلا الضعيف والمريض والمثقل.
وفي زمن المعتمد سنة (272) نقب المطبق من داخله وفر بعض المسجونين.
وقبيل وفاة الموفق سنة 278 قامت العامة فانتهبت دار إسماعيل ابن بلبل، وفتحت الجسور وأبواب السجون، ولم يبق أحد في المطبق ولا في الجديد إلا أخرج.
وفي سنة 306 شغب أهل السجن الجديد، وصعدوا السور فركب نزار بن محمد صاحب الشرطة وحاربهم وقتل منهم واحداً ورمى برأسه إليهم فسكنوا.
ويذكر الخطيب البغدادي أنه في سنة 307 كسرت العامة الحبوس في مدينة المنصور، فأفلت من كان فيها. وكانت الأبواب الحديد التي للمدينة باقية فغلقت وتتبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس فأخذوا جميعاً حتى لم يفتهم منهم أحد.
وفي زمن المقتدر سنة 308 غلت الأسعار ببغداد، وشغب العامة، ووقع النهب، وركب الجند فيها، وشتتتهم العامة، وأحرقت الحبس وفتحت السجون.
ولعلك لاحظت أن كسر السجون كان نتيجة الشغب والفتن وعصيان الجند، وغلاء الأسعار، واضطراب العامة. وهذه أمور كانت مما امتاز به العصر العباسي الثاني. وقد كان للأتراك الشأن الكبير فيها. ولن نورد كل ما ذكره المؤرخون فحسبنا ما ذكرنا.
3 - موت الخليفة:
وكانوا يطلقون السجناء لموت الخليفة أو عزل الوزير: حدّث التنوخي عن أحمد بن المدبر قال: (لما سجنت مع احمد بن إسرائيل، وسليمان بن وهب معاً قال لي سليمان ذات يوم: رأيتُ البارحة في نومي كأن قائلا يقول لي: (يموت الواثق إلى ثلاثين ليلة. فلما كان يوم الثلاثين، وكان الليل، لم نشعر بالباب إلا وقد دُقّ دقاً شديداً، وصاح بنا صائح: البشرى، قد مات الواثق فاخرجوا).
وربما أطلق الخليفة الجديد المسجونين زمن الخليفة السابق كما فعل المهدي. فقد أمر بإطلاق من كان في سجن المنصور. إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، معروفاً بالسعي في الأرض بالفساد. فأطلقوا من في المطبق.
وأطلق المقتدر أهل الحبوس الذين يجوز إطلاقهم، وأمر محمد بن يوسف القاضي أن ينظر في ذلك.
وذكر ابن الجوزي أن الراضي لما ولي الخلافة أمر بإطلاق من كان في حبس القاهر، فأطلقوا جميعاً.
وربما يطلقون لعزل الوزير أو موته. حدَّث محمد بن الحسن الكاتب صاحب الجيش قال: (قبض محمد بن القاسم بن عبيد الله ابن سليمان بن وهب، في وزارته للقاهر على أبي وعليّ معاً. فحبسنا في حجرة من دار ضيقة، وأجلسنا على التراب، وشدد علينا. فقال لنا الموكلون بنا ذات يوم: قد عزم الوزير على قتلكما الليلة. . . فتغير حالي، وقام أبي يدعو الله ويصلي، فلما مضى ربع الليل سمعت الباب يدق، فذهب عني أمري، ولم أشك أنه القتل. وفتحت الأبواب، فدخل قوم بشموع، فتأملت فإذا فيهم سابور خادم القاهر. فقال أين أبو طاهر؟ فقام أبي وقال هاأنذاك فقال: أين ولدُّك؟ قال: هو ذا. فقال انصرفا إلى منزلكما. وإذا هو قد قبض على الوزير محمد بن القاسم، وأحدره إلى دار القاهر، وانصرفنا. وعاش محمد في الاعتقال ثلاثة أيام
ومات.
4 - العفو:
وقد يطلق المسجون بعفو من الخليفة. مثال ذلك ما حكاه المسعودي، قال: ذكر عبد الله بن مالك الخزاعي، وكان صاحب شرطة الرشيد قال: أتاني رسول الرشيد في الليل. فارتعت. . فلما مثلت بين يديه، قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني ومعه حربة، فقال إن لم تخلِّ عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة فاذهب فخلِّ عنه، قال فمضيت إلى الحبس وأطلقته.
ومن الطرافة أن تقرأ هذه المنامات، وترى كيف يطلق السجناء بعدها. وقد سرد قسما كبيراً منها التنوخي في الفرج الشدة.
5 - الاحتيال:
وقد يحتال المسجون بحيلة لينجو. ذكر ابن طيفور أن طاهر بن الحسين كان يتعشق بخراسان جارية من جيرانه يقال لها (ديذا) وكانت توصف بجمال عجيب، وكان يختلف إليها. ولما صار إلى مدينة السلام، وقع في سجنه جار لديذا بجرم خفيف، وطال حبسه، ولم يعرف أحداً يشفع فيه، فاحتال لرقعة لطيفة، أرسلها إلى طاهر، وتوسل إليه بجوار ديذا فلما قرأها كتب في ظهرها:
ويا جار ديذا لا تخف سجن طاهر ... فواليك لو تدري عليك شفيق
أيا جار ديذا أنت في سجن طاهر ... وأنتَ لديذا فاعلمن طليق
ولما سجن عزّ الدولة، إبراهيم بن هلال الصابي؛ احتال هذا على الخروج بأن ألف له مصنفاً في أخبار آل بويه وهو التاجي، فخرج.
(يتبع)
صلاح الدين المنجد
مجلة الرسالة - العدد 644
بتاريخ: 05 - 11 - 1945
وكان يحدث كثيراً أن يكسر السجناء أو العامة السجن ويخرج مَنْ في السجون، كلما غضبت العامة، أو ثار الجيش، أو قامت فتنة في البلد. وكثيراً ما نقرأ في الطبري (وفي هذه السنة كسر العامة السجن. . .) فمن ذلك أنه لما خرج الراوندية على أبي جعفر المنصور، وكانوا قوماً يقولون بتناسخ الأرواح، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور. أخذ أبو جعفر رؤساءهم فحبسهم. فأقبلوا يطوفون حول قصر الخلافة وقد غضبوا. وأعدوا نعشاً، وحملوا السرير، وليس في النعش أحد، ثم مروا في المدينة حتى صاروا على باب السجن، فرموا بالنعش، وشدّوا على الناس، وكسروا باب السجن فدخلوا وأخرجوا أصحابهم.
ولما شغب الجند على الأمين نقب أهل السجون سجونهم وخرجوا منها فلم يجازهم أحد. وحاول أهل السجن أن يشغبوا زمن المأمون، وأن ينقبوا السجن. فسدوا الباب من داخل ولم يدعوا أحداً يدخل عليهم، وأخذوا في نقب السجن. فلما كان الليل، وعلا شغبهم وصوتهم ذهب المأمون، فدعا بنفر من الشُطّار وأصحاب الشغب في السجن، فضربت أعناقهم، وصُلبوا على الجسر.
وفي زمن المستعين سنة 249 اجتمع العامة في بغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمت إليها الشاكرية، ففتحوا سجن نصر ابن مالك، وأخرجوا من كان فيه. وانتهب ديوان قصص المحبسين، وقطعت الدفاتر وألقيت في الماء.
وفي زمن المهتدي (255) اجتمع جماعة من الجند والشاكرية ومعهم جماعة من العامة، حتى صاروا إلى سجن باب الشام، فكسروا بابه في الليلة الثالثة عشرة من رمضان، وأطلقوا أكثر من كان فيه. ولم يبق من أصحاب الجرائم إلا الضعيف والمريض والمثقل.
وفي زمن المعتمد سنة (272) نقب المطبق من داخله وفر بعض المسجونين.
وقبيل وفاة الموفق سنة 278 قامت العامة فانتهبت دار إسماعيل ابن بلبل، وفتحت الجسور وأبواب السجون، ولم يبق أحد في المطبق ولا في الجديد إلا أخرج.
وفي سنة 306 شغب أهل السجن الجديد، وصعدوا السور فركب نزار بن محمد صاحب الشرطة وحاربهم وقتل منهم واحداً ورمى برأسه إليهم فسكنوا.
ويذكر الخطيب البغدادي أنه في سنة 307 كسرت العامة الحبوس في مدينة المنصور، فأفلت من كان فيها. وكانت الأبواب الحديد التي للمدينة باقية فغلقت وتتبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس فأخذوا جميعاً حتى لم يفتهم منهم أحد.
وفي زمن المقتدر سنة 308 غلت الأسعار ببغداد، وشغب العامة، ووقع النهب، وركب الجند فيها، وشتتتهم العامة، وأحرقت الحبس وفتحت السجون.
ولعلك لاحظت أن كسر السجون كان نتيجة الشغب والفتن وعصيان الجند، وغلاء الأسعار، واضطراب العامة. وهذه أمور كانت مما امتاز به العصر العباسي الثاني. وقد كان للأتراك الشأن الكبير فيها. ولن نورد كل ما ذكره المؤرخون فحسبنا ما ذكرنا.
3 - موت الخليفة:
وكانوا يطلقون السجناء لموت الخليفة أو عزل الوزير: حدّث التنوخي عن أحمد بن المدبر قال: (لما سجنت مع احمد بن إسرائيل، وسليمان بن وهب معاً قال لي سليمان ذات يوم: رأيتُ البارحة في نومي كأن قائلا يقول لي: (يموت الواثق إلى ثلاثين ليلة. فلما كان يوم الثلاثين، وكان الليل، لم نشعر بالباب إلا وقد دُقّ دقاً شديداً، وصاح بنا صائح: البشرى، قد مات الواثق فاخرجوا).
وربما أطلق الخليفة الجديد المسجونين زمن الخليفة السابق كما فعل المهدي. فقد أمر بإطلاق من كان في سجن المنصور. إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، معروفاً بالسعي في الأرض بالفساد. فأطلقوا من في المطبق.
وأطلق المقتدر أهل الحبوس الذين يجوز إطلاقهم، وأمر محمد بن يوسف القاضي أن ينظر في ذلك.
وذكر ابن الجوزي أن الراضي لما ولي الخلافة أمر بإطلاق من كان في حبس القاهر، فأطلقوا جميعاً.
وربما يطلقون لعزل الوزير أو موته. حدَّث محمد بن الحسن الكاتب صاحب الجيش قال: (قبض محمد بن القاسم بن عبيد الله ابن سليمان بن وهب، في وزارته للقاهر على أبي وعليّ معاً. فحبسنا في حجرة من دار ضيقة، وأجلسنا على التراب، وشدد علينا. فقال لنا الموكلون بنا ذات يوم: قد عزم الوزير على قتلكما الليلة. . . فتغير حالي، وقام أبي يدعو الله ويصلي، فلما مضى ربع الليل سمعت الباب يدق، فذهب عني أمري، ولم أشك أنه القتل. وفتحت الأبواب، فدخل قوم بشموع، فتأملت فإذا فيهم سابور خادم القاهر. فقال أين أبو طاهر؟ فقام أبي وقال هاأنذاك فقال: أين ولدُّك؟ قال: هو ذا. فقال انصرفا إلى منزلكما. وإذا هو قد قبض على الوزير محمد بن القاسم، وأحدره إلى دار القاهر، وانصرفنا. وعاش محمد في الاعتقال ثلاثة أيام
ومات.
4 - العفو:
وقد يطلق المسجون بعفو من الخليفة. مثال ذلك ما حكاه المسعودي، قال: ذكر عبد الله بن مالك الخزاعي، وكان صاحب شرطة الرشيد قال: أتاني رسول الرشيد في الليل. فارتعت. . فلما مثلت بين يديه، قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني ومعه حربة، فقال إن لم تخلِّ عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة فاذهب فخلِّ عنه، قال فمضيت إلى الحبس وأطلقته.
ومن الطرافة أن تقرأ هذه المنامات، وترى كيف يطلق السجناء بعدها. وقد سرد قسما كبيراً منها التنوخي في الفرج الشدة.
5 - الاحتيال:
وقد يحتال المسجون بحيلة لينجو. ذكر ابن طيفور أن طاهر بن الحسين كان يتعشق بخراسان جارية من جيرانه يقال لها (ديذا) وكانت توصف بجمال عجيب، وكان يختلف إليها. ولما صار إلى مدينة السلام، وقع في سجنه جار لديذا بجرم خفيف، وطال حبسه، ولم يعرف أحداً يشفع فيه، فاحتال لرقعة لطيفة، أرسلها إلى طاهر، وتوسل إليه بجوار ديذا فلما قرأها كتب في ظهرها:
ويا جار ديذا لا تخف سجن طاهر ... فواليك لو تدري عليك شفيق
أيا جار ديذا أنت في سجن طاهر ... وأنتَ لديذا فاعلمن طليق
ولما سجن عزّ الدولة، إبراهيم بن هلال الصابي؛ احتال هذا على الخروج بأن ألف له مصنفاً في أخبار آل بويه وهو التاجي، فخرج.
(يتبع)
صلاح الدين المنجد
مجلة الرسالة - العدد 644
بتاريخ: 05 - 11 - 1945