فريق منشور - كيف تشكِّلنا الحرب؟..

تضع الحرب، أي حرب، الأطراف المتحاربة على الحافة، حافة وجودهم، ووجود دولهم وأُممهم، حافة قدرتهم على التضحية، حافة قدرتهم على دفع الآخرين إلى الهاوية. إنها تجربة قاسية للحياة وسط شعور داهم باحتمال عدم الوجود في اللحظة التالية. إنها كذلك صدام للعوالم الممكنة، عالم انتصار طرفٍ ما يحاول الوجود على حساب عالم انتصار الطرف الآخر، أي أنها تتضمن اقتراضًا أصيلًا بعدم إمكانية تعايش كِلا العالمين معًا.

تحتفي الدول بأبطالها في الحروب، لأنهم من جعلوا إمكانية بقائها ممكنة، هم من ضحوا بأرواحهم لأجل شيء أكبر. تخلِّد الأمم حروبها بالشعر والفن والاغاني، لأنها ترى الحروب كأقصى لحظات تحققها، اللحظات التي تنعدم فيها فردانية مقاتليها لصالح التوحد في شخصيتها المفترضة.

تسحق الحروب الشعوب، تسحق حيواتهم كأفراد لهم أسماء محددة وأهداف ذاتية جدًّا في الحياة.

في المقابل، ليست هناك حرب عادلة يخوضها الطرف الآخر، لأنها حرب تهدد وجودنا ووجود من نحب، تُشعرنا بأننا مِن المحتمل أن نخسر كل شيء، ويخرج الناس منها بهذا الإحساس الساحق أنهم ظلوا على الحافة لفترة طويلة، فترة الحرب، أن وجودهم ليس شيئًا مضمونًا إلى الأبد.

ربما يجد بعض الناس في الحرب ضرورةً للدفاع عن دولة أو مبدأ ما، ربما يراها آخرون دليلًا على جنون الإنسان واستعداده لتعريض وجوده ووجود عدوه للخطر، بينما يمكن حل كل المشكلات بالتفاوض والحوار والضغوط الدبلوماسية. ربما يجد فيها بعضنا تحققًا مثاليًّا لسطوة الدولة على مواطنيها، أو ترى فيها ديانة دليلًا على إيمان معتنقيها لدرجة التضحية بأنفسهم.

في كل الأحوال، تسحق الحروب الشعوب، تسحق حيواتهم كأفراد لهم أسماء محددة، ولهم أهداف ذاتية جدًّا في الحياة، يريدون السعادة أو الحب، يريدون أن يروا أطفالهم يقفزون حولهم في فرح، لا يتشبثون بملابسهم وهم يفرون من بيوتهم لخوفهم من أن تسقط عليهم قذيفة أو يقنصهم قناص من بعيد، لينهي كل شيء.

لكنهم لن يقدروا على التعبير عن مخاوفهم تلك، سيُعتبر خوفهم ضعفًا في الإيمان بطرفهم في الحرب، وستُعتبر أحلامهم أنانيةً فرديةً لا ترى إلا ذاتها، بينما الأمة نفسها معرضة للخطر.

تعيد الحرب تشكيل كل شيء في حياة الناس، تخلق عالمها الخاص وهي موجودة، حين تستمر لفترات طويلة. تطور الشعوب آليات للحياة الطويلة وسط الخطر الداهم، تتغير طريقتهم في الأكل والشرب والسكن والزواج، تتغير تعريفاتهم لأنفسهم ولمعاني حياتهم، تتغير خططهم الطويلة للتحقُّق إلى خطط قصيرة للنجاة. وحين تنتهي، يكون عليهم أن يخلقوا حياتهم مرةً أخرى، حياة جديدة غير مهجوسة بالفناء.

تشكِّل الحرب حين تكبر العالمَ نفسه من جديد. انهارت في الحروب العالمية إمبراطوريات ظلت سائدة لقرون عديدة، وظهرت دول قوية جديدة. تغير العالم في نظر البشر بعد الحرب، انهزمت أفكار وأيديولوجيات وتمكنت أخرى من فرض نفسها كمبادئ للعالم الجديد. وكثيرًا ما يبدو تاريخ العالم في نظر من يتتبعه كحروب متواصلة، تعيد كل مرة خلق عالم جديد وسحق آخر. تفخر الدولة بحروبها الناجحة، وتخلق حروبها المهزومة جرحًا نرجسيًّا عند مواطنيها، لقد هُزموا ويحاولون التعافي من هذه الهزيمة.

من جانبهم، كتب كثير من الأدباء والشعراء والروائيين والكُتاب ممن عاشوا الحروب أو شاركوا فيها، تاريخًا مغايرًا لها، تاريخًا لحياة الأفراد والجنود الصغار خلالها، تفاصيلهم الأكثر حميميةً فيها، خوفهم وشجاعتهم وأحلامهم الدائمة بنهاية هذا الكابوس.

نطرح هذا الشهر هاجس «كيف تشكِّلنا الحرب؟»، للتفكير في كيف تعيد الحرب تعريف حياة الناس خلالها وبعد انتهائها، وكيف تترك آثارها في نفوس وأجساد من عايشوها، وكيف يحاولون الفرار من شبحها الذي يطاردهم على الداوم، ولماذا تندفع إليها الدول، وكيف يتغير بعدها كل شيء. لا أحد يعود من الحرب كما كان، لا دولة تظل بعد الحرب كما كانت تمامًا، تتوسع أو تتقلص، تكتسب معانيَ جديدة وأبطالًا جدد وآلامًا جديدة.

* منقول عن موقع منشور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...