ملتون - مدخل الفردوس المفقود.. ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

يا ربة الشعر أنشدينا:
كيف كان من الإنسان أول العصيان؟
ما تلكم الشجرة الحرام وما جناها؟
فقطفها الفاني أورَدَ الأرضَ الفناء،
وأضعنا به عَدْناً، وعانينا ما نلاقي من عناء.
وهكذا نظل حتى يبعثنا نبي عظيم، فيسترد لنا دار النعيم،
غردي! يا من أوحيت إلى موسى،
في جنح الذٌّرى من (حوريب) أو (طور سينين)
فألهمت ذيَّاك الراعي، الذي عَلّم القبيل المصطفى
كيف استقام في الأزل العماءُ، فجاءت منه الأرض والسماء.
فإن استطبتِ سماوة (الصهيون)،
حيث غدير (سلوى) تدفق واثباً حيال بيت الله،
فإيِاك ثمت أستعين على نشيدي العصيب
الذي اعْتَزَمَ ألا يلوى في تحوامه
حتى يحلق صاعداً فوق سامق (أونيا)
ينشد غاية لم يحاولها قبلُ نثرٌ ولا قصيد.
أنت على الخصوص يا ذا (الروحُ) إليك أنحو!
يا من يؤثر على جلاميد المعابد طهر القلب والتقوى،
فَأتني العلم إنك أنت العليم.
قد شهدتَ الوجود منذ فاتحة الوجود،
وجَلسْتَ في وداعة الورقاء، باسطاً جناحيك العاتيين،
تأمَّلُ (المهوى) الرحيب، حتى أثقلته فكراً وشعراً.
فاجلُ يا ذا الروح قاتمي، وارفع وطئ دعائمي،
عَليّ بهذا المقال الجليل أبلغ شأواً،
فأكون (للحكمة السرمدية) ترجماناً
ولرحمة الله بالإنسان برهاناً.
ألا حدثينا - فليست تخفى الجنة عنك شيئاً، كلا، ولا مهوى الجحيم السحيق - حدثينا
عن أبوينا الأوًّلين: ماذا دعاهما، إذ هما يرفلان في ذاك النعيم،
وإذ هما عند الله أقرب المقربين، ماذا دعاهما
أن يهجرا (الباري) فيهويا؟ وأن يعصيا مشيئة الله
لمحظور واحد، لولاه لسيطرا على العالمين؟
من ذا أغواهما بديّاً بذاك العقوق الذميم؟
إنه (الأرقم) الرجيم ثارت غيلته
حقداً ووتراً، فمكر بأم البشر
حين ألقاه الغرور من الفردوس طريداً،
وفي أعقابه عصبة الملائكة الثائرين.
فتطاول أن يَفْضُل في السلطان سائر الأخدان
وطمع بعونهم أن يضارع (العلي العظيم)
أن عصاه؛ ثم دعاه الأمل الطامع في العرش والملكوت أن يثير في الجنة حرياً وقودها
الغرور والفجور
فخاب الرجاء؛ إذ طوح به الله ذو الجبروت
فهوى من علياء السماء يتقد لهيباً،
يروع القلب منه ما احترق وما انحطم؛
وتردى في هاوية ما لها من قرار، بها يأوي
مغلولا بصم السلاسل يصطلي النار جزاء
بما حدثته النفس أن يناجز (القوي القدير)
وفي قرارٍ مهواه تسع فضاوات مما يذرع به الأناسي خطو الليل والنهار
تردى الأثيم هزيلاً بصحبة شيعته
يتقلب في حمأة الجحيم، لعيناً خالداً في لعنته؛
ثم قضى نحسه أن ينال من غضب الله المزيد
فأخذت تضنيه لوعة النعيم المفقود، وتشقيه لذعة العذاب الموجود، وطفق يجيل البصر
الذي يقدح الشرر
والذي شهد ما شهد من أليم الكرب والكدر
وفي نظراته الغرور العنيد والمقت الشديد
فسرعان ما رأى - ما وسع الملائكة النظر -
رأى ما حوله موحشاً قفراً يبابا
ورآه في جب مخيف التهبت جوانبه التهاباً
كأنه أتون سحيق مستعر، ناره لا تبعث النور،
فإن هو إلا ظلام منظور كأنما أضيء ليضيء
مشاهد الغم ومطارح الهم وأشباح الأسى
حيث الدعة والسلام لا يجدان مقراً
وحث لا يشرق الأمل الذي يشرق على العالمين أجمعين،
فهو ما ينفك يصلى عذاباً مقيما وطوفاناً من حميم
تغدو لظاه شواظ أبدا تذكو ولا تخبو
فذلك مستقر أولئك العصاة كما أراده عدل الإله
حيث أعِدَّ لهم سجن محلولك داج
مُقامهم فيه ينأى عن الله وعن نور السماء
ثلاثة أمثال ما ينأى قلب الأرض عن قطبها الأقصى
فيا بعد مأواهم عن الذي كان منه مهواهم!
وهنالك سرعان ما شهد الأثيم رفاق هُوِيه
يحتويهم الطوفان وتغمرهم الأعاصير ونار السعير؛ ورأى إلى جواره يتلوى من يتلوه سلطاناً وعصياناً
ومن عرفته أرض القدس بعدئذ باسم (إبليس)
فاتجه إليه كبير أعداء الله:
من سُمَي في السماء منذ ذلك الحين (شيطانا)
وألقى عبارة جريئة دوت في ذلك السكون الرهيب، فقال:
(أفأنت هو؟ - إذن يا ويلتاه! لشد ما زللت وما تبدلت! -
ألا إن كنتَ مَنْ في دار النور والنعيم
كان متشحتً بهالة من سنيِّ الضياء
أخمدت بسناها الألوف من مشرق الوجوه -
لئن كنتَ من وشجني به يوما
تبادل العهد، واجتماع الرأي والكلمة، واتحاد الأمل،
وآصرتنا غمرات هذا المطلب الجليل،
فهاهي ذي أواصر الشقاء توشج اليوم بيننا، فتوُحدُ هلكنا.
أفرأيت إلى أي هاوية أوينا، ومن أي الذرى هوينا؟
ألا إن الله في غضيته، ساق الدليل على رجحان قوته؛
فَمنْ قبلئذ كان يدري كم تبطش تانك الذراعان العَتِيَتان؟
ولكنيِّ على ذاك لست بنادم، وإن صَبَّ علينا (الظافر) القادر
ما استطاع في سورته من صنوف العذاب
فعزمي الصمم لن يحول، وإن حال مني رونق الإهاب؛
ولن أبدل ما أثاره حقي الهضيم في نفسي من أبي الكبرياء
التي سموت بها فنازلت (أقوى الأقوياء)
واستَعْدَيْتُ معي في النزال عرمرما
من (الأرواح) شاكي السلاح
الذين استبسلوا فكانوا على حكم الله مارقين،
وآثروني من دونه، ثم قارعوه جبروتا بجبروت حتى زلزلوا قوائم عرشه
في حرب كانت في حومة السماء سجالا
وماذا أنْ فاتنا النصر في حومة الوغى؟
فأنا بذلك لم نفقد كل شيء -
وهل يكون هزيما، من له هذا العزم الحديد
والثأر السديد والمقت الذي لا يزول؟
ومن له هذا الجنان الذي لا يلين ولا يحول؟
ذاك نصر لن يسلبنه الله بسورته أو صولته
فما كان أخسها ضعة،
لو أني جثوت له مسترحما وركعت ضارعا،
أو أني خشعت لصولته،
وهو الذي ارتاع لهذي الذراع منذ هنيهة
حتى ارتاب في دولته!
أما وقد شاء القضاء لسطوة الآلهة ألا تدول،
ولهذه الجحيم ألا تزول،
وبعد أن عجمتنا خطوب هذا الحدث الجسيم،
فازددنا به رشادا وما فُلَّ لنا سلاح
وما يزال يحدونا زاهر الرجاء،
فلنُثِرْها على عدونا الألَدَ - بالقتل أو الختل - حربا عوانا،
إنه أصاب النصر فانتشى جذلا
أَنْ رآه طليق الحكم، فطغى في السماء)
هكذا قال (الملكُ) الكافر، برغم ما يشقيه من العذاب
مختالا يصول، وإن يكن حطيم النفس باليأس العميق،
فلم يلبث رفيقه الجريء أن أجاب: -
(مولاي! وأنت زعيم العديد من العتاة متوجين قدتَ إلى الوغى تحت لوائك (السيروفيم) مدججين
وتهددت رب السماء الدائم بالخطر
فأقمت الدليل على رفيع جلاله
سواء أكان بالحق أم بالحظ أم بالقدر.
يا ويح نفسي أن ترى جليا هذا الخطب الرهيب
الذي طوَّحَنا فأشجانا وهزمنا فأردانا
وأضاع منا الجنة، وهوينا به إلى هذا الحضيض
يهدنا، ونحن المعشر القوي، هلاك مبيد
ما بادت الأرباب وكائنات السماء:
فلا يزال الروح والعقل منا عن الهلك في حرز حريز
وسرعان ما نسترد العنفوان المفقود، وأما المجد فلن يعود
وسالف النعيم قد استأصله الشقاء الموجود.
ولكن لم لا يكون الله هو لنا (قاهر)
(فقد آمنت أنه على كل شيء قادر،
إذ ما كان يستطيع أن يدك قوانا سوى مطلق قدرته)
لم لا يكون الله قد أبقى على نفوسنا وقوانا،
فلم ينتقصها ليشتد أذاناً ونضطلع بمر العذاب
لكي يُرضي فينا غيظه الناقم
أو ليأمرنا بما شاء من فادح الأعمال، فنستطيع الأداء؟
فقد أمسينا له بحق النصر عبيدا أرقاء،
إن شاء اصطلينا النار في قلب الجحيم
وإن شاء سَخّرنا في اللج البهيم
فإن أحسسنا بالقوة موفورة، فأين في ذلك الغَنَاء؟
وهل أجدى علينا خلود البقاء إلا دوام الشقاء؟)



مجلة الرسالة - العدد 201
بتاريخ: 10 - 05 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...