حدثنا الشيخ أبو الهيثم السمهري ، قال:
سهرَ الطاغية ذات ليلة، ومعه كبير الوزراء، أبوعبدالله المنجم، الملقب بضمير الغيب، فلما اقترب الفجرُ دعا صاحبَ شرطته وقال له:
- ابغِنا رجلا من عامة الناس، يسلينا بحديثه.
فغاب صاحب الشرطة برهة يسيرة، ثم عاد ومعه شيخ من بني أسد، فلما رآه الطاغية بادرَه بالسؤال:
- ممَّن الرجل؟
فأجابه:
- أنا أسديٌّ، يامولانا المستبد، اسمي إبراهيم بن سُرَيب بن الحارث بن ثعلبة. وقد وجدني صاحبُ الشرطة نائما عند باب المسجد الأعظم، فأيقظني وجاء بي إليك في هذا الوقت من الليل.
فلما عرف كبير الوزراء أن الرجلَ من بني أسد، استأذن الطاغية في أن يعبث به قليلا، فأذن له، فتوجه إليه بالكلام قائلا:
- يا أسدي، رحم الله الشاعر مرار الفقعسي الذي قال:
ما سَرَّني أنَّ أمي من بني أسد
وأنَّ ربّي يُنَجّيني من النارِ
وأنهمْ زوجوني منْ بناتهمُ
وأنَّ لي كل يوم ألفَ دينار
فابتسم الأسدي وقال لضمير الغيب( ملمحا إلى نسبته في بني عميرة):
- ورحم الله الشاعر الذي قال:
يا قبّح الله أقواماً إذا ذُكروا
بَني عُميرة، رهط الذل والعار
فتضاحك ضمير الغيب، وتفكر برهة ثم قال:
- يا قبح الله بني أسد، فقد كانوا يأكلون لحم البشر، وقد ذكر الشاعرُ ابنُ دارة امرأة منهم، تسمى رملة بنت فائد، أكلها زوجُها وأخوها، بعد ليلة عرسها، فقال في ذلك:
وباتت عروساً ثم أصبح لحمُها
جلا في قُدورٍ بينكمْ وجفانِ
وهذه الواقعة رواها الجاحظ في كتاب البخلاء.
فأطرق الأسدي قليلا وقال لضمير الغيب:
- ذلك من أباطيل الجاحظ، ومن تخاريف الشعراء، يا كبير الوزراء.
غير أن ضمير الغيب تمادى في العبث بالأسدي وخاطبه بقوله:
- ورحم الله أبا نواس الذي قال:
تَبْكي على طلل الماضين من أسَدٍ
لا درَّ درُّكَ قلْ لي منْ بَنُو أسَدِ؟
فابتسم الأسدي عند سماع ذلك البيت، ثم قال لكبير الوزراء:
- إذا كان أبو نواس قد سخرَ من بني أسد في هذا البيت، فإنه قد استهزأ بالأعاريب كلهم في البيت الذي يليه، حين قال:
ومَنْ تَميمٌ ومَنْ قيسٌ وإخوتهمْ
ليس الأعاريب عند الله منْ أحَدِ
فضحك الطاغية عند سماعه ذلك، وعاد كبير الوزراء يقول للأسدي:
- وأيّ خير يُرجى منكم - يا بني أسد - وقد كنتم تعبدون كوكبَ عُطارد، قبل البعثة، وتطوفون بالكعبة عراة ؟! كما كنتم سفاكين للدماء، تغتالون الملوك وتبطشون بالشعراء. فمنكم علْباء بن الحارث، الذي قتَل الملك حجر، والد امرئ القيس، في زمن الجاهلية، ومنكم فاتك بن جهل، الذي قتَل المتنبي، قرب دير العاقول، في القرن الهجري الرابع.
فلما سمع الأسدي ذلك الكلام، أطرق صامتا كأنما يفكر في الجواب، إلى أن قال له ضمير الغيب:
- والحق أنكم بقيتُم دائما على جانب من رقة الدين. وفيكم نزلت الآية الكريمة، من سورة الحجرات ( يَمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين.) وليس في الناس منْ يجهل قصة طليحة بن خويلد الأسدي، الذي أسلمَ ثم ارتد، ثم ادعى النبوة! ولما هزمه المسلمون، هربَ ولحق بآل جفنة الغسانيين.
قال الأسدي :
- ولكنه عاد فأسلمَ، وشهدَ اليرموك والقادسية، ومات شهيدا في نهاوند. ثم إن بني أسد لا يتباهون بهذا الفارس المجاهد فحسب. ففيهم عدد كبير من الأخيار الأفاضل، وعلى رأسهم أم المؤمنين زينب بنت جحش. أما شعراؤنا الفصحاء، فمنهم بشر بن أبي خازم، الفارس المقدام، صاحب المواقع المذكورة والقصائد المشهورة، وعبيد بن الأبرص، الذي كانت الجن تتغنى بأشعاره في أحياء العرب. ومنهم الكُمَيت بن زيد، شاعر بني أسد وخطيبهم الذي لا يضاهى. وقد كان رحمه الله حافظا للقرآن، شجاعا ثبت الجنان، وكان أرمى الناس بسهم، لا يسدد إلا أصاب. ومنهم الأقيشر، أبو معرض، الذي كان من رجال عثمان بن عفان المخلصين. ثم إنه لا يخفى على أحد أن بني أسد هم لسانُ مُضَر، وعليهم كان يعتمد اللغويون في وضع علوم اللغة واستنباط قواعدها، في العصر الإسلامي الأول، ورحم الله يونس بن حبيب، الذي قال:" ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر أو كاهن أو فارس."
فلما سمع الطاغية كلام الأسدي، نظر إليه بإعجاب، ثم أشار لضمير الغيب أن يكف، وقال للرجل:
- يا أسدي، سَلْ حاجَتَك.
قال الأسدي:
- والله ما جئتك لحاجة في نفسي، يامولانا الطاغية، ولكن صاحب شرطتك هو الذي جاء بي إليك. ولَنَومتي عند باب المسجد الأعظم، في جوز الليل، أحبّ إلي من مال الدنيا كلها.
فعاد الطاغية يضحك من الأعماق ثم أمر الأسديّ بالانصراف.
سهرَ الطاغية ذات ليلة، ومعه كبير الوزراء، أبوعبدالله المنجم، الملقب بضمير الغيب، فلما اقترب الفجرُ دعا صاحبَ شرطته وقال له:
- ابغِنا رجلا من عامة الناس، يسلينا بحديثه.
فغاب صاحب الشرطة برهة يسيرة، ثم عاد ومعه شيخ من بني أسد، فلما رآه الطاغية بادرَه بالسؤال:
- ممَّن الرجل؟
فأجابه:
- أنا أسديٌّ، يامولانا المستبد، اسمي إبراهيم بن سُرَيب بن الحارث بن ثعلبة. وقد وجدني صاحبُ الشرطة نائما عند باب المسجد الأعظم، فأيقظني وجاء بي إليك في هذا الوقت من الليل.
فلما عرف كبير الوزراء أن الرجلَ من بني أسد، استأذن الطاغية في أن يعبث به قليلا، فأذن له، فتوجه إليه بالكلام قائلا:
- يا أسدي، رحم الله الشاعر مرار الفقعسي الذي قال:
ما سَرَّني أنَّ أمي من بني أسد
وأنَّ ربّي يُنَجّيني من النارِ
وأنهمْ زوجوني منْ بناتهمُ
وأنَّ لي كل يوم ألفَ دينار
فابتسم الأسدي وقال لضمير الغيب( ملمحا إلى نسبته في بني عميرة):
- ورحم الله الشاعر الذي قال:
يا قبّح الله أقواماً إذا ذُكروا
بَني عُميرة، رهط الذل والعار
فتضاحك ضمير الغيب، وتفكر برهة ثم قال:
- يا قبح الله بني أسد، فقد كانوا يأكلون لحم البشر، وقد ذكر الشاعرُ ابنُ دارة امرأة منهم، تسمى رملة بنت فائد، أكلها زوجُها وأخوها، بعد ليلة عرسها، فقال في ذلك:
وباتت عروساً ثم أصبح لحمُها
جلا في قُدورٍ بينكمْ وجفانِ
وهذه الواقعة رواها الجاحظ في كتاب البخلاء.
فأطرق الأسدي قليلا وقال لضمير الغيب:
- ذلك من أباطيل الجاحظ، ومن تخاريف الشعراء، يا كبير الوزراء.
غير أن ضمير الغيب تمادى في العبث بالأسدي وخاطبه بقوله:
- ورحم الله أبا نواس الذي قال:
تَبْكي على طلل الماضين من أسَدٍ
لا درَّ درُّكَ قلْ لي منْ بَنُو أسَدِ؟
فابتسم الأسدي عند سماع ذلك البيت، ثم قال لكبير الوزراء:
- إذا كان أبو نواس قد سخرَ من بني أسد في هذا البيت، فإنه قد استهزأ بالأعاريب كلهم في البيت الذي يليه، حين قال:
ومَنْ تَميمٌ ومَنْ قيسٌ وإخوتهمْ
ليس الأعاريب عند الله منْ أحَدِ
فضحك الطاغية عند سماعه ذلك، وعاد كبير الوزراء يقول للأسدي:
- وأيّ خير يُرجى منكم - يا بني أسد - وقد كنتم تعبدون كوكبَ عُطارد، قبل البعثة، وتطوفون بالكعبة عراة ؟! كما كنتم سفاكين للدماء، تغتالون الملوك وتبطشون بالشعراء. فمنكم علْباء بن الحارث، الذي قتَل الملك حجر، والد امرئ القيس، في زمن الجاهلية، ومنكم فاتك بن جهل، الذي قتَل المتنبي، قرب دير العاقول، في القرن الهجري الرابع.
فلما سمع الأسدي ذلك الكلام، أطرق صامتا كأنما يفكر في الجواب، إلى أن قال له ضمير الغيب:
- والحق أنكم بقيتُم دائما على جانب من رقة الدين. وفيكم نزلت الآية الكريمة، من سورة الحجرات ( يَمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين.) وليس في الناس منْ يجهل قصة طليحة بن خويلد الأسدي، الذي أسلمَ ثم ارتد، ثم ادعى النبوة! ولما هزمه المسلمون، هربَ ولحق بآل جفنة الغسانيين.
قال الأسدي :
- ولكنه عاد فأسلمَ، وشهدَ اليرموك والقادسية، ومات شهيدا في نهاوند. ثم إن بني أسد لا يتباهون بهذا الفارس المجاهد فحسب. ففيهم عدد كبير من الأخيار الأفاضل، وعلى رأسهم أم المؤمنين زينب بنت جحش. أما شعراؤنا الفصحاء، فمنهم بشر بن أبي خازم، الفارس المقدام، صاحب المواقع المذكورة والقصائد المشهورة، وعبيد بن الأبرص، الذي كانت الجن تتغنى بأشعاره في أحياء العرب. ومنهم الكُمَيت بن زيد، شاعر بني أسد وخطيبهم الذي لا يضاهى. وقد كان رحمه الله حافظا للقرآن، شجاعا ثبت الجنان، وكان أرمى الناس بسهم، لا يسدد إلا أصاب. ومنهم الأقيشر، أبو معرض، الذي كان من رجال عثمان بن عفان المخلصين. ثم إنه لا يخفى على أحد أن بني أسد هم لسانُ مُضَر، وعليهم كان يعتمد اللغويون في وضع علوم اللغة واستنباط قواعدها، في العصر الإسلامي الأول، ورحم الله يونس بن حبيب، الذي قال:" ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر أو كاهن أو فارس."
فلما سمع الطاغية كلام الأسدي، نظر إليه بإعجاب، ثم أشار لضمير الغيب أن يكف، وقال للرجل:
- يا أسدي، سَلْ حاجَتَك.
قال الأسدي:
- والله ما جئتك لحاجة في نفسي، يامولانا الطاغية، ولكن صاحب شرطتك هو الذي جاء بي إليك. ولَنَومتي عند باب المسجد الأعظم، في جوز الليل، أحبّ إلي من مال الدنيا كلها.
فعاد الطاغية يضحك من الأعماق ثم أمر الأسديّ بالانصراف.