- مالي أراك يا بني مزوراً عن الدرس نافراً؟
- أخشى، يا أبتاه، أن يثقل على سمعي فيثقل ذلك على نفسك، فما لشبابي الغض وهو في شرخه وعنفوانه ولهذه النظرة البائسة العابسة، وهي نظرة المدبرين العاجزين
- انظر يا بني إلى هذا الفضاء الطليق، وأرسل بصرك في أرجاء الكون الفسيح. . . أو ينقص من عنفوان شبابك يا بني أن تكون هذا السيل الدافق وذلك الطود السامق؟ هل يحد من شبابك يا بني أن تكون هذا البركان الفوار وذلك الخضم العنيف الجبار؟ هل يضيرك يا بني أن تكون هذه الزهرة في رقتها وجمالها وهذا الليث الكاسر في جده وصرامته؟
- ومالي ولهؤلاء يا أبتاه، وأنا إنسان، وهي من الجماد والنبات والحيوان؟
- أنت يا بني كل هؤلاء؛ وهؤلاء كلها أنت. . . أنت الكون العظيم بكل ما فبه من قوة وفتوة وجلال وجمال. . .
ولكني يا أبت أراني فرداً واحداً محدوداً، فها هي ذي حدودي أراها بعيني وأحسها بأصابعي
- ذلك يا بني عند النظر الضيق السقيم، أو إن شئت فقل هذه لغة العيون والأيدي، ثم هي كذلك لغة العقل وحده، وهذه كلها أدوات لم يخلقها الله إلا لتفهم المادة المحدودة بالموازين والمكاييل. . .
- فأن لم أركن يا أبت إلى حواسي وعقلي، فإلى أي شيء أركن في فهم الوجود؟
- إلى فطرة عليا يا بني، هي فوق العقل والحواس. . . اركن يا بني إلى البصيرة لا البصر، فالبصر خادع خادع خادع، فهو تارة لا يربك الموجود، وهو طوراً يربك غير الموجود. . .
أن الوجود يا ولدي كائن واحد ضخم. وهذه الأشياء منه جذوع وفروع وأطراف، وهذا الوجود الواحد هو أنت، وأنت هو هذا الوجود. . .
- كيف لي أن أفهم هذا القول يا أبت؟
- إيتني بثمرة من تلك الشجرة، فسأحدثك بلغة تفهمه - هاهي ذي
- ماذا ترى في جوفها؟
- أرى في جوفها بذوراً صغيرة
- اقطع بذرة منها إلى نصفين
- هاأنذا، يا أبت، قد فعلت
- ماذا ترى فيها؟
- لا أرى شيئاً
- أن الجوهر الدقيق الذي عجزت عيناك أن تراه قد نبتت منه هذه الشجرة الباسقة. فصدقني إن زعمت لك أن من مثل هذا الجوهر الدقيق جاء الوجود، وهذا الجوهر الذي لا تراه هو الحق الموجود، هو الروح الشامل لأطراف الوجود، هو أنت!
-. . . . . . . . .
- تعال يا بني فضع هذه القطعة من الملح في الماء، ثم أذبه
- لقد فعلت
- إيت لي بالملح الذي وضعته في الماء
- لست أراه يا أبت. . .
- ولكن ذلك الماء كيف مذاقه
- إنه ملح!
- دع الماء جانباً واقترب مني. . . إن الملح الذي لا تراه موجود؛ وهكذا نعجز أن نرى الموجود الحق في دخيلة أجسامنا، ولكنه موجود، ومن وجود هذا الجوهر الدقيق جاء الوجود. إنه الحق، إنه الروح، إنه أنت
فهذا الرباط الخفي الذي يصلنا بأجزاء الوجود فيجعل منا كائناً واحداً، قد لا تبصره العيون، ولا تحسه الأيدي، ولكنه مع ذلك كوجود. وذلك يا بني أول ما أريد أن أعلمك إياه: الوجود كله حقيقة واحدة لا فرق بين إنسان عارف وكون معروف؛ فإن زعمت أنك شيء والوجود شيء آخر، فأنت في نغمة العالم (نشاز) بغيض. . . والتطبيق العملي على هذه الخطوة الأولى هو أن تحطم من ذهنك كل ما يميز إنساناً من إنسان، حطم هذه الفواصل التي تباعد بين الغني والفقير، حطم هذه الفواصل التي تفرق بين القرشي والحبشي، حطم هذه الفواصل التي تفاضل بين سامي وآري. . . فالإنسانية كلها عند الصوفي رجل واحد
أستغفر الله، بل حطم هذه الحواجز بين الإنسان وأبناء عمومته وخؤولته من بني الحيوان، فليس عبثاً أن حرم الله قتل الحيوان آناً من الزمان، فالحياة كلها عند الصوفي آية واحدة. . .
أستغفر الله، بل حطم هذه الحدود التي تجعل من النبات كائناً ومن الحيوان كائناً؛ ثم ماذا؟ ثم أمح يا بني ما أقامه العقل المتكلف بين الحي والجامد من سدود. . . فأن الوجود بأسره عند الصوفي كائن واحد
إن أس البلاء يا بني هي هذه الحواس التي تجزيء لنا الوجود قطعاً قطعاً فتحسب الوجود أشتاتاً وما هو بأشتات. . .
- وكيف السبيل إلى النجاة يا أبت؟
- عليك بثلاثة أمور: أولها الصلاة وثانيها الصلاة وثالثها الصلاة. . . عليك بالصلاة يا بني، فهي فترات أراد لنا الله فيها أن نخلص من جزئيات الوجود، لنتصل بالواحد القيوم خمس مرات كل يوم. ألست ترى كيف يحاول الماثل بين يدي ربه أن يغلق حواسه فلا يبصر مما حوله شيئاً ولا يسمع شيئاً؟ ذلك لئلا تعطل حواسه الفكر عن الوصل المنشود. . . ألا ترى إلى المساجد كيف تزداد روعة على روعة، ورهبة على رهبة، حين يخفت ضوءها ويهمس صوتها، وحين لا تكون فيها الحركة إلا في بطء وتثاقل. . .؟ ولم ذاك؟ ليساعد الفكر على التركز في الغرض المقصود، والحد من عوائق الحواس ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً: فلا نور يبهر البصر، ولا صوت يملأ السمع، ولا حركة تثير الأعصاب. . . عندئذ يتحقق ما أجراه أفلاطون في محاورة فيدون على لسان سقراط:
(. . . يكون الفكر على أتمه حين ينحصر العقل في حدود نفسه، فلا يعكر صفوه أصوات في السمع ولا رؤية في البصر، ثم لا يعكره شعور بألم وشعور بلذة. . . يكون الفكر على أتمه حين ينحصر روابطه بالجسم في أضيق دائرة ممكنة، فلا إحساس في الجسم ولا وعي في الشعور. . . عندئذ يطمح الفكر في أن يصل إلى الكائن الأسمى)
وتلك هي الفكرة الثانية التي أريد أن أعلمك إياها يا بني هذا المساء: فارتفع عن صغائر الأشياء ما استطعت إلى الترفع عنها سبيلاً. . . إن هذه الأجزاء أشباح زوائل، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. . .
- يا لهول ما تريد من يا أبتاه! إن لحمة الحياة وسداها هي هذه الأجزاء التي تدركها الحواس، فإن حكمت لي على الحواس بالطمس، وعلى هذه الأجزاء بالبطلان، ففيم عسى أن أجاهد في حياتي، ولطالما علمتني أن الحياة جهاد!؟
- لقد أخطأت يا ولدي، فإنما أردت لك أن تهمل أحداث الحياة الصغرى لتتعلق نفسك بمعانيها الكبرى، وفي هذا فليجاهد المجاهدون. . . إنما أردت لك أن تهمل القشور لتعب من اللباب. . . فاهجر ما تغريك به الحواس، ليتسنى لك أن تقبل على الحياة إقبال الجريء الباسل الذي لم تعد تهزمه المخاوف الصغرى والأخطار التوافه!
إن النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته. . . إنه حين قال ذلك كان المتصوف الأكبر الذي أهمل صغائر الحياة ولذائذ الحس لينصرف إلى أداء الرسالة الكبرى مهما لقى في سبيل أدائها من عناء
وتلك هي الفكرة الثالثة التي أردت أن أهديك بها اليوم: اترك جانباً من الحياة لتمعن في جانب. انفض عن كاهلك غبار الدنيا من ناحية لتقبل عليها تقياً نقياً من ناحية أخرى. . .
إن التصوف يريدك أن تقف من دنياك موقفا وسطاً بين الإهمال والإقبال، فإن أنت أهملت كأنك لست منها، فلست بالمتصوف الحق، وإن أنت أقبلت على الدنيا كأنها عندك كل شيء فلست بالمتصوف الحق. . . إن شغلت منصباً من مناصب الدولة الملحوظة، فأهملته ولم تأبه لشيء مما يتصل به، فلست بمنصبك جديراً، وإن شغلت المنصب بحيث تندك قوائم نفسك لو أفلت منك، فلست كذلك بالمنصب جديراً. فالرجل الحق هو الذي يبذل وسعه مجاهداً يريد النجاح ولا يخور للفشل. . . إن التصوف الصحيح ليريدك على أن تنغمس في العالم بقدر وتنسحب منه بقدر، بهذا تكون سيد نفسك، ولا تصبح ألعوبة لاعب في أيدي القدر. . .
ولتعلم يا بني أخيراً أن العالم الحق لا يكون كذلك إلا إن كان متصوفاً، فهل رأيت عالماً لا يفني نفسه إفناء في سبيل علمه؟ هل رأيت عالماً لا يضحي بشواغل الحياة الصغرى ليصل في بحثه إلى الحقيقة الكبرى؟ هل رأيت عالماً صحيحا يميل مع هواه فيثبت حقيقة تعجبه ويحذف حقيقة تؤذيه؟ ثم ماذا؟ ثم هل رأيت عالما لا يحب موضوعه إلى درجة الفتنة والجنون؟ وما موضوعه! هو الوجود أو ناحية من نواحيه!
- لو كان التصوف يا أبت هو أن أؤاخي بين أجزاء الوجود فأنا أول المتصوفين، ولو كان التصوف يا أبتاه يدعو إلى إهمال الأجزاء الحسية الصغرى لينعقد الفكر على مهمة كبرى، فأنا أول المتصوفين، ولو كان التصوف معناه الجهاد المخلص في سبيل الحق فأنا أول المتصوفين
زكي نجيب محمود
مجلة الرسالة - العدد 400
بتاريخ: 03 - 03 - 1941
- أخشى، يا أبتاه، أن يثقل على سمعي فيثقل ذلك على نفسك، فما لشبابي الغض وهو في شرخه وعنفوانه ولهذه النظرة البائسة العابسة، وهي نظرة المدبرين العاجزين
- انظر يا بني إلى هذا الفضاء الطليق، وأرسل بصرك في أرجاء الكون الفسيح. . . أو ينقص من عنفوان شبابك يا بني أن تكون هذا السيل الدافق وذلك الطود السامق؟ هل يحد من شبابك يا بني أن تكون هذا البركان الفوار وذلك الخضم العنيف الجبار؟ هل يضيرك يا بني أن تكون هذه الزهرة في رقتها وجمالها وهذا الليث الكاسر في جده وصرامته؟
- ومالي ولهؤلاء يا أبتاه، وأنا إنسان، وهي من الجماد والنبات والحيوان؟
- أنت يا بني كل هؤلاء؛ وهؤلاء كلها أنت. . . أنت الكون العظيم بكل ما فبه من قوة وفتوة وجلال وجمال. . .
ولكني يا أبت أراني فرداً واحداً محدوداً، فها هي ذي حدودي أراها بعيني وأحسها بأصابعي
- ذلك يا بني عند النظر الضيق السقيم، أو إن شئت فقل هذه لغة العيون والأيدي، ثم هي كذلك لغة العقل وحده، وهذه كلها أدوات لم يخلقها الله إلا لتفهم المادة المحدودة بالموازين والمكاييل. . .
- فأن لم أركن يا أبت إلى حواسي وعقلي، فإلى أي شيء أركن في فهم الوجود؟
- إلى فطرة عليا يا بني، هي فوق العقل والحواس. . . اركن يا بني إلى البصيرة لا البصر، فالبصر خادع خادع خادع، فهو تارة لا يربك الموجود، وهو طوراً يربك غير الموجود. . .
أن الوجود يا ولدي كائن واحد ضخم. وهذه الأشياء منه جذوع وفروع وأطراف، وهذا الوجود الواحد هو أنت، وأنت هو هذا الوجود. . .
- كيف لي أن أفهم هذا القول يا أبت؟
- إيتني بثمرة من تلك الشجرة، فسأحدثك بلغة تفهمه - هاهي ذي
- ماذا ترى في جوفها؟
- أرى في جوفها بذوراً صغيرة
- اقطع بذرة منها إلى نصفين
- هاأنذا، يا أبت، قد فعلت
- ماذا ترى فيها؟
- لا أرى شيئاً
- أن الجوهر الدقيق الذي عجزت عيناك أن تراه قد نبتت منه هذه الشجرة الباسقة. فصدقني إن زعمت لك أن من مثل هذا الجوهر الدقيق جاء الوجود، وهذا الجوهر الذي لا تراه هو الحق الموجود، هو الروح الشامل لأطراف الوجود، هو أنت!
-. . . . . . . . .
- تعال يا بني فضع هذه القطعة من الملح في الماء، ثم أذبه
- لقد فعلت
- إيت لي بالملح الذي وضعته في الماء
- لست أراه يا أبت. . .
- ولكن ذلك الماء كيف مذاقه
- إنه ملح!
- دع الماء جانباً واقترب مني. . . إن الملح الذي لا تراه موجود؛ وهكذا نعجز أن نرى الموجود الحق في دخيلة أجسامنا، ولكنه موجود، ومن وجود هذا الجوهر الدقيق جاء الوجود. إنه الحق، إنه الروح، إنه أنت
فهذا الرباط الخفي الذي يصلنا بأجزاء الوجود فيجعل منا كائناً واحداً، قد لا تبصره العيون، ولا تحسه الأيدي، ولكنه مع ذلك كوجود. وذلك يا بني أول ما أريد أن أعلمك إياه: الوجود كله حقيقة واحدة لا فرق بين إنسان عارف وكون معروف؛ فإن زعمت أنك شيء والوجود شيء آخر، فأنت في نغمة العالم (نشاز) بغيض. . . والتطبيق العملي على هذه الخطوة الأولى هو أن تحطم من ذهنك كل ما يميز إنساناً من إنسان، حطم هذه الفواصل التي تباعد بين الغني والفقير، حطم هذه الفواصل التي تفرق بين القرشي والحبشي، حطم هذه الفواصل التي تفاضل بين سامي وآري. . . فالإنسانية كلها عند الصوفي رجل واحد
أستغفر الله، بل حطم هذه الحواجز بين الإنسان وأبناء عمومته وخؤولته من بني الحيوان، فليس عبثاً أن حرم الله قتل الحيوان آناً من الزمان، فالحياة كلها عند الصوفي آية واحدة. . .
أستغفر الله، بل حطم هذه الحدود التي تجعل من النبات كائناً ومن الحيوان كائناً؛ ثم ماذا؟ ثم أمح يا بني ما أقامه العقل المتكلف بين الحي والجامد من سدود. . . فأن الوجود بأسره عند الصوفي كائن واحد
إن أس البلاء يا بني هي هذه الحواس التي تجزيء لنا الوجود قطعاً قطعاً فتحسب الوجود أشتاتاً وما هو بأشتات. . .
- وكيف السبيل إلى النجاة يا أبت؟
- عليك بثلاثة أمور: أولها الصلاة وثانيها الصلاة وثالثها الصلاة. . . عليك بالصلاة يا بني، فهي فترات أراد لنا الله فيها أن نخلص من جزئيات الوجود، لنتصل بالواحد القيوم خمس مرات كل يوم. ألست ترى كيف يحاول الماثل بين يدي ربه أن يغلق حواسه فلا يبصر مما حوله شيئاً ولا يسمع شيئاً؟ ذلك لئلا تعطل حواسه الفكر عن الوصل المنشود. . . ألا ترى إلى المساجد كيف تزداد روعة على روعة، ورهبة على رهبة، حين يخفت ضوءها ويهمس صوتها، وحين لا تكون فيها الحركة إلا في بطء وتثاقل. . .؟ ولم ذاك؟ ليساعد الفكر على التركز في الغرض المقصود، والحد من عوائق الحواس ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً: فلا نور يبهر البصر، ولا صوت يملأ السمع، ولا حركة تثير الأعصاب. . . عندئذ يتحقق ما أجراه أفلاطون في محاورة فيدون على لسان سقراط:
(. . . يكون الفكر على أتمه حين ينحصر العقل في حدود نفسه، فلا يعكر صفوه أصوات في السمع ولا رؤية في البصر، ثم لا يعكره شعور بألم وشعور بلذة. . . يكون الفكر على أتمه حين ينحصر روابطه بالجسم في أضيق دائرة ممكنة، فلا إحساس في الجسم ولا وعي في الشعور. . . عندئذ يطمح الفكر في أن يصل إلى الكائن الأسمى)
وتلك هي الفكرة الثانية التي أريد أن أعلمك إياها يا بني هذا المساء: فارتفع عن صغائر الأشياء ما استطعت إلى الترفع عنها سبيلاً. . . إن هذه الأجزاء أشباح زوائل، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. . .
- يا لهول ما تريد من يا أبتاه! إن لحمة الحياة وسداها هي هذه الأجزاء التي تدركها الحواس، فإن حكمت لي على الحواس بالطمس، وعلى هذه الأجزاء بالبطلان، ففيم عسى أن أجاهد في حياتي، ولطالما علمتني أن الحياة جهاد!؟
- لقد أخطأت يا ولدي، فإنما أردت لك أن تهمل أحداث الحياة الصغرى لتتعلق نفسك بمعانيها الكبرى، وفي هذا فليجاهد المجاهدون. . . إنما أردت لك أن تهمل القشور لتعب من اللباب. . . فاهجر ما تغريك به الحواس، ليتسنى لك أن تقبل على الحياة إقبال الجريء الباسل الذي لم تعد تهزمه المخاوف الصغرى والأخطار التوافه!
إن النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته. . . إنه حين قال ذلك كان المتصوف الأكبر الذي أهمل صغائر الحياة ولذائذ الحس لينصرف إلى أداء الرسالة الكبرى مهما لقى في سبيل أدائها من عناء
وتلك هي الفكرة الثالثة التي أردت أن أهديك بها اليوم: اترك جانباً من الحياة لتمعن في جانب. انفض عن كاهلك غبار الدنيا من ناحية لتقبل عليها تقياً نقياً من ناحية أخرى. . .
إن التصوف يريدك أن تقف من دنياك موقفا وسطاً بين الإهمال والإقبال، فإن أنت أهملت كأنك لست منها، فلست بالمتصوف الحق، وإن أنت أقبلت على الدنيا كأنها عندك كل شيء فلست بالمتصوف الحق. . . إن شغلت منصباً من مناصب الدولة الملحوظة، فأهملته ولم تأبه لشيء مما يتصل به، فلست بمنصبك جديراً، وإن شغلت المنصب بحيث تندك قوائم نفسك لو أفلت منك، فلست كذلك بالمنصب جديراً. فالرجل الحق هو الذي يبذل وسعه مجاهداً يريد النجاح ولا يخور للفشل. . . إن التصوف الصحيح ليريدك على أن تنغمس في العالم بقدر وتنسحب منه بقدر، بهذا تكون سيد نفسك، ولا تصبح ألعوبة لاعب في أيدي القدر. . .
ولتعلم يا بني أخيراً أن العالم الحق لا يكون كذلك إلا إن كان متصوفاً، فهل رأيت عالماً لا يفني نفسه إفناء في سبيل علمه؟ هل رأيت عالماً لا يضحي بشواغل الحياة الصغرى ليصل في بحثه إلى الحقيقة الكبرى؟ هل رأيت عالماً صحيحا يميل مع هواه فيثبت حقيقة تعجبه ويحذف حقيقة تؤذيه؟ ثم ماذا؟ ثم هل رأيت عالما لا يحب موضوعه إلى درجة الفتنة والجنون؟ وما موضوعه! هو الوجود أو ناحية من نواحيه!
- لو كان التصوف يا أبت هو أن أؤاخي بين أجزاء الوجود فأنا أول المتصوفين، ولو كان التصوف يا أبتاه يدعو إلى إهمال الأجزاء الحسية الصغرى لينعقد الفكر على مهمة كبرى، فأنا أول المتصوفين، ولو كان التصوف معناه الجهاد المخلص في سبيل الحق فأنا أول المتصوفين
زكي نجيب محمود
مجلة الرسالة - العدد 400
بتاريخ: 03 - 03 - 1941