«كل شيء هادئ في الجبهة الغربية» عمل روائي كبير يصدر عن المدرسة الواقعية الحديثة في أدب القص الروائي وقد صدرت عام 1929 ـ بعد 10 سنوات من انتهاء الحرب العالمية الأولى. وتدور احداثها على الجانب الألماني من القتال في تلك الحروب الضروس (أطلق عليها وصف «الحرب العظمى») وبالتحديد عند المنطقة الحرام الفاصلة، بين حدود كل من ألمانيا وفرنسا حيث حفر المتحاربون الخنادق وسط اطلال القرى التي دمرتها المدافع وهجرها الساكنون.. وقد تنتقل الاحداث الى مدينة صغيرة في شمال ألمانيا حيث يوجد مستشفى تديره الراهبات وحيث يشمل السهل الفسيح واحداً من معسكرات التدريب الذي يلتحق به الشباب الصغار من المقاتلين حديثي التجنيد. بطل الرواية اسمه بول وهو يروي للقارئ ذكرياته عن السنة الأخيرة من الحرب «العظمى» وقد تشمل الذكريات ايام الصبا في المدرسة الثانوية بل وتعود الى الوراء الى أيام الطفولة في المدينة الألمانية شبه المجهولة. المبدع هو الكاتب الألماني اريك ماريا ريمارك (1898 ـ 1970) وقد جندوه في الجيش الألماني عام 1916 وحارب على الجبهة الغربية وجرح خمس مرات في ميدان القتال بفرنسا. وقد عمل الروائي مدرساً وبائعا وصحفياً وهاجر الى امريكا (نيويورك) عام 1939 وأعلن معارضته لنظام هتلر النازي في ألمانيا وكان ان أمرت سلطات النازي بإحراق كتبه التي كان في مقدمتها أعمال روائية بعنوان «الرفاق الثلاثة» و«قوس النصر» و«ليلة في لشبونة». أصل الحكاية ها نحن نعايش بين سطور الرواية قصة الشبان الصغار من طلاب المدرسة الثانوية الألمانية وقد دفعتهم كلمات مدرسهم الوطني المتحمس الى التطوع للقتال في صفوف الجيش الألماني عند جبهة الحرب الغربية التي تفصل بين قوات ألمانيا (القيصرية) وقوات الحلفاء من أعدائها من فرنسيين وانجليز وأمريكيين. في آخر سني الحرب العالمية (1918) شعر الجنود الشبان الصغار بقدر من الارتياح بعد انسحابهم بعيدا عن الجبهة كي ينالوا قسطا من الاستجمام او الراحة وبعد ان فقدت فصيلتهم نحو نصف جنودها الذين حصدتهم النيران، لا سيما وقد جاءوا مباشرة من صفوف الدراسة الى خنادق القتلى.. كما كان مدرسهم الهر كانتوريك مبالغا حين افهمهم ان الحرب اقرب الى النزهة او المغامرة. ولكن ها هم وقد شهدوا حقيقة الحرب بكل مرارتها وخسائرها.. بين صفوف المفرزة تتنوع اهتمامات رفاق السلاح: «كروب» مفكر الجماعة الواقعي الذي يقول لهم: كم كان استاذنا كذابا! و«موللر» الرومانسي الذي مازال يحلم بالامتحانات وقد حمل كتبه الى جواره داخل الخندق المفعم بالتراب. وهناك «ايضا «لير» الذي يتوق دوما الى مصاحبة النساء.. و«جوزيف» زميل الدراسة سابقا الذي طالما اعلن مقاومته للحرب واخيرا صدق دعايات المعلم كانتوريك وكان اول من سقط قتيلا في ساحة الوغى لكن هناك ايضا جندي فلاح اسمه دترينج لا يفكر في مزرعته وفي زوجته ايضا.. ثم قائد المفرزة «كات» ابن الاربعين الذي يتعين على الجميع احترام رتبه رغم انه كان يعمل اسكافيا قبل التجنيد. يصل البريد الى الجنود الصغار ويقرأون رسالة من مدرسهم الهمام الذي يبعث تحياته الحارة الى الجميع.. هذا الجيل المخضرم لا يفهم معنى الحرب ومن ثم يعيش ايامه على ترديد الشعارات كم كان المدرس واهما حين خاطبهم في رسالته قائلا: «اعزائي الشباب الحديدي» انها الحرب يا معلمنا القديم.. جعلتنا ننسى ان كنا شبابا في يوم من الايام. ها هو الراوي ـ بول ـ يتأمل ما آلت اليه احوال جيل كامل من ابناء المانيا.. جيل بغير جذور وبغير امل في مستقبل.. جيل يعيش احوالا هي بالضبط «الارض الخراب» التعبير صكه الشاعر الانجليزي اليوت في ملحمته الشهيرة بهذا العنوان وقد استوحاها بالفعل من ظروف الحرب العالمية الاولى. لكن لعل العنصر الايجابي الواحد هو شعور الرفاقية ـ زمالة السلاح الذي نشأ بين شباب المجندين. تمضي الايام لكي تضيف الى اعمارهم اعباء وأحزانا تقاس بعشرات السنين حين تأتيهم الوجبات، الدفعات الجديدة من المجندين الذين لا يترددون في ان يسموهم «المواليد الرضع» مراهقون لا يدرون شيئا عن العالم ولا عذابات الحرب.. يتضورون جوعا ويحاول اصحابنا ابطال الرواية ان يدبروا لهم ما يستطيعون من طعام، يجلسون داخل الخنادق يتأملون ويقول قائلهم: لو حصل كل انسان على ما يكفيه من طعام ومال.. لانتهت الحرب والصراعات بين عشية وضحاها. ثم يصدر الامر الى المفرزة كي تتقدم الى موقع تحيطه بالاسلاك الشائكة على طول الجبهة المتقدمة.. انهم يتشبون بخنادقهم من يهولهم قصف المدافع الرهيبة من كل الجهات يقول الراوي ـ بول ـ ان الارض تحمي الجندي تماما كما تحمي الأم وليدها وتدرأ عنه الاخطار. السماء ملبدة بالدخان والارض تميد من زئير القصف والخيول تصرخ وقد اصابتها الشظايا بالجراح ولا حل سوى اغتيالها كي تكف عن العويل ويرى بول نفسه محصورا مع رفيق في السلاح في ساحة مقبرة بين الطين والمطر والظلام وحين يحدث الرفيق يجاوبه الصمت فيكتشف بغتة ان كان ملتصقا الى جثة فارق صاحبها الحياة. داخل الخنادق الطويلة الملتوية يأوي الناجون من الجنود كل منهم اشعث اغبر ولكنهم يعزون النفس بالحوار حول السلام! يجدون فسحة من الوقت كي يستحموا في نهر صغير قريب. وهنا يعطون راوينا ـ بول ـ اجازة ميدان لمدة 17 يوما كاملة.. ومن عجب انه لم يعد متحمسا للاجازة ويشعر ان قد باعدت الظروف بينه وبين اهتمامات الحياة المدنية.. حسبه ان يدور حوار مفعم بالشجن حول الحرب وضراوتها بينه وبين والدته وهي على فراش الاحتضار وحين يعود الى الجبهة يشارك في الاستعدادات لزيارة لا معنى لها في رأيه يقوم بها قيصر المانيا ـ الامبراطور ويلهلم (غليوم كما كان العرب يسمونه أيامها) لجبهة القتال وحين يضطر يوما الى مواجهة جندي فرنسي يصوب اليه حربته فيقتله وكم شعر بالأسى حين فتش ملابس العدو القتيل ليعرف انه كان يعمل رساما وان لديه زوجة وابنة في عمر الزهور. خريف عام 1918.. فترة النهاية من الحرب العالمية الأولى.. رفاق المفرزة الألمانية تتفرق بهم السبل ما بين جريح في مستشفى وهارب يقبضون عليه ويحاكمونه عسكريا وقتيل في خندق مجهول من جراء الغازات السامة.. لم يبق إلا بول الذي يحكي لنا احداث الحرب ومآساتها.. ها هو يتعافى من اصابة جاءت به الى المستشفى.. وها هي الحرب تؤذن بانتهاء في شهرها الأخير.. وها هو الخريف البارد الرمادي يشهد يوما لم تزأر فيه المدافع.. في هذا اليوم بالذات.. في موقع الجبهة الغربية.. يلقى الفتى بول مصرعه برصاصة مجهولة هو اليوم الذي يسجل فيه دفتر يوميات الحرب ووقائع الحال فيلخصها في سطر وحيد يقول: «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية». الأفكار .. الرموز .. الدلالات في تحليل هذا العمل يشير النقاد الى عدة معان ودلالات على النحو التالي: «الجيل الضائع» ـ هذه العبارة التي سبكتها الكاتبة الامريكية جيرترود شتاين (18741946) هي التي تصف هذا الجيل من شباب الجنود الذين عاشوا ويلات الحرب واكتووا بنارها ولكنهم ظلوا جيلا بغير جذور ولا هدف ولا معنى للحياة وهو ما يذكره راوي القصة «بول» حين يقول «أعتقد اننا ضعنا». مع ذلك فربما نعم هؤلاء الجنود من صغار الشباب بإحساس الزمالة ـ رفقة السلاح ولهذا يلاحظ النقاد ان أول كلمة بدأت بها سطور هذه الرواية هي «نحن».. انهم يأنسون إلى بعضهم البعض داخل خنادق العزلة واليأس والخوف والخطر المحدق المقيم.. أصواتهم نكاتهم.. ذكرياتهم. وحتى العدد المقتول له بدوره شخصيته واسرته وحياته التي كانت في وطنه نحن إذن ننتمي جميعا إلى أسرة الانسانية الواحدة تجمعنا وحدة الألم والمعاناة، والتضحيات. .. التعليم عبث ان لم يعمل على اعداد الطالب لمواجهة تجارب الحياة.. حتى في ألمانيا ثمة فرق واسع بل هوة فاصلة رهيبة بين النظريات والشعارات التي يلقنونها للتلاميذ في المدرسة وبين خبرات الحرب وتجارب الواقع.. الهوة الفاصلة بين الأجيال: ها هو جيل الجنود الشباب وقد شعر بالانفصال بينه وبين سائر مواطنيه في الحياة المدنية. وقد شعر أيضاً انه لا يمت بصلة وثيقة مع جيل الكبار الذين لم يعرفوا ويلات الحرب الحديثة ولا اكتووا بلظاها.. انهم يقتاتون بشعارات براقة حول التضحيات الوطنية دون ان يدركوا حقيقة ما يجري من تجرد البشر من انسانيتهم في ميادين القتال... الكبار يجيدون التلاعب بمفاهيم اللغة ولكن الجيل الأصغر هو الذي اجاد التعامل مع تجارب الواقع.. المفارقة الساخرة والمأساوية: الرواية محكية، ـ كما أسلفنا ـ على لسان احد ابطالها، الجندي «بول».. وقد ساقها المؤلف على شكل يوميات وذكريات وتأملات كأنما تحدث في حينها.. وتمضي الرواية على هذا النسق باستثناء آخر فقرتين في هذا العمل الكبير الذي تحول الى فيلم بعد الآن من كلاسيكيات السينما المعاصرة كما ان عنوان الرواية اصبح من مفردات كل أو فلنقل معظم لغات العالم: «كل شيء هادئ في الجبهة الغربية» تنتهي بفقرتين يرويهما شخص مجهول لا نعرف له اسما ولا هوية ـ ليقول لنا ان الراوي بول.. قد مات. في ذاكرة الانسانية من عنوان الرواية يعلن المؤلف ـ ريمارك معارضته للحرب بكل ما تجلبه من دمار ومعاناة للبشر وهو معنى.. كما يؤكد نقاده ـ بجانب الفقد أو الضياع أو الاهدار الانساني قبل جوانب التلف أو الدمار المادية الأخرى في الموارد أو الممتلكات مما قد ينجم عن اشتعال لهيب الحروب والصراعات.. أخطر ما في الحرب عند هذا الكاتب الفنان انها تدمر منظومة القيم وقد تنزل بسلوك البشر الى مرتبة الحيوان وهي تسلب الناس انبل ما فيهم من شمائل وطباع. ومن هذا المنطلق يظل هذا العمل الروائي محتفظاً بمكانته ضمن عمود الادب الابداعي الانساني صحيح انه واجهته بعد صدوره عواصف من الاحتجاج اذ اتهمه الألمان بالذات بأنه اساء تصوير الحرب ومن ثم عمل على أو تسبب في تشويه ما شهدته من جانب المقاتلين الألمان من بطولات وتضحيات. مع ذلك فقد انصفه الكثيرون حين قالوا ان العمل قدم وضعاً دقيقاً وأميناً لفظائع الحرب وويلاتها. أما صاحب الرواية اريك ماريا ريمارك فقد نقلوا عنه تعليقه حين قال: ـ أنا لم أقصد إلى إلقاء «نظرة طائر شاملة» ـ أو خاطفة على الحرب بل قصدت الى ان تكون «نظرة دودة» تتلوى بين الخنادق وتعيش التفاصيل وتنقل الى القارئ أدق المشاعر والافكار والخلجات. ..