تقديم :
باعدت مسألة العنف السوفياتي بين المفكرين الرئيسيين لحقبة مابعد الحرب، ومعهما كل اليسار الفرنسي. مع ذلك، سبق لسارتر وكامو أن نسجا خيوط صداقة هائمة، مثلما يوضح لنا في هذا الحوار الجامعي الأمريكي رونالد أرونسون، الذي انكب على دراسة تفاصيل علاقتهما.
س- أنتم باحث متخصص في سارتر. لكن، بالنسبة الكتاب الذي هيأتموه للحديث عن تفاصيل علاقاته مع كامو، لم تمنحوه دائما الدور الجيد.ألم يزعج هذا الأمر بعض زملائكم السارتريين؟
ج- اطمئنوا، إن سارتريا اليوم يمتلك تماما الحق كي ينتقد سارتر، بل وتثمين كامو، إلى درجة، أنه فيما يتعلق بي، يمكن أن أصبح نسبيا مناصرا لكامو! فالسياق السياسي خلال الحرب الباردة، الذي انتهى بهما إلى وضعيتين متناقضتين كليا، أضحى اليوم مجرد تاريخ، ولسنا مضطرين لحسن الحظ كي ننحاز أكثر إلى جانب أحدهما على حساب الثاني. عندما قررت، قبل أكثر من عشر سنوات تقريبا، أن أدرس بكيفية أعمق علاقة سارتر/كامو، وهو ما لم يحدث سابقا، فلأني اعتبرت قد حان الوقت للحديث عن ذلك بكيفية متوازنة. لقد حمَّل أنصار سارتر لمدة طويلة كامو مسؤولية القطيعة : تعتقد مثلا سيمون دي بوفوار، بأن كامو أضحى بطلا لـ ''القيم البورجوازية" وعاجزا عن التوفيق بسبب مناهضته الشديدة للشيوعية. أما المدافعون عنه فقد أرجعوا سبب ذلك إلى تعمد معاقبة كامو نتيجة رفضه الانضمام إلى الأنتلجنسيا الستالينة التي تحالفت مع قتلة.كان لهذين التهمتين توافقا معينا مع سياق الحقبة، لكن ينبغي اليوم النظر إليهما بنسبية. لقد انتقد كامو بشجاعة العنف، لاسيما المقترف من طرف الثوار والإرهابيين بدعوى سعيهم إلى جعل العالم أفضل، لكنه في ذات الآن لم يفضح قط عنف الرأسمالية الممنهج سواء سنوات الخمسينات أو خلال الحقبة الاستعمارية. في المقابل، أدرك سارتر كيفية رصد عنف الدولة المنظم في كل مكان، مدافعا عن الأفراد والحركات التي تناضل ضده، غير أنه عانق بلا تحفظ مسألة الالتجاء إلى العنف الثوري. لذلك، تميز كل واحد منهما في الوقت ذاته، بثقابة رؤاه الفكرية ثم عدم تبصره أيضا. وأنا بصدد إنجاز عملي، أردت كذلك إعادة ترميم حيثيات تعقّد علاقتهما، والتي قبل أن تصير نزاعية، فقد بدأت كصداقة عميقة لما يقارب عشر سنوات. بعد القطيعة بين سارتر وكامو، قلَّل المعلقون، وبعد ذلك المؤرخون، حين استعادتهم الماضي من شأن تلك الصداقة الأولى، وقدموها باعتبارها سطحية، محكوما عليها منذ البداية بالوصول إلى الباب المسدود. تفسيرات من هذا القبيل، تعني التغافل على أنه لحظة تحرير فرنسا كان التوافق بين كامو وسارتر شبه مطلق، ويشعران بانجذاب وِدِّي قوي بينهما، بل تكلما آنذاك بشكل أقل في موضوعات الفلسفة، والأدب والسياسة، وفضَّلا أساسا التسلية معا والدردشة في أمور الحياة، والنساء. لكن، مباشرة بعد الحرب، برزت إلى السطح سريعا خلافات سياسية بينهما، وإن حاولا بذل قصارى جهدهما قصد المحافظة على صداقتهما، إلى أن حدث بينهما الانفصال العنيف والنهائي، سنة 1952.
س- متى التقيا لأول مرة؟
ج- كان لقاؤهما الأول في باريس أثناء الاحتلال، شهر يونيو 1943 ، خلال أول تقديم لمسرحية الذباب لسارتر. يعرف كل واحد منهما سلفا أعمال الثاني ويتبادلان التقدير. اكتشف كامو سارتر سنة 1938، في الجزائر حينما قرأ مسرحية الغثيان، وكتب عنها بحماس في جريدته : ''الجزائر الجمهورية''. بدوره أبدى سارتر إعجابه برواية الغريب، الصادرة سنة 1942، نص كتبه شاب غير معروف لكنه سرعان ما حظي بدعاية واسعة بين أوساط الدوائر الثقافية الباريسية. يكمن اهتمامهما المشترك بموضوع العبث، في قلب منظومة أفكارهما الخاصة، وعشقهما لكل أجناس الكتابة، من الرواية إلى الدراسة البحثية وكذا المسرحية، جوانب تفسر اهتمامهما المتبادل. أيضا، حينما استقر كامو في باريس سنة 1943 ، وأصبح منتميا إلى غاليمار مكلفا بقراءة المشاريع المتوخى إصدارها، فقد تطلع الاثنان للقاء يجمعهما. سعي تحقق فعلا، وتحولا على إثره إلى صديقين منذ الوهلة الأولى. استند انجذابهما خصوصا على تبايناتهما : انبهر سارتر بهذا الشاب – يصغره كامو بفارق ثمان سنوات – الوسيم، المسلِّي، الجذاب، الماجن أحيانا إلى حد ما، بحيث رثاه سارتر عن حب عقب موته، واصفا إياه ب : '' زُقَاقِيّ الجزائر الصغير". بينما استمالت كامو، دقة سارتر وعمقه، ثم قدرته في خضم ذلك على أن يكون وُدِّيّا ومسليا.التقيا كثيرا، إلى حد أن سيمون دي بوفوار، أبانت تقريبا عن غيرتها خلال تلك الحقبة. إذن بشكل سريع جدا، توافقا على أن سارتر أكثر ذكاء، وكامو أقوى إبداعيا وفنيا. أيضا، يعتبر كل واحد منهما، أن الثاني حَمَلَ له الكثير.
س- هل بوسعنا القول أن سارتر، الذي كان يجسد أصلا رمز الواجهة الأولى بالنسبة للمشهد الثقافي الباريسي، قد احتضن كامو فعلا؟
ج- بالتأكيد لعب سارتر دورا مهما بخصوص بلوغ هذا الشاب الفرنسي المنحدر من وسط جزائري متواضع، الشهرة وكذا الاعتراف داخل باريس الثقافية. لكن لا ينبغي النظر إلى أمر كهذا، من زاوية أحادية الجانب، أي سارتر الذي يعتبر بمثابة أخ أكبر لكامو، ثم بشكل أقل أيضا مرشد له. بحيث أثر كامو بدوره على نحو حاسم، في مسار سارتر، فترة نهاية الاحتلال، بأن ساعده كي يقتحم أولى خطوات الالتزام السياسي.وقد تكلم الأخير عن ذلك باستمرار، دون انفعال. محاولات انضمامه إلى صفوف المقاومة، إبان بداية الحرب، صحبة بوفوار، وميرلوبونتي وآخرين، سرعان ما فشلت، نتيجة غياب الاحترافية وانعدام الاتصالات. بينما ناضل كامو، ضمن صفوف الحزب الشيوعي الجزائري بين سنتي 1935 و 1937 . خلال نهاية سنة 1943 في باريس، أصبح عضوا في هيئة تحرير جريدة ''كفاح" التي تصدرها حركة المقاومة تحت نفس التسمية، بفضل تدخل باسكال بيا Pia ، المدير السابق لصحيفة ''الجزائر الجمهورية ''.خلال حقبة تحرير باريس، بادر سارتر وبوفوار غير ما مرة إلى زيارة كامو داخل المخابئ السرية للجريدة، المنتشي بأن وجد نفسه للمرة الأولى في حياته، ضمن دوامة الممارسة الفاعلة، بل كامو سيدعو سارتر للنشر على صفحات جريدة كفاح سلسلة تحقيقات صحفية حول الثورة المسلحة، مانحا بذلك شهادة مقاومة غير منتظرة بالنسبة لرجل قضى فترة الحرب منكبا على الكتابة. في أعقاب ذلك، وإلى جانب أصدقاء يشتغلون بالمسرح، سيحتل سارتر مبنى المسرح الوطني الفرنسي، بهدف حمايته من كل أنواع التخريب التي يمكن أن تقترفها الحشود الألمانية المتراجعة.كامو، الذي التحق به، صادفه نائما على كرسي في ردهة المسرح. حينما أيقظه، قال له ساخرا بلطف : "لقد أدرت كرسيك وفق اتجاه التاريخ". وهي الصيغة التي استعادها ثانية سنة 1952، لكن هذه المرة بطريقة صارمة جدا،بين سطور رسالة القطيعة التي بعث بها إلى سارتر.
س- متى تجلت أولى بواكير خلافاتهما؟
ج- حين فترة التحرير، كانا متقاربان جدا سياسيا. كامو على رأس جريدة كفاح، بينما يشرف سارتر على مجلة الأزمنة الحديثة التي أسسها سنة 1945، يدافعان عن قيم المقاومة ويدعوان إلى إعادة صياغة الحياة السياسية لصالح ديمقراطية حقيقية، ويفضحان الرأسمالية، ويترافعان من أجل تقليص اللامساواة المجتمعية. بيد أن مرحلة هذا التفاؤل العام سرعان ما انقضت مع بداية أجواء الحرب الباردة، ثم معاناة التوافق الجميل السالف بين كامو وسارتر. شهر نونبر 1946، وإبان أمسية عند بورس فيان vian، هاجم كامو بشدة الفيلسوف موريس ميرلوبونتي، مؤاخذا عليه دفاعه عن عنف الدولة السوفياتية عبر بوابة صفحات مجلة الأزمنة الحديثة. ارتبط كامو حتى فترة حديثة من ذلك الموعد، بالروائي أرثر كوستلر، الذي تُرجمت روايته :صفر واللانهائي، إلى الفرنسية سنة 1945، وأثرت فيه كثيرا بأحاديثها عن حالات التطهير الستالينية. أما ميرلوبونتي، فقد كان مرشدا سياسيا بالنسبة لسارتر. إذن بين الأخير، المدافع عن الثورة وكذا ''العنف التدريجي" الذي نَظَّر له ميرلوبونتي، ثم كامو الداعي إلى التمرد لكنه يستنكر في نفس الوقت العنف الثوري، بدأ التاريخ يحفر ثغرة شيئا فشيئا بينهما. خلال سنوات عدة، وعلى الرغم من اتخاذ مواقف دائما أكثر تنافرا، فقد واصل سارتر وكامو الالتقاء، وفاء لصداقتهما. لكن القلب شرع يتكلم لغة مختلفة عن الظاهر. شهر يونيو1951، وأثناء تناول وجبة احتفالا بعرض مسرحية سارتر : الشيطان والإله الطيب، كان كامو حاضرا، لكنه امتنع عن الكلام، لأنه لم يستحسن المسرحية كثيرا، ورأى فيها تبريرا للعنف السياسي.أمسية وصفتها بوفوار قائلة: " كئيبة بما يكفي : ثم بيننا وكامو، اشتعلت النيران ثانية ". بعض مرور أشهر، أصدر كامو دراسته الفلسفية المعنونة بــ: الإنسان المتمرد. وهي بمثابة حرب أعلنت ضدا على الستالينية وكذا جميع المثقفين المدافعين عنها. بعدها بقليل، أكد سارتر انضمامه الرسمي إلى صفوف الحزب الشيوعي. هكذا،أجبرهما السياق السياسي جزئيا وعلى الرغم منهما، كي يتحولا إلى ناطقين رسميين عن توجهين متعارضين.
س- إذن تأكدت القطيعة على مستوى الفضاء العمومي، عبر أعمدة، مجلة الأزمنة الحديثة؟
ج- خريف 1951، صدر كتاب الإنسان المتمرد، الذي استبعد الثورة، محاولا مساءلة سارتر ثانية دون ذكره بالاسم.تضايق الأخير كثيرا، لكنه تحاشى الرد ،متمسكا دائما بالحفاظ قدر المستطاع على صداقته مع كامو، ورافضا في نفس الوقت كل إشارة للكتاب من طرف مجلة الأزمنة الحديثة. لكن بعد انقضاء فترة، وتحديدا شهر ماي 1952 ، سمح أخيرا لمساعده الفيلسوف فرانسيس جانسون المبادرة إلى الكتابة على صفحات المجلة تقويضا مُحْكما لأطروحات كتاب الإنسان المتمرد ومؤلفه. بغض النظر عن حدة مقالة جونسون، لم يستسغ كبرياء كامو الإساءة إليه من طرف أحد معاوني سارتر ويباشر مهمة المواجهة عوض سارتر نفسه. ثم احتج برسالة طويلة موجهة ببرودة إلى : "السيد مدير الأزمنة الحديثة"، أجبرت سارتر على تناول القلم. فجاء جوابه على غرار مضمون مقالة جونسون، مفعما بنبرة الهجوم السياسي وأيضا الشخصي، مؤاخذا أساسا على كامو خيانته لعلاقته بالتاريخ، وكذا هذا الحث على التزام المثقف مثلما تعلمه من أخيه الأصغر (كامو) فترة الحرب. أسرع القراء إلى اقتناء العدد الصادر شهر غشت 1952 من مجلة الأزمنة الحديثة الذي تضمن رسالة كامو وكذا جواب سارتر، بل أعيد طبعه لمرات عديدة، وتحولت الصحافة العامة إلى مجرد صدى لسجال كامو/سارتر، والتي بحسب كلمات ريمون آرون : "اتخذ على الفور مسار سجال وطني''. لذلك، أصبح سارتر وكامو بالنسبة إلى المخيال الجماعي، رمزين متنافرين على الرغم من تقاربهما في حقيقة الأمر.
س- بعد ثمان سنوات على المواجهة توفي كامو. هل التقى سارتر خلال تلك المدة؟
ج- لا، لم يجتمعا أبدا،بل لم يتلفظ أحدهما قط باسم الثاني أمام العموم، وتابعا مع ذلك جدالهما خلف صيغ مرموزة : "القاضي- النادم" في رواية السقوط تحيل في المقام الأول على سارتر، ثم حينما يتجه هذا الأخير مخاطبا كامو قبل الجميع بانتقاده لــ ''النفوس الجميلة'' إبان خطاب بمناسبة حرب الجزائر، وهو موضوع شكل أيضا محور تعارض بينهما،بحيث ساند سارتر جبهة التحرير الوطني وكذا استقلال الجزائر. لقد اعتبر كل واحد منهما أنه تعرض للخيانة.مع ذلك، وبالمقارنة مع سارتر، لم يتحمل كامو بكيفية هيّنة انفصالهما. بسبب انزعاجه، اجتر كامو دائما على صفحات مذكراته، مبررات سارتر وأنصاره، هكذا أصبحت باريس تثير غثيانه، وتجنب أي ذهاب إلى حي سان جيرمان دي بري. وحينما ازداد انذهاله من عنف مقالات مجلة الأزمنة الحديثة،اعترف في نهاية المطاف بأن سارتر لم يكن أبدا صديقا حقيقيا. أما سارتر فلم يلمح بأي إشارة قريبة أو بعيدة إلى كامو سواء في مذكراته أو حواراته الخاصة، غاية موت الأخير يوم 4 يناير 1960، نتيجة حادثة السير القاتلة. واقعة حزينة دفعت سارتر كي يكتب عنه في مجلة "فرانس أوبسرفاتور'' مقالة رائعة في غاية الإطراء.لكن بعد مرور سنوات وعبر حوارات عدة، تدارك سارتر موقفه هذا،مدعيا أنه قدم تضحية إلى حد ما، حتى تغويه كتابة ذلك '' النثر الجميل''. لكن، أنا مؤمن بصدق كلمات تأبينه. فرغم خلافاتهما، ظل سارتر يضمر تقديرا عميقا إلى كامو، واستقامة ضميره، ثم ما سماه في رثائه ب : "إنسانية كامو المٌلِحَّة، الحميمة والنقية، البسيطة والحسية''. امتدحه وأثنى عليه، لكونه تمكن على العكس منه،حسب قوله الصمود أمام : " صنم الواقعية''، فقد أقر سارتر أيضا بأخطائه كمفكر ورفيق. بعد مرور ثمان وعشرين سنة، سيعترف بصدد كامو : "كان بالنسبة إلي آخر صديق كبير".
*هامش :
l’ obs : les hors-série ; numéro97.pp :22- 25.
سعيد بوخليط
باعدت مسألة العنف السوفياتي بين المفكرين الرئيسيين لحقبة مابعد الحرب، ومعهما كل اليسار الفرنسي. مع ذلك، سبق لسارتر وكامو أن نسجا خيوط صداقة هائمة، مثلما يوضح لنا في هذا الحوار الجامعي الأمريكي رونالد أرونسون، الذي انكب على دراسة تفاصيل علاقتهما.
س- أنتم باحث متخصص في سارتر. لكن، بالنسبة الكتاب الذي هيأتموه للحديث عن تفاصيل علاقاته مع كامو، لم تمنحوه دائما الدور الجيد.ألم يزعج هذا الأمر بعض زملائكم السارتريين؟
ج- اطمئنوا، إن سارتريا اليوم يمتلك تماما الحق كي ينتقد سارتر، بل وتثمين كامو، إلى درجة، أنه فيما يتعلق بي، يمكن أن أصبح نسبيا مناصرا لكامو! فالسياق السياسي خلال الحرب الباردة، الذي انتهى بهما إلى وضعيتين متناقضتين كليا، أضحى اليوم مجرد تاريخ، ولسنا مضطرين لحسن الحظ كي ننحاز أكثر إلى جانب أحدهما على حساب الثاني. عندما قررت، قبل أكثر من عشر سنوات تقريبا، أن أدرس بكيفية أعمق علاقة سارتر/كامو، وهو ما لم يحدث سابقا، فلأني اعتبرت قد حان الوقت للحديث عن ذلك بكيفية متوازنة. لقد حمَّل أنصار سارتر لمدة طويلة كامو مسؤولية القطيعة : تعتقد مثلا سيمون دي بوفوار، بأن كامو أضحى بطلا لـ ''القيم البورجوازية" وعاجزا عن التوفيق بسبب مناهضته الشديدة للشيوعية. أما المدافعون عنه فقد أرجعوا سبب ذلك إلى تعمد معاقبة كامو نتيجة رفضه الانضمام إلى الأنتلجنسيا الستالينة التي تحالفت مع قتلة.كان لهذين التهمتين توافقا معينا مع سياق الحقبة، لكن ينبغي اليوم النظر إليهما بنسبية. لقد انتقد كامو بشجاعة العنف، لاسيما المقترف من طرف الثوار والإرهابيين بدعوى سعيهم إلى جعل العالم أفضل، لكنه في ذات الآن لم يفضح قط عنف الرأسمالية الممنهج سواء سنوات الخمسينات أو خلال الحقبة الاستعمارية. في المقابل، أدرك سارتر كيفية رصد عنف الدولة المنظم في كل مكان، مدافعا عن الأفراد والحركات التي تناضل ضده، غير أنه عانق بلا تحفظ مسألة الالتجاء إلى العنف الثوري. لذلك، تميز كل واحد منهما في الوقت ذاته، بثقابة رؤاه الفكرية ثم عدم تبصره أيضا. وأنا بصدد إنجاز عملي، أردت كذلك إعادة ترميم حيثيات تعقّد علاقتهما، والتي قبل أن تصير نزاعية، فقد بدأت كصداقة عميقة لما يقارب عشر سنوات. بعد القطيعة بين سارتر وكامو، قلَّل المعلقون، وبعد ذلك المؤرخون، حين استعادتهم الماضي من شأن تلك الصداقة الأولى، وقدموها باعتبارها سطحية، محكوما عليها منذ البداية بالوصول إلى الباب المسدود. تفسيرات من هذا القبيل، تعني التغافل على أنه لحظة تحرير فرنسا كان التوافق بين كامو وسارتر شبه مطلق، ويشعران بانجذاب وِدِّي قوي بينهما، بل تكلما آنذاك بشكل أقل في موضوعات الفلسفة، والأدب والسياسة، وفضَّلا أساسا التسلية معا والدردشة في أمور الحياة، والنساء. لكن، مباشرة بعد الحرب، برزت إلى السطح سريعا خلافات سياسية بينهما، وإن حاولا بذل قصارى جهدهما قصد المحافظة على صداقتهما، إلى أن حدث بينهما الانفصال العنيف والنهائي، سنة 1952.
س- متى التقيا لأول مرة؟
ج- كان لقاؤهما الأول في باريس أثناء الاحتلال، شهر يونيو 1943 ، خلال أول تقديم لمسرحية الذباب لسارتر. يعرف كل واحد منهما سلفا أعمال الثاني ويتبادلان التقدير. اكتشف كامو سارتر سنة 1938، في الجزائر حينما قرأ مسرحية الغثيان، وكتب عنها بحماس في جريدته : ''الجزائر الجمهورية''. بدوره أبدى سارتر إعجابه برواية الغريب، الصادرة سنة 1942، نص كتبه شاب غير معروف لكنه سرعان ما حظي بدعاية واسعة بين أوساط الدوائر الثقافية الباريسية. يكمن اهتمامهما المشترك بموضوع العبث، في قلب منظومة أفكارهما الخاصة، وعشقهما لكل أجناس الكتابة، من الرواية إلى الدراسة البحثية وكذا المسرحية، جوانب تفسر اهتمامهما المتبادل. أيضا، حينما استقر كامو في باريس سنة 1943 ، وأصبح منتميا إلى غاليمار مكلفا بقراءة المشاريع المتوخى إصدارها، فقد تطلع الاثنان للقاء يجمعهما. سعي تحقق فعلا، وتحولا على إثره إلى صديقين منذ الوهلة الأولى. استند انجذابهما خصوصا على تبايناتهما : انبهر سارتر بهذا الشاب – يصغره كامو بفارق ثمان سنوات – الوسيم، المسلِّي، الجذاب، الماجن أحيانا إلى حد ما، بحيث رثاه سارتر عن حب عقب موته، واصفا إياه ب : '' زُقَاقِيّ الجزائر الصغير". بينما استمالت كامو، دقة سارتر وعمقه، ثم قدرته في خضم ذلك على أن يكون وُدِّيّا ومسليا.التقيا كثيرا، إلى حد أن سيمون دي بوفوار، أبانت تقريبا عن غيرتها خلال تلك الحقبة. إذن بشكل سريع جدا، توافقا على أن سارتر أكثر ذكاء، وكامو أقوى إبداعيا وفنيا. أيضا، يعتبر كل واحد منهما، أن الثاني حَمَلَ له الكثير.
س- هل بوسعنا القول أن سارتر، الذي كان يجسد أصلا رمز الواجهة الأولى بالنسبة للمشهد الثقافي الباريسي، قد احتضن كامو فعلا؟
ج- بالتأكيد لعب سارتر دورا مهما بخصوص بلوغ هذا الشاب الفرنسي المنحدر من وسط جزائري متواضع، الشهرة وكذا الاعتراف داخل باريس الثقافية. لكن لا ينبغي النظر إلى أمر كهذا، من زاوية أحادية الجانب، أي سارتر الذي يعتبر بمثابة أخ أكبر لكامو، ثم بشكل أقل أيضا مرشد له. بحيث أثر كامو بدوره على نحو حاسم، في مسار سارتر، فترة نهاية الاحتلال، بأن ساعده كي يقتحم أولى خطوات الالتزام السياسي.وقد تكلم الأخير عن ذلك باستمرار، دون انفعال. محاولات انضمامه إلى صفوف المقاومة، إبان بداية الحرب، صحبة بوفوار، وميرلوبونتي وآخرين، سرعان ما فشلت، نتيجة غياب الاحترافية وانعدام الاتصالات. بينما ناضل كامو، ضمن صفوف الحزب الشيوعي الجزائري بين سنتي 1935 و 1937 . خلال نهاية سنة 1943 في باريس، أصبح عضوا في هيئة تحرير جريدة ''كفاح" التي تصدرها حركة المقاومة تحت نفس التسمية، بفضل تدخل باسكال بيا Pia ، المدير السابق لصحيفة ''الجزائر الجمهورية ''.خلال حقبة تحرير باريس، بادر سارتر وبوفوار غير ما مرة إلى زيارة كامو داخل المخابئ السرية للجريدة، المنتشي بأن وجد نفسه للمرة الأولى في حياته، ضمن دوامة الممارسة الفاعلة، بل كامو سيدعو سارتر للنشر على صفحات جريدة كفاح سلسلة تحقيقات صحفية حول الثورة المسلحة، مانحا بذلك شهادة مقاومة غير منتظرة بالنسبة لرجل قضى فترة الحرب منكبا على الكتابة. في أعقاب ذلك، وإلى جانب أصدقاء يشتغلون بالمسرح، سيحتل سارتر مبنى المسرح الوطني الفرنسي، بهدف حمايته من كل أنواع التخريب التي يمكن أن تقترفها الحشود الألمانية المتراجعة.كامو، الذي التحق به، صادفه نائما على كرسي في ردهة المسرح. حينما أيقظه، قال له ساخرا بلطف : "لقد أدرت كرسيك وفق اتجاه التاريخ". وهي الصيغة التي استعادها ثانية سنة 1952، لكن هذه المرة بطريقة صارمة جدا،بين سطور رسالة القطيعة التي بعث بها إلى سارتر.
س- متى تجلت أولى بواكير خلافاتهما؟
ج- حين فترة التحرير، كانا متقاربان جدا سياسيا. كامو على رأس جريدة كفاح، بينما يشرف سارتر على مجلة الأزمنة الحديثة التي أسسها سنة 1945، يدافعان عن قيم المقاومة ويدعوان إلى إعادة صياغة الحياة السياسية لصالح ديمقراطية حقيقية، ويفضحان الرأسمالية، ويترافعان من أجل تقليص اللامساواة المجتمعية. بيد أن مرحلة هذا التفاؤل العام سرعان ما انقضت مع بداية أجواء الحرب الباردة، ثم معاناة التوافق الجميل السالف بين كامو وسارتر. شهر نونبر 1946، وإبان أمسية عند بورس فيان vian، هاجم كامو بشدة الفيلسوف موريس ميرلوبونتي، مؤاخذا عليه دفاعه عن عنف الدولة السوفياتية عبر بوابة صفحات مجلة الأزمنة الحديثة. ارتبط كامو حتى فترة حديثة من ذلك الموعد، بالروائي أرثر كوستلر، الذي تُرجمت روايته :صفر واللانهائي، إلى الفرنسية سنة 1945، وأثرت فيه كثيرا بأحاديثها عن حالات التطهير الستالينية. أما ميرلوبونتي، فقد كان مرشدا سياسيا بالنسبة لسارتر. إذن بين الأخير، المدافع عن الثورة وكذا ''العنف التدريجي" الذي نَظَّر له ميرلوبونتي، ثم كامو الداعي إلى التمرد لكنه يستنكر في نفس الوقت العنف الثوري، بدأ التاريخ يحفر ثغرة شيئا فشيئا بينهما. خلال سنوات عدة، وعلى الرغم من اتخاذ مواقف دائما أكثر تنافرا، فقد واصل سارتر وكامو الالتقاء، وفاء لصداقتهما. لكن القلب شرع يتكلم لغة مختلفة عن الظاهر. شهر يونيو1951، وأثناء تناول وجبة احتفالا بعرض مسرحية سارتر : الشيطان والإله الطيب، كان كامو حاضرا، لكنه امتنع عن الكلام، لأنه لم يستحسن المسرحية كثيرا، ورأى فيها تبريرا للعنف السياسي.أمسية وصفتها بوفوار قائلة: " كئيبة بما يكفي : ثم بيننا وكامو، اشتعلت النيران ثانية ". بعض مرور أشهر، أصدر كامو دراسته الفلسفية المعنونة بــ: الإنسان المتمرد. وهي بمثابة حرب أعلنت ضدا على الستالينية وكذا جميع المثقفين المدافعين عنها. بعدها بقليل، أكد سارتر انضمامه الرسمي إلى صفوف الحزب الشيوعي. هكذا،أجبرهما السياق السياسي جزئيا وعلى الرغم منهما، كي يتحولا إلى ناطقين رسميين عن توجهين متعارضين.
س- إذن تأكدت القطيعة على مستوى الفضاء العمومي، عبر أعمدة، مجلة الأزمنة الحديثة؟
ج- خريف 1951، صدر كتاب الإنسان المتمرد، الذي استبعد الثورة، محاولا مساءلة سارتر ثانية دون ذكره بالاسم.تضايق الأخير كثيرا، لكنه تحاشى الرد ،متمسكا دائما بالحفاظ قدر المستطاع على صداقته مع كامو، ورافضا في نفس الوقت كل إشارة للكتاب من طرف مجلة الأزمنة الحديثة. لكن بعد انقضاء فترة، وتحديدا شهر ماي 1952 ، سمح أخيرا لمساعده الفيلسوف فرانسيس جانسون المبادرة إلى الكتابة على صفحات المجلة تقويضا مُحْكما لأطروحات كتاب الإنسان المتمرد ومؤلفه. بغض النظر عن حدة مقالة جونسون، لم يستسغ كبرياء كامو الإساءة إليه من طرف أحد معاوني سارتر ويباشر مهمة المواجهة عوض سارتر نفسه. ثم احتج برسالة طويلة موجهة ببرودة إلى : "السيد مدير الأزمنة الحديثة"، أجبرت سارتر على تناول القلم. فجاء جوابه على غرار مضمون مقالة جونسون، مفعما بنبرة الهجوم السياسي وأيضا الشخصي، مؤاخذا أساسا على كامو خيانته لعلاقته بالتاريخ، وكذا هذا الحث على التزام المثقف مثلما تعلمه من أخيه الأصغر (كامو) فترة الحرب. أسرع القراء إلى اقتناء العدد الصادر شهر غشت 1952 من مجلة الأزمنة الحديثة الذي تضمن رسالة كامو وكذا جواب سارتر، بل أعيد طبعه لمرات عديدة، وتحولت الصحافة العامة إلى مجرد صدى لسجال كامو/سارتر، والتي بحسب كلمات ريمون آرون : "اتخذ على الفور مسار سجال وطني''. لذلك، أصبح سارتر وكامو بالنسبة إلى المخيال الجماعي، رمزين متنافرين على الرغم من تقاربهما في حقيقة الأمر.
س- بعد ثمان سنوات على المواجهة توفي كامو. هل التقى سارتر خلال تلك المدة؟
ج- لا، لم يجتمعا أبدا،بل لم يتلفظ أحدهما قط باسم الثاني أمام العموم، وتابعا مع ذلك جدالهما خلف صيغ مرموزة : "القاضي- النادم" في رواية السقوط تحيل في المقام الأول على سارتر، ثم حينما يتجه هذا الأخير مخاطبا كامو قبل الجميع بانتقاده لــ ''النفوس الجميلة'' إبان خطاب بمناسبة حرب الجزائر، وهو موضوع شكل أيضا محور تعارض بينهما،بحيث ساند سارتر جبهة التحرير الوطني وكذا استقلال الجزائر. لقد اعتبر كل واحد منهما أنه تعرض للخيانة.مع ذلك، وبالمقارنة مع سارتر، لم يتحمل كامو بكيفية هيّنة انفصالهما. بسبب انزعاجه، اجتر كامو دائما على صفحات مذكراته، مبررات سارتر وأنصاره، هكذا أصبحت باريس تثير غثيانه، وتجنب أي ذهاب إلى حي سان جيرمان دي بري. وحينما ازداد انذهاله من عنف مقالات مجلة الأزمنة الحديثة،اعترف في نهاية المطاف بأن سارتر لم يكن أبدا صديقا حقيقيا. أما سارتر فلم يلمح بأي إشارة قريبة أو بعيدة إلى كامو سواء في مذكراته أو حواراته الخاصة، غاية موت الأخير يوم 4 يناير 1960، نتيجة حادثة السير القاتلة. واقعة حزينة دفعت سارتر كي يكتب عنه في مجلة "فرانس أوبسرفاتور'' مقالة رائعة في غاية الإطراء.لكن بعد مرور سنوات وعبر حوارات عدة، تدارك سارتر موقفه هذا،مدعيا أنه قدم تضحية إلى حد ما، حتى تغويه كتابة ذلك '' النثر الجميل''. لكن، أنا مؤمن بصدق كلمات تأبينه. فرغم خلافاتهما، ظل سارتر يضمر تقديرا عميقا إلى كامو، واستقامة ضميره، ثم ما سماه في رثائه ب : "إنسانية كامو المٌلِحَّة، الحميمة والنقية، البسيطة والحسية''. امتدحه وأثنى عليه، لكونه تمكن على العكس منه،حسب قوله الصمود أمام : " صنم الواقعية''، فقد أقر سارتر أيضا بأخطائه كمفكر ورفيق. بعد مرور ثمان وعشرين سنة، سيعترف بصدد كامو : "كان بالنسبة إلي آخر صديق كبير".
*هامش :
l’ obs : les hors-série ; numéro97.pp :22- 25.
سعيد بوخليط