لي صديق من أفاضل العلماء يحب أن يجادلني على الدوام، فنلعب بالمعاني والكلام؛ ومن أساليب جداله قوله (أين المنطق)؟
ومررت منذ أيام بدار الرسالة فأعطاني الأستاذ الزيات كتاباً في المنطق صدر أخيراً لأكتب عنه. فرحبت بالفكرة، وقلت في بالي سأستفيد من هذا الكتاب الحديث فهو آخر ما صدر في هذه الأعوام، ومؤلفه من العلماء المعروفين، وأستطيع بعد ذلك أن أقنع صديقي الفاضل بأسلوب جديد في المنطق، وأعرِّفه ما هو، وأدفعه إلى الاقتناع بالحجة والبرهان:
مؤلف الكتاب الدكتور (جميل صليبا) عضو المجمع العلمي العربي، وعنوانه: (دروس الفلسفة - الجزء الثاني - المنطق) طبع بمطبعة الترقي بدمشق عام 1944. ويقع في 440 صفحة من القطع الكبير. أما الجزء الأول من دروس الفلسفة فهو علم النفس طبع عام 1940.
وللمؤلف كتب أخرى عن ابن سينا، وكتاب من أفلاطون إلى ابن سينا، وكتب فلسفية نشرها وعلق عليها، مثل: المنقذ من الضلال للغزالي وابن الطفيل.
ولكني لم أكد أشرع في قراءة كتاب النطق حتى تبين لي أني كنت مسرفاً في الأمل والتفاؤل، لأنني لم أعثر على جديد معروف، وعلى العكس صادفتني أخطاء كثيرة كان ينبغي أن ينجو منها كتاب في المنطق، المفروض فيه أنه يعلمنا كيف نأمن الزلل ونتبع سبيل الصواب.
ونعرض لأول. مسألة قررها المؤلف وهي تعريف المنطق. قال: (فيمكننا أن نعرف المنطق بقولنا: هو علم صور العلوم، أو علم العلوم، أو العلم الذي يبحث في صحيح الفكر أو فاسده، أو كما قال فلاسفة البور رويال: فن التفكير).
وليس في هذه التعاريف المختلفة تعريف واحد صحيح. التعريف الأول هو علم صور العلوم، ليس صحيحاً لأن المنطق منه الصوري والمادي، والمنطق الصوري لا يتصل بالعلوم بل بالفكر نفسه. وأكبر الظن أن المؤلف أخطأ في ترجمة التعريف المتفق عليه بين العلماء الآن، وهو أن المنطق علم صور التفكير قال ليارد في نفس الصفحة (إن موضوع المنطق تقرير قوانين التفكير في ذاتها بصرف النظر عن الموضوعات التي تنطبق عليها، ثم بيان الطرق المختلفة لتطبيق هذه القوانين، وهاهو الموضوع المزدوج للمنطق).
ويقول الأستاذ جميل صليبا عند الكلام عن موضوع المنطق إنه: (البحث عن العمليات الفكرية والشرائط النظرية التي يتوقف عليها التفكير الصحيح). والبحث عن العمليات الفكرية من خصائص علم النفس لا علم المنطق الذي يبحث عن قوانين الفكر الصورية، لا عن عملية التفكير كيف تقع في الذهن. ويخيل إلينا أن هذا اللبس ناشئ عن ترجمة المصطلحات عن اللغة الأجنبية، وستعرض لهذا الموضوع أي الاصطلاحات التي وردت في هذا الكتاب في مقال آخر. والعمليات الفكرية هي أما قوانين الفكر فهي
والتعريف الثاني علم العلوم، لا يفيد شيئاً، فهو كقولك الأسد ملك الحيوان. ولماذا يكون المنطق علم العلوم؟ لماذا لا تكون الرياضة مثلاً؟
والتعريف الثالث (العلم الذي يبحث في صحيح الفكر أو فاسده). ولعل صوابها وفاسده بدلاً من أو فاسده، إذ أن المنطق يبحث في الصحيح والفاسد على السواء لبيان وجه الصواب منهما.
والبحث في الصحيح والفاسد في الفكر ثمرة من ثمار المنطق تأتي بعد تطبيقه، أو هي غاية من غاياته، ولا تدخل في تعريفه أو ماهيته.
ولعل المؤلف قد تأثر بالتعاريف التي أوردها العرب في كتبهم ولم يعن بمناقشتها. لهذا نذكر بعض تعريفات العرب للمنطق ثم نذكر ملاحظاتنا عنها.
قال صاحب البصائر النصيرية (فإذا انقسمت الاعتقادات الحاصلة للأكثر في مبدأ الأمر إلى حق وباطل، وتصرفاتهم فيها إلى صحيح وفاسد، دعت الحاجة إلى إعداد قانون صناعي عاصم الذهن عن الزلل، مميز الصواب الرأي عن الخطأ في العقائد، بحيث تتوافق العقول السليمة على صحته. وهذا هو المنطق).
وجاء في لباب الإشارات لأبن سينا شرح الرازي (الفكر ترتيب أمور معلومة ليتأدي منها إلى أن يصير المجهول معلوماً، وذلك الترتيب قد يكون صواباً وقد لا يكون، والتمييز بينهما ليس بيديهي، فلابد من قانون يفيد ذلك التمييز، وهو المنطق).
ويعرف الفارابي المنطق في كتابه إحصاء العلوم: (فصناعة المنطق تعطي جملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل، وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المنقولات، والقوانين التي تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل والغلط في المعقولات).
ونلاحظ على التعاريف أنها تجعل المنطق ميزاناً للتمييز بين الصحيح والفاسد من الفكر وتجنب الزلل.
ونلاحظ ثانياً أنها تجعل المنطق آلة لغيره من العلوم.
وكلا الاتجاهين لا يجعل المنطق علماً بل فناً.
قال صاحب الرسالة الشمسية (المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) وعلق القطب الرازي على هذا التعريف بقوله: (والآلية للمنطق ليست له في نفسه، بل بالقياس إلى غيره من العلوم الحمية، ولأنه تعريف بالغاية. . .)
والمناطقة في أوربا في عصر النهضة وما بعده أخذوا بوجهة نظر العرب وجعلوا المنطق فناً لا علماً. والكتاب الصادر عن بور رويال عنوانه (المنطق أو فن التفكير) وهذا واضح الدلالة في التصريح بأن المنطق فن وليس علماً.
ولكن المناطقة المحدثين نظروا إلى قوانين الفكر في ذاتها، دون نظر إلى فائدتها في كشف العلوم، أو قيمتها في التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ، ولهذا كان المنطق علماً، وألحقوه بالعلوم، وعرفوه بأنه العلم الذي يبحث في قوانين الفكر أو صور التفكير.
وهذا يبين فساد التعريف الرابع الذي أورده المؤلف وهو أن المنطق فن التفكير.
دكتور
أحمد فؤاد الأهواني
مجلة الرسالة - العدد 607
بتاريخ: 19 - 02 - 1945
ومررت منذ أيام بدار الرسالة فأعطاني الأستاذ الزيات كتاباً في المنطق صدر أخيراً لأكتب عنه. فرحبت بالفكرة، وقلت في بالي سأستفيد من هذا الكتاب الحديث فهو آخر ما صدر في هذه الأعوام، ومؤلفه من العلماء المعروفين، وأستطيع بعد ذلك أن أقنع صديقي الفاضل بأسلوب جديد في المنطق، وأعرِّفه ما هو، وأدفعه إلى الاقتناع بالحجة والبرهان:
مؤلف الكتاب الدكتور (جميل صليبا) عضو المجمع العلمي العربي، وعنوانه: (دروس الفلسفة - الجزء الثاني - المنطق) طبع بمطبعة الترقي بدمشق عام 1944. ويقع في 440 صفحة من القطع الكبير. أما الجزء الأول من دروس الفلسفة فهو علم النفس طبع عام 1940.
وللمؤلف كتب أخرى عن ابن سينا، وكتاب من أفلاطون إلى ابن سينا، وكتب فلسفية نشرها وعلق عليها، مثل: المنقذ من الضلال للغزالي وابن الطفيل.
ولكني لم أكد أشرع في قراءة كتاب النطق حتى تبين لي أني كنت مسرفاً في الأمل والتفاؤل، لأنني لم أعثر على جديد معروف، وعلى العكس صادفتني أخطاء كثيرة كان ينبغي أن ينجو منها كتاب في المنطق، المفروض فيه أنه يعلمنا كيف نأمن الزلل ونتبع سبيل الصواب.
ونعرض لأول. مسألة قررها المؤلف وهي تعريف المنطق. قال: (فيمكننا أن نعرف المنطق بقولنا: هو علم صور العلوم، أو علم العلوم، أو العلم الذي يبحث في صحيح الفكر أو فاسده، أو كما قال فلاسفة البور رويال: فن التفكير).
وليس في هذه التعاريف المختلفة تعريف واحد صحيح. التعريف الأول هو علم صور العلوم، ليس صحيحاً لأن المنطق منه الصوري والمادي، والمنطق الصوري لا يتصل بالعلوم بل بالفكر نفسه. وأكبر الظن أن المؤلف أخطأ في ترجمة التعريف المتفق عليه بين العلماء الآن، وهو أن المنطق علم صور التفكير قال ليارد في نفس الصفحة (إن موضوع المنطق تقرير قوانين التفكير في ذاتها بصرف النظر عن الموضوعات التي تنطبق عليها، ثم بيان الطرق المختلفة لتطبيق هذه القوانين، وهاهو الموضوع المزدوج للمنطق).
ويقول الأستاذ جميل صليبا عند الكلام عن موضوع المنطق إنه: (البحث عن العمليات الفكرية والشرائط النظرية التي يتوقف عليها التفكير الصحيح). والبحث عن العمليات الفكرية من خصائص علم النفس لا علم المنطق الذي يبحث عن قوانين الفكر الصورية، لا عن عملية التفكير كيف تقع في الذهن. ويخيل إلينا أن هذا اللبس ناشئ عن ترجمة المصطلحات عن اللغة الأجنبية، وستعرض لهذا الموضوع أي الاصطلاحات التي وردت في هذا الكتاب في مقال آخر. والعمليات الفكرية هي أما قوانين الفكر فهي
والتعريف الثاني علم العلوم، لا يفيد شيئاً، فهو كقولك الأسد ملك الحيوان. ولماذا يكون المنطق علم العلوم؟ لماذا لا تكون الرياضة مثلاً؟
والتعريف الثالث (العلم الذي يبحث في صحيح الفكر أو فاسده). ولعل صوابها وفاسده بدلاً من أو فاسده، إذ أن المنطق يبحث في الصحيح والفاسد على السواء لبيان وجه الصواب منهما.
والبحث في الصحيح والفاسد في الفكر ثمرة من ثمار المنطق تأتي بعد تطبيقه، أو هي غاية من غاياته، ولا تدخل في تعريفه أو ماهيته.
ولعل المؤلف قد تأثر بالتعاريف التي أوردها العرب في كتبهم ولم يعن بمناقشتها. لهذا نذكر بعض تعريفات العرب للمنطق ثم نذكر ملاحظاتنا عنها.
قال صاحب البصائر النصيرية (فإذا انقسمت الاعتقادات الحاصلة للأكثر في مبدأ الأمر إلى حق وباطل، وتصرفاتهم فيها إلى صحيح وفاسد، دعت الحاجة إلى إعداد قانون صناعي عاصم الذهن عن الزلل، مميز الصواب الرأي عن الخطأ في العقائد، بحيث تتوافق العقول السليمة على صحته. وهذا هو المنطق).
وجاء في لباب الإشارات لأبن سينا شرح الرازي (الفكر ترتيب أمور معلومة ليتأدي منها إلى أن يصير المجهول معلوماً، وذلك الترتيب قد يكون صواباً وقد لا يكون، والتمييز بينهما ليس بيديهي، فلابد من قانون يفيد ذلك التمييز، وهو المنطق).
ويعرف الفارابي المنطق في كتابه إحصاء العلوم: (فصناعة المنطق تعطي جملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل، وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المنقولات، والقوانين التي تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل والغلط في المعقولات).
ونلاحظ على التعاريف أنها تجعل المنطق ميزاناً للتمييز بين الصحيح والفاسد من الفكر وتجنب الزلل.
ونلاحظ ثانياً أنها تجعل المنطق آلة لغيره من العلوم.
وكلا الاتجاهين لا يجعل المنطق علماً بل فناً.
قال صاحب الرسالة الشمسية (المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) وعلق القطب الرازي على هذا التعريف بقوله: (والآلية للمنطق ليست له في نفسه، بل بالقياس إلى غيره من العلوم الحمية، ولأنه تعريف بالغاية. . .)
والمناطقة في أوربا في عصر النهضة وما بعده أخذوا بوجهة نظر العرب وجعلوا المنطق فناً لا علماً. والكتاب الصادر عن بور رويال عنوانه (المنطق أو فن التفكير) وهذا واضح الدلالة في التصريح بأن المنطق فن وليس علماً.
ولكن المناطقة المحدثين نظروا إلى قوانين الفكر في ذاتها، دون نظر إلى فائدتها في كشف العلوم، أو قيمتها في التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ، ولهذا كان المنطق علماً، وألحقوه بالعلوم، وعرفوه بأنه العلم الذي يبحث في قوانين الفكر أو صور التفكير.
وهذا يبين فساد التعريف الرابع الذي أورده المؤلف وهو أن المنطق فن التفكير.
دكتور
أحمد فؤاد الأهواني
مجلة الرسالة - العدد 607
بتاريخ: 19 - 02 - 1945