- 1 -
كتب يحيى بن خالد البرمكي إلى الرشيد من الحبس:
(. . . إلى أمير المؤمنين، من عبد أوبقته ذنوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، وزال به الزمان، ونزل به الحدثان، وحلّ به البلاء بعد الرخاء، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهود، وفقد الهجود؛ ساعته شهر، وليلته دهر. قد عاين الموت، وشارف الفوْت: جزعاً يا أمير المؤمنين قدمني الله قبلك، من موجدتك، وأسفاً على ما حُرِمتُه من قربك. لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك، وعارية في يدي منك. والعارية لابد مردودة. فأما ما اقتصصته من ولدي فبذنبه، وعاقبته بجرمه وجريرته على نفسه؛ فإنما كان عبداً من عبيدك لا أخاف عليك الخطأ في أمره. ولا أن تكون تجاوزت به فوق ما كان أهله، ولا كان مع ذلك بقاؤه أحب إلي من موافقتك. فتذكر يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، وحجب عني فقدك، كبر سني، وضعف قوّتي، وارحم شيبي، وهب لي رضاك عني، ولتَمِل إلي بغفران ذنبي. فمن مثلي يا أمير المؤمنين الزلل، ومِن مثلك الإقالة. ولست أعتذر إليك إلا بما تحب الإقرار به حتى ترضى. فإذا رضيت رجوت أن يظهر لك من أمري، وبراءة ساحتي، ما لا يتعاظمك معه ما مننت به من رأفتك بي وعفوك عني، ورحمتك لي. زاد الله عمرك يا أمير المؤمنين، وقدّمني للموت قبلك:
قل للخليفة ذي الصنا ... ئع والعطايا الفاشيه
وابن الخلائف من قري ... ش والملوك الهاديه
ملك الملوك وخير مَنْ ... ساس الأمور الماضيه
إن البرامكة الذين ... رموا لديك بداهيه
عمتهم لك سخطة ... لم تُبقِ منهم باقيه
فكأنهم مما بهم، ... أعجاز نخل خاويه
صفر الوجوه عليهمُ ... خلع المذلّة باديه
متفرقين مشتتين (م) ... بكل أرض قاسيه
بعد الإمارة والوزا ... رة والأمور الساميه
ومنازلٍ كانوا بها ... فوق المنازل عاليه
أضحوا وجلّ مناهُم ... منك الرضا والعافيه
فإذا رضيت فإن أنفس ... هم بحكمك، راضيه
فاليوم قد سلبَ الزما ... ن كرامتي وبهائيه
واليوم قد ألقى الزما ... ن جرانه بفنائية
يا من يود لي الردى ... يكفيك ويحك ما بيه
يكفيك ما أبصرت من ... ذلِّي، وذلّ مكانيه
يكفيك أني مستباح (م) ... معشري ونسائيه
ورزئت مالي كله ... وفدى الخليفة ماليه
إن كان لا يُرضيك إلا (م) ... أن أذوق حِماميه
فلقد رأيتُ الموت (م) ... من قبل الممات علانيه
وفجعتُ أعظم فجعةٍ ... وفنيتُ قبل فنائيه
ولبست أثواب الذلي ... ل ولم تكن بلباسِيَه
وعطبتُ في سخط الإما (م) ... م على رفيع بنائيه
فانظر بعينك هل ترى ... إلا قصوراً خاليه
وذخائراً مقسومة (م) ... قُسِّمْنَ قبل مماتيه
وحرائراً من بين صا ... رخة عليّ وباكيه
ونوادباً يندبْنَني ... تحت الدجى بكنائيه
يا با عليّ البرمكيّ! ... فما أجبت الداعيه
وبكاؤهن وقد سمع ... تُ مقلقَلَ أحشائيه
أخليفة الله الرضا ... لا تشمِتَنْ أعدائيه
أذكر عهودك لي وما ... أعطيْتني بوفائيه
أذكر مقاساتي الأمور وخدمتي وعنائيه
ارحم، جعلتُ لك الفدا ... كِبري وشدة حاليه
ارحم أخاك الفضلَ ... والباقين من أولادِيه
فلقد دعوك، وقد دعو ... تُكَ إن سمعتَ دُعائيه
أخليفة الرحمن إنك ... لو رأيت بناتيَهْ
وبكاء فاطمة الكئيبة ... والمدامع جاريه
ومقالها بتوَجع ... وا شقوتا وشقائيه!
مَنْ لي، ولا مَنْ لي ... وقد قصم الزمان قناتيه
وعدِمتُ صفو معيشتي ... وتغيّرت حالاتيه
من لي وقد غضب الزمان ... على جميع رجاليه
يا عطفة الملك الرضا ... عودي علينا ثانيه
- 2 -
وقال مسجون:
إلى فيما نابنا نؤثر الشكوى ... ففي يده كشف الضرورة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا دخل السجان يوماً لحاجة ... عجبنا، وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا، فجلُّ حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت كان بطيئاً مجيئها ... وإن قبحت لم تنتظر وأتت عجلى
- 3 -
قال علي بن الجهم من قصيدة يذكر محاسن الحبس:
قالوا حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يحمي غيله ... كبراً، وأوباش السباع تردد
والنار في أحجارها مخبوءة ... لا تصطلي إن لم تثرها الأزند
والبدر يدركه السرار فتجلي ... أيامه، وكأنه متجدد،
غيَرُ الليالي بادئات عوَدٌ ... والمال عارية يفاد وينفد
ولكل حال ومعقب ولربما، ... أجلى لك المكروه عما تحمد
لا يوئسنك من تفرج كربة ... خطب أتاك به الزمان الأنكد
كم من عليل قد تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعوّد
صبراً فإن اليوم يتبعه غد ... ويد الخليفة لا تطاولها يد
والحبس ما لم تغشه لدنية ... تزري فنعم المنزل المتورد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه ... لا يستذلك بالحجاب الأعبد
بيت يجدد للكريم كرامة ... ويزار فيه، ولا يزور ويحمد
- 4 -
فعارضه عاصم بن محمد الكاتب لما حبس وقال:
قالوا حبست فقلت خطب أنكد ... أنحى علي به الزمان المرصد
لو كنت حراً كان سربي مطلقاً ... ما كنت أؤخذ عنوة وأقيد
أو كنت كالسيف المهند لم أكن ... وقت الشديدة والكريهة أغمد
أو كنت كالليث الهصور لما رعت ... فيَّ الذئاب وجذوتي تتوقد
من قال إن الحبس بيت كرامة ... فمكابر في قوله متجلد
ما الحبس إلا بيت كل مهانة ... ومذلة ومكاره لا تنفد
إن زارني فيه العدو فشامت ... يبدي التوجع تارة ويفند
أو زارني فيه الصديق فموجع ... يذري الدموع بزفرة تتردد
يكفيك أن الحبس بيت لا ترى ... أحداً عليه من الخلائق يحسد
عشنا بخير برهة فكبا بنا ... ريب الزمان وصرفه المتردد
في مطبق فيه النهار مشاكل ... لليل، والظلمات فيه سرمد
تمضي الليالي لا أذوق لرقده ... طعماً، فكيف حياة من لا يرقد
فتقول لي عيني إلى كم أسهرت ... ويقول لي قلبي إلي كم أكمد
وغذاي بعد الصوم ماء مفرد ... كم عيش من يغذوه ماء مفرد
وإذا نهضت إلى الصلاة تهجداً ... جذبت قيودي ركبتي فأسجد
فإلى متى هذا الشقاء مؤكد ... وإلى متى هذا البلاء مجدد
(يتبع)
صلاح الدين المنجد
مجلة الرسالة - العدد 645
بتاريخ: 12 - 11 - 1945
كتب يحيى بن خالد البرمكي إلى الرشيد من الحبس:
(. . . إلى أمير المؤمنين، من عبد أوبقته ذنوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، وزال به الزمان، ونزل به الحدثان، وحلّ به البلاء بعد الرخاء، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهود، وفقد الهجود؛ ساعته شهر، وليلته دهر. قد عاين الموت، وشارف الفوْت: جزعاً يا أمير المؤمنين قدمني الله قبلك، من موجدتك، وأسفاً على ما حُرِمتُه من قربك. لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك، وعارية في يدي منك. والعارية لابد مردودة. فأما ما اقتصصته من ولدي فبذنبه، وعاقبته بجرمه وجريرته على نفسه؛ فإنما كان عبداً من عبيدك لا أخاف عليك الخطأ في أمره. ولا أن تكون تجاوزت به فوق ما كان أهله، ولا كان مع ذلك بقاؤه أحب إلي من موافقتك. فتذكر يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، وحجب عني فقدك، كبر سني، وضعف قوّتي، وارحم شيبي، وهب لي رضاك عني، ولتَمِل إلي بغفران ذنبي. فمن مثلي يا أمير المؤمنين الزلل، ومِن مثلك الإقالة. ولست أعتذر إليك إلا بما تحب الإقرار به حتى ترضى. فإذا رضيت رجوت أن يظهر لك من أمري، وبراءة ساحتي، ما لا يتعاظمك معه ما مننت به من رأفتك بي وعفوك عني، ورحمتك لي. زاد الله عمرك يا أمير المؤمنين، وقدّمني للموت قبلك:
قل للخليفة ذي الصنا ... ئع والعطايا الفاشيه
وابن الخلائف من قري ... ش والملوك الهاديه
ملك الملوك وخير مَنْ ... ساس الأمور الماضيه
إن البرامكة الذين ... رموا لديك بداهيه
عمتهم لك سخطة ... لم تُبقِ منهم باقيه
فكأنهم مما بهم، ... أعجاز نخل خاويه
صفر الوجوه عليهمُ ... خلع المذلّة باديه
متفرقين مشتتين (م) ... بكل أرض قاسيه
بعد الإمارة والوزا ... رة والأمور الساميه
ومنازلٍ كانوا بها ... فوق المنازل عاليه
أضحوا وجلّ مناهُم ... منك الرضا والعافيه
فإذا رضيت فإن أنفس ... هم بحكمك، راضيه
فاليوم قد سلبَ الزما ... ن كرامتي وبهائيه
واليوم قد ألقى الزما ... ن جرانه بفنائية
يا من يود لي الردى ... يكفيك ويحك ما بيه
يكفيك ما أبصرت من ... ذلِّي، وذلّ مكانيه
يكفيك أني مستباح (م) ... معشري ونسائيه
ورزئت مالي كله ... وفدى الخليفة ماليه
إن كان لا يُرضيك إلا (م) ... أن أذوق حِماميه
فلقد رأيتُ الموت (م) ... من قبل الممات علانيه
وفجعتُ أعظم فجعةٍ ... وفنيتُ قبل فنائيه
ولبست أثواب الذلي ... ل ولم تكن بلباسِيَه
وعطبتُ في سخط الإما (م) ... م على رفيع بنائيه
فانظر بعينك هل ترى ... إلا قصوراً خاليه
وذخائراً مقسومة (م) ... قُسِّمْنَ قبل مماتيه
وحرائراً من بين صا ... رخة عليّ وباكيه
ونوادباً يندبْنَني ... تحت الدجى بكنائيه
يا با عليّ البرمكيّ! ... فما أجبت الداعيه
وبكاؤهن وقد سمع ... تُ مقلقَلَ أحشائيه
أخليفة الله الرضا ... لا تشمِتَنْ أعدائيه
أذكر عهودك لي وما ... أعطيْتني بوفائيه
أذكر مقاساتي الأمور وخدمتي وعنائيه
ارحم، جعلتُ لك الفدا ... كِبري وشدة حاليه
ارحم أخاك الفضلَ ... والباقين من أولادِيه
فلقد دعوك، وقد دعو ... تُكَ إن سمعتَ دُعائيه
أخليفة الرحمن إنك ... لو رأيت بناتيَهْ
وبكاء فاطمة الكئيبة ... والمدامع جاريه
ومقالها بتوَجع ... وا شقوتا وشقائيه!
مَنْ لي، ولا مَنْ لي ... وقد قصم الزمان قناتيه
وعدِمتُ صفو معيشتي ... وتغيّرت حالاتيه
من لي وقد غضب الزمان ... على جميع رجاليه
يا عطفة الملك الرضا ... عودي علينا ثانيه
- 2 -
وقال مسجون:
إلى فيما نابنا نؤثر الشكوى ... ففي يده كشف الضرورة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا دخل السجان يوماً لحاجة ... عجبنا، وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا، فجلُّ حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت كان بطيئاً مجيئها ... وإن قبحت لم تنتظر وأتت عجلى
- 3 -
قال علي بن الجهم من قصيدة يذكر محاسن الحبس:
قالوا حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يحمي غيله ... كبراً، وأوباش السباع تردد
والنار في أحجارها مخبوءة ... لا تصطلي إن لم تثرها الأزند
والبدر يدركه السرار فتجلي ... أيامه، وكأنه متجدد،
غيَرُ الليالي بادئات عوَدٌ ... والمال عارية يفاد وينفد
ولكل حال ومعقب ولربما، ... أجلى لك المكروه عما تحمد
لا يوئسنك من تفرج كربة ... خطب أتاك به الزمان الأنكد
كم من عليل قد تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعوّد
صبراً فإن اليوم يتبعه غد ... ويد الخليفة لا تطاولها يد
والحبس ما لم تغشه لدنية ... تزري فنعم المنزل المتورد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه ... لا يستذلك بالحجاب الأعبد
بيت يجدد للكريم كرامة ... ويزار فيه، ولا يزور ويحمد
- 4 -
فعارضه عاصم بن محمد الكاتب لما حبس وقال:
قالوا حبست فقلت خطب أنكد ... أنحى علي به الزمان المرصد
لو كنت حراً كان سربي مطلقاً ... ما كنت أؤخذ عنوة وأقيد
أو كنت كالسيف المهند لم أكن ... وقت الشديدة والكريهة أغمد
أو كنت كالليث الهصور لما رعت ... فيَّ الذئاب وجذوتي تتوقد
من قال إن الحبس بيت كرامة ... فمكابر في قوله متجلد
ما الحبس إلا بيت كل مهانة ... ومذلة ومكاره لا تنفد
إن زارني فيه العدو فشامت ... يبدي التوجع تارة ويفند
أو زارني فيه الصديق فموجع ... يذري الدموع بزفرة تتردد
يكفيك أن الحبس بيت لا ترى ... أحداً عليه من الخلائق يحسد
عشنا بخير برهة فكبا بنا ... ريب الزمان وصرفه المتردد
في مطبق فيه النهار مشاكل ... لليل، والظلمات فيه سرمد
تمضي الليالي لا أذوق لرقده ... طعماً، فكيف حياة من لا يرقد
فتقول لي عيني إلى كم أسهرت ... ويقول لي قلبي إلي كم أكمد
وغذاي بعد الصوم ماء مفرد ... كم عيش من يغذوه ماء مفرد
وإذا نهضت إلى الصلاة تهجداً ... جذبت قيودي ركبتي فأسجد
فإلى متى هذا الشقاء مؤكد ... وإلى متى هذا البلاء مجدد
(يتبع)
صلاح الدين المنجد
مجلة الرسالة - العدد 645
بتاريخ: 12 - 11 - 1945