الأسرار الشرقية كازانتزاكيس وهيرمن هيسه وغابرييل غارثيا ماركيز، ومناجيات عميقة تدخلنا إلى "مملكة الروائيين العظام".
الاثنين 2018/09/17
نيكوس كازانتزاكيس، هيرمن هيسه، غارثيا ماركيز، ثلاثتهم توافدوا من خيالات الشرق
للكاتبة العراقية لطفية الدليمي ولع شديد بفن الرواية، أثمر حتى الآن سبعة نصوص روائية مؤلفة ونصين مترجمين، وستة كتب مهمة تضمنت ترجمات لحوارات مع روائيين ونقاد يكشفون عبرها جوانب خفية من عوالم الروايات وتجارب كتابها، كل ذلك منحها تأشيرة دخول إلى “مملكة الروائيين العظام”، في أحدث كتبها.
الكتاب ذو العنوان المسهب في الطول “كتاب المناجيات: التوق إلى مملكة الروائيين العظام”، والصادر هذه الأيام عن دار المدى العراقية، جديد في بابه، ففصوله ليست مقالات في النقد، وليست حوارات مترجمة كما عودتنا صاحبته في كتبها الأخيرة، بل حوارات متخيلة أو مناجيات كما تسميها الكاتبة.
ويمكن فهم المناجاة هنا بمعناها العربي، فالصديقان يتناجيان بأن يبوح أحدهما للآخر بسر يخصه، كما يمكن فهمها بالمعنى الغربي كتعبير مجازي ينصرف فيه المتحدث أو الكاتب عن المخاطب الحقيقي ليوجه حديثه إلى شخص يتخيله، والكاتبة هنا تختار ثلاثة من أعظم الروائيين لتناجيهم، هم: اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، والألماني هيرمن هيسه، والكولومبي غارثيا ماركيز، تتخيل الدليمي أنها تحاورهم، وقد قرأتهم وتمثلت إبداعهم، فيبوحون لها بأسرار إبداعهم، وهي في الكتاب تبوح لقارئها بتلك الأسرار التي اختصوها بها.
[SIZE=5]نيكوس وهيسه[/SIZE]
تتحدث الكاتبة عما تعلمته من مناجياتها مع كازانتزاكيس، قائلة “أبهرتني عبارته الساحرة: ‘توصّل إلى ما لا تستطيعه’، التي كانت مفتاح وسر حياته وكفاحه، ويقول ‘واصل مسعاك لإنجاز صيرورتك الإنسانية في مدى عمرك البشري القصير لا تتوقف ولا تلتفت إلى الوراء، امضِ نحو تلك الوهجة النائية في الأفق’.. لا تتردد، سترتكب كثيرا من الأخطاء والخطايا ولكنك ستنجح أخيرا في التحرر من قيود الزمان والمكان والوصايا”. هو بالنسبة إلى الكاتبة يعتبر كازانتزاكيس “أحد المعلمين الكبار الذين مجدوا الطبيعة والأرض والجذور والكلمة والعقل، أحبوا الجوهر المتصارع في أعماق البشر”.
يعلمها أن ما نراه هو محض وهم من صنع أذهاننا، وأننا لن ننجو إلا بأن نعبر الهوة المظلمة إلى النور، أما كلمة سر الحياة فهي “لنتحد، لنوحد قلوبنا”، ثم يحكي لها “سألت شيخا صينيا مهذبا عندما كنت في الصين: هل أنت بوذي؟ فقال لي: آه منكم أيها البيض، تحتاجون دوما للتصنيفات، توجدون فقط بقدر ما تنتمون إلى شيء ما أو شخص ما، رؤوسكم مليئة بالأدراج والملفات، بوذي، مسلم، مسيحي، أبيض، أصفر، أسود، كونوا بأنفسكم”.
اليوناني نيكوس كازانتزاكيس مجد الطبيعة والأرض والجذور والكلمة والعقل، أحب الجوهر المتصارع في أعماق البشر
ترى الدليمي في هيرمان هيسه معلما روحانيا كبيرا، ساندها في “الاسترشاد بعظمة النور لا بضباب الفكر المتجهّم، وجدت فيه صنوي الذي يخاطب الطبيعة ويتعلم منها أسرار الديمومة والتجدّد، أنا التي نشأتْ في البساتين الشاسعة وعند ضفاف الأنهار العظيمة”، فقد همس لها وهي تناجيه “كانت الأشجار وظلت بالنسبة إليّ الواعظ الأعظم تأثيرا في روحي، إني أبجّلها سواء أكانت تحيا في مجموعات أسرية في الغابات والبساتين، أم منفردة وحدها، وكلما وقفت بمفردها يزداد تبجيلي لها، إنها تشبه المتوحدين ولا أقصد النساك الهاربين من ضعفهم إلى الزهد والحرمان، بل العظماء المعتزلين، أمثال بيتهوفن ونيتشة”.
تنتهي المناجيات مع هيسه بروايته الأخيرة “لعبة الكريات الزجاجية” تسأله عن تسميتها بالرواية رغم خلوها من الحبكة، فيسألها مستنكرا “لماذا عليّ أن أمتثل لمحددات مسبقة في الشكل الروائي؟”. ويذكرها بأن مفردة رواية في اللغات الأوروبية القديمة كانت تعني اللاشكل، يصارحها بأنه أراد لروايته أن تكون لعبة ذهنية ذات شكل غير مسبوق، يرد بها على عصر استعار الحروب وتسطيح الثقافة.
[SIZE=5]ماكوندو وشهرزاد[/SIZE]
تنقل لطفية الدليمي إلى رواية “مئة عام من العزلة” مقولة الغجري الذي “كان يصرخ بصوت أجش: للأشياء أيضا حياتها الخاصة والمسألة هي في إيقاظ روحها”.
وترى أن غابو (غابرييل غارثيا ماركيز) أيقظ أرواح الجماد والشجر في روايته وزاوج بين عالم الشرق والعالم اللاتيني، عالم العزلة الغرائبي ومخلوقاته وغجره وشبق كائناته الحزينة وهذياناتها وعالم كتاب “ألف ليلة وليلة” بكل ما فيه من عجائبية الشرق وحسّيته ومكائده.
البوح بأسرار إبداعهم
يناجيها غابو معترفا بتأثير ألف ليلة، يزهو بتقبل الأوروبيين لواقعيته السحرية، “لكنهم لم يفهموا سحر الواقع كما نفهمه نحن ولبثوا حائرين إزاءه، لأنهم عقلانيون أكثر مما ينبغي، يعنون بسعر الطماطم والبيض والحسابات الأرضية أكثر مما يعولون على المخيلة والدهشة”.
لكن غابو يصدمها بقوله “أعيد لكم الديك الذي أخرس شهرزاد في كتابكم، فقد اقتفى أثر صوتها حتى وصل قريتنا ماكوندو الحزينة، نحن لا نحتاج ديكا ينذرنا بقدوم الصباح ويبدد أحلامنا ويوقف سيل القصص لأننا نحيا في ماكوندو بالحكايات والعجائب ونتغذى على رحيق الأحلام، أما أنتم فيبدو أنكم توقفتم عن الحلم واستسلمتم لترهات العيش والانصياع لما تؤمرون به وأهدرتم دم الخيال”. يصارحها غابو كذلك بأن “خريف البطريرك” هي إنجازه الأدبي الأهم، وأن نجاح “مئة عام من العزلة” لم يكن عادلا، وقد دمرت حياته تقريبا، بفعل نشرها اضطرب كل شيء.
أما عن احتفاء أعماله بالموت رغم تظاهرها بحب الحياة، فهل الهوس بالموت لشعوره بأنه سيداهمه إن توقف عن الكتابة، فيقول إنه كتب عن أناس يكتشفون أن أفضل شيء يقومون به هو نسيان الموت ومواصلة مغامرات الحياة في الحب. وعندما ازدادت وطأة فكرة الفناء عليه كتب “عن الحب وشياطين أخرى”، ذلك ليقينه بأن الحب أهم موضوع في تاريخ البشرية. لكن الكتاب أتى أكثر سوداوية مما توقع الكثيرون. لأنه كان يرى العالم ينكص إلى الوراء بسرعة، يعود إلى ما قبل الثورة الفرنسية وعصر التنوير، يعود إلى الوراء تماما.
وأخيرا، فخلاصة ما تخبرنا به لطفية الدليمي بعد المناجيات أن مملكة الروائيين العظام دخلها كازانتزاكيس بعد رحلته إلى الصين، واستحقها هيسه بعد رحلته إلى الهند، كل منهما تم تطعيمه بعناصر كانت تنقصه كأوروبي صرف، أما غابو فلم يكن محتاجا لرحلة مماثلة، هو أصلا كائن هجين يحتوي على خلاصتي الشرق والغرب، يمتلك العقلانية وأيضا يؤمن بسلطة الخيال.
الاثنين 2018/09/17
نيكوس كازانتزاكيس، هيرمن هيسه، غارثيا ماركيز، ثلاثتهم توافدوا من خيالات الشرق
للكاتبة العراقية لطفية الدليمي ولع شديد بفن الرواية، أثمر حتى الآن سبعة نصوص روائية مؤلفة ونصين مترجمين، وستة كتب مهمة تضمنت ترجمات لحوارات مع روائيين ونقاد يكشفون عبرها جوانب خفية من عوالم الروايات وتجارب كتابها، كل ذلك منحها تأشيرة دخول إلى “مملكة الروائيين العظام”، في أحدث كتبها.
الكتاب ذو العنوان المسهب في الطول “كتاب المناجيات: التوق إلى مملكة الروائيين العظام”، والصادر هذه الأيام عن دار المدى العراقية، جديد في بابه، ففصوله ليست مقالات في النقد، وليست حوارات مترجمة كما عودتنا صاحبته في كتبها الأخيرة، بل حوارات متخيلة أو مناجيات كما تسميها الكاتبة.
ويمكن فهم المناجاة هنا بمعناها العربي، فالصديقان يتناجيان بأن يبوح أحدهما للآخر بسر يخصه، كما يمكن فهمها بالمعنى الغربي كتعبير مجازي ينصرف فيه المتحدث أو الكاتب عن المخاطب الحقيقي ليوجه حديثه إلى شخص يتخيله، والكاتبة هنا تختار ثلاثة من أعظم الروائيين لتناجيهم، هم: اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، والألماني هيرمن هيسه، والكولومبي غارثيا ماركيز، تتخيل الدليمي أنها تحاورهم، وقد قرأتهم وتمثلت إبداعهم، فيبوحون لها بأسرار إبداعهم، وهي في الكتاب تبوح لقارئها بتلك الأسرار التي اختصوها بها.
[SIZE=5]نيكوس وهيسه[/SIZE]
تتحدث الكاتبة عما تعلمته من مناجياتها مع كازانتزاكيس، قائلة “أبهرتني عبارته الساحرة: ‘توصّل إلى ما لا تستطيعه’، التي كانت مفتاح وسر حياته وكفاحه، ويقول ‘واصل مسعاك لإنجاز صيرورتك الإنسانية في مدى عمرك البشري القصير لا تتوقف ولا تلتفت إلى الوراء، امضِ نحو تلك الوهجة النائية في الأفق’.. لا تتردد، سترتكب كثيرا من الأخطاء والخطايا ولكنك ستنجح أخيرا في التحرر من قيود الزمان والمكان والوصايا”. هو بالنسبة إلى الكاتبة يعتبر كازانتزاكيس “أحد المعلمين الكبار الذين مجدوا الطبيعة والأرض والجذور والكلمة والعقل، أحبوا الجوهر المتصارع في أعماق البشر”.
يعلمها أن ما نراه هو محض وهم من صنع أذهاننا، وأننا لن ننجو إلا بأن نعبر الهوة المظلمة إلى النور، أما كلمة سر الحياة فهي “لنتحد، لنوحد قلوبنا”، ثم يحكي لها “سألت شيخا صينيا مهذبا عندما كنت في الصين: هل أنت بوذي؟ فقال لي: آه منكم أيها البيض، تحتاجون دوما للتصنيفات، توجدون فقط بقدر ما تنتمون إلى شيء ما أو شخص ما، رؤوسكم مليئة بالأدراج والملفات، بوذي، مسلم، مسيحي، أبيض، أصفر، أسود، كونوا بأنفسكم”.
اليوناني نيكوس كازانتزاكيس مجد الطبيعة والأرض والجذور والكلمة والعقل، أحب الجوهر المتصارع في أعماق البشر
ترى الدليمي في هيرمان هيسه معلما روحانيا كبيرا، ساندها في “الاسترشاد بعظمة النور لا بضباب الفكر المتجهّم، وجدت فيه صنوي الذي يخاطب الطبيعة ويتعلم منها أسرار الديمومة والتجدّد، أنا التي نشأتْ في البساتين الشاسعة وعند ضفاف الأنهار العظيمة”، فقد همس لها وهي تناجيه “كانت الأشجار وظلت بالنسبة إليّ الواعظ الأعظم تأثيرا في روحي، إني أبجّلها سواء أكانت تحيا في مجموعات أسرية في الغابات والبساتين، أم منفردة وحدها، وكلما وقفت بمفردها يزداد تبجيلي لها، إنها تشبه المتوحدين ولا أقصد النساك الهاربين من ضعفهم إلى الزهد والحرمان، بل العظماء المعتزلين، أمثال بيتهوفن ونيتشة”.
تنتهي المناجيات مع هيسه بروايته الأخيرة “لعبة الكريات الزجاجية” تسأله عن تسميتها بالرواية رغم خلوها من الحبكة، فيسألها مستنكرا “لماذا عليّ أن أمتثل لمحددات مسبقة في الشكل الروائي؟”. ويذكرها بأن مفردة رواية في اللغات الأوروبية القديمة كانت تعني اللاشكل، يصارحها بأنه أراد لروايته أن تكون لعبة ذهنية ذات شكل غير مسبوق، يرد بها على عصر استعار الحروب وتسطيح الثقافة.
[SIZE=5]ماكوندو وشهرزاد[/SIZE]
تنقل لطفية الدليمي إلى رواية “مئة عام من العزلة” مقولة الغجري الذي “كان يصرخ بصوت أجش: للأشياء أيضا حياتها الخاصة والمسألة هي في إيقاظ روحها”.
وترى أن غابو (غابرييل غارثيا ماركيز) أيقظ أرواح الجماد والشجر في روايته وزاوج بين عالم الشرق والعالم اللاتيني، عالم العزلة الغرائبي ومخلوقاته وغجره وشبق كائناته الحزينة وهذياناتها وعالم كتاب “ألف ليلة وليلة” بكل ما فيه من عجائبية الشرق وحسّيته ومكائده.
البوح بأسرار إبداعهم
يناجيها غابو معترفا بتأثير ألف ليلة، يزهو بتقبل الأوروبيين لواقعيته السحرية، “لكنهم لم يفهموا سحر الواقع كما نفهمه نحن ولبثوا حائرين إزاءه، لأنهم عقلانيون أكثر مما ينبغي، يعنون بسعر الطماطم والبيض والحسابات الأرضية أكثر مما يعولون على المخيلة والدهشة”.
لكن غابو يصدمها بقوله “أعيد لكم الديك الذي أخرس شهرزاد في كتابكم، فقد اقتفى أثر صوتها حتى وصل قريتنا ماكوندو الحزينة، نحن لا نحتاج ديكا ينذرنا بقدوم الصباح ويبدد أحلامنا ويوقف سيل القصص لأننا نحيا في ماكوندو بالحكايات والعجائب ونتغذى على رحيق الأحلام، أما أنتم فيبدو أنكم توقفتم عن الحلم واستسلمتم لترهات العيش والانصياع لما تؤمرون به وأهدرتم دم الخيال”. يصارحها غابو كذلك بأن “خريف البطريرك” هي إنجازه الأدبي الأهم، وأن نجاح “مئة عام من العزلة” لم يكن عادلا، وقد دمرت حياته تقريبا، بفعل نشرها اضطرب كل شيء.
أما عن احتفاء أعماله بالموت رغم تظاهرها بحب الحياة، فهل الهوس بالموت لشعوره بأنه سيداهمه إن توقف عن الكتابة، فيقول إنه كتب عن أناس يكتشفون أن أفضل شيء يقومون به هو نسيان الموت ومواصلة مغامرات الحياة في الحب. وعندما ازدادت وطأة فكرة الفناء عليه كتب “عن الحب وشياطين أخرى”، ذلك ليقينه بأن الحب أهم موضوع في تاريخ البشرية. لكن الكتاب أتى أكثر سوداوية مما توقع الكثيرون. لأنه كان يرى العالم ينكص إلى الوراء بسرعة، يعود إلى ما قبل الثورة الفرنسية وعصر التنوير، يعود إلى الوراء تماما.
وأخيرا، فخلاصة ما تخبرنا به لطفية الدليمي بعد المناجيات أن مملكة الروائيين العظام دخلها كازانتزاكيس بعد رحلته إلى الصين، واستحقها هيسه بعد رحلته إلى الهند، كل منهما تم تطعيمه بعناصر كانت تنقصه كأوروبي صرف، أما غابو فلم يكن محتاجا لرحلة مماثلة، هو أصلا كائن هجين يحتوي على خلاصتي الشرق والغرب، يمتلك العقلانية وأيضا يؤمن بسلطة الخيال.