إنّ طرح إعادة النظر بالمادية التاريخية أو استبدالها بالتصور المادي للتاريخ ليس شكليّاً بل إنّه يعبّر عن اختلاف جوهريّ، حيث إنّ الماديّة التاريخيّة تشير إلى تصوّر منجز، مكتمل، بينما يشير التصوّر الماديّ للتّاريخ إلى منظور يُحكم فهم التاريخ، وبالتالي هو ينطلق من عدم اكتمال البحث في التاريخ بل يؤكد ضرورة هذا البحث. لكن إلامَ ينحكم هذا البحث؟ هنا لا بدّ من تلمّس مسار نشوء وتطوّر الماركسيّة، لنصل إلى كيف تشكّلت الماديّة التاريخيّة.
ما هي أهمّيّة ماركس؟
ماذا أضاف كارل ماركس؟ بالتأكيد ليس سهلاً التوافق على إجابة واضحة على ما أضافه ماركس، وأيّ الأفكار كانت هي المفصل الذي شكّل ما بات يُسمّى الماركسيّة. ففي تاريخ الماركسيّة إجابات متعدّدة، وأفكار مختلفة، كان واضحاً أنّها نتاج تأثُّر بتيّارات سابقة، لكن أيضاً بمصالح فئات باتت تعتبر ذاتها ماركسيّة.
فلا شكّ في أنّ أهمّيّة ماركس خضعت لمنظورات مختلفة من «مريديه»، ومن الماركسيّات اللاحقة. فقد سادت «نظرة اقتصاديّة» نتيجة تركيز ماركس على الاقتصاد الرأسماليّ، وساد منظور تطوريّ ينطلق من انتقال أنماط الإنتاج بشكل تدرّجيّ و«عفويّ» (أي بلا فاعليّة ذاتيّة). ولقد انعكس كلّ ذلك في تحديد دور الماركسيّة في الصراع الطبقيّ، وفي تحديد التكتيكات الضروريّة لانتصار البروليتاريا. وكان واضحاً أنّ علاقةً ملتبسة تقوم بين الاقتصاديّ والفلسفيّ، ومَيل للتّركيز على «الماديّ». لقد انتقد إدوارد بيرنشتاين «بقايا هيغليّة» لدى ماركس، وقصد الجدل، لكنّ يورغي بليخانوف تمسّك بالجدل مختصراً إيّاه إلى منظور خطّيّ يتعلّق بمبدأ التراكم الكمّيّ والتغيّر النوعيّ، بينما حاول لينين باعتماد فريدريك إنجلز، وبالعودة إلى هيغل، أن «يتْبَع» إنجلز في فهم الدّيالكتيك. وفي كلّ هذه المراحل كان يبدو أنّ الاقتصاد هو المغري، حيث تتمظهر الماركسيّة في طابعها الاقتصاديّ.
مع هيمنة ستالين و«أدلجته» الماركسيّة ساد منظور «تخصّصيّ» قسّم الماركسيّة إلى أربعة فروع «علميّة»: الأوّل هو الماديّة الديالكتيكيّة، والثّاني هو الماديّة التاريخيّة، والثّالث هو الاقتصاد السياسيّ، والرّابع هو الاشتراكيّة العلميّة. لكنّ موت ستالين فرض «إعادة نظر»، ومحاولةً لتجاوز «الماركسيّة السوفياتيّة بالعودة إلى ماركس». هذا ما أدّى إلى «اكتشاف» نصوص لماركس جرت التغطية عليها، منها ما يتعلّق بـ«نمط الإنتاج الآسيويّ»، الذي حظي بتنظير وبحث ونقاش طيلة خمسينيّات القرن العشرين وستّينيّاته. لكنّ الأهمّ هنا هو «نقد الديامات» (والديامات هي الشكل الذي اتخذه المفهوم المادي للديالكتيك في الاتحاد السوفيتي خلال الفترة الستالينية) التي «غرزها» المنظّرون السوفيات في الماركسيّة استناداً إلى إنجلز، وكان القصد يتعلّق بالجدل. هذا ما أنتج النظريّة الماديّة التاريخيّة التي أصبحت سمة الماركسيّة الغربيّة.
لا شك في أنّ المَيل الاقتصاديّ هو الذي كان يتعمّم في الماركسيّة الغربيّة منذ الأمميّة الثانية، ومن ثَمّ تحوّل منظورات الأحزاب الاشتراكيّة الديمقراطيّة، رغم مجهودات أنطونيو غرامشي لتنظير «المستوى السياسيّ» انطلاقاً من الديالكتيك، وكلّ البحث النظريّ الثريّ الذي تضمنّته «كرّاسات السجن». ورغم مجهودات جورج لوكاش هائلة الأهمّيّة في «نقد العقل»، وتأسيس أنطولوجيا الوجود الاجتماعيّ، ورغم أفكار فلهالم رايش، وربّما آخرين. لهذا، ربّما، كان هذا المَيل في أساس العودة إلى «الماديّة» التي كانت تبدو أنها تمثّل تجاوزاً لديالكتيك يعمّمه السوفيات معتمدين على إنجلز، هذا الأخير الذي بات يشير إلى انحراف مبكّر في الماركسيّة، وتكريس لما جهد ماركس لتجاوزه، أي «لوثة هيغل». فإنجلز هو الذي نظّر أسس الديالكتيك في كتابه «ضدّ دوهرنغ».
إذن، لقد أفضى رفض الماركسيّة السوفياتيّة إلى رفض «الماديّة الديالكتيكيّة» وقبول «الماديّة التاريخيّة». ولقد جرى تحميل إنجلز «خطيئة» الجدل، كما جرى اعتبار أنّ مشكلة الماركسيّة السوفياتيّة تكمن في اعتمادها على «الديامات» (الجدل)، رغم أنّها أوّل من تخلّى عن الجدل حينما حوّلته إلى «موضوع تأمّليّ» بعدما فصلتْه عن الواقع من خلال إبعاده عن البحث فيه، وباتت الماديّة التاريخيّة هي المنظور الذي يحكم فهم التّاريخ (أو يكرّر فهم التاريخ كما جرت صياغته انتقائيّاً)، وبات الاقتصاد السياسيّ هو المنظور الذي يكرّر مفاهيم الاقتصاد الرأسماليّ. ومن ثمّ قاد هذا الرفض إلى تأسيس الماديّة التاريخيّة في الماركسيّة الغربيّة على نصّ ماركس الوارد في مقدّمة كتاب «إسهام في نقد الاقتصاد السياسيّ». فما يوضحه ماركس في هذا الكتاب هو التالي: «(…) والنتيجة العامّة التي وصلتُ إليها، والتي أصبحتْ، بعد اكتسابها، الخيط الموجِّه لدراساتي، يمكن أن تصاغ صياغة موجزة كما يلي: تقوم بين النّاس، في الإنتاج الاجتماعيّ لحياتهم، صِلات معيّنة ضروريّة مستقلّة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تقابل درجةً معيّنةً من درجات نموّ قواهم الإنتاجيّة الماديّة، ويؤلّف مجموع هذه العلاقات الإنتاجيّة البنية الاقتصاديّة للمجتمع، وهي القاعدة المشخّصة التي تقوم فوقها بنية حقوقيّة وسياسيّة، والتي تقابلها أشكال معيّنة من الوعي الاجتماعيّ»، ويكمل «إنّ أسلوب إنتاج الحياة الماديّة يشرط سلسلة أفاعيل الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة بصورة عامّة»، بالتالي «فليس وعي النّاس هو الذي يعيّن وجودهم، بل إنّ وجودهم الاجتماعيّ على العكس من ذلك هو الذي يعيّن وعيهم» (ط/ دمشق ص٢٥). وهي الفكرة التي يقول إنجلز إنّها من اكتشاف ماركس، وهي الإضافة التي قام بها (مقدّمة البيان الشيوعيّ، ط/ موسكو ص١١).
كما جرى تكرار كلّ أفكار ماركس حول التاريخ باعتبار أنّها حقائق علميّة، بما في ذلك «المراحل الخمس» و«النّمط الآسيويّ»، وكلّ السّياقات التي ذكرها فيه. وفي هذا توافقٌ كامل مع منظور الماركسيّة السوفياتيّة للتاريخ، والمسمّى الماديّة التاريخيّة.
إنّ منطلقات الماديّة التاريخيّة تتمثّل في التعاقب في تطوّر المجتمعات الإنسانيّة، أي «التحوّل المستمرّ في البنى التحتيّة التاريخيّة للمجتمعات» (سمير أمين «عن الأزمة»، ص٦١). ولا شكّ في صحّة هذه الفكرة، لكن كيف يمكن فهم هذا التعاقب؟ لقد أشار ماركس وإنجلز إلى تعاقب أنماط الإنتاج، وأشارا إلى ذلك منذ «البيان الشيوعيّ»، لكنّ الفكرة كانت عامّة هنا، وعموميّة، حيث لا بدّ من تحديد الأسس التي تحدّد طبيعة كلّ نمط، وكيف ينتقل إلى آخر. وبالأساس ما هو المنظور الذي يحكم فهم كلّ ذلك؟ أي ما هو المنطق الذي يحكم النظر لفهم ذلك؟
تسود في الماركسيّة الغربيّة فكرة أنّ الماركسيّة «في شكلها الناضج» تتحدّد في «تفسير ماديّ للتاريخ والسياسة، نقد للاقتصاد السياسيّ الرأسماليّ، والتزام بالثورة الاشتراكيّة». وتعتبر النّصّ الوارد في مقدّمة «إسهام في نقد الاقتصاد السياسيّ» نصّاً برنامجيّاً، «يتمتّع بسلطة مرجعيّة رفيعة جدّاً»، وهو «الإطار العامّ الذي وضعه ماركس لتحليل التاريخيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، الذي صار يعرف لاحقاً باسم: الماديّة التاريخيّة» (جاكسون، ص١٤١). ويشير هابرماس، الذي كتب حول إعادة بناء الماديّة التاريخيّة، إلى أنّ ماركس «كان ينظر إلى الماديّة التاريخيّة كنظريّة كليّة للتطوّر الاجتماعيّ، وكان يرى في نظريّة الرأسماليّة وحدةً فرعيّة من تلك النظريّة» (بعد ماركس، ص٥٥). ويبدو هنا وكأنّ هابرماس يردّ على الماركسيّة السوفياتيّة التي فصلتْ الماديّة التاريخيّة التي تتعلّق بالتاريخ وأنماط الإنتاج، عن الاقتصاد السياسيّ الذي يخصّ المرحلة الرأسماليّة. ويعتبر هابرماس أنّ أسس تحليل ماركس للرأسماليّة «يمكن أن تكون أساس النّظر إلى المجتمعات قبل رأسماليّة» (ص٥٥)، «فليست الماديّة التاريخيّة بالنسبة إليّ دلالة كشفيّة فحسب، بل هي نظريّة، وبالتدقيق نظريّة للتطوّر الاجتماعيّ تمتلك أيضاً، بفضل مكانتها التأمّليّة، قيمةً استدلاليّة بالنسبة إلى العمل السياسيّ»، ومن ثمّ يؤكّد على «تعاقب أساليب الإنتاج» (ص٨٥)، ومكرّراً وشارحاً ما ورد في نصّ ماركس في مقدّمة «إسهام حول هذا التعاقب كحقائق مطلقة الصحّة» (ص٧٥، و٨٧ - ٨٨).
لست في وارد إطالة الاستشهاد في هذا المجال، حيث حاولت أن أوضح جوهر الفكرة التي تنبني عليها «نظريّة» الماديّة التاريخيّة، التي باتت تتمتّع «بسلطة مرجعيّة رفيعة جدّاً» وتستخدم مقولات ماركسيّة وهي تشرع في تحليل التاريخ والسياسة. وهي المقولات المتداولة والصحيحة، مثل الاقتصاد والطبقات والدولة والأيديولوجية، وقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، البنية التحتيّة والبنية الفوقيّة، وأسلوب (أو نمط) الإنتاج. لكنّ المشكل هنا يتمثّل في اعتبار أنّ هذه المقولات (أو المصطلحات) هي إطار التفسير الماديّ للتاريخ، أي تحويلها الى «أداة منهجيّة».
ماهيّة الماركسيّة
كان السؤال حول ماهيّة الماركسيّة متكرّراً منذ ماركس، حيث لمس «الانحراف الاقتصاديّ» فصاح «أبلغوا هؤلاء أنّني لست ماركسيّاً» (حسب ما أورد إنجلز وهو يفسّر موقع الاقتصاد في بنية الماركسيّة كما ذكر في رسائل كتبها لزعماء الأمميّة الثانية، «رسائل حول الماديّة التاريخيّة»). وإذا كانت الماركسيّة وُلدت من هيغل ومن نفيه (أي فورباخ)، فقد مال بعض الماركسيّين إلى رفض «البقايا الهيغليّة» في الماركسيّة كما فعل بيرنشتاين، والميل إلى اعتبارها منظوراً اقتصاديّاً. وهو الرفض الذي تكرّر في خمسينيّات القرن العشرين وما بعد، مع الميل لـ «تجاوز الاقتصادويّة» نحو الماديّة التاريخيّة. لكن ما هو موقع الديالكتيك في نظريّة ماركس؟
ليس أفضل هنا من ردّ ماركس في المقدّمة الثانية لكتاب «رأس المال» على تبخيس بعض المعلّقين على الكتّاب الذين ساءتْهم طريقة عرضه التي هي «ديالكتيكيّة على نحو ألمانيّ» (ماركس ص٢٥). يقول ماركس «عندما كنت منهمكاً في كتابة المجلّد الأوّل من رأس المال شرع المقلّدون الصاخبون، المتصنّعون، والتافهون للغاية، الذين يلعبون الدور الأوّل في ألمانيا المعاصرة المثقّفة، يستهينون بهيغل، مثلما كان المقدام موزيس مندلسون في عهد ليسنغ يستهين بسبينوزا ككلب ميت. ولذلك أعلنت عن نفسي بصراحة أنّني تلميذٌ لهذا المفكّر العظيم، وحتى أنّني عمدت في بعض مواضع الفصل المتعلّق بنظريّة القيمة إلى محاكاة طريقة هيغل في التعبير. وإنّ الطّابع الصّوفيّ الذي ارتداه الديالكتيك على يدَي هيغل لم يحُل إطلاقاً دون أن يكون هيغل بالذّات أوّل من قدّم تصويراً شاملاً وواعياً للأشكال العامّة لحركته. فالديالكتيك يقف على رأسه عند هيغل، بينما ينبغي إيقافه على قدميه بغية الكشف عن اللبّ العقلانيّ تحت القشرة الصوفيّة» (ص٢٧-٢٨). ويشرح ماركس هذه الفكرة الأخيرة بالقول «إنّ طريقتي الديالكتيكيّة من حيث أساسُها لا تختلف عن طريقة هيغل وحسب، بل وتناقضها بصورة مباشرة. وبالنّسبة إلى هيغل فإنّ عمليّة التّفكير، التي يحوّلها حتّى تحت اسم الفكرة إلى ذات مستقلّة، هي ديمبورغ (خالق، مبدع) الواقع الذي لا يشكّل سوى مجرّد مظهر لتجلّيها الخارجيّ. أمّا عندي فعلى العكس، فالمثاليّ ما هو إلّا ماديّ منقول إلى رأس الإنسان ومحوَّل فيه» (ص٢٧). يكمل ماركس: «لقد أصبح الديالكتيك بشكله الصوفيّ موضةً ألمانيّة، لأنّه بدا وكأنّه يمجّد الأوضاع القائمة. وإنّ الديالكتيك بشكله العقلانيّ لا يثير لدى البرجوازيّة وأيديولوجيّيها المتحذلقين الجامدين سوى الحقد والذّعر، إذ إنّه يتضمّن إلى جانب الفهم الإيجابيّ لما هو موجود فهْم نفيه أيضاً وهلاكه المحتوم، وينظر إلى كلّ شكل مجسَّد من خلال الحركة، وبالتّالي من خلال جانبه العابر أيضاً، والديالكتيك لا يعبد أيّ شيء، وهو انتقاديّ وثوريّ من حيث جوهرُه ذاته» (ص٢٨).
ماركس يعلن هنا أنّ الديالكتيك هو طريقته، ولكنّه يميّزها عن طريقة هيغل من حيث «وضع الفكرة». ولقد قام إنجلز بمهمّة توضيح الديالكتيك، وطابعه الجوهري في جزء مهمّ من كتاباته. فقد شرح الأمر في كتاب «ضدّ دوهرنغ» الذي قرأه ماركس (وأسهم في جزء من الفصل المتعلّق بالاقتصاد كما يشير إنجلز)، وحاول فهم الطبيعة من خلال الديالكتيك في كتاب «ديالكتيك الطبيعة» (رغم تجاوز العلم لكثير ممّا ورد فيه)، وأعاد صياغة جزء من كتاب «ضدّ دوهرنغ» في كتاب «الاشتراكيّة: الطوبا والعلم» حيث أوضح بكلّ دقّة كيف أنّ الاشتراكيّة باتت ممكنة نتيجة عنصرين: نشوء الطّبقة العاملة واكتشاف الديالكتيك. وربّما حاول أن يشرح بالتفصيل علاقة الماركسيّة بهيغل وفورباخ في كتاب «لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكيّة الألمانيّة»، حيث أوضح كيف جرى إيقاف جدل هيغل على قدميه عبر بلورة الفهم الماديّ اعتماداً على فورباخ. كذلك لينين كان ينطلق من محوريّة الديالكتيك في الماركسيّة، وعاد لقراءة هيغل من هذا المنظور (الدفاتر الفلسفيّة، التي هي ملخّصاته لكتب هيغل وغيره). بهذا ليس من الممكن أن نعتبر أنّ الديالكتيك هو «نتوء هيغلي» في الماركسيّة يجب تجاوزه، ولا تكريس الاقتصاد كـ «جوهر» للماركسيّة، وبالتّالي تجاوز الفهم الذي قامت عليه الماديّة التاريخيّة.
موقع نصّ ماركس
لكنْ أين موقع نصّ ماركس آنف الذّكر في الماركسيّة؟ يقول إنجلز «إنّ الفكرة الرئيسيّة السائدة [في البيان] وهي أنّ الإنتاج الاقتصاديّ والبناء الاجتماعيّ، الذي ينشأ بالضرورة عنه، يؤلّفان في كلّ عهد تاريخيّ أساس التاريخ السياسيّ والفكريّ لهذا العهد، ولذا فالتّاريخ بأسره (منذ انحلال الملكيّة البدائيّة المشاعيّة للأرض) كان تاريخ نضال بين الطبقات» (ص١١)، وهي الفكرة التي توصّل إليها ماركس (ص١٢). وهي الفكرة التي تبلورت بشكل «ناضج» في مقدّمة «إسهام في نقد الاقتصاد السياسيّ». هل نفَتْ هذه الفكرة الجوهريّة «الطريقة الديالكتيكيّة» لدى ماركس؟
في «رأس المال» يتحدّث ماركس عن طريقته الديالكتيكيّة، وكما أوضحت يميّزها عن طريقة هيغل، لكنّ تمييزه لا يتعلّق بالديالكتيك بل بـ«القشرة الصوفيّة» (أو المثاليّة) التي تحكم منطق هيغل، حيث إنّ الأمر يتعلّق بموقع الفكر، هل أنّه هو الجوهر وما الواقع سوى تجلّيه الخارجيّ، أم أنّ الواقع هو الذي يكون في أساس وجود الفكر؟ ولهذا، ولأنّ ماركس يتمسّك بالديالكتيك بعد أن يوقفه على قدميه، يقول موضحاً موقع النّصّ سالف الذّكر الوارد في المقدّمة، «حيث عرضت الأساس الماديّ لطريقتي» (ص٢٥). ولقد أوردت النصوص التي تشرح معنى ذلك، والتي جرى اعتبار انّها من «اكتشاف مارك س». وهو يشير إلى ذلك في كتابه «إسهام في نقد الاقتصاد السياسيّ»، «فالموضوع الواقعيّ يبقى، من قبْل ومن بعد، مستمرّاً في استقلاله خارج الذهن، ويبقى كذلك طيلة الوقت الذي يكون فيه للذّهن فاعليّة تصوّريّة خالصة ونظريّة خالصة. وبالتّالي، فعند استعمال المنهج النظريّ أيضاً يجب أن يبقى، الموضوع، المجتمع، ماثلاً دوماً أمام الذهن كنقطة انطلاق أولى» (ص٢٧٩).
ما يشير إليه ماركس هو أنّ هذا النّصّ هو الذي بلور الأساس الماديّ للجدل، حيث بتنا نتحدّث عن الجدل الماديّ بخلاف جدل هيغل المثاليّ. وبالتّالي لم يكن هدف ماركس تجاوز الديالكتيك لمصلحة الماديّة، بل تأسيس طريقة تفكير علميّة جوهرُها الجدل الذي ينطلق من الوجود وليس من أولويّة الفكر. فالواقع يتطوّر في صيرورة جدليّة، وطريقة ماركس هي التي تسمح لنا بكشف هذه الصيرورة. فقد أوقف ماركس ديالكتيك هيغل على قدميه، أي وضعه على أساسه الماديّ الذي يشرحه هذا النّصّ. هنا ليس من قطع مع الديالكتيك بل عودة له متضمّناً الفهم الماديّ، أو الأساس الماديّ. هذا هو الجدل الماديّ.
إشكالية الماديّة التاريخيّة
قامت الماديّة التاريخيّة على تحقيق الفصل بين الجدل والفهم الماديّين، على نفي الجدل لمصلحة الماديّة التاريخيّة، التي باتت منظومة قوانين تحكم فهم التاريخ. هذا يعيد إلى الماديّة القديمة التي هي مثاليّة، بعدما كان ماركس وإنجلز قد رفعاها إلى أن تصبح علماً عبر الجدل الذي هو صيرورة الواقع، وبالتّالي نقلها من النّظر الشكليّ إلى فهم البنية، ومن سكونها إلى فهم حركتها، ومسارها. وبالتالي، يمكن أن نقول بأنّ هذا المنظور أعاد إنتاج الماديّة القديمة في شكل جديد عبر الاستعانة بمصطلحات ومقولات ماركسيّة، وأنّه أسقط كلّ الآليّات التي تسمح بفهم صيرورة الواقع. وسنلمس هنا كيف أنّ هذه الخطوة أفضت إلى تكريس المنطق الصّوَري، المنطق الذي بات يعني «التّحديد الشكليّ» للظّواهر، والسّابق لفاعليّة الجدل، حيث كان الجدل الماديّ يشكّل نقلةً نوعيّة في المنطق. وهنا، أسّس ماركس منطقاً جديداً، هو في جوهره علميّ، لأنّه ينطلق من الواقع، ويحلّل آليّاته «كما هي». فالجدل الماديّ هو الصيرورة الواقعيّة مجرَّدةً في الذهن في خطوطها العامّة.
بالتّالي، إذا كانت الماديّة التاريخيّة تشكّل انتكاسة نحو الماديّة القديمة، فقد شكّلت كذلك انتكاسة إلى المنطق القديم، أي المنطق الصّوَري. فالماديّة التاريخيّة التي عمّمتها «الماركسيّة السوفياتيّة» وراجت في أوروبّا هي «تنظير» بعض نصوص ماركس وقولبتها في قوانين حول التاريخ، وكان نصّ ماركس في مقدّمة «إسهام في نقد الاقتصاد السياسيّ» هو جوهر هذه القوانين، التي باتت تحكم فهم التاريخ والسياسة. لقد تشكّلت منظومة مستمدّة من كتابات ماركس باتت تشكّل منهجيّة (أو طريقة) لفهم التاريخ والسياسة والواقع عموماً. وبهذا جرت تنحية الجدل الماديّ بمجمله وليس الجدل فقط، وتكريس منظومة يقاس الواقع بها، أو يُفهم الواقع (بمعنى التاريخ والسياسة) عبرها. هنا نعود لمنطق القياس الذي هو جزء جوهريّ في المنطق الصّوَري، وهو الجزء الذي لفظه هيغل في جدله، وبالتّالي لفظتْه الماركسيّة.
لقد جرى تلخيص بعض أفكار ماركس حول الاقتصاد والواقع والتاريخ لكي تصبح نظريّة، وتحدّدت فكرة ماركس حول الأساس الاقتصاديّ بعدد من المصطلحات التي جرى اعتبار أنّها «أسس منهجيّة»، من ثمّ الاقتصاد والطّبقات، والبنية التحتيّة والبنية الفوقيّة، ونمط الإنتاج، وأيضاً الدّولة والأيديولوجيّة الخاضعتين «ميكانيكيّاً» للبنية التحتيّة. لكنّ الأخطر هنا هو اتّخاذ فكرة ماركس حول أنماط الإنتاج التي عدّدها في: المشاعة، الرّقّ، الإقطاع، والرأسماليّة (وأحياناً نمط الإنتاج الآسيويّ) كحقيقة مطلقة، وتطبيقها على كلّ التاريخ العالميّ. ولا شك في أنّ ماركس حين أشار إلى هذه «الأنماط» كان «يحْدس» بناءً على معلومات متفرّقة، غير متسلسلة، وليست عميقة، عن كثير من مراحل التاريخ العالميّ، وحتى الأوروبيّ، لهذا لم يعتقد أنّه يقرّر مراحل ارتقاء التاريخ العالميّ، ولم يحسم سوى بما كتبه عن الرأسماليّة، بالضّبط لأنّه درسها بدقّة العالِم.
السؤال الجوهريّ هنا يتمثّل في: هل «أسسُ» الماديّة التاريخيّة المشار إليها للتّوّ هي قوانين ومنهجيّة أم ترميزات ومصطلحات ومفهومات؟ والفارق هنا هو أنّ المنهجيّة والقوانين هي أسس تحليل الواقع بينما المصطلحات والترميزات هي عناصر مساعدة لمنهجيّة تحليل. ولا شكّ في أنّ كلّ هذه المصطلحات والمفهومات متداولة في الماركسيّة، وهي جزء منها، لكنّها ليست قوانين ولا منهجيّة، بل تحديدات لمسائل واقعيّة، ترميزات لمسائل واقعيّة، الهدف منها هو مساعدة الآليّات المنهجيّة على الاشتغال. وهي تُصنّف في إطار التحديد الصّوَريّ، التي هي الأواليّات التي يقوم عليها التحليل. هذا يوضّح التزام المنطق الصّوَري، الذي اعتبره هيغل الخطوة الأولى في التفكير، قبل الارتقاء إلى العقل، الذي كان يعني الجدل. بالتالي قلت إنّ الماديّة التاريخيّة تعيد إلى المنطق الصّوَري بعدما تجاوزه هيغل ثمّ ماركس. وهذا المنطق وفق «أسس» الماديّة التاريخيّة (رغم الاختلاف في تحديد هذه الأسس، وسيادة التشوّش فيه نتيجة سيطرة ميول مختلفة كما أوضحت في كتاب «التاريخ كصيرورة، أنماط الإنتاج في التاريخ العالمي») يمكن أن يساعد في تحديد طبيعة نمط الإنتاج، حيث يمكن تحديد طبيعة الاقتصاد ووسيلة الإنتاج وقوى الإنتاج، والطبقات، ومن ثَمّ طبيعة الدولة والأيديولوجيّة، أي يمكنه تحديد طبيعة النّمط كما هو، لكنّه لا يستطيع فهم كيف تشكّل، وآليّات تطوّره، وكيف جرى الانتقال إلى نمط آخر. لأنّه يعطي «صورة» عن نمط قائم انطلاقاً من تلك «الأسس»، وهذه إشكاليّة المنطق الصّوَري.
يظهر ذلك واضحاً عبر تلمّس كيفيّة التّعامل مع أنماط الإنتاج، إذ يقوم البحث على تفسير أفكار ماركس، ويجري الشغل على تأويلها، واستنتاج تصوّرات جديدة انطلاقاً منها. فكلّ ما أشار إليه ماركس صحيح، وهنا تحلّ نتائج ماركس (ضعيفة الأساس المعرفيّ) محلَّ تحليل التاريخ، ويجري الغوص في تأويلات للتّاريخ بعيدة عن دراسة التاريخ. وهذا ما كان يُنتج آلاف الأطنان من الأبحاث التي لا قيمة علميّة لها نتيجة أنّها تتحدّث عن تاريخ وعن واقع انطلاقاً من نصّ لماركس لم يتأسّس على فهم عميق للتاريخ (بالطبعنتيجة إيلاء ماركس الأهمّيّة الأكبر لدراسة الرأسماليّة). وبهذا، بدل حتى «الأسس» التي يجب أن يقوم البحث في التاريخ عليها، باتت التحديدات لأنماط الإنتاج هي التي تحكم التاريخ، وهذا ما كان يُنتج أطناناً من الأبحاث «المجرَّدة»، وحتى المزوّرة. وكان الاعتماد على «خماسيّة» ماركس، وحتى على فكرة نمط الإنتاج الآسيويّ، يمنع تحديد الأسس التي تخصّ «التحديد الصّوَري» لنمط الإنتاج بشكل صحيح، ولهذا سادت عشوائيّةٌ في هذا المجال. ولا شكّ في أنّ هذا التّحديد كان سيوصل إلى نفي هذه الخماسيّة، وكذلك النّمط الآسيويّ، ويعيد البحث في التاريخ على أسس علميّة.
كان ذلك يقتضي تحديد ماهيّة الماركسيّة بشكل صحيح. فقد سمح تجاوز الديالكتيك كمنهج نقديّ وثوريّ الى اتّباع المنطق الصّوَري، وإلى التزام نصيّ ببعض أفكار ماركس «غير النّاضجة» حول أنماط الإنتاج، بتشكيل «صورة» عن التاريخ هي لا تاريخيّة، وكذلك الكسل عن البحث المعمّق في التاريخ، وأصلاً فهم المنظور الماركسيّ للتاريخ.
ربط ماركس بين فهمه الماديّ للواقع وللتاريخ وبين الديالكتيك، حيث اكتشف هيغل القوانين العامّة للحركة في الفكر، واعتبر ماركس أنّها انعكاس للقوانين العامّة للحركة في الواقع. وبهذا بات الجدل الماديّ هو منظور فهم الواقع والتاريخ، بالضّبط لأنّه القوانين العامّة التي تحكم الذّهن في بحثه في الواقع والتاريخ. فكلّ شيء ينحكم للجدل، والصيرورة هي الواقع في حركته الجدليّة. والواقع متعدّد المستويات، كما أنّ التاريخ متعدّد أنماط الإنتاج، وللبحث في الواقع والتاريخ هناك «ترميزات»، أو مصطلحات تحدّد عناصر الواقع لا بدّ منها لفهم الصيرورة. ولا شكّ في أنّ كلّ المصطلحات التي أشرت إليها من قبل أساسيّة كترميزات أثناء البحث في الواقع، لكنّها ترميزات يجب أن تخضع لمنطق الجدل الماديّ. فالواقع يبدأ في الاقتصاد حسب ماركس والماركسيّة، رغم الخلط الذي شاب ذلك وفرض الانحراف الاقتصادوي في الماركسيّة، وهو ما حاول إنجلز مواجهته منذ البدء حين أشار إلى أنّ الاقتصاد هو العنصر المحدِّد «في التحليل الأخير»، أي دون أن يبخس العناصر الأخرى فاعليّتها. وعلى أساس الاقتصاد تتشكّل الطّبقات وتصارعها، وعليهما معاً تقوم الدّولة وتتشكّل الأفكار.
هذا تحديد «ستاتيكيّ»، يشير إلى الفهم الماديّ، لكنّ الواقع «في حركة دائمة»، ممّا يفرض فهمه انطلاقاً من صيرورته الجدليّة. وهنا يتحوّل الستاتيك إلى فاعليّة، إلى حركة. وسنلمس في كلّ هذه العمليّة فاعليّة الجدل، إذ إنّ مسار الاقتصاد يفترض صيرورة جدليّة (وهذا ما أربك إلتوسير حينما اكتشف، اعتماداً على موريس غودلييه، أنّ الجدل يخترق «رأس المال»)، وصراع الطبقات يخترقه التناقض الجدليّ، وأيضاً الأفكار (والأيديولوجيّة)، ومن ثمّ الدّولة التي هي نفي النفي لمصلحة الطبقة المسيطرة. في كلّ هذه المستويات يسري الجدل، حيث إنّها تتضمّن تناقضها الخاصّ. لكنْ لا بدّ من أن نلمس كذلك أنّ التّناقض يحكم العلاقة بين المستويات ذاتها، حيث إنّ تناقض مستوى ينعكس على تناقض المستوى الآخر.
المسألة هنا لا تتعلّق بالاقتصاد فقط، رغم أهميّته وأساسيّته، بل بكلّيّة البنية المجتمعيّة التي تتطوّر في صيرورة تناقضيّة، وتنحكم للجدل. والجدل الماديّ هو المنهجيّة التي تسمح لنا بفهم هذه الصّيرورة، كما حدثت في الماضي، وكما هي الآن، وبالتالي فهم ما يجب فعله من أجل المستقبل.
لا بدّ من استعادة هيغل في ماركس والماركسيّة، ولا بدّ من فهم التركيب الذي قام به كلّ من ماركس وإنجلز بين الجدل الهيغليّ الذي هو خلاصة تطوّر الفكر الفلسفيّ، وبين الماديّة التي نضجت مع فورباخ، لتشكيل منهجيّة «طريقة» جديدة تتجاوز منطق أرسطو (المنطق الصّوَري) وتصبح هي المنهج العلميّ الوحيد حسب ما أشار موريس كونفورث (الفلسفة المفتوحة والمجتمع المفتوح، ص٥٧). وقد شرّح ماركس وإنجلز ذلك بكلّ دقّة كما أظنّ. بالتّالي في الماركسيّة هناك الجدل الماديّ الذي هو منهجيّة التفكير في الواقع، والذي يقوم على الفهم الماديّ للتاريخ. الجدل الماديّ هو جوهر (ومركز) الماركسيّة، هو الإضافة الجوهريّة التي تبلورت مع ماركس وإنجلز، وحقّقتْ نقلة نوعيّة في الوعي البشريّ بعد منطق أرسطو (المنطق الصّوَري). الأمر هنا يتعلّق بطريقة تفكير جديدة، هي أعظم ما جاء به ماركس وإنجلز معتمدَين على هيغل، وليس بوضع «سيستم» للتطوّر البشريّ يصبح هو القانون الحاكم لهذا التطوّر. هذا الأمر الأخير هو الماديّة التاريخيّة، التي ليست سوى انحراف نقوصيّ.
المراجع
- إسهام في نقد الاقتصاد السياسي، كارل ماركس، ترجمة أنطون حمصي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ط١, ١٩٧٠
بيان الحزب الشيوعيّ، كارل ماركس وفريدريك إنجلز، دار التقدم موسكو, د.ت.
- عن الأزمة، الخروج من أزمة الرأسماليّة أو الخروج من الرأسماليّة المأزومة، سمير أمين ترجمة إنعام ابراهيم شرف، روافد للنشر والتوزيع, القاهرة, ط١, ٢٠١٤
- نزع مادّيّة كارل ماركس، الأدب والنظريّة الماركسيّة، ليونارد جاكسون، ترجمة ثائر ديب، المركز القومي للترجمة, القاهرة، ط١, ٢٠١٤
- بعد ماركس، يورغن هابرماس، ترجمة محمّد ميلاد، دار الحوار للنشر والتوزيع, اللاذقيّة - سوريا، ط١, ٢٠٠٢
- رسائل حول المادّيّة التاريخيّة، فريدريك إنجلز، دار التقدّم موسكو
- رأس المال، كارل ماركس، ترجمة فهد كم نقش، دار التقدم, موسكو، ط١, ١٩٨٥
- التاريخ كصيرورة، أنماط الإنتاج في التاريخ العالمي (نقد النظريّة الماركسيّة حول أنماط الإنتاج)، سلامة كيلة، دار التنوير, بيروت، ط١, ٢٠١٠
- العقلانيّة واللا عقلانيّة في الاقتصاد، موريس غودلييه، ترجمة عصام الخفاجي، وزارة الثقافة, دمشق، ط١, ١٩٩٥
- الفلسفة المفتوحة والمجتمع المفتوح، ردّ على نقد كارل بوبر للماركسيّة، موريس كونفورث، ترجمة فاروق عبد القادر، دار الأدب والثقافة, بيروت، ط١, ١٩٧١
ما هي أهمّيّة ماركس؟
ماذا أضاف كارل ماركس؟ بالتأكيد ليس سهلاً التوافق على إجابة واضحة على ما أضافه ماركس، وأيّ الأفكار كانت هي المفصل الذي شكّل ما بات يُسمّى الماركسيّة. ففي تاريخ الماركسيّة إجابات متعدّدة، وأفكار مختلفة، كان واضحاً أنّها نتاج تأثُّر بتيّارات سابقة، لكن أيضاً بمصالح فئات باتت تعتبر ذاتها ماركسيّة.
فلا شكّ في أنّ أهمّيّة ماركس خضعت لمنظورات مختلفة من «مريديه»، ومن الماركسيّات اللاحقة. فقد سادت «نظرة اقتصاديّة» نتيجة تركيز ماركس على الاقتصاد الرأسماليّ، وساد منظور تطوريّ ينطلق من انتقال أنماط الإنتاج بشكل تدرّجيّ و«عفويّ» (أي بلا فاعليّة ذاتيّة). ولقد انعكس كلّ ذلك في تحديد دور الماركسيّة في الصراع الطبقيّ، وفي تحديد التكتيكات الضروريّة لانتصار البروليتاريا. وكان واضحاً أنّ علاقةً ملتبسة تقوم بين الاقتصاديّ والفلسفيّ، ومَيل للتّركيز على «الماديّ». لقد انتقد إدوارد بيرنشتاين «بقايا هيغليّة» لدى ماركس، وقصد الجدل، لكنّ يورغي بليخانوف تمسّك بالجدل مختصراً إيّاه إلى منظور خطّيّ يتعلّق بمبدأ التراكم الكمّيّ والتغيّر النوعيّ، بينما حاول لينين باعتماد فريدريك إنجلز، وبالعودة إلى هيغل، أن «يتْبَع» إنجلز في فهم الدّيالكتيك. وفي كلّ هذه المراحل كان يبدو أنّ الاقتصاد هو المغري، حيث تتمظهر الماركسيّة في طابعها الاقتصاديّ.
مع هيمنة ستالين و«أدلجته» الماركسيّة ساد منظور «تخصّصيّ» قسّم الماركسيّة إلى أربعة فروع «علميّة»: الأوّل هو الماديّة الديالكتيكيّة، والثّاني هو الماديّة التاريخيّة، والثّالث هو الاقتصاد السياسيّ، والرّابع هو الاشتراكيّة العلميّة. لكنّ موت ستالين فرض «إعادة نظر»، ومحاولةً لتجاوز «الماركسيّة السوفياتيّة بالعودة إلى ماركس». هذا ما أدّى إلى «اكتشاف» نصوص لماركس جرت التغطية عليها، منها ما يتعلّق بـ«نمط الإنتاج الآسيويّ»، الذي حظي بتنظير وبحث ونقاش طيلة خمسينيّات القرن العشرين وستّينيّاته. لكنّ الأهمّ هنا هو «نقد الديامات» (والديامات هي الشكل الذي اتخذه المفهوم المادي للديالكتيك في الاتحاد السوفيتي خلال الفترة الستالينية) التي «غرزها» المنظّرون السوفيات في الماركسيّة استناداً إلى إنجلز، وكان القصد يتعلّق بالجدل. هذا ما أنتج النظريّة الماديّة التاريخيّة التي أصبحت سمة الماركسيّة الغربيّة.
لا شك في أنّ المَيل الاقتصاديّ هو الذي كان يتعمّم في الماركسيّة الغربيّة منذ الأمميّة الثانية، ومن ثَمّ تحوّل منظورات الأحزاب الاشتراكيّة الديمقراطيّة، رغم مجهودات أنطونيو غرامشي لتنظير «المستوى السياسيّ» انطلاقاً من الديالكتيك، وكلّ البحث النظريّ الثريّ الذي تضمنّته «كرّاسات السجن». ورغم مجهودات جورج لوكاش هائلة الأهمّيّة في «نقد العقل»، وتأسيس أنطولوجيا الوجود الاجتماعيّ، ورغم أفكار فلهالم رايش، وربّما آخرين. لهذا، ربّما، كان هذا المَيل في أساس العودة إلى «الماديّة» التي كانت تبدو أنها تمثّل تجاوزاً لديالكتيك يعمّمه السوفيات معتمدين على إنجلز، هذا الأخير الذي بات يشير إلى انحراف مبكّر في الماركسيّة، وتكريس لما جهد ماركس لتجاوزه، أي «لوثة هيغل». فإنجلز هو الذي نظّر أسس الديالكتيك في كتابه «ضدّ دوهرنغ».
إذن، لقد أفضى رفض الماركسيّة السوفياتيّة إلى رفض «الماديّة الديالكتيكيّة» وقبول «الماديّة التاريخيّة». ولقد جرى تحميل إنجلز «خطيئة» الجدل، كما جرى اعتبار أنّ مشكلة الماركسيّة السوفياتيّة تكمن في اعتمادها على «الديامات» (الجدل)، رغم أنّها أوّل من تخلّى عن الجدل حينما حوّلته إلى «موضوع تأمّليّ» بعدما فصلتْه عن الواقع من خلال إبعاده عن البحث فيه، وباتت الماديّة التاريخيّة هي المنظور الذي يحكم فهم التّاريخ (أو يكرّر فهم التاريخ كما جرت صياغته انتقائيّاً)، وبات الاقتصاد السياسيّ هو المنظور الذي يكرّر مفاهيم الاقتصاد الرأسماليّ. ومن ثمّ قاد هذا الرفض إلى تأسيس الماديّة التاريخيّة في الماركسيّة الغربيّة على نصّ ماركس الوارد في مقدّمة كتاب «إسهام في نقد الاقتصاد السياسيّ». فما يوضحه ماركس في هذا الكتاب هو التالي: «(…) والنتيجة العامّة التي وصلتُ إليها، والتي أصبحتْ، بعد اكتسابها، الخيط الموجِّه لدراساتي، يمكن أن تصاغ صياغة موجزة كما يلي: تقوم بين النّاس، في الإنتاج الاجتماعيّ لحياتهم، صِلات معيّنة ضروريّة مستقلّة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تقابل درجةً معيّنةً من درجات نموّ قواهم الإنتاجيّة الماديّة، ويؤلّف مجموع هذه العلاقات الإنتاجيّة البنية الاقتصاديّة للمجتمع، وهي القاعدة المشخّصة التي تقوم فوقها بنية حقوقيّة وسياسيّة، والتي تقابلها أشكال معيّنة من الوعي الاجتماعيّ»، ويكمل «إنّ أسلوب إنتاج الحياة الماديّة يشرط سلسلة أفاعيل الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة بصورة عامّة»، بالتالي «فليس وعي النّاس هو الذي يعيّن وجودهم، بل إنّ وجودهم الاجتماعيّ على العكس من ذلك هو الذي يعيّن وعيهم» (ط/ دمشق ص٢٥). وهي الفكرة التي يقول إنجلز إنّها من اكتشاف ماركس، وهي الإضافة التي قام بها (مقدّمة البيان الشيوعيّ، ط/ موسكو ص١١).
كما جرى تكرار كلّ أفكار ماركس حول التاريخ باعتبار أنّها حقائق علميّة، بما في ذلك «المراحل الخمس» و«النّمط الآسيويّ»، وكلّ السّياقات التي ذكرها فيه. وفي هذا توافقٌ كامل مع منظور الماركسيّة السوفياتيّة للتاريخ، والمسمّى الماديّة التاريخيّة.
إنّ منطلقات الماديّة التاريخيّة تتمثّل في التعاقب في تطوّر المجتمعات الإنسانيّة، أي «التحوّل المستمرّ في البنى التحتيّة التاريخيّة للمجتمعات» (سمير أمين «عن الأزمة»، ص٦١). ولا شكّ في صحّة هذه الفكرة، لكن كيف يمكن فهم هذا التعاقب؟ لقد أشار ماركس وإنجلز إلى تعاقب أنماط الإنتاج، وأشارا إلى ذلك منذ «البيان الشيوعيّ»، لكنّ الفكرة كانت عامّة هنا، وعموميّة، حيث لا بدّ من تحديد الأسس التي تحدّد طبيعة كلّ نمط، وكيف ينتقل إلى آخر. وبالأساس ما هو المنظور الذي يحكم فهم كلّ ذلك؟ أي ما هو المنطق الذي يحكم النظر لفهم ذلك؟
تسود في الماركسيّة الغربيّة فكرة أنّ الماركسيّة «في شكلها الناضج» تتحدّد في «تفسير ماديّ للتاريخ والسياسة، نقد للاقتصاد السياسيّ الرأسماليّ، والتزام بالثورة الاشتراكيّة». وتعتبر النّصّ الوارد في مقدّمة «إسهام في نقد الاقتصاد السياسيّ» نصّاً برنامجيّاً، «يتمتّع بسلطة مرجعيّة رفيعة جدّاً»، وهو «الإطار العامّ الذي وضعه ماركس لتحليل التاريخيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، الذي صار يعرف لاحقاً باسم: الماديّة التاريخيّة» (جاكسون، ص١٤١). ويشير هابرماس، الذي كتب حول إعادة بناء الماديّة التاريخيّة، إلى أنّ ماركس «كان ينظر إلى الماديّة التاريخيّة كنظريّة كليّة للتطوّر الاجتماعيّ، وكان يرى في نظريّة الرأسماليّة وحدةً فرعيّة من تلك النظريّة» (بعد ماركس، ص٥٥). ويبدو هنا وكأنّ هابرماس يردّ على الماركسيّة السوفياتيّة التي فصلتْ الماديّة التاريخيّة التي تتعلّق بالتاريخ وأنماط الإنتاج، عن الاقتصاد السياسيّ الذي يخصّ المرحلة الرأسماليّة. ويعتبر هابرماس أنّ أسس تحليل ماركس للرأسماليّة «يمكن أن تكون أساس النّظر إلى المجتمعات قبل رأسماليّة» (ص٥٥)، «فليست الماديّة التاريخيّة بالنسبة إليّ دلالة كشفيّة فحسب، بل هي نظريّة، وبالتدقيق نظريّة للتطوّر الاجتماعيّ تمتلك أيضاً، بفضل مكانتها التأمّليّة، قيمةً استدلاليّة بالنسبة إلى العمل السياسيّ»، ومن ثمّ يؤكّد على «تعاقب أساليب الإنتاج» (ص٨٥)، ومكرّراً وشارحاً ما ورد في نصّ ماركس في مقدّمة «إسهام حول هذا التعاقب كحقائق مطلقة الصحّة» (ص٧٥، و٨٧ - ٨٨).
لست في وارد إطالة الاستشهاد في هذا المجال، حيث حاولت أن أوضح جوهر الفكرة التي تنبني عليها «نظريّة» الماديّة التاريخيّة، التي باتت تتمتّع «بسلطة مرجعيّة رفيعة جدّاً» وتستخدم مقولات ماركسيّة وهي تشرع في تحليل التاريخ والسياسة. وهي المقولات المتداولة والصحيحة، مثل الاقتصاد والطبقات والدولة والأيديولوجية، وقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، البنية التحتيّة والبنية الفوقيّة، وأسلوب (أو نمط) الإنتاج. لكنّ المشكل هنا يتمثّل في اعتبار أنّ هذه المقولات (أو المصطلحات) هي إطار التفسير الماديّ للتاريخ، أي تحويلها الى «أداة منهجيّة».
ماهيّة الماركسيّة
كان السؤال حول ماهيّة الماركسيّة متكرّراً منذ ماركس، حيث لمس «الانحراف الاقتصاديّ» فصاح «أبلغوا هؤلاء أنّني لست ماركسيّاً» (حسب ما أورد إنجلز وهو يفسّر موقع الاقتصاد في بنية الماركسيّة كما ذكر في رسائل كتبها لزعماء الأمميّة الثانية، «رسائل حول الماديّة التاريخيّة»). وإذا كانت الماركسيّة وُلدت من هيغل ومن نفيه (أي فورباخ)، فقد مال بعض الماركسيّين إلى رفض «البقايا الهيغليّة» في الماركسيّة كما فعل بيرنشتاين، والميل إلى اعتبارها منظوراً اقتصاديّاً. وهو الرفض الذي تكرّر في خمسينيّات القرن العشرين وما بعد، مع الميل لـ «تجاوز الاقتصادويّة» نحو الماديّة التاريخيّة. لكن ما هو موقع الديالكتيك في نظريّة ماركس؟
ليس أفضل هنا من ردّ ماركس في المقدّمة الثانية لكتاب «رأس المال» على تبخيس بعض المعلّقين على الكتّاب الذين ساءتْهم طريقة عرضه التي هي «ديالكتيكيّة على نحو ألمانيّ» (ماركس ص٢٥). يقول ماركس «عندما كنت منهمكاً في كتابة المجلّد الأوّل من رأس المال شرع المقلّدون الصاخبون، المتصنّعون، والتافهون للغاية، الذين يلعبون الدور الأوّل في ألمانيا المعاصرة المثقّفة، يستهينون بهيغل، مثلما كان المقدام موزيس مندلسون في عهد ليسنغ يستهين بسبينوزا ككلب ميت. ولذلك أعلنت عن نفسي بصراحة أنّني تلميذٌ لهذا المفكّر العظيم، وحتى أنّني عمدت في بعض مواضع الفصل المتعلّق بنظريّة القيمة إلى محاكاة طريقة هيغل في التعبير. وإنّ الطّابع الصّوفيّ الذي ارتداه الديالكتيك على يدَي هيغل لم يحُل إطلاقاً دون أن يكون هيغل بالذّات أوّل من قدّم تصويراً شاملاً وواعياً للأشكال العامّة لحركته. فالديالكتيك يقف على رأسه عند هيغل، بينما ينبغي إيقافه على قدميه بغية الكشف عن اللبّ العقلانيّ تحت القشرة الصوفيّة» (ص٢٧-٢٨). ويشرح ماركس هذه الفكرة الأخيرة بالقول «إنّ طريقتي الديالكتيكيّة من حيث أساسُها لا تختلف عن طريقة هيغل وحسب، بل وتناقضها بصورة مباشرة. وبالنّسبة إلى هيغل فإنّ عمليّة التّفكير، التي يحوّلها حتّى تحت اسم الفكرة إلى ذات مستقلّة، هي ديمبورغ (خالق، مبدع) الواقع الذي لا يشكّل سوى مجرّد مظهر لتجلّيها الخارجيّ. أمّا عندي فعلى العكس، فالمثاليّ ما هو إلّا ماديّ منقول إلى رأس الإنسان ومحوَّل فيه» (ص٢٧). يكمل ماركس: «لقد أصبح الديالكتيك بشكله الصوفيّ موضةً ألمانيّة، لأنّه بدا وكأنّه يمجّد الأوضاع القائمة. وإنّ الديالكتيك بشكله العقلانيّ لا يثير لدى البرجوازيّة وأيديولوجيّيها المتحذلقين الجامدين سوى الحقد والذّعر، إذ إنّه يتضمّن إلى جانب الفهم الإيجابيّ لما هو موجود فهْم نفيه أيضاً وهلاكه المحتوم، وينظر إلى كلّ شكل مجسَّد من خلال الحركة، وبالتّالي من خلال جانبه العابر أيضاً، والديالكتيك لا يعبد أيّ شيء، وهو انتقاديّ وثوريّ من حيث جوهرُه ذاته» (ص٢٨).
ماركس يعلن هنا أنّ الديالكتيك هو طريقته، ولكنّه يميّزها عن طريقة هيغل من حيث «وضع الفكرة». ولقد قام إنجلز بمهمّة توضيح الديالكتيك، وطابعه الجوهري في جزء مهمّ من كتاباته. فقد شرح الأمر في كتاب «ضدّ دوهرنغ» الذي قرأه ماركس (وأسهم في جزء من الفصل المتعلّق بالاقتصاد كما يشير إنجلز)، وحاول فهم الطبيعة من خلال الديالكتيك في كتاب «ديالكتيك الطبيعة» (رغم تجاوز العلم لكثير ممّا ورد فيه)، وأعاد صياغة جزء من كتاب «ضدّ دوهرنغ» في كتاب «الاشتراكيّة: الطوبا والعلم» حيث أوضح بكلّ دقّة كيف أنّ الاشتراكيّة باتت ممكنة نتيجة عنصرين: نشوء الطّبقة العاملة واكتشاف الديالكتيك. وربّما حاول أن يشرح بالتفصيل علاقة الماركسيّة بهيغل وفورباخ في كتاب «لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكيّة الألمانيّة»، حيث أوضح كيف جرى إيقاف جدل هيغل على قدميه عبر بلورة الفهم الماديّ اعتماداً على فورباخ. كذلك لينين كان ينطلق من محوريّة الديالكتيك في الماركسيّة، وعاد لقراءة هيغل من هذا المنظور (الدفاتر الفلسفيّة، التي هي ملخّصاته لكتب هيغل وغيره). بهذا ليس من الممكن أن نعتبر أنّ الديالكتيك هو «نتوء هيغلي» في الماركسيّة يجب تجاوزه، ولا تكريس الاقتصاد كـ «جوهر» للماركسيّة، وبالتّالي تجاوز الفهم الذي قامت عليه الماديّة التاريخيّة.
موقع نصّ ماركس
لكنْ أين موقع نصّ ماركس آنف الذّكر في الماركسيّة؟ يقول إنجلز «إنّ الفكرة الرئيسيّة السائدة [في البيان] وهي أنّ الإنتاج الاقتصاديّ والبناء الاجتماعيّ، الذي ينشأ بالضرورة عنه، يؤلّفان في كلّ عهد تاريخيّ أساس التاريخ السياسيّ والفكريّ لهذا العهد، ولذا فالتّاريخ بأسره (منذ انحلال الملكيّة البدائيّة المشاعيّة للأرض) كان تاريخ نضال بين الطبقات» (ص١١)، وهي الفكرة التي توصّل إليها ماركس (ص١٢). وهي الفكرة التي تبلورت بشكل «ناضج» في مقدّمة «إسهام في نقد الاقتصاد السياسيّ». هل نفَتْ هذه الفكرة الجوهريّة «الطريقة الديالكتيكيّة» لدى ماركس؟
في «رأس المال» يتحدّث ماركس عن طريقته الديالكتيكيّة، وكما أوضحت يميّزها عن طريقة هيغل، لكنّ تمييزه لا يتعلّق بالديالكتيك بل بـ«القشرة الصوفيّة» (أو المثاليّة) التي تحكم منطق هيغل، حيث إنّ الأمر يتعلّق بموقع الفكر، هل أنّه هو الجوهر وما الواقع سوى تجلّيه الخارجيّ، أم أنّ الواقع هو الذي يكون في أساس وجود الفكر؟ ولهذا، ولأنّ ماركس يتمسّك بالديالكتيك بعد أن يوقفه على قدميه، يقول موضحاً موقع النّصّ سالف الذّكر الوارد في المقدّمة، «حيث عرضت الأساس الماديّ لطريقتي» (ص٢٥). ولقد أوردت النصوص التي تشرح معنى ذلك، والتي جرى اعتبار انّها من «اكتشاف مارك س». وهو يشير إلى ذلك في كتابه «إسهام في نقد الاقتصاد السياسيّ»، «فالموضوع الواقعيّ يبقى، من قبْل ومن بعد، مستمرّاً في استقلاله خارج الذهن، ويبقى كذلك طيلة الوقت الذي يكون فيه للذّهن فاعليّة تصوّريّة خالصة ونظريّة خالصة. وبالتّالي، فعند استعمال المنهج النظريّ أيضاً يجب أن يبقى، الموضوع، المجتمع، ماثلاً دوماً أمام الذهن كنقطة انطلاق أولى» (ص٢٧٩).
ما يشير إليه ماركس هو أنّ هذا النّصّ هو الذي بلور الأساس الماديّ للجدل، حيث بتنا نتحدّث عن الجدل الماديّ بخلاف جدل هيغل المثاليّ. وبالتّالي لم يكن هدف ماركس تجاوز الديالكتيك لمصلحة الماديّة، بل تأسيس طريقة تفكير علميّة جوهرُها الجدل الذي ينطلق من الوجود وليس من أولويّة الفكر. فالواقع يتطوّر في صيرورة جدليّة، وطريقة ماركس هي التي تسمح لنا بكشف هذه الصيرورة. فقد أوقف ماركس ديالكتيك هيغل على قدميه، أي وضعه على أساسه الماديّ الذي يشرحه هذا النّصّ. هنا ليس من قطع مع الديالكتيك بل عودة له متضمّناً الفهم الماديّ، أو الأساس الماديّ. هذا هو الجدل الماديّ.
إشكالية الماديّة التاريخيّة
قامت الماديّة التاريخيّة على تحقيق الفصل بين الجدل والفهم الماديّين، على نفي الجدل لمصلحة الماديّة التاريخيّة، التي باتت منظومة قوانين تحكم فهم التاريخ. هذا يعيد إلى الماديّة القديمة التي هي مثاليّة، بعدما كان ماركس وإنجلز قد رفعاها إلى أن تصبح علماً عبر الجدل الذي هو صيرورة الواقع، وبالتّالي نقلها من النّظر الشكليّ إلى فهم البنية، ومن سكونها إلى فهم حركتها، ومسارها. وبالتالي، يمكن أن نقول بأنّ هذا المنظور أعاد إنتاج الماديّة القديمة في شكل جديد عبر الاستعانة بمصطلحات ومقولات ماركسيّة، وأنّه أسقط كلّ الآليّات التي تسمح بفهم صيرورة الواقع. وسنلمس هنا كيف أنّ هذه الخطوة أفضت إلى تكريس المنطق الصّوَري، المنطق الذي بات يعني «التّحديد الشكليّ» للظّواهر، والسّابق لفاعليّة الجدل، حيث كان الجدل الماديّ يشكّل نقلةً نوعيّة في المنطق. وهنا، أسّس ماركس منطقاً جديداً، هو في جوهره علميّ، لأنّه ينطلق من الواقع، ويحلّل آليّاته «كما هي». فالجدل الماديّ هو الصيرورة الواقعيّة مجرَّدةً في الذهن في خطوطها العامّة.
بالتّالي، إذا كانت الماديّة التاريخيّة تشكّل انتكاسة نحو الماديّة القديمة، فقد شكّلت كذلك انتكاسة إلى المنطق القديم، أي المنطق الصّوَري. فالماديّة التاريخيّة التي عمّمتها «الماركسيّة السوفياتيّة» وراجت في أوروبّا هي «تنظير» بعض نصوص ماركس وقولبتها في قوانين حول التاريخ، وكان نصّ ماركس في مقدّمة «إسهام في نقد الاقتصاد السياسيّ» هو جوهر هذه القوانين، التي باتت تحكم فهم التاريخ والسياسة. لقد تشكّلت منظومة مستمدّة من كتابات ماركس باتت تشكّل منهجيّة (أو طريقة) لفهم التاريخ والسياسة والواقع عموماً. وبهذا جرت تنحية الجدل الماديّ بمجمله وليس الجدل فقط، وتكريس منظومة يقاس الواقع بها، أو يُفهم الواقع (بمعنى التاريخ والسياسة) عبرها. هنا نعود لمنطق القياس الذي هو جزء جوهريّ في المنطق الصّوَري، وهو الجزء الذي لفظه هيغل في جدله، وبالتّالي لفظتْه الماركسيّة.
لقد جرى تلخيص بعض أفكار ماركس حول الاقتصاد والواقع والتاريخ لكي تصبح نظريّة، وتحدّدت فكرة ماركس حول الأساس الاقتصاديّ بعدد من المصطلحات التي جرى اعتبار أنّها «أسس منهجيّة»، من ثمّ الاقتصاد والطّبقات، والبنية التحتيّة والبنية الفوقيّة، ونمط الإنتاج، وأيضاً الدّولة والأيديولوجيّة الخاضعتين «ميكانيكيّاً» للبنية التحتيّة. لكنّ الأخطر هنا هو اتّخاذ فكرة ماركس حول أنماط الإنتاج التي عدّدها في: المشاعة، الرّقّ، الإقطاع، والرأسماليّة (وأحياناً نمط الإنتاج الآسيويّ) كحقيقة مطلقة، وتطبيقها على كلّ التاريخ العالميّ. ولا شك في أنّ ماركس حين أشار إلى هذه «الأنماط» كان «يحْدس» بناءً على معلومات متفرّقة، غير متسلسلة، وليست عميقة، عن كثير من مراحل التاريخ العالميّ، وحتى الأوروبيّ، لهذا لم يعتقد أنّه يقرّر مراحل ارتقاء التاريخ العالميّ، ولم يحسم سوى بما كتبه عن الرأسماليّة، بالضّبط لأنّه درسها بدقّة العالِم.
السؤال الجوهريّ هنا يتمثّل في: هل «أسسُ» الماديّة التاريخيّة المشار إليها للتّوّ هي قوانين ومنهجيّة أم ترميزات ومصطلحات ومفهومات؟ والفارق هنا هو أنّ المنهجيّة والقوانين هي أسس تحليل الواقع بينما المصطلحات والترميزات هي عناصر مساعدة لمنهجيّة تحليل. ولا شكّ في أنّ كلّ هذه المصطلحات والمفهومات متداولة في الماركسيّة، وهي جزء منها، لكنّها ليست قوانين ولا منهجيّة، بل تحديدات لمسائل واقعيّة، ترميزات لمسائل واقعيّة، الهدف منها هو مساعدة الآليّات المنهجيّة على الاشتغال. وهي تُصنّف في إطار التحديد الصّوَريّ، التي هي الأواليّات التي يقوم عليها التحليل. هذا يوضّح التزام المنطق الصّوَري، الذي اعتبره هيغل الخطوة الأولى في التفكير، قبل الارتقاء إلى العقل، الذي كان يعني الجدل. بالتالي قلت إنّ الماديّة التاريخيّة تعيد إلى المنطق الصّوَري بعدما تجاوزه هيغل ثمّ ماركس. وهذا المنطق وفق «أسس» الماديّة التاريخيّة (رغم الاختلاف في تحديد هذه الأسس، وسيادة التشوّش فيه نتيجة سيطرة ميول مختلفة كما أوضحت في كتاب «التاريخ كصيرورة، أنماط الإنتاج في التاريخ العالمي») يمكن أن يساعد في تحديد طبيعة نمط الإنتاج، حيث يمكن تحديد طبيعة الاقتصاد ووسيلة الإنتاج وقوى الإنتاج، والطبقات، ومن ثَمّ طبيعة الدولة والأيديولوجيّة، أي يمكنه تحديد طبيعة النّمط كما هو، لكنّه لا يستطيع فهم كيف تشكّل، وآليّات تطوّره، وكيف جرى الانتقال إلى نمط آخر. لأنّه يعطي «صورة» عن نمط قائم انطلاقاً من تلك «الأسس»، وهذه إشكاليّة المنطق الصّوَري.
يظهر ذلك واضحاً عبر تلمّس كيفيّة التّعامل مع أنماط الإنتاج، إذ يقوم البحث على تفسير أفكار ماركس، ويجري الشغل على تأويلها، واستنتاج تصوّرات جديدة انطلاقاً منها. فكلّ ما أشار إليه ماركس صحيح، وهنا تحلّ نتائج ماركس (ضعيفة الأساس المعرفيّ) محلَّ تحليل التاريخ، ويجري الغوص في تأويلات للتّاريخ بعيدة عن دراسة التاريخ. وهذا ما كان يُنتج آلاف الأطنان من الأبحاث التي لا قيمة علميّة لها نتيجة أنّها تتحدّث عن تاريخ وعن واقع انطلاقاً من نصّ لماركس لم يتأسّس على فهم عميق للتاريخ (بالطبعنتيجة إيلاء ماركس الأهمّيّة الأكبر لدراسة الرأسماليّة). وبهذا، بدل حتى «الأسس» التي يجب أن يقوم البحث في التاريخ عليها، باتت التحديدات لأنماط الإنتاج هي التي تحكم التاريخ، وهذا ما كان يُنتج أطناناً من الأبحاث «المجرَّدة»، وحتى المزوّرة. وكان الاعتماد على «خماسيّة» ماركس، وحتى على فكرة نمط الإنتاج الآسيويّ، يمنع تحديد الأسس التي تخصّ «التحديد الصّوَري» لنمط الإنتاج بشكل صحيح، ولهذا سادت عشوائيّةٌ في هذا المجال. ولا شكّ في أنّ هذا التّحديد كان سيوصل إلى نفي هذه الخماسيّة، وكذلك النّمط الآسيويّ، ويعيد البحث في التاريخ على أسس علميّة.
كان ذلك يقتضي تحديد ماهيّة الماركسيّة بشكل صحيح. فقد سمح تجاوز الديالكتيك كمنهج نقديّ وثوريّ الى اتّباع المنطق الصّوَري، وإلى التزام نصيّ ببعض أفكار ماركس «غير النّاضجة» حول أنماط الإنتاج، بتشكيل «صورة» عن التاريخ هي لا تاريخيّة، وكذلك الكسل عن البحث المعمّق في التاريخ، وأصلاً فهم المنظور الماركسيّ للتاريخ.
ربط ماركس بين فهمه الماديّ للواقع وللتاريخ وبين الديالكتيك، حيث اكتشف هيغل القوانين العامّة للحركة في الفكر، واعتبر ماركس أنّها انعكاس للقوانين العامّة للحركة في الواقع. وبهذا بات الجدل الماديّ هو منظور فهم الواقع والتاريخ، بالضّبط لأنّه القوانين العامّة التي تحكم الذّهن في بحثه في الواقع والتاريخ. فكلّ شيء ينحكم للجدل، والصيرورة هي الواقع في حركته الجدليّة. والواقع متعدّد المستويات، كما أنّ التاريخ متعدّد أنماط الإنتاج، وللبحث في الواقع والتاريخ هناك «ترميزات»، أو مصطلحات تحدّد عناصر الواقع لا بدّ منها لفهم الصيرورة. ولا شكّ في أنّ كلّ المصطلحات التي أشرت إليها من قبل أساسيّة كترميزات أثناء البحث في الواقع، لكنّها ترميزات يجب أن تخضع لمنطق الجدل الماديّ. فالواقع يبدأ في الاقتصاد حسب ماركس والماركسيّة، رغم الخلط الذي شاب ذلك وفرض الانحراف الاقتصادوي في الماركسيّة، وهو ما حاول إنجلز مواجهته منذ البدء حين أشار إلى أنّ الاقتصاد هو العنصر المحدِّد «في التحليل الأخير»، أي دون أن يبخس العناصر الأخرى فاعليّتها. وعلى أساس الاقتصاد تتشكّل الطّبقات وتصارعها، وعليهما معاً تقوم الدّولة وتتشكّل الأفكار.
هذا تحديد «ستاتيكيّ»، يشير إلى الفهم الماديّ، لكنّ الواقع «في حركة دائمة»، ممّا يفرض فهمه انطلاقاً من صيرورته الجدليّة. وهنا يتحوّل الستاتيك إلى فاعليّة، إلى حركة. وسنلمس في كلّ هذه العمليّة فاعليّة الجدل، إذ إنّ مسار الاقتصاد يفترض صيرورة جدليّة (وهذا ما أربك إلتوسير حينما اكتشف، اعتماداً على موريس غودلييه، أنّ الجدل يخترق «رأس المال»)، وصراع الطبقات يخترقه التناقض الجدليّ، وأيضاً الأفكار (والأيديولوجيّة)، ومن ثمّ الدّولة التي هي نفي النفي لمصلحة الطبقة المسيطرة. في كلّ هذه المستويات يسري الجدل، حيث إنّها تتضمّن تناقضها الخاصّ. لكنْ لا بدّ من أن نلمس كذلك أنّ التّناقض يحكم العلاقة بين المستويات ذاتها، حيث إنّ تناقض مستوى ينعكس على تناقض المستوى الآخر.
المسألة هنا لا تتعلّق بالاقتصاد فقط، رغم أهميّته وأساسيّته، بل بكلّيّة البنية المجتمعيّة التي تتطوّر في صيرورة تناقضيّة، وتنحكم للجدل. والجدل الماديّ هو المنهجيّة التي تسمح لنا بفهم هذه الصّيرورة، كما حدثت في الماضي، وكما هي الآن، وبالتالي فهم ما يجب فعله من أجل المستقبل.
لا بدّ من استعادة هيغل في ماركس والماركسيّة، ولا بدّ من فهم التركيب الذي قام به كلّ من ماركس وإنجلز بين الجدل الهيغليّ الذي هو خلاصة تطوّر الفكر الفلسفيّ، وبين الماديّة التي نضجت مع فورباخ، لتشكيل منهجيّة «طريقة» جديدة تتجاوز منطق أرسطو (المنطق الصّوَري) وتصبح هي المنهج العلميّ الوحيد حسب ما أشار موريس كونفورث (الفلسفة المفتوحة والمجتمع المفتوح، ص٥٧). وقد شرّح ماركس وإنجلز ذلك بكلّ دقّة كما أظنّ. بالتّالي في الماركسيّة هناك الجدل الماديّ الذي هو منهجيّة التفكير في الواقع، والذي يقوم على الفهم الماديّ للتاريخ. الجدل الماديّ هو جوهر (ومركز) الماركسيّة، هو الإضافة الجوهريّة التي تبلورت مع ماركس وإنجلز، وحقّقتْ نقلة نوعيّة في الوعي البشريّ بعد منطق أرسطو (المنطق الصّوَري). الأمر هنا يتعلّق بطريقة تفكير جديدة، هي أعظم ما جاء به ماركس وإنجلز معتمدَين على هيغل، وليس بوضع «سيستم» للتطوّر البشريّ يصبح هو القانون الحاكم لهذا التطوّر. هذا الأمر الأخير هو الماديّة التاريخيّة، التي ليست سوى انحراف نقوصيّ.
المراجع
- إسهام في نقد الاقتصاد السياسي، كارل ماركس، ترجمة أنطون حمصي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ط١, ١٩٧٠
بيان الحزب الشيوعيّ، كارل ماركس وفريدريك إنجلز، دار التقدم موسكو, د.ت.
- عن الأزمة، الخروج من أزمة الرأسماليّة أو الخروج من الرأسماليّة المأزومة، سمير أمين ترجمة إنعام ابراهيم شرف، روافد للنشر والتوزيع, القاهرة, ط١, ٢٠١٤
- نزع مادّيّة كارل ماركس، الأدب والنظريّة الماركسيّة، ليونارد جاكسون، ترجمة ثائر ديب، المركز القومي للترجمة, القاهرة، ط١, ٢٠١٤
- بعد ماركس، يورغن هابرماس، ترجمة محمّد ميلاد، دار الحوار للنشر والتوزيع, اللاذقيّة - سوريا، ط١, ٢٠٠٢
- رسائل حول المادّيّة التاريخيّة، فريدريك إنجلز، دار التقدّم موسكو
- رأس المال، كارل ماركس، ترجمة فهد كم نقش، دار التقدم, موسكو، ط١, ١٩٨٥
- التاريخ كصيرورة، أنماط الإنتاج في التاريخ العالمي (نقد النظريّة الماركسيّة حول أنماط الإنتاج)، سلامة كيلة، دار التنوير, بيروت، ط١, ٢٠١٠
- العقلانيّة واللا عقلانيّة في الاقتصاد، موريس غودلييه، ترجمة عصام الخفاجي، وزارة الثقافة, دمشق، ط١, ١٩٩٥
- الفلسفة المفتوحة والمجتمع المفتوح، ردّ على نقد كارل بوبر للماركسيّة، موريس كونفورث، ترجمة فاروق عبد القادر، دار الأدب والثقافة, بيروت، ط١, ١٩٧١