حينها أدركت أنه يكتب قصائده المتشظية بأوجاعه ، بقوة ذكائه ودفء رؤاه . قلت في نفسي : لن أستطيع اقتحام قلاع الرجل فحصونه منيعة ، أبوابه فولاذية ، شرفاته عالية . الشاعر ميلود علي خيزار مناجم إبداعية لا تنضب ، شاعر يحتفي بالأصدقاء والجمال وظلال النخيل الوارفة ، كما يحتفي أيضا بالمعاني والحروف والمجازات والاستعارات . قدمني إليه صديق مشترك على هامش العكاظية الوطنية للشعر ب” أمخادمة ” ولاية بسكــــرة وبالتحديد يوم 22 جوان 2013 م . كانت أدواته التعبيرية متحضرة ، يقبض على المعاني بقوة حضوره ، احتفي بي وكأنه يعرفني منذ سنين وكذلك حاله مع أصدقائه ، وهذا ما قاله عنه صديقه الفنان التشكيلي نور الدين طبرحة : “ميلود خيزار شاعر فنان يشكل ويلون مساحات نصوصه بجمالية الصدق الفني
*فضيلة معيرش ( قاصة وشاعرة من الجزائر)
وتعبيراته لا تخلو من بعدها الإنساني وقضايا الجوهر . فالمبدع الحقيقي من يحمل فكر ويجابه الكل من أجل ذلك فالنصر أو أن يهلك دونه , نعم هو هكذا صديقي الشاعر رأس ماله هو أن يقول ما يشاء حين يشاء وبالطريقة التي يشاء ” . سألته عن ديوانه ” إني أرى ” الذي أهداني إياه ، ماذا رأى من خلاله ؟ ابتسم … ضحكت عيناه حينها أدركت أنه يكتب قصائده المتشظية بأوجاعه ، بقوة ذكائه ودفء رؤاه . قلت في نفسي : لن أستطيع اقتحام قلاع الرجل فحصونه منيعة ، أبوابه فولاذية ، شرفاته عالية . في الحقيقة استرحت و أيقنت أنه كأرض ملغمة يجب تجنبها . ميلود علي خيزار قدراته الشعرية لا تنضب ، رؤاه قادرة على تثبيت دلالته ، لكن الذي أيقنته أيضا أن ميلود خيزار يمرر قصائده الموسومة بقضايا عديدة تؤرقه دون حاجة لأن يقول أو يفسر أكثر . فالجوانب الجمالية والبلاغية واللغوية والمعجمية هي الجزء الأهم في تركيب نصوصه ، وصوره الشعرية المتفردة ينحتها من واقعه المرئي . يقول في قصيدة ” إني أرى ” :
وافني يا جنون / كن بي حفيا / كن لي العتق / واصطفيني صفيا / خذ يدي خذ بها و … بقلبي / حيثما لا رواح…/ خذ عيني !/ والق بي في مهبك عصفورا وكن لي الجناح …/ كن رئتي./ جسدي غيمة / تبددها البيد …/ وهبني نشيدك العدميا .
هذه الروح التي تطلب الإنعتاق والحرية تأخذ موعدا مع الجنون كحبيب تصاحبه وترافقه وتعانق يده وتغمر قلبه بالشوق والحنين وتحتوي رئتيه لتضخ له هواء السعادة والنقاء ، وحده الجنون سيخلصه من هموم واقعه المثقل المزري . واقع يعج بقضايا عجز العقل السليم أمامها … ميلود خيزار يخرج الكلمات من قاموسها وطبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة ، طبيعة الخلق والشعرية ، :” إن استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية المتجمدة لا تنتج الشعرية ، بل ينتجها الخروج بالكلمات عن طبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة ، وهذا الخروج هو خلق….” . هذا ماقاله الناقد البرفسور السوري ” كمال أبو ديب ” . يقول الشاعر أيضا في قصيدة ” إني أرى ” :
نوبة منك تبعث الخبيء / وأخرى / أنا منها أضيئ بيت الثريا / خطوة في العماء تذهب بالعقل / وترمي قنديله الحجريا / وافني ياجنون / أنتنت الأرض / وقاحت .فكيف لا أتقيا …؟ وأنا ألبس التلال / و ألتحف الشمس / كم ربيعا شيعت /عندك ياتل/ وشال الشذا …على كتفي / غالبتني شبابة أيقضتها في رماد ” الصبا “/ رياح ” الليا / وافني يا جنون / ولترد الموت /
فكم! شاقني الحنين إلي. تلك النوبات الجنونية التي يجد فيها الشاعر الخلاص ، فتخرج كل الترسبات ، وحده المجنون يحق له ممارسة طقوسه وغرائبه دون حسيب أو رقيب ، فليتجرد العاقل من عقله ويرمِه كقنديل قديم لم يعد له مكان بواقعه ليخرجه من عتمته ، وكم كان حنينه إلى ذاته عظيما … فهو لم يستثني من تعتيم واقعه … فسعيه للجنون أو الموت سواء ، حيث يقتحم الشاعر من خلالهما الملموس والمحسوس في ذات الإنسان فهو يستمد نصوصه من التأمل والتجربة الحياتية فهذه الأخيرة مطعمة بالتشبيهات و الاستعارات ، ومرتكزة على معرفة ودراية . يقول في قصيدة : ” وجه نيرين ”
كان يلزمني / هدم القواعد …/ لأنظر …/ نحوك / تراجــــــعت الموجة / وانكسر زجاج المد / شهقة … شهقة / وأنت تغسلين الماء / بزهرة يديك القدسيـة / الطالعة … لتوها /من كذبة الصيف .
كما أحرق نيرين وجه روما الحسناء حتى لا يجرؤ أحد على التطلع إليها ، وشوهها حتى لا تكون لحاكم غيره ، هذا ما كان يلزم الشاعر ثورة من التمرد ليكسر ويهدم التقاليد والأعراف البالية وحدها الأشياء الجميلة المقدسة ترسخ بالذاكرة ، حتى و إن غسلت أم لا ستزداد نقاء و لمعانا . تلك زهرة الدنيا البهية التي يريد الشاعر الحصول عليها دون استعجال رويدا … رويدا و إن صادفته بالأكاذيب و الاحباطات ككذبة صيف فهي حتما تستحق التضحية والفداء . فقد عاملها بعشق متناهي … وركز فيها مشاعر النقاء . يقول الدكتور مشري بن خليفة : ” ميلود علي خيزار يتجاوز الموضوعات الأيديولوجية السائدة في الكتابة الشعرية في الجزائر إلى اهتمامه بوظيفة الشعر ممثلة في اللغة و الأسلوب و الإمتاع .” فلغته تسحبك ، ترعشك و تتعبك حينا .. هي فن عال من المعاني حروفها معتقة بحنين الروح مشبعة بضجيج الاندهاش نابعة من تجربة إبداعية تتسم بالغموض و الإمتاع . والصدق و العمق تأسس لمرحلة موسومة بالجدة والقوة و الثبات . ” يقول في قصيدة :
“غفوة أنا كلي سمع / وأنت نداء / نسيته الطريق / في غصة الناي / ونامت في حجره الأصداء / كلمات / قنديلها …غجري يؤنس الليل / و الكلام …عزاء / كلمات / تأوي الريح إليها / وإلى بيتها / تؤوب الجهات / أم سماء / تغفو الأناشيد فيها …/ حين تصفو / وتصعد الصلوات ؟/ . أم كتاب الحياة فاجأه الصيف / وفي سره …/ ينام الشتاء .
الشاعر هو الأصل وهو السمع وكل التنبيهات ، والنون فرع ، ما فائدتها إن غدت مجرد كلمات ستنتهي مع خيوط الحقيقة لتكون له عزاء … وجعه تأوي إليه الرياح والرماد والشتاء ، وتسكنه جهات الفراغ والأصداء . لغة ميلود خيزار تسحبك نحو أفخاخها … نحو ألغامها الاستفزازية والاحتمالات المختلفة ، لغة تنعطف بك نحو عوالم البعد ، ترتاد بك مجاهيل الدهشة فتتمتع بأسلوب حي في قصائده . فتعبيره عن الجوانب الخفية بدهشة وفجائية وخرق للمألوف يؤدي للجمال الفني … بتجاوزه للحدود الضيقة للغة .” فسر الشعرية أن تظل دائما كلاما ضد الكلام ، لكي تقدر أن تسمي العالم و أشياءه أسماء جديدة ، أي تراها في ضوء جديد … والشعر هو حيث الكلمة تتجاوز نفسها مفلتة من حدود حروفها ، وحيث الشيء يأخذ صورة جديدة ومعنى آخر “. هذا ما قاله أودنيس في كتاب الشعرية العرب ” . يقول ميلود خيزار في قصيدة :
” العاشقة أي حبيبي …/ وافني ساعة أصفو / مثل مرآة البحيرة / سترى وجهك / يا …كم كنت وحدي/ أقرأ الأنجم / في سهوي / وأخفي / في بريد الريح/ للصدفة/ أشواقي المريرة / وافني …ساعة يصفو / لهب الملح على شطآن / …. جفني / ويغفو / عطب الروح .
محراب ميلود خيزار جسد فيه فلسفة حزن و احتراق صارخة متماهية في البوح ، يصلب على أبعاد حب مستحيل لتغيير واقع متردي … فهو شاعر يأخذك لترفه الشعري ، يأخذك لمذاهب وعوالم لم تكن قد ذهبتها من قبل ، قد يبهجك بها تفهما حينا ، ويغمرك غموضها حينا آخر، تتضارب في نفسك خواطر. أتراه خداع مرتب من الشاعر؟ تعمد امتطاء المبهم ، والتجول في أماكن و أوقات لا تضيق بقصائد يقول في قصيدة : ” السفرة ”
عبدوا الشمس / فلما أفلت…/ أشعلوا النار / وطافوا سبع مرات بها / حتى إذا الرقص نآى / بالسوق والأعناق / دارت خمرة الإيقاع / بالأوصال جاؤوا شاطئ المهد / وزجوا بالقرابين / ألسنة النار / ولاذوا . من خطاياهم /بأسباب النقاء ./ عبروا الطقس / إلى الأرض التي استشرى / وباء اليتم في أطفالها ثم ../ عراة … خلصوا للبحر / بالسر … نجيا : يا شقيق الدمعة الأولى /على خذ الهباء … وألقت بحرير الماء/ للرمل/ قميصا يوسفيا ./ وعرا رجع سؤال فادح / وجه السماء من ترى يعبر رؤيانا / إذا أنكرت الريح / دم الشعر / وباع البدو / قمصان الغلام؟.
حتى وإن كان إخوة يوسف زيفوا الحقائق وأشعلوا نار الغيرة والحسد ، فالسنابل السبع جادت بالخصب والخير وانقذت الأرض اليباب الجدباء و ما نفعت القرابين ، الشعوب العربية ستتوحد فكرا وروحا وتتجاوز الخلافات … وحده النقاء الروحي يغسل الخطايا . ويرجع المفقود ويسعد القلوب ،ويبقى الأمل قائما . براعة ميلود خيزار في إنشاء ألفاظه الغامضة الواضحة ، تشكل شجرة معانيه التي لا تنحني . عزم على الغوص في تفاصيل المعاني وإعادة بناء الممكنات . و قد انساب وراء الاحتفاء الغير معهود بنصوصه . قصائد ميلود خيزار تعلق بالذهن .. تسحبنا رياضه البديعة ، فتغدو متعطشا لها ، فهو يملك جميل التصميم واحترافية الحرف وتبقى ذاكرته تقتحم مدن الشعر الحقيقية وإن كانت موصدة في وجه غيره يقول في قصيدة : ” دوامة ”
في البدء / سلكت متاه النظرة … ثم / شددت إلى جهة الرغبة / خيط الروح/فتحت الطرق السرية / في غاباتي الأولى ./ فطفقت تعدين ./ .
الشاعر ميلود الخيزار كما الينابيع الدائمة يتدفق ذكاؤه ، ويغمرك بسلاسة حديثه الحكمة تتحول إلى نكتة عنده . فتنطبق عليه مقولة جبران خليل جبران ” ليس من يكتب بالقلم كمن يكتب بمداد القلب” أتراه يقدس الكتابة ؟ وهو الذي أعد لها نفسه جيدا من خلال لغته المتناهية في الإتقان وانشغاله عليها انشغالا داخليا ، تلك لغته التي اتسمت بالقدرة في تحقيق جودتها ، وتمكنه من تجاوز التعبير العادي ” اللغة مقياسا أساسيا في التمييز بين الشعر والنثر ، فحيث نحيد باللغة عن طريقتها العادية في التعبير والدلالة . ونضيف إلى طاقتها خصائص الإثارة . والمفاجأة والدهشة ، يكون ما نكتب شعرا ، والصورة من أهم العناصر في هذا المقياس فأينما ظهرت الصورة تظهر معها حالة جديدة وغير عادية من استخدام اللغة ” هذا ما قاله أودنيس في كتابه مقدمة النقد العربي ” . يقول الشاعر ميلود الخيزار في قصيدة :
” لا أرض تنذر … بالنجاة لا أرض تنذر … بالنجاة / سأموت بين الأزرقين / سماؤها / ومياهي العطشى …/ سأقعد للوساوس / في عماء المس / واجنيتي / متعوذا بالشعر والهذيان / من ظن الرقاة /في أعين الناي البصيرة …ضوء ماء حافي القدمين / يرقص / .
صور ميلود خيزار آتية من أصقاع الحلم القصي ، فهو الشاعر المسكون بالإتقان فان كانت الشعرية عنده تمثلت في ما أحدثه نصه من تقبل و ارتياح لدى المتلقي يقول الناقد توفيق الزيدي في كتابه مفهوم الأدبية في التراث النقدي : ” أول موقع لرصد الأدبية هو التقبل وهذا طبيعي إذا اعتبرنا الأدب خاضعا لشبكة التواصل ، فتكون الأدبية آنذاك منحصرة فيما يحدثه النص من وقع في المتقبل هو ما نعبر عنه بالتلذذ الأدبي ” … قصائده قادرة على البوح وتخزين قوتها العالية من الحدس و الإيحاء ، لا فرق إن كانت الصور مفردة أو مركبة تحدث الجمود أو التنافر فقد غاصت في أعماق اللاوعي ، وابتعدت عن التوليد والتآلف ولامست العقل وثبتت بواعي القارئ . ففي ديوان ” إني أرى ” الشاعر كان يستلذ برمال الصدمة وهو المسكون بالتباهي بعراجين الشعر وحبات رمان الحرف . يقول في قصيدة :
” نداء ” هذه الصحراء / ميراثي الوحيد / لي …إذن …/ أن أتعرى …/ … فمن التجريد ما يفضي / نائمة في عطب الناي / وقد أنسى فأشفي / فعزاء الوحشة … النسيان / والتوق … إلى التيه البعيد / …..
مازال الشاعر يستلذ بدفء الشوق للصحراء فهي الميراث الذي يعتز به … لأنها الكنز الحقيقي لوطنه . ديوان ” إني أرى ” صادر عام 2011 م عن دار النهضة العربية – بيروت – لبنان . به أربعة عشر قصيدة ، مسربل بالوجع الإنساني وكأنه بطاقة هوية للشاعر والمتلقي ، الحزن عنده يتحول إلى معلوم قد يراه و قد يمسك به ، قد يتركه للمجهول والصمت والفراغ ، وقد يصفه تارة .احتجاج يظهر بوضوح في مجموعة “إني أرى” يترجمه لبوح شعري . .وهو غارق في التأمل وقوة البوح ، وما سيره في الطرق السرية بين قصائده إلا جزء من الاحتجاج الظاهر في هذا الديوان فقد استخرج الألم من مشاعره واقترب من ملكوت الجمال والحب و الرهبة . * بينما ديوان ” أزرق حد البياض ” الصادر عن دار العين للنشر – القاهرة – سنة 2013 م يستهله بجراح ونداءات وهتافات الأمنيات ، بطموحات العصفور الجريح ، الكلام أصبح بلا معنى فقد صدر مع عتمة الليل وذاك العصفور أو الجندي مات بين أنامل محبيه و رفاقه ، النداء لم يعد يبشر باسترجاع المفقود.يقول في هذا النص : ” من جرح نافذة ” مواربة” … رأيتك يا نداء الضوء ترقص مثل عصفور ذبيح …كدم تزحف مثل جندي جريح وبروح أغنية تراود دفة الشباك …لا …لا… لا تمت يا ضوء بين أناملي . ناديته … أرجوك يا عصفور لاترحل ولا تذهب بروحي . ” . ميلود خيزار يخلق الحيز الجمالي لنصوصه من خلال الحركة اللغوية . تغلب على جميع صعاب اللغة الساكنة لأنه يبدو أنه روض قلمه جماليا وفنيا . تلك المفردة التي يعطي لها الشاعر الكثير من المعاني المختلفة ، والكثير من دهشة المعنى الجمالي والدلالي .يقول في قصيدة صوتك :
في نهر صوتك / تستحم الشمس / قبل دخولها / بغلالها … سرا / إلى بيت المساء من ناي صوتك تهبط الأنهار حافية / على الغابات / حاملة …لحمى الصيف/ … أوصال الشتاء/ في حقل صوتك / ساحر …تتطاير الكلمات من يده / فراشات فراشات / لتسقط في نبيذ الضوء / سكرى …
بالنداء . يقول الناقد جابر عصفور: ” جمالية الصورة الشعرية تقترن عند الشاعر بقوة التخيل فهي تعني به ، كونها على علاقة عضوية به ، فإن كانت قوة التخيل تجمع بين الأشياء المتباعدة التي لا تربط بينها علاقة ظاهرة فتوقع الائتلاف بين أشد المخلفات تباعدا وتلقي حدود الزمن وأطر المكان وتنطلق إلى آفاق فسيحة لصنع الفجائي ” . يقول في قصيدة :
” أزرق حد البياض ” ما ” الفودكا : ؟/ أدلك …/ إذا رأيت شتاء يترنح سكرا/ في نظرتي ؟/ فسليه / تعالى نقطف كرز القبلة التي /تمادى نضجها في شفتينا .
الخرق الشعري” الإنزياح” يظهر واضحا عند إسناد الترنح لغير السكارى والمرضى و إن كانت الفودكا الخمرة الروسية المعتقة قد أشعلت الدفء في شتاء قلب الشاعر وأيضا في إسناد الصدر للموجة عوض الصدر للإنسان / البحر ، فصورة المرأة في قصائده تبقى رمزا متعدد الأبعاد تلتقي في نقطة واحدة لأنها الحبيبة و الخمرة المسكرة ، ونهر الصوت ، والتفاح المحبوس وستقول أغنية وهي الأم وقالت النجمة وصدر الموجة….هذه الأحاسيس التي كشفها ميلود خيزار عكست دلالاته الوجدانية . وهو الذي يحسن النفاذ إلى أعماق الأشياء من خلال لغته المتجددة ، فقد منح شعره سمة الإبداع ، وجعله يقاوم الموت فالصورة الشعرية الأولى في ” قصيدة ازرق حد البياض” حين يقول تصرف كالبحر / وامح حبا بحب /عش بموتك …لحظتك الخالدة . الحب عند الشاعر يمحوه حب آخر فروحه لا تصاب بالوهن و الاستسلام وكذلك حال لغته ، الحب يتجدد في تغيره مع الأشياء كتجدد وتغير لغة الشاعر التي تقوم على دعائم القوة والجدة والتفرد يقول في نفس القصيدة السابقة :
بين قميص البحر / وصدر الموجة / يضيع خيط الروح / وتدمع … عين الإبرة /في نومي / رأيتك تلوحين إلى البحر/ بيدين واهنتين / وأمواجه تموت على الصخور الباردة /
دعوة للخلود داخل الفناء و الموت فالروح ستخلد كالمياه الخارجة من ينابيعها الأصلية تشق مجراها فتلامس الأرض وتلتحم معها وتعانقها مرة واحدة من عمرها . كذلك استعمال الشاعر للصورة الشعرية الجديدة يعانقها مرة واحدة لم يسبقه إليها غيره . فتصبح بذرة الإبداع الشعري عند الشاعر و قد زرعها بحقول الأحاسيس وسقاها بقوة الخيال والحدس و غذأها بقوة الفكر والمعرفة . فنمت وتكاثرت وطاولت أغصان شجره الشعري الوارف يقول في نص ” ايكاروس ” :
الاسم …” ايكاروس ” / واللقب …الجنون ./ مما تبقى لي من الشمع الرخيص . أعد أجنحة … وأرمي هكذا جسدي الملوث … من أعالي البرج …على الريح تخطني إلى ذلك الفضاء الحر …مثل كلام أغنية …بلا وطن ولا فتوى بحق البوح …
الشاعر لجأ إلى توظيف الأسطورة الإغريقية ذائعة الصيت ، الفتى ” ايكاروس ” الذي أراد التحليق خارج الفضاء بجناحين من ريش الطيور وقد ألصقهم والده ” ديادلوس ” بالاحاح منه بالشمع … الشاعر أراد التحليق بعيدا عن أرض واقعه المتردي حتى يتخلص من تقاليد وعادات بالية… والسؤال المطروح هل سيكون الوقت كافيا ليمهله لتحقيق أمانيه ويغير ما يجب تغييره – وإن كلفه تغيير حتى دمه- ؟ وهل ستكون إرادته صلبة و صبره كافيا أيضا ؟ . أم أن أجنحته ستنصهر مثل أجنحة ” ايكاروس” لأنه لم يقدر نصيحة والده ولم يترك المسافة الكافية بينه وبين أشعة الشمس … بينما الشاعر وإن كانت فكرته واضحة .. و وصوله للحقيقة سيكلفه فقدان الكثير فالأجنحة لم تكن ضعيفة أو أن شمعها لا يتحمل حرارة الشمس بل ” أريكاروس ” لم يعد العدة ولم يسلك الاتجاه المناسب كذا حال الشاعر إن لم تتحقق أمانيه ومساعيه فقط لأن فكرته لم تكن واضحة بما يكفي فعدم الانتماء الذي يراوده يتطلب ثورة شاملة لينجو من واقعه حتى وإن اتهم بالجنون … وخانته الظنون وانصرف عنه الرفاق . يقول في قصيدة ” رماد أبي“:
في البدء … أذكر …/ يتم القصبة / ثم كواها …لكي تصير الثقوب /عيونا عمياء توقد أشواقها / ليستفرد الوحش /بقلب الغريب /هتفت عاشقة /” يا هذه الروح ” وألقت بشال من العطر /في طريق ” البيات ” / ومشت سبع نخلات إلى مائه / و أحسبني قلت …سبع بنات ./ ثم إني كنت في حجر أمي / مثل ناي أبي الغارق / في نبيذ الحياة….سألت أين أبي/ قالت النجمة …” مات ” .
إن كانت اللغة الفنية عند الشاعر والصورة الشعرية المتحركة تشد القارئ وتقتحم مخيلته باعتبارها أضحت لديه رؤية متبصرة … وتلك الصور المطعمة بالإيحاءات ” بيت القصبة ” ، فلا يدرك قيمة الآباء إلا من خبر مناحي اليتم ، واكتوى بالغياب وحدها الذكرى ستبقى عزاء الشاعر الوحيد، فالقصبة تبدو سامقة و وحيدة ، فيتمها هو سر تميزها ومصدر عطائها … يقول في قصيدة الدوامة: إلى الشـاعر عـلي مغـازي في البـدْءِ سَـلكتُ متـاهَ النظرةِ… ثمَّ شَـددْتُ إلـى جـهة الرّغـبةِ خــيطَ الـرّوحِ فتـحتُ الطُّـرقَ السـّريةَ في غـاباتـي الأُولَـى. فطـفَقتِ تعُدّينَ عـلى فـخذِ الـعاجِ عـصافيرَ القـنَّبِ.. صِرنا شـجرًا تَنْهشهُ عاصـفةُ الأزرقِ لكـنّي حـاصرتُكِ بالصَّـمتِ وبـالقبـلاتِ أَضـأْتُ الـجُزرَ المنـسيَّةَ سـمّيتُ ذراعـيكِ… كـلامَ الشـُّطآنِ وشَـعرَك… ألسـنةَ النّـيرانِ ووجـهَكِ… فاكـهةَ الجـنَّةِ قـشَّرتُكِ… سَـمّيتُ يـَـدِي فـأرًا نـهدَكِ… حـفنةَ جُـبنٍ والشّـفتـينِ… أصـابعَ شـوكـولا. ثُـمَّ… ركِـبنا الـدوّامةَ أسـلَمْنا جـسدَيْن لـدُوارِ الـبحر وعـانَقـْنـا المـجْهولاَ. وهنـاكَ تجـرَّدْنـا… للمـوتِ هنـاك… افتـرَسَتنـا أنيـابُ الحُـمّى وابْتلـعَـتنا هـاويةُ الهَـيّولى
*فضيلة معيرش ) قاصة وشاعرة من الجزائر)
.
*فضيلة معيرش ( قاصة وشاعرة من الجزائر)
وتعبيراته لا تخلو من بعدها الإنساني وقضايا الجوهر . فالمبدع الحقيقي من يحمل فكر ويجابه الكل من أجل ذلك فالنصر أو أن يهلك دونه , نعم هو هكذا صديقي الشاعر رأس ماله هو أن يقول ما يشاء حين يشاء وبالطريقة التي يشاء ” . سألته عن ديوانه ” إني أرى ” الذي أهداني إياه ، ماذا رأى من خلاله ؟ ابتسم … ضحكت عيناه حينها أدركت أنه يكتب قصائده المتشظية بأوجاعه ، بقوة ذكائه ودفء رؤاه . قلت في نفسي : لن أستطيع اقتحام قلاع الرجل فحصونه منيعة ، أبوابه فولاذية ، شرفاته عالية . في الحقيقة استرحت و أيقنت أنه كأرض ملغمة يجب تجنبها . ميلود علي خيزار قدراته الشعرية لا تنضب ، رؤاه قادرة على تثبيت دلالته ، لكن الذي أيقنته أيضا أن ميلود خيزار يمرر قصائده الموسومة بقضايا عديدة تؤرقه دون حاجة لأن يقول أو يفسر أكثر . فالجوانب الجمالية والبلاغية واللغوية والمعجمية هي الجزء الأهم في تركيب نصوصه ، وصوره الشعرية المتفردة ينحتها من واقعه المرئي . يقول في قصيدة ” إني أرى ” :
وافني يا جنون / كن بي حفيا / كن لي العتق / واصطفيني صفيا / خذ يدي خذ بها و … بقلبي / حيثما لا رواح…/ خذ عيني !/ والق بي في مهبك عصفورا وكن لي الجناح …/ كن رئتي./ جسدي غيمة / تبددها البيد …/ وهبني نشيدك العدميا .
هذه الروح التي تطلب الإنعتاق والحرية تأخذ موعدا مع الجنون كحبيب تصاحبه وترافقه وتعانق يده وتغمر قلبه بالشوق والحنين وتحتوي رئتيه لتضخ له هواء السعادة والنقاء ، وحده الجنون سيخلصه من هموم واقعه المثقل المزري . واقع يعج بقضايا عجز العقل السليم أمامها … ميلود خيزار يخرج الكلمات من قاموسها وطبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة ، طبيعة الخلق والشعرية ، :” إن استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية المتجمدة لا تنتج الشعرية ، بل ينتجها الخروج بالكلمات عن طبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة ، وهذا الخروج هو خلق….” . هذا ماقاله الناقد البرفسور السوري ” كمال أبو ديب ” . يقول الشاعر أيضا في قصيدة ” إني أرى ” :
نوبة منك تبعث الخبيء / وأخرى / أنا منها أضيئ بيت الثريا / خطوة في العماء تذهب بالعقل / وترمي قنديله الحجريا / وافني ياجنون / أنتنت الأرض / وقاحت .فكيف لا أتقيا …؟ وأنا ألبس التلال / و ألتحف الشمس / كم ربيعا شيعت /عندك ياتل/ وشال الشذا …على كتفي / غالبتني شبابة أيقضتها في رماد ” الصبا “/ رياح ” الليا / وافني يا جنون / ولترد الموت /
فكم! شاقني الحنين إلي. تلك النوبات الجنونية التي يجد فيها الشاعر الخلاص ، فتخرج كل الترسبات ، وحده المجنون يحق له ممارسة طقوسه وغرائبه دون حسيب أو رقيب ، فليتجرد العاقل من عقله ويرمِه كقنديل قديم لم يعد له مكان بواقعه ليخرجه من عتمته ، وكم كان حنينه إلى ذاته عظيما … فهو لم يستثني من تعتيم واقعه … فسعيه للجنون أو الموت سواء ، حيث يقتحم الشاعر من خلالهما الملموس والمحسوس في ذات الإنسان فهو يستمد نصوصه من التأمل والتجربة الحياتية فهذه الأخيرة مطعمة بالتشبيهات و الاستعارات ، ومرتكزة على معرفة ودراية . يقول في قصيدة : ” وجه نيرين ”
كان يلزمني / هدم القواعد …/ لأنظر …/ نحوك / تراجــــــعت الموجة / وانكسر زجاج المد / شهقة … شهقة / وأنت تغسلين الماء / بزهرة يديك القدسيـة / الطالعة … لتوها /من كذبة الصيف .
كما أحرق نيرين وجه روما الحسناء حتى لا يجرؤ أحد على التطلع إليها ، وشوهها حتى لا تكون لحاكم غيره ، هذا ما كان يلزم الشاعر ثورة من التمرد ليكسر ويهدم التقاليد والأعراف البالية وحدها الأشياء الجميلة المقدسة ترسخ بالذاكرة ، حتى و إن غسلت أم لا ستزداد نقاء و لمعانا . تلك زهرة الدنيا البهية التي يريد الشاعر الحصول عليها دون استعجال رويدا … رويدا و إن صادفته بالأكاذيب و الاحباطات ككذبة صيف فهي حتما تستحق التضحية والفداء . فقد عاملها بعشق متناهي … وركز فيها مشاعر النقاء . يقول الدكتور مشري بن خليفة : ” ميلود علي خيزار يتجاوز الموضوعات الأيديولوجية السائدة في الكتابة الشعرية في الجزائر إلى اهتمامه بوظيفة الشعر ممثلة في اللغة و الأسلوب و الإمتاع .” فلغته تسحبك ، ترعشك و تتعبك حينا .. هي فن عال من المعاني حروفها معتقة بحنين الروح مشبعة بضجيج الاندهاش نابعة من تجربة إبداعية تتسم بالغموض و الإمتاع . والصدق و العمق تأسس لمرحلة موسومة بالجدة والقوة و الثبات . ” يقول في قصيدة :
“غفوة أنا كلي سمع / وأنت نداء / نسيته الطريق / في غصة الناي / ونامت في حجره الأصداء / كلمات / قنديلها …غجري يؤنس الليل / و الكلام …عزاء / كلمات / تأوي الريح إليها / وإلى بيتها / تؤوب الجهات / أم سماء / تغفو الأناشيد فيها …/ حين تصفو / وتصعد الصلوات ؟/ . أم كتاب الحياة فاجأه الصيف / وفي سره …/ ينام الشتاء .
الشاعر هو الأصل وهو السمع وكل التنبيهات ، والنون فرع ، ما فائدتها إن غدت مجرد كلمات ستنتهي مع خيوط الحقيقة لتكون له عزاء … وجعه تأوي إليه الرياح والرماد والشتاء ، وتسكنه جهات الفراغ والأصداء . لغة ميلود خيزار تسحبك نحو أفخاخها … نحو ألغامها الاستفزازية والاحتمالات المختلفة ، لغة تنعطف بك نحو عوالم البعد ، ترتاد بك مجاهيل الدهشة فتتمتع بأسلوب حي في قصائده . فتعبيره عن الجوانب الخفية بدهشة وفجائية وخرق للمألوف يؤدي للجمال الفني … بتجاوزه للحدود الضيقة للغة .” فسر الشعرية أن تظل دائما كلاما ضد الكلام ، لكي تقدر أن تسمي العالم و أشياءه أسماء جديدة ، أي تراها في ضوء جديد … والشعر هو حيث الكلمة تتجاوز نفسها مفلتة من حدود حروفها ، وحيث الشيء يأخذ صورة جديدة ومعنى آخر “. هذا ما قاله أودنيس في كتاب الشعرية العرب ” . يقول ميلود خيزار في قصيدة :
” العاشقة أي حبيبي …/ وافني ساعة أصفو / مثل مرآة البحيرة / سترى وجهك / يا …كم كنت وحدي/ أقرأ الأنجم / في سهوي / وأخفي / في بريد الريح/ للصدفة/ أشواقي المريرة / وافني …ساعة يصفو / لهب الملح على شطآن / …. جفني / ويغفو / عطب الروح .
محراب ميلود خيزار جسد فيه فلسفة حزن و احتراق صارخة متماهية في البوح ، يصلب على أبعاد حب مستحيل لتغيير واقع متردي … فهو شاعر يأخذك لترفه الشعري ، يأخذك لمذاهب وعوالم لم تكن قد ذهبتها من قبل ، قد يبهجك بها تفهما حينا ، ويغمرك غموضها حينا آخر، تتضارب في نفسك خواطر. أتراه خداع مرتب من الشاعر؟ تعمد امتطاء المبهم ، والتجول في أماكن و أوقات لا تضيق بقصائد يقول في قصيدة : ” السفرة ”
عبدوا الشمس / فلما أفلت…/ أشعلوا النار / وطافوا سبع مرات بها / حتى إذا الرقص نآى / بالسوق والأعناق / دارت خمرة الإيقاع / بالأوصال جاؤوا شاطئ المهد / وزجوا بالقرابين / ألسنة النار / ولاذوا . من خطاياهم /بأسباب النقاء ./ عبروا الطقس / إلى الأرض التي استشرى / وباء اليتم في أطفالها ثم ../ عراة … خلصوا للبحر / بالسر … نجيا : يا شقيق الدمعة الأولى /على خذ الهباء … وألقت بحرير الماء/ للرمل/ قميصا يوسفيا ./ وعرا رجع سؤال فادح / وجه السماء من ترى يعبر رؤيانا / إذا أنكرت الريح / دم الشعر / وباع البدو / قمصان الغلام؟.
حتى وإن كان إخوة يوسف زيفوا الحقائق وأشعلوا نار الغيرة والحسد ، فالسنابل السبع جادت بالخصب والخير وانقذت الأرض اليباب الجدباء و ما نفعت القرابين ، الشعوب العربية ستتوحد فكرا وروحا وتتجاوز الخلافات … وحده النقاء الروحي يغسل الخطايا . ويرجع المفقود ويسعد القلوب ،ويبقى الأمل قائما . براعة ميلود خيزار في إنشاء ألفاظه الغامضة الواضحة ، تشكل شجرة معانيه التي لا تنحني . عزم على الغوص في تفاصيل المعاني وإعادة بناء الممكنات . و قد انساب وراء الاحتفاء الغير معهود بنصوصه . قصائد ميلود خيزار تعلق بالذهن .. تسحبنا رياضه البديعة ، فتغدو متعطشا لها ، فهو يملك جميل التصميم واحترافية الحرف وتبقى ذاكرته تقتحم مدن الشعر الحقيقية وإن كانت موصدة في وجه غيره يقول في قصيدة : ” دوامة ”
في البدء / سلكت متاه النظرة … ثم / شددت إلى جهة الرغبة / خيط الروح/فتحت الطرق السرية / في غاباتي الأولى ./ فطفقت تعدين ./ .
الشاعر ميلود الخيزار كما الينابيع الدائمة يتدفق ذكاؤه ، ويغمرك بسلاسة حديثه الحكمة تتحول إلى نكتة عنده . فتنطبق عليه مقولة جبران خليل جبران ” ليس من يكتب بالقلم كمن يكتب بمداد القلب” أتراه يقدس الكتابة ؟ وهو الذي أعد لها نفسه جيدا من خلال لغته المتناهية في الإتقان وانشغاله عليها انشغالا داخليا ، تلك لغته التي اتسمت بالقدرة في تحقيق جودتها ، وتمكنه من تجاوز التعبير العادي ” اللغة مقياسا أساسيا في التمييز بين الشعر والنثر ، فحيث نحيد باللغة عن طريقتها العادية في التعبير والدلالة . ونضيف إلى طاقتها خصائص الإثارة . والمفاجأة والدهشة ، يكون ما نكتب شعرا ، والصورة من أهم العناصر في هذا المقياس فأينما ظهرت الصورة تظهر معها حالة جديدة وغير عادية من استخدام اللغة ” هذا ما قاله أودنيس في كتابه مقدمة النقد العربي ” . يقول الشاعر ميلود الخيزار في قصيدة :
” لا أرض تنذر … بالنجاة لا أرض تنذر … بالنجاة / سأموت بين الأزرقين / سماؤها / ومياهي العطشى …/ سأقعد للوساوس / في عماء المس / واجنيتي / متعوذا بالشعر والهذيان / من ظن الرقاة /في أعين الناي البصيرة …ضوء ماء حافي القدمين / يرقص / .
صور ميلود خيزار آتية من أصقاع الحلم القصي ، فهو الشاعر المسكون بالإتقان فان كانت الشعرية عنده تمثلت في ما أحدثه نصه من تقبل و ارتياح لدى المتلقي يقول الناقد توفيق الزيدي في كتابه مفهوم الأدبية في التراث النقدي : ” أول موقع لرصد الأدبية هو التقبل وهذا طبيعي إذا اعتبرنا الأدب خاضعا لشبكة التواصل ، فتكون الأدبية آنذاك منحصرة فيما يحدثه النص من وقع في المتقبل هو ما نعبر عنه بالتلذذ الأدبي ” … قصائده قادرة على البوح وتخزين قوتها العالية من الحدس و الإيحاء ، لا فرق إن كانت الصور مفردة أو مركبة تحدث الجمود أو التنافر فقد غاصت في أعماق اللاوعي ، وابتعدت عن التوليد والتآلف ولامست العقل وثبتت بواعي القارئ . ففي ديوان ” إني أرى ” الشاعر كان يستلذ برمال الصدمة وهو المسكون بالتباهي بعراجين الشعر وحبات رمان الحرف . يقول في قصيدة :
” نداء ” هذه الصحراء / ميراثي الوحيد / لي …إذن …/ أن أتعرى …/ … فمن التجريد ما يفضي / نائمة في عطب الناي / وقد أنسى فأشفي / فعزاء الوحشة … النسيان / والتوق … إلى التيه البعيد / …..
مازال الشاعر يستلذ بدفء الشوق للصحراء فهي الميراث الذي يعتز به … لأنها الكنز الحقيقي لوطنه . ديوان ” إني أرى ” صادر عام 2011 م عن دار النهضة العربية – بيروت – لبنان . به أربعة عشر قصيدة ، مسربل بالوجع الإنساني وكأنه بطاقة هوية للشاعر والمتلقي ، الحزن عنده يتحول إلى معلوم قد يراه و قد يمسك به ، قد يتركه للمجهول والصمت والفراغ ، وقد يصفه تارة .احتجاج يظهر بوضوح في مجموعة “إني أرى” يترجمه لبوح شعري . .وهو غارق في التأمل وقوة البوح ، وما سيره في الطرق السرية بين قصائده إلا جزء من الاحتجاج الظاهر في هذا الديوان فقد استخرج الألم من مشاعره واقترب من ملكوت الجمال والحب و الرهبة . * بينما ديوان ” أزرق حد البياض ” الصادر عن دار العين للنشر – القاهرة – سنة 2013 م يستهله بجراح ونداءات وهتافات الأمنيات ، بطموحات العصفور الجريح ، الكلام أصبح بلا معنى فقد صدر مع عتمة الليل وذاك العصفور أو الجندي مات بين أنامل محبيه و رفاقه ، النداء لم يعد يبشر باسترجاع المفقود.يقول في هذا النص : ” من جرح نافذة ” مواربة” … رأيتك يا نداء الضوء ترقص مثل عصفور ذبيح …كدم تزحف مثل جندي جريح وبروح أغنية تراود دفة الشباك …لا …لا… لا تمت يا ضوء بين أناملي . ناديته … أرجوك يا عصفور لاترحل ولا تذهب بروحي . ” . ميلود خيزار يخلق الحيز الجمالي لنصوصه من خلال الحركة اللغوية . تغلب على جميع صعاب اللغة الساكنة لأنه يبدو أنه روض قلمه جماليا وفنيا . تلك المفردة التي يعطي لها الشاعر الكثير من المعاني المختلفة ، والكثير من دهشة المعنى الجمالي والدلالي .يقول في قصيدة صوتك :
في نهر صوتك / تستحم الشمس / قبل دخولها / بغلالها … سرا / إلى بيت المساء من ناي صوتك تهبط الأنهار حافية / على الغابات / حاملة …لحمى الصيف/ … أوصال الشتاء/ في حقل صوتك / ساحر …تتطاير الكلمات من يده / فراشات فراشات / لتسقط في نبيذ الضوء / سكرى …
بالنداء . يقول الناقد جابر عصفور: ” جمالية الصورة الشعرية تقترن عند الشاعر بقوة التخيل فهي تعني به ، كونها على علاقة عضوية به ، فإن كانت قوة التخيل تجمع بين الأشياء المتباعدة التي لا تربط بينها علاقة ظاهرة فتوقع الائتلاف بين أشد المخلفات تباعدا وتلقي حدود الزمن وأطر المكان وتنطلق إلى آفاق فسيحة لصنع الفجائي ” . يقول في قصيدة :
” أزرق حد البياض ” ما ” الفودكا : ؟/ أدلك …/ إذا رأيت شتاء يترنح سكرا/ في نظرتي ؟/ فسليه / تعالى نقطف كرز القبلة التي /تمادى نضجها في شفتينا .
الخرق الشعري” الإنزياح” يظهر واضحا عند إسناد الترنح لغير السكارى والمرضى و إن كانت الفودكا الخمرة الروسية المعتقة قد أشعلت الدفء في شتاء قلب الشاعر وأيضا في إسناد الصدر للموجة عوض الصدر للإنسان / البحر ، فصورة المرأة في قصائده تبقى رمزا متعدد الأبعاد تلتقي في نقطة واحدة لأنها الحبيبة و الخمرة المسكرة ، ونهر الصوت ، والتفاح المحبوس وستقول أغنية وهي الأم وقالت النجمة وصدر الموجة….هذه الأحاسيس التي كشفها ميلود خيزار عكست دلالاته الوجدانية . وهو الذي يحسن النفاذ إلى أعماق الأشياء من خلال لغته المتجددة ، فقد منح شعره سمة الإبداع ، وجعله يقاوم الموت فالصورة الشعرية الأولى في ” قصيدة ازرق حد البياض” حين يقول تصرف كالبحر / وامح حبا بحب /عش بموتك …لحظتك الخالدة . الحب عند الشاعر يمحوه حب آخر فروحه لا تصاب بالوهن و الاستسلام وكذلك حال لغته ، الحب يتجدد في تغيره مع الأشياء كتجدد وتغير لغة الشاعر التي تقوم على دعائم القوة والجدة والتفرد يقول في نفس القصيدة السابقة :
بين قميص البحر / وصدر الموجة / يضيع خيط الروح / وتدمع … عين الإبرة /في نومي / رأيتك تلوحين إلى البحر/ بيدين واهنتين / وأمواجه تموت على الصخور الباردة /
دعوة للخلود داخل الفناء و الموت فالروح ستخلد كالمياه الخارجة من ينابيعها الأصلية تشق مجراها فتلامس الأرض وتلتحم معها وتعانقها مرة واحدة من عمرها . كذلك استعمال الشاعر للصورة الشعرية الجديدة يعانقها مرة واحدة لم يسبقه إليها غيره . فتصبح بذرة الإبداع الشعري عند الشاعر و قد زرعها بحقول الأحاسيس وسقاها بقوة الخيال والحدس و غذأها بقوة الفكر والمعرفة . فنمت وتكاثرت وطاولت أغصان شجره الشعري الوارف يقول في نص ” ايكاروس ” :
الاسم …” ايكاروس ” / واللقب …الجنون ./ مما تبقى لي من الشمع الرخيص . أعد أجنحة … وأرمي هكذا جسدي الملوث … من أعالي البرج …على الريح تخطني إلى ذلك الفضاء الحر …مثل كلام أغنية …بلا وطن ولا فتوى بحق البوح …
الشاعر لجأ إلى توظيف الأسطورة الإغريقية ذائعة الصيت ، الفتى ” ايكاروس ” الذي أراد التحليق خارج الفضاء بجناحين من ريش الطيور وقد ألصقهم والده ” ديادلوس ” بالاحاح منه بالشمع … الشاعر أراد التحليق بعيدا عن أرض واقعه المتردي حتى يتخلص من تقاليد وعادات بالية… والسؤال المطروح هل سيكون الوقت كافيا ليمهله لتحقيق أمانيه ويغير ما يجب تغييره – وإن كلفه تغيير حتى دمه- ؟ وهل ستكون إرادته صلبة و صبره كافيا أيضا ؟ . أم أن أجنحته ستنصهر مثل أجنحة ” ايكاروس” لأنه لم يقدر نصيحة والده ولم يترك المسافة الكافية بينه وبين أشعة الشمس … بينما الشاعر وإن كانت فكرته واضحة .. و وصوله للحقيقة سيكلفه فقدان الكثير فالأجنحة لم تكن ضعيفة أو أن شمعها لا يتحمل حرارة الشمس بل ” أريكاروس ” لم يعد العدة ولم يسلك الاتجاه المناسب كذا حال الشاعر إن لم تتحقق أمانيه ومساعيه فقط لأن فكرته لم تكن واضحة بما يكفي فعدم الانتماء الذي يراوده يتطلب ثورة شاملة لينجو من واقعه حتى وإن اتهم بالجنون … وخانته الظنون وانصرف عنه الرفاق . يقول في قصيدة ” رماد أبي“:
في البدء … أذكر …/ يتم القصبة / ثم كواها …لكي تصير الثقوب /عيونا عمياء توقد أشواقها / ليستفرد الوحش /بقلب الغريب /هتفت عاشقة /” يا هذه الروح ” وألقت بشال من العطر /في طريق ” البيات ” / ومشت سبع نخلات إلى مائه / و أحسبني قلت …سبع بنات ./ ثم إني كنت في حجر أمي / مثل ناي أبي الغارق / في نبيذ الحياة….سألت أين أبي/ قالت النجمة …” مات ” .
إن كانت اللغة الفنية عند الشاعر والصورة الشعرية المتحركة تشد القارئ وتقتحم مخيلته باعتبارها أضحت لديه رؤية متبصرة … وتلك الصور المطعمة بالإيحاءات ” بيت القصبة ” ، فلا يدرك قيمة الآباء إلا من خبر مناحي اليتم ، واكتوى بالغياب وحدها الذكرى ستبقى عزاء الشاعر الوحيد، فالقصبة تبدو سامقة و وحيدة ، فيتمها هو سر تميزها ومصدر عطائها … يقول في قصيدة الدوامة: إلى الشـاعر عـلي مغـازي في البـدْءِ سَـلكتُ متـاهَ النظرةِ… ثمَّ شَـددْتُ إلـى جـهة الرّغـبةِ خــيطَ الـرّوحِ فتـحتُ الطُّـرقَ السـّريةَ في غـاباتـي الأُولَـى. فطـفَقتِ تعُدّينَ عـلى فـخذِ الـعاجِ عـصافيرَ القـنَّبِ.. صِرنا شـجرًا تَنْهشهُ عاصـفةُ الأزرقِ لكـنّي حـاصرتُكِ بالصَّـمتِ وبـالقبـلاتِ أَضـأْتُ الـجُزرَ المنـسيَّةَ سـمّيتُ ذراعـيكِ… كـلامَ الشـُّطآنِ وشَـعرَك… ألسـنةَ النّـيرانِ ووجـهَكِ… فاكـهةَ الجـنَّةِ قـشَّرتُكِ… سَـمّيتُ يـَـدِي فـأرًا نـهدَكِ… حـفنةَ جُـبنٍ والشّـفتـينِ… أصـابعَ شـوكـولا. ثُـمَّ… ركِـبنا الـدوّامةَ أسـلَمْنا جـسدَيْن لـدُوارِ الـبحر وعـانَقـْنـا المـجْهولاَ. وهنـاكَ تجـرَّدْنـا… للمـوتِ هنـاك… افتـرَسَتنـا أنيـابُ الحُـمّى وابْتلـعَـتنا هـاويةُ الهَـيّولى
*فضيلة معيرش ) قاصة وشاعرة من الجزائر)
.