رواية الكاتب الأرجنتيني أندريس نيومان تعالج فكرة الموت وكيفية التعامل معه، من خلال ثلاثة أصوات في عائلة فككها مرض الأب المشرف على الاحتضار.
الجمعة 2018/09/21
الأب في رحلة أخيرة مع ابنه (لوحة للفنان بسيم الريس)
"غابة في مكتبتي وصحراء في بيتي، لكن مهما أتوغل بعيدا جدا في الغابة، دائما ما أصادف الصحراء نفسها، كما لو كانت كل كتب العالم، أيا كان فحواها، تحدثني عن الموت"، هكذا تتحدث إيلينا لنفسها في مفتتح الفصل الأخير من رواية “يتحدثون بمفردهم”، الصادرة مؤخرا عن سلسلة الجوائز (الهيئة المصرية العامة للكتاب) بترجمة رحاب وهدان، وهي الرواية الخامسة للكاتب الأرجنتيني أندريس نيومان، إيلينا بهذه المقولة تلخص فكرة الرواية التي تحدثنا عن الموت، وكيفية التعامل معه كشيء على وشك الحدوث ليس فقط لشخص نحبه، بل على نحو ما موت معنوي لمن يعايشونه أيضا.
[SIZE=5]مثلثان ورحلتان[/SIZE]
يعتمد نيومان في روايته على تعدد الأصوات، فثمة زوج وزوجة وابن يتناوبون الحديث، لكن المفارقة أن كلا منهم يتحدث إلى نفسه، ليس ثمة حوار بينهم، فمثلث الأسرة التقليدي فككه المرض الذي أصاب الأب وجعله يشرف على الموت.
ينشأ مع تفككه مثلث ثان تقليدي أيضا، فالأب المتوقع موته يتوارى ليحل محله طبيبه الذي يصير عشيقا للزوجة، والزوجة المنهارة يتجاذبها “ثاناتوس″ إله الموت غير العنيف في الأساطير الإغريقية، وإيروس غريمه، إله الحب والرغبة والجنس. تلك هي الحبكة التي لا يهتم بها المؤلف كثيرا، بحسب ما يقول في حواراته ”قبل أن أشرع في تأليف كتاب جديد، أفكر في أسلوب الكتابة أكثر من الحبكة، أستمع إلى الإيقاع الناتج عن العمل، وفي هذه الحال بدأت أتصوّر يوميات سريعة وغير متصلة، تقال من وجهة نظر محكمة وتتألف من سلسلة من التدوينات الموجزة”.
الرواية تحدثنا عن الموت، وكيفية التعامل معه كشيء على وشك الحدوث ليس فقط لشخص وجسد بل ومعنويا أيضا
هكذا يضعنا أندريس نيومان في مواجهة شخصياته الثلاثة، ليتو الابن الذي بلغ لتوه العاشرة من العمر، وإيلينا الأم، وماريو الأب المريض الميئوس من شفائه، يتناوبون الحديث بالترتيب، غير أنهم لا يتحدثون مع بعضهم البعض، يبدو كل منهم يعاني وحدته بطريقة ما، وربما لأن الحضور الطاغي للموت يحبس كل منهم داخل سياج غير مرئي يعزله عن الآخرين، ويحول دون التواصل الطبيعي بين أفراد أسرة واحدة.
ليتو يبدأ الحكاية، “ها أنا ذا أبدأ في الغناء وفمي يأخذ في الاتساع، رؤيتي هكذا تثير ضحك بابا، لكن ماما لا تضحك”، ليتو سعيد لأنه على وشك الخروج في رحلة يتمناها، فالأب ماريو يقرر الخروج في رحلة طويلة مع ليتو بعدما قرر طبيبه وقف العلاج، يحتاج لفرصة أخيرة لا ليودع ابنه، بل ليمنحه ذكريات تبقي الأب حيا في ذاكرة الابن، يقول إنه يحتاج الرحلة حتى لا ينتظر الموت في البيت، وإن الرحلة مسألة شخصية وليست طبية، وحينما يغادران تكتب إيلينا ”أتمنى أن يعود ابني مسرورا، أعرف أن زوجي لن يعود”، الأم القلقة تبدأ رحلة داخلية موازية للرحلة الخارجية التي يقوم بها زوجها وابنها، رحلة إلى الجوانب المظلمة من عقل وروح الإنسان، يكون مرشدها فيها ما تقرأ من كتب، ولأنها رحلة أصعب وأطول يمنحها الكاتب بمفردها قرابة ثلثي صفحات الكتاب، تلجأ للطبيب إسكيلانتي، يخبرها بأن جسم ماريو حاليا يشعر بالراحة الناجمة عن وقف العلاج، وأن ذلك عادة ما يرفع المناعة لفترة محدودة، وأن الرحلة ليست المشكلة الحقيقية، لا يبدّد كلام الطبيب قلقها، تراه فظا، وتنتظر مكالمات ليتو وماريو، تعرف أن ماريو لا يرد على الهاتف خلال قيادته للسيارة، فتكتب رسالة، وحينما يتأخر الرد، تكتب “أشعر بمزيج من الحرارة والعصبية، بحاجة إلى حك جسمي كله بقوة، حتى أقتلع منه شيئا لا أعرف ما هو”.
تعود للطبيب توقّعا لإجابة تطمئنها، لا يطمئنها بل يثير غيظها، بتأكيده لمخاوفها، لكن الحديث يطول واللقاءات تتكرر، يبدو الدكتور واثقا مثيرا للإعجاب مع أنه لا يبدو وسيما، هكذا تدريجيا يشدها إيروس بعيدا عن ثاناتوس، فيختفي لقب الطبيب “إسكيلانتي” ليصبح “إيثيكيل”، ويصبح الحديث شخصيا، وتتكرر اللقاءات وأخيرا تقبل دعوته على العشاء.
الحضور الطاغي للموت
تقر باحتقارها لنفسها حينما تقارن بينه وبين زوجها، تحديدا تقارن بين جسديهما، تكتب في مفكرتها ”جسده معافى بعيد عن الموت” وتضيف ”جسد ماريو يشعرني أحيانا بالاشمئزاز، يشق على كثيرا أن ألمسه مثلما يشق عليه هو أن ينظر لنفسه في المرآة”، تبدو هذه الجملة كمبرر تسوقه لنفسها، قبل أن تصف زوجها بأنه ”عجوز لا أزال أحبه، عجوز لم أعد أرغب فيه”.
[SIZE=5]اقتسام الرماد[/SIZE]
لم تكن إيلينا تبحث في إيثيكيل عن بديل لماريو، بل كانت تقاوم فكرة موته القادم، ”مع إيثيكيل كل فعل جنسي يؤدي إلى حالة بعث”، لكن حينما لا يأتيها رد من الزوج أو الابن، تظن أن الزوج يعرف بخيانتها، يعاقبها بالصمت، تكتئب وتحلم بأن ماريو يلتقي بإيثيكيل في رحلة أوتوستوب، يركب معه الشاحنة ويمضيان، يتركانها وحيدة، يزداد اضطرابها ”لا أريد أن أرى إيثيكيل مرة أخرى، أريد أن أتصل بإيثيكيل”، وحينما يعود ماريو ينتابها الفزع وتقول ”لا أعرف إن كان قد عاد حقا متوعك الصحة أم أنني توقعت أن ألتقي برجل بدين لا يوجد إلا في ذاكرتي”.
تجتاحها رغبة في البكاء فتهرع إلى ليتو، تضمه بشدة لتستعيد قوتها، ثم ترسله لأبويها حتى لا يشهد لحظة موت أبيه، فالأب النائم دائما لا يدل على بقائه حيا إلا شخير يصدر عنه، وحينما تنام تحلم بإيثيكيل وهو يستخرج أجنة صغيرة جدا من جسد ماريو، ويموت ماريو فتحلم بعودته من الموت، لكنه لا يعود، تختلف مع شقيقيه على مصير الميت، يريدان دفن رماده، يزرعانه شجرة، وهي تفضل بعثرته في البحر، يتفقان على اقتسام الرماد، وفي البحر تفرغ المرمدة ”تخيلت أنني كنت أزرع البحر، بعثرت رمادي ولملمت أجزائي”.
تعود لتقرأ عن الموت، تضع خطوطا تحت بعض السطور، وتكتب إلى ماريو “الأسوأ هو تقبل أنني لست فيك، لم أعد من تكوينك، من وجهة النظر تلك، لقد متّ أنا أيضا”.
الجمعة 2018/09/21
الأب في رحلة أخيرة مع ابنه (لوحة للفنان بسيم الريس)
"غابة في مكتبتي وصحراء في بيتي، لكن مهما أتوغل بعيدا جدا في الغابة، دائما ما أصادف الصحراء نفسها، كما لو كانت كل كتب العالم، أيا كان فحواها، تحدثني عن الموت"، هكذا تتحدث إيلينا لنفسها في مفتتح الفصل الأخير من رواية “يتحدثون بمفردهم”، الصادرة مؤخرا عن سلسلة الجوائز (الهيئة المصرية العامة للكتاب) بترجمة رحاب وهدان، وهي الرواية الخامسة للكاتب الأرجنتيني أندريس نيومان، إيلينا بهذه المقولة تلخص فكرة الرواية التي تحدثنا عن الموت، وكيفية التعامل معه كشيء على وشك الحدوث ليس فقط لشخص نحبه، بل على نحو ما موت معنوي لمن يعايشونه أيضا.
[SIZE=5]مثلثان ورحلتان[/SIZE]
يعتمد نيومان في روايته على تعدد الأصوات، فثمة زوج وزوجة وابن يتناوبون الحديث، لكن المفارقة أن كلا منهم يتحدث إلى نفسه، ليس ثمة حوار بينهم، فمثلث الأسرة التقليدي فككه المرض الذي أصاب الأب وجعله يشرف على الموت.
ينشأ مع تفككه مثلث ثان تقليدي أيضا، فالأب المتوقع موته يتوارى ليحل محله طبيبه الذي يصير عشيقا للزوجة، والزوجة المنهارة يتجاذبها “ثاناتوس″ إله الموت غير العنيف في الأساطير الإغريقية، وإيروس غريمه، إله الحب والرغبة والجنس. تلك هي الحبكة التي لا يهتم بها المؤلف كثيرا، بحسب ما يقول في حواراته ”قبل أن أشرع في تأليف كتاب جديد، أفكر في أسلوب الكتابة أكثر من الحبكة، أستمع إلى الإيقاع الناتج عن العمل، وفي هذه الحال بدأت أتصوّر يوميات سريعة وغير متصلة، تقال من وجهة نظر محكمة وتتألف من سلسلة من التدوينات الموجزة”.
الرواية تحدثنا عن الموت، وكيفية التعامل معه كشيء على وشك الحدوث ليس فقط لشخص وجسد بل ومعنويا أيضا
هكذا يضعنا أندريس نيومان في مواجهة شخصياته الثلاثة، ليتو الابن الذي بلغ لتوه العاشرة من العمر، وإيلينا الأم، وماريو الأب المريض الميئوس من شفائه، يتناوبون الحديث بالترتيب، غير أنهم لا يتحدثون مع بعضهم البعض، يبدو كل منهم يعاني وحدته بطريقة ما، وربما لأن الحضور الطاغي للموت يحبس كل منهم داخل سياج غير مرئي يعزله عن الآخرين، ويحول دون التواصل الطبيعي بين أفراد أسرة واحدة.
ليتو يبدأ الحكاية، “ها أنا ذا أبدأ في الغناء وفمي يأخذ في الاتساع، رؤيتي هكذا تثير ضحك بابا، لكن ماما لا تضحك”، ليتو سعيد لأنه على وشك الخروج في رحلة يتمناها، فالأب ماريو يقرر الخروج في رحلة طويلة مع ليتو بعدما قرر طبيبه وقف العلاج، يحتاج لفرصة أخيرة لا ليودع ابنه، بل ليمنحه ذكريات تبقي الأب حيا في ذاكرة الابن، يقول إنه يحتاج الرحلة حتى لا ينتظر الموت في البيت، وإن الرحلة مسألة شخصية وليست طبية، وحينما يغادران تكتب إيلينا ”أتمنى أن يعود ابني مسرورا، أعرف أن زوجي لن يعود”، الأم القلقة تبدأ رحلة داخلية موازية للرحلة الخارجية التي يقوم بها زوجها وابنها، رحلة إلى الجوانب المظلمة من عقل وروح الإنسان، يكون مرشدها فيها ما تقرأ من كتب، ولأنها رحلة أصعب وأطول يمنحها الكاتب بمفردها قرابة ثلثي صفحات الكتاب، تلجأ للطبيب إسكيلانتي، يخبرها بأن جسم ماريو حاليا يشعر بالراحة الناجمة عن وقف العلاج، وأن ذلك عادة ما يرفع المناعة لفترة محدودة، وأن الرحلة ليست المشكلة الحقيقية، لا يبدّد كلام الطبيب قلقها، تراه فظا، وتنتظر مكالمات ليتو وماريو، تعرف أن ماريو لا يرد على الهاتف خلال قيادته للسيارة، فتكتب رسالة، وحينما يتأخر الرد، تكتب “أشعر بمزيج من الحرارة والعصبية، بحاجة إلى حك جسمي كله بقوة، حتى أقتلع منه شيئا لا أعرف ما هو”.
تعود للطبيب توقّعا لإجابة تطمئنها، لا يطمئنها بل يثير غيظها، بتأكيده لمخاوفها، لكن الحديث يطول واللقاءات تتكرر، يبدو الدكتور واثقا مثيرا للإعجاب مع أنه لا يبدو وسيما، هكذا تدريجيا يشدها إيروس بعيدا عن ثاناتوس، فيختفي لقب الطبيب “إسكيلانتي” ليصبح “إيثيكيل”، ويصبح الحديث شخصيا، وتتكرر اللقاءات وأخيرا تقبل دعوته على العشاء.
الحضور الطاغي للموت
تقر باحتقارها لنفسها حينما تقارن بينه وبين زوجها، تحديدا تقارن بين جسديهما، تكتب في مفكرتها ”جسده معافى بعيد عن الموت” وتضيف ”جسد ماريو يشعرني أحيانا بالاشمئزاز، يشق على كثيرا أن ألمسه مثلما يشق عليه هو أن ينظر لنفسه في المرآة”، تبدو هذه الجملة كمبرر تسوقه لنفسها، قبل أن تصف زوجها بأنه ”عجوز لا أزال أحبه، عجوز لم أعد أرغب فيه”.
[SIZE=5]اقتسام الرماد[/SIZE]
لم تكن إيلينا تبحث في إيثيكيل عن بديل لماريو، بل كانت تقاوم فكرة موته القادم، ”مع إيثيكيل كل فعل جنسي يؤدي إلى حالة بعث”، لكن حينما لا يأتيها رد من الزوج أو الابن، تظن أن الزوج يعرف بخيانتها، يعاقبها بالصمت، تكتئب وتحلم بأن ماريو يلتقي بإيثيكيل في رحلة أوتوستوب، يركب معه الشاحنة ويمضيان، يتركانها وحيدة، يزداد اضطرابها ”لا أريد أن أرى إيثيكيل مرة أخرى، أريد أن أتصل بإيثيكيل”، وحينما يعود ماريو ينتابها الفزع وتقول ”لا أعرف إن كان قد عاد حقا متوعك الصحة أم أنني توقعت أن ألتقي برجل بدين لا يوجد إلا في ذاكرتي”.
تجتاحها رغبة في البكاء فتهرع إلى ليتو، تضمه بشدة لتستعيد قوتها، ثم ترسله لأبويها حتى لا يشهد لحظة موت أبيه، فالأب النائم دائما لا يدل على بقائه حيا إلا شخير يصدر عنه، وحينما تنام تحلم بإيثيكيل وهو يستخرج أجنة صغيرة جدا من جسد ماريو، ويموت ماريو فتحلم بعودته من الموت، لكنه لا يعود، تختلف مع شقيقيه على مصير الميت، يريدان دفن رماده، يزرعانه شجرة، وهي تفضل بعثرته في البحر، يتفقان على اقتسام الرماد، وفي البحر تفرغ المرمدة ”تخيلت أنني كنت أزرع البحر، بعثرت رمادي ولملمت أجزائي”.
تعود لتقرأ عن الموت، تضع خطوطا تحت بعض السطور، وتكتب إلى ماريو “الأسوأ هو تقبل أنني لست فيك، لم أعد من تكوينك، من وجهة النظر تلك، لقد متّ أنا أيضا”.