إبراهيم محمود - الابن المطيع : جوزيف مسعد، في كتابه " اشتهاء العرب "

3- الطريق المنحرف :
في تسويق مسعد لهذا الحشد الهائل من الأمثلة ذات الصلة بموضوعة " اشتهاء العرب " بطابعها الجنساني الامبريالي، والتي تستغرق قرنين من الزمن، ومن ثم حشرها في خانة التأثيم، يبدو أنه مجسّد حرفي لنص الحديث الشهير، وفيه ( وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ). هذه السلفية القادمة من الخارج، من وسط اجتماعي، ثقافي، وأكاديمي " أميركي " عماده نشر " الفوضى " في العالم الآخر" الإسلامي بصورة مركزة " وبلبلة العقول ومن ثم تشويهها وتطويعها بأساليب ذات نسب كولونيالي وما بعد كولونيالي بدمغته الأورو- أميركية، تشكّل من خلال القائم بها، والمروّج لها، وهو في معتقده الديني، وثقافته الأميركية من بين أكثر المفارقات، إن لم تكن أهمها فكرياً، وهو يهز بسوطه على رؤوس أغلب إن لم يكن كل الذين كتبوا في هذا الموضوع، أو تعرضوا له بطريقة معينة، مشيرين إلى سلبية معينة للجنسانية العربية تاريخياً، ومن زاوية نقدية ما.
لا يحتاج قارئه إلى نباهة ليتعرف بنية تفكير من هذا القبيل وفي زمانه ومكانه بالمقابل، ولتتبين له كارثة ما بعد حداثية مضادة/ معكوسة، لتأكيد ولاء قاعدي بصفته " الابن المطيع " لأولي أمر تاريخيين، كان لهم الحل والعقد في مختلف أوجه هذه الأنشطة " الجنسانية " ، وهو بذلك يمنح أكثر من جائزة غير مسبوقة لكل التنظيمات الإسلامية الراديكالية والتكفيرية ضمناً أنّى كان موقعها، ومهما اختلفت أسماؤها، وبراءة ذمة لأصحاب السلطة في " عالمه العربي "!
تتمثل الغرابة الكبرى، كما رأينا سابقاً في محاولة تطويعه حتى المفردة الواحدة لذائقته الذاتية، بغية إظهار مدى انحراف الطريق الذي سلكه أولئك الذين تحدثوا عن أي موضوع جنسي، خارج نطاق أمريات " كل محدثة بدعة " ومن يسلكونه حتى اللحظة، دونما نظر في البعد المركَّب للكلمة الواحدة، للمفهوم الواحد، كما في شأن " الثقافة " وكيف أن الذات المنفعلة بها والفاعلة فيها، تظل في أفضل حالاتها مسكونة بسلطتها الرمزية، وإذ تتمثلها، فهي لا تعنيها إلا في حدود جزئية، طالما أن هناك حيازة للخارج، وإعادة طرحه بما يتناسب ورؤيته الذاتية، فيكون في الحالة هذه مغترباً عن نفسه، ومغرّباً من يتعرض له نقدياً باعتباره ذاتاً مختلفة !
لا يتردد في استعادة معلمه سعيد، ساعياً إلى لعب ذات الدور في تأثيم الاستشراق، من خلال منهج كان ضليعاً في استخدامه إنما بطريقة تبقيه ملعوباً به وليس لاعباً، انطلاقاً منه هو نفسه، طالما أنه يضفي الطابع الامبريالية على الثقافة، وتغدو كل محاولة استثنائية ، لاستبقائه خارج الدائرة " الجهنمية " للاستشراق وطرق تحكمها بالعالم مادياً، إنما فكرياً بصورة أكثر، ومسعد يعيش وضعية استهواء في هذه المنطقة الزلقة والشديدة السخونة في استخدام المفردات ذات الرنين الامبريالي وإسقاطها دلالياً على هذا الحشد المستقدم من لدنه، حيث لا يخفي استماته في تلك البراعة الملموسة والمباشرة في قراءة مكثفة ودالة على عمل " جهادي " قائم هنا.
يقول استناداً إلى سعيد"ه " ( لطالما لعب الجنس دوراُ بارزاً في خيالات المستشرقين وبحوثهم، وقد أوضح سعيد كيف أن المستشرقين وصفوا الشرق باعتباره " مونثاً " نزواته خصبة، ورموزه الأساسية هي المرأة الشهوانية، والحريم، والحاكم المستبد، وإن كان يتميز بالجاذبية في الوقت نفسه. ص 30 ) .
ينطلق مسعد، كما حال معلمه من نظرة البراءة إلى الأشياء، وليتها براءة كلية، إنما حيازية، إلى جانب كونها تجييراً للواقع الأكبر من صورة منظّره أو الناظر إليه. تُرى، هل يمكن النظر إلى التاريخ، خارج نطاق تصارع القوى؟ حتى بالنسبة للأديان " السماوية " ذاتها تتلمس فيها هذا الاحتياز للحقيقة" الإسلام دار السلم، مثلاً "، وهذا يعني تحليل كل ممارسة ضد " الآخر " الذي لم أكثر من مشروع قتل أو تحويله إلى تابع، أو أداة، كما تقول بذلك أمهات كتب التاريخ العربي- الإسلامي، وحتى على مستوى التشريع، أو الفقه جهة التعامل مع غير المسلم؟ وفي أدبيات الجنس، حيث الجسد النسوي لا يعدو أن يكون تحفيزاً لمخيلة " المجاهد " المسلم، إلى يومنا هذا، وتنشيطاً لقواه الحية، ليكون في طاعة ولي أمره، كيف يفوز بـ " الحور العين " !
أن نتحدث عن الاستشراق وجسانياته، يعني ضرورة التحدث عن " الاستعجام " العربي، فالعربي- الإسلام الذي ابتكرته مخيلة المشرّع الإسلامي، ومتفقهه، ومنفذه، حيث الدين عند الله هو دين الإسلام ، كما نصت عليه آية قرآنية، وهذا التنصيص منح المسلم سلطات غير محدودة في التعامل مع " الآخر " غير المسلم، وحتى إن أسلم، إذ إن التصنيف " الاثني " ساري المفعول هنا، من خلال ظاهرة " الموالي " و" طبقات " النساء، وجنسياتهن...الخ.
في نبرة مسعد ثمة الكثير من التهكم والسخرية إزاء الذين ثمّنوا مجيء نابليون " عفواً: غزو نابليون للمنطقة وتداعياتها، ومصر بداية سنة 1798 "، واعتبار ذلك من بوادر التبعية للغرب "ص40". وليكون أي حديث من لدنه، أي كيفية بروز سلسلة من التآمرات الغربية خارجاً والشرقية من خلال المفتونين بالغرب، لهذا ( يتتبع اشتهاء العرب تاريخ بزوغ مفاهيم الثقافة والحضارة في العالم العربي المعاصر... ومن ثم : إبراز كيفية تحوير الشهوات الجنسية عند العرب في العالم العربي، وربط هذا التاريخ بالقيمة الحضارية ..ص 82 )..
طبعاً عشرات الأسماء التي تعرض لها مسعد في مقاربته النقدية غالباً، حيث يجري تثمين الغرب بطريقة ما، ونقد الشرق بطريقة ما " عزيز العظمة، الجابري، طرابيشي، ياسين الحافظ ...الخ "، وكيل المديح لمن انسجم مع توجهاته الإسلاموية ؟ كما في حال " خالد الرويهب " وبحثه " حب الغلمان في الشعر العربي في العصر العثماني المبكر 1500-1800 "، والصادر بالانكليزية سنة 2005 " ص 57 "...الخ.
ويتم تتبع قائمة أسماء مختلفة المشارب في تعرضها المتفاوت لما هو جنسي وفي مختلف مناحي الحياة العربية، أو العربية- الإسلامية، كما في حال " طه حسين، أحمد أمين، عمر فرّوخ، عبدالرحمن صدقي، محمد النويهي، العقاد، وأدونيس ...الخ "، ولأبي نواس الموقع المميَّز جهة التعرض لخاصية الجنسانية في مسلكه وشعره، ولوجود مؤثرات متعددة في هذا التوجه.
يبقى اللافت، وكما هو المنطق، بالمفهوم الدائري للموضوع، هو أن مسعد، رغم مساعيه في هذه الجمهرة من الأسماء لكتاب ومفكرين وأدباء، والتشديد على مثالبهم، لا يبدو عليه أنه سعيد، إن دقّق في منطق خطابه الكلياني، استناداً إلى العقدة المركَّبة لديه، وهي اضطهادية. إن من أهم سمات مضطهَد من هذا القبيل، هو ذلك الوازع الانتقامي والذي لا يروي غليله النفسي، ليس لأنه لا يرتوي فحسب، وإنما لأنه في بنية تفكيره محكوم بسواه كابن مطيع أيضاً، ويعتبر أن كل ما أدّاه من أدوار ليس بكاف، فتكون هناك الاستزادة المرفقة بمرارة اللاتناهي القارة داخله .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...