إن الذي حدا بي إلى البحث عن الأحلام وما تدل عليه، هو في الواقع رغبتي في إظهار فضل ابن سيرين على هذا الفن الذي يدعى فرويد أنه هو الذي أنشأه وأوجده، في حين أنه لم يصل إلى شهرته العظيمة في التحليل النفسي إلا بعد أن ترسم خطى ذلك المفسر العربي العظيم واقتفى أثره.
فتفسير الأحلام والتحليل النفسي هو في رأيي من عمل الأقدمين، وإذا قلت الأقدمين فإني أقصد بذلك الشرق، وهو لا يمت إلى الغرب بصلة، اللهم إلا صلة النقل ومحاولة فهمه والاستفادة منه.
ولابد لي قبل الموازنة بين ابن سيرين وفرويد من أن اشرح نظرية فرويد في تكوين الرؤيا وكيف يتصدى هو إلى تفسيرها. وكذلك سأشرح رأي ابن سيرين وطريقته في التفسير، وسيظهر جلياً كيف أن الأولى هي وليدة الثانية إن لم تكن هي هي مع قليل من التحوير، وسأبين أيضاً كيف تدل الرؤيا على حوادث المستقبل في بعض الأحيان.
تتلخص نظرية فرويد في أن الرغبة أو الأمل الذي لم يتحقق هو الذي ينبه العقل إلى العمل والتخيل أثناء النوم، وتكون النتيجة أن العقل يتخيل أن رغبته قد تحققت، أو بمعنى آخر فان الرؤيا قد تعتب حارساً للنوم، وظيفته أن يجعل النوم هادئاً مطمئناً، لأنها تخيل إلى الإنسان أن رغبته قد تحققت فلا داعي إذا إلى التفكير. ويقول فرويد أيضاً: إن بين رغبات الإنسان مالا يتفق ونظام المجتمع فقد تتمنى نفسه شيئاً محرماً يقف ضميره دون تحقيقه، فتتحين النفس فرصة يضعف فيها الضمير فتحقق رغبتها، ومن الناس من يضعف ضميره في اليقظة فيحقق رغبته المحرمة بالفعل ومنهم من لا يضعف ضميره إلا إذا نام إذ يتخيل تحقيق رغبته الملحة، وذلك في الرؤيا أي في وقت يكون الضمير فيه نائماً أو ضعيفاً فلا منع إذن ولا تإنيب، ويقول فرويد إن هذه الرغبات لا يعرف الإنسان عنها شيئاً مطلقاً مع أنها ليست غريبة عنه، وذلك لأن الضمير يطردها من العقل الواعي أو ما يسمونه العقل الظاهر.
ومع غياب هذه الرغبات عن الوعي فهي ممثلة في العقل الباطن، ممثلة فيه كأفكار كامنة، وأنها سبب الرؤيا وسبب مباشر لكل الأمراض العصبية التي يسميها فرويد يقول أيضاً إن المريض إذا صبح على بينة من أفكاره ورغباته الكامنة فانه يوجه إليها قوته العقلية المميزة ويضعها في ميزان النقد والتقدير، وبهذا فقط يتخلص من مرضه العصبي الذي يسبب له ولأسرته كل أنواع المتاعب. هذا في الواقع هو الذي حفز فرويد إلى دراسة الأحلام لأنها في نظره وسيلة من الوسائل التي توصل إلى كشف الرغبات الخفية للنفس. وفيما يلي طائفة من الأحلام التي حللها فرويد.
1 - رأت آنسة كأن أخاها في دولاب مقفل وكان تفسير فرويد أن الآنسة تود ألا يتدخل أخوها في شؤونها - ذلك لان وجود الأخ في الدولاب المقفل رمز لعدم قدرته على رؤيتها، وبالتالي رمز لعدم إمكان انتقادها أو التدخل في شؤونها
2 - زوجة رأت أنها اشترت ثلاث تذاكر لها ولزوجها لحضور حفلة تمثيلية وأنها اشترت هذه التذاكر الثلاث بفرنك ونصف وأنها اشترت التذاكر قبل ميعاد التمثيل بثلاثة أيام خوفاً من نفاذ التذاكر، وأنها حضرت إلى صالة المسرح قبل رفع الستار بساعة خوفاً من الزحام، ولكنها لما دخلت مع زوجها وجدت كراسي كثيرة خالية، وهذا معناه أنها ما كانت لتخسر شيئاً لو أنها لم تتعجل في شراء التذاكر ولا في التبكير في الحضور، وأخبرها زوجها وهو يلاطفها في المسرح بأن صديقتها فلانة وزوجها قد اشتريا تذاكر ولكنهما لم يحضرا، ولما سألها فرويد علم منها ما يأتي. صديقتها المذكورة في الرؤيا أصغر منها بثلاثة أشهر هي لم تتزوج إلا بعد زواج صاحبة الرؤيا بعشر سنين، ولأجل تفسير هذه الرؤيا المعقدة تجد أن فرويد قد حاول تحليلها بطريقة الرموز على الوجه الآتي
الحفلة التمثيلية رمز لحفلة الزواج، والرقم 3 رمز للرجل وهو الزوج في هذه الحالة، وإذا عرفنا أن المرأة هي التي تدفع المهر عند الإفرنج وأنها اشترت ثلاث تذاكر بفرنك ونصف، كان معنى ذلك أنها دفعت مهر زوجها رخيصاً فهي غير سعيدة في زواجها، وما كان أسعدها لو أنها تأخرت في الزواج كزميلتها التي تزوجت من رجل أشجع وأحسن من زوجها وذلك بفضل تريثها حتى جمعت مهراً لائقاً برجل كريم
من هذين المثالين نرى أن فرويد قد استعان في تحليله النفسي بالأحلام وأنه فسر هذه الأحلام بواسطة أسئلته لصاحب الرؤيا وبواسطة فكه الرموز بهذه الأحلام.
أما هذه الرموز فهي موجودة، في اللغة، موجودة في الشعر موجودة في الأمثلة السائرة، وفي الحكم المنثورة، وفي كلام العامة، والخاصة وفي كل شيء. فالشمس والقمر قد يكونان رمزاً للوالدين أو رمزاً للملوك. وصغار الطيور قد تكون رمزاً للأطفال والأبناء. وهكذا يقول فرويد إن لكل أمة رموزها الخاصة وهو على حق، لأن لكل أمة لغتها الخاصة وآدابها وأمثلتها. وبعد، أفليست هذه الطريقة هي طريقة ابن سيرين في التفسير وقد كان يسأل صاحب الرؤيا ملياً في النهار وهو يقول في كتابه إن الرؤيا قد تأتي عن رغبة في النفس كأن يرى الإنسان نفسه مع من يحب أو قد يرى الأكل أمامه إذا كان جائعاً، وأما الرموز عند ابن سيرين فهي كثيرة ليس لها حصر، وليس له مثيل في هذا الباب وقد أخذ هذه الرموز من القرآن كالآيات الآتية
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) وقوله تعالى في النساء (بيض مكنون) وكان يأخذ رموزه أيضاً من الحديث كقول النبي (صلى الله عليه وسلم) (رفقاً بالقوارير) يعني النساء - وقد كان يأخذ رموزه أيضاً من الأمثلة المبتذلة كقول إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام (غير اسكفه الباب) أي طلق زوجتك وكقول لقمان لابنه (غير فراشك) يعني زوجتك أيضاً وفيما يلي طائفة من الرؤى التي فسرها ابن سيرين
1 - جاءت امرأة إلى ابن سيرين فقالت: رأيت كأن في حجري لؤلؤتين أحدهما أكبر من الأخرى وقد طلبت أختي مني إحداهما فأعطيتها الصغرى - فقال ابن سيرين تعلمت سورتين من القرآن إحداهما اكبر من الأخرى وقد علمت أختك الصورة الصغرى
2 - جاء رجل إلى ابن سيرين وقال: رأيت كأن ثورا عظيما خرج من جحر صغير وأراد أن يرجع إلى الجحر فلم يتمكن من ذلك. فقال ابن سيرين هي الكلمة العظيمة تخرج من فم الرجل ثم يندم عليها.
وظاهر هنا أن ابن سيرين قد رمز للسورة باللؤلؤة وللكلمة بالثور وللفم بالجحر وبديهي أنه - تمشيا مع عادته في التفسير - قد سأل أصحاب الرؤيا عما في أنفسهم قبل إيضاحه لهم ما تدل رؤياهم عليه، وهناك طائفة أخرى من الأحلام قد فسرها أبن سيرين وفي تفسيره لها شيء من التنبؤ وهاك بعض الأمثلة:
1 - جاء رجل إلى أبن سيرين وقال رأيت كأني البس خاتماً جميلاً فصه من ياقوت فقال تتزوج من امرأة جميلة غنية أي أنه حمل المعنى على المستقبل
2 - جاءت إلى أبن سيرين امرأة وكان زوجها غائباً وقالت له: رأيت كأن أسكفة الباب العليا سقطت على السفلى، فقال أبن سيرين سيعود زوجك، وهنا أيضاً حمل المعنى على المستقبل
ونحن من جانبنا لا نتعرض لموضوع التنبؤ الآن لأننا سنوفيه حقه فيما بعد، ونكتفي بذكر رؤيا عظيمة تدل على مبلغ تضلع العرُب في تفسير الأحلام. فقد حدث المنصور أنه رأى في منامه صورة ملك الموت وسأله عن مدة عمره فأشار بأصابعه الخمسة، فاحتار المنصور في تأويل رؤياه لانه لا يعلم هل سيموت بعد خمسة أشهر أو خمس سنين، ولكنه سأل الأمام أبا حنيفة، قال له انه يشير إلى الآية (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت) فكأن ملك الموت يريد أن يذكره بالخمسة أشياء التي لا يعرفها غير الله ومن ضمنها وما تدري نفس ماذا تكسب غدا
هذا هو تفسير أبي حنيفة، ولعمري لا يمكن لفرويد ان يزيد شيئاً على هذا التفسير، اللهم إلا إذا قال كعادته إن هذه الرؤيا تمثل محاورة بين النفس والضمير، فالنفس ترغب في معرفة عمرها والضمير بصورة ملك الموت يقطع عليها هذه الرغبة قائلا إن ذلك من علم الله
وإنني مع اعترافي لفرويد بالنبوغ في التحليل النفسي بواسطة الأحلام، وأنه هو الذي نبه العصر الحديث إلى أن الأحلام لها مغزى يجب أن نعرفه إذا أراد أن نعرف حقيقة أنفسنا، وان التحليل النفسي هو الطريقة المثلى لعلاج الأمراض العصبية علاجاً أكيدا. أقول مع اعترافي بكل هذا فإنني اشعر بأن هذا العصر الحديث مدين لابن سيرين ومفسري العرب لأنهم هم الذين أثاروا الطريق لفرويد حتى وصل إلى هذه الشهرة العالمية العظيمة، ومن الغريب أن فرويد في كتبه العديدة لم يذكر كلمة عن ابن سيرين.
وقبل أن أتكلم عن علاقة الرؤيا بالمستقبل أود أن أذكر هنا رؤيا أخرى مما طلب إليّ تفسيره
1 - شاب موظف متزوج وله أطفال رأى كأن في بيته فراريج صغاراً داس على فروج فمات
هذه رؤيا ظريفة وصغيرة ولكنها تدل على معنى كبير لان الفراريج رمز للأطفال، فهل من المعقول أن والداً يود موت طفله بيده؟ فقد يبدو ذلك محالا، ولكن الواقع أن الأسئلة قد جعلته يعترف بأنه ليس سعيدا في حياته الزوجية، وأنه يتمنى لو لم توجد هذه الرابطة: رابطة الأطفال بينه وبين زوجته
إذن تريد النفس ألا يكون هناك أطفال، ولكن الضمير يقف حائلا دون ظهور هذه الرغبة فتكتفي النفس بتمني موت طفل واحد ولكن تحت ستار آخر غير ستار كراهية الزوجة، وهذا الستار هو أن ذلك الطفل مريض مرضاً خطيراً وخير له أن يموت من أن ويواجه الدنيا في المستقبل ويده اليمنى مشلولة. ذلك الذي يتمنى موت طفله لان يده اليمنى مشلولة يقول أيضاً بأن بعض الأطباء قر بأن الشلل موضعي وان الشفاء ممكن لو عنى به العناية اللازمة إذن فليست هي الشفقة التي تدفعه إلى تمني موت طفله إذ أنها بالعكس تدفعه إلى معالجة ذلك الابن المرموز له بفروج صغير في الرؤيا، وعلى هذا فالوضع الظاهري للحالة هو التخلص من الابن شفقة به، والوضع الحقيقي هو انه يرغب في الانفصال عن زوجته فترغب نفسه موت أطفاله في هذا السبيل
إلى هنا نقف برهة عن سرد أمثلة أخرى لانه قد يتبادر إلى الأذهان السؤال الآتي
إذا كان فرويد قد تتبع طريقة ابن سيرين في تفسير الأحلام فلماذا نرى هذا الفرق العظيم في نتيجة التفسير؟ ففرويد مثلاً يقول لصاحب الرؤيا إن عندك رغبة في كذا، ولكن ابن سيرين يقول لصاحب الرؤيا أنت حدث لك كذا أو سيحدث لك كذا؟
أما كشف حوادث الماضي فان ذلك ممكن لمحللي النفس كما كان ممكنا لابن سيرين، ولكنهم لم يكتفوا بالكشف عن حوادث الماضي بل تخطوها إلى معرفة رغبات النفس التي اقترنت بهذه الحوادث، والذي يعنيني هنا هو تعرض ابن سيرين لحوادث المستقبل.
والواقع أن ابن سيرين كان أستاذاً في الإيحاء الذي يسمونه كما كان أستاذاً في التحليل النفسي
وفي كتابه نرى كيف يختار الوقت والمكان اللذين إذا عبر فيهما يكون اقرب إلى الخير منه إلى الشر، وكيف يدعو الله قبل سماع الرؤيا لجلب الخير ودفع الشر وتأكيده في كتابه بان على المعبر أن يختار الكلام المبشر بالخير، لان أول تعبير في نظره هو الذي لابد من وقوعه
إذن فالإيحاء هو الذي أوجد الفرق بين ابن سيرين وفرويد، ففي رؤيا ابن سيرين التي قال فيها لصاحب الخاتم أنك ستتزوج امرأة جميلة غنية لو قصت هذه الرؤيا على فرويد لقال لصاحبها إن عندك رغبة في أن تتزوج بالمرأة الجميلة الغنية التي تعرفها. وفي رؤيا ابن سيرين التي قال فيها لصاحبتها إن زوجها سيحضر لأن اسكفة الباب العليا قد اجتمعت على أسكفة الباب السفلى لو عرضت هذه الرؤيا لفرويد لفسرها بأن الزوجة عندها رغبة في رجوع زوجها، وربما قال لها كثير من ذلك لما في اجتماع رمزي الزوجين من معان. والفرق واضح بين الطريقتين، فكلمة ستتزوج تحمل الرغبة في الزواج والإيحاء بالزواج في نفس الوقت، ولما كان الناس يعتقدون في ضرورة تحقيق التعبير فان ذلك الرجل الذي أوحى إليه بالزواج لابد انه سيتزوج ويكون بذلك قد حقق لابن سيرين تفسيره.
وهكذا يتبين لنا أن فرويد قد أدخل تعديلا مهما على تعبير الاحلام، فهو يسأل صاحب الرؤيا عن نفسه وهو يفك الرموز بطريقة ابن سيرين، ولكنه لا يوحي إلى صاحب الرؤيا بأي فكرة بل يكتفي بإظهار الرغبة النفسية الخفية له، ويقول إن إظهار هذه الرغبة كاف لأن يفكر صاحب الرؤيا في رغبته فيتناولها بالنقد والتقدير، وبذلك فقط قد يوافق على رغبته وينفذها إذا لم يكن هناك مانع عائلي أو اجتماعي وإلا فانه يكبت هذه الرغبة أو قد يسمو بها، وهذا ما يسميه فرويد أي أنه يوجهها وجهة شريفة سامية، وبقى علينا أن نجيب على سؤال واحد وهو هل تدل الرؤيا على حوادث المستقبل؟ والجواب على ذلك هو أن الرؤيا قد تدل على المستقبل في بعض الأحيان. وأما كيفية ذلك فسنخصص له بحثاً آخر فيها بعد، بعد شرح أقسام العقل المختلفة التي تعتمد رؤيا المستقبل عليها.
دكتور عبد الفتاح سلامة
طبيب مستشفى برقاش ووردان
مجلة الرسالة - العدد 38
بتاريخ: 26 - 03 - 1934
فتفسير الأحلام والتحليل النفسي هو في رأيي من عمل الأقدمين، وإذا قلت الأقدمين فإني أقصد بذلك الشرق، وهو لا يمت إلى الغرب بصلة، اللهم إلا صلة النقل ومحاولة فهمه والاستفادة منه.
ولابد لي قبل الموازنة بين ابن سيرين وفرويد من أن اشرح نظرية فرويد في تكوين الرؤيا وكيف يتصدى هو إلى تفسيرها. وكذلك سأشرح رأي ابن سيرين وطريقته في التفسير، وسيظهر جلياً كيف أن الأولى هي وليدة الثانية إن لم تكن هي هي مع قليل من التحوير، وسأبين أيضاً كيف تدل الرؤيا على حوادث المستقبل في بعض الأحيان.
تتلخص نظرية فرويد في أن الرغبة أو الأمل الذي لم يتحقق هو الذي ينبه العقل إلى العمل والتخيل أثناء النوم، وتكون النتيجة أن العقل يتخيل أن رغبته قد تحققت، أو بمعنى آخر فان الرؤيا قد تعتب حارساً للنوم، وظيفته أن يجعل النوم هادئاً مطمئناً، لأنها تخيل إلى الإنسان أن رغبته قد تحققت فلا داعي إذا إلى التفكير. ويقول فرويد أيضاً: إن بين رغبات الإنسان مالا يتفق ونظام المجتمع فقد تتمنى نفسه شيئاً محرماً يقف ضميره دون تحقيقه، فتتحين النفس فرصة يضعف فيها الضمير فتحقق رغبتها، ومن الناس من يضعف ضميره في اليقظة فيحقق رغبته المحرمة بالفعل ومنهم من لا يضعف ضميره إلا إذا نام إذ يتخيل تحقيق رغبته الملحة، وذلك في الرؤيا أي في وقت يكون الضمير فيه نائماً أو ضعيفاً فلا منع إذن ولا تإنيب، ويقول فرويد إن هذه الرغبات لا يعرف الإنسان عنها شيئاً مطلقاً مع أنها ليست غريبة عنه، وذلك لأن الضمير يطردها من العقل الواعي أو ما يسمونه العقل الظاهر.
ومع غياب هذه الرغبات عن الوعي فهي ممثلة في العقل الباطن، ممثلة فيه كأفكار كامنة، وأنها سبب الرؤيا وسبب مباشر لكل الأمراض العصبية التي يسميها فرويد يقول أيضاً إن المريض إذا صبح على بينة من أفكاره ورغباته الكامنة فانه يوجه إليها قوته العقلية المميزة ويضعها في ميزان النقد والتقدير، وبهذا فقط يتخلص من مرضه العصبي الذي يسبب له ولأسرته كل أنواع المتاعب. هذا في الواقع هو الذي حفز فرويد إلى دراسة الأحلام لأنها في نظره وسيلة من الوسائل التي توصل إلى كشف الرغبات الخفية للنفس. وفيما يلي طائفة من الأحلام التي حللها فرويد.
1 - رأت آنسة كأن أخاها في دولاب مقفل وكان تفسير فرويد أن الآنسة تود ألا يتدخل أخوها في شؤونها - ذلك لان وجود الأخ في الدولاب المقفل رمز لعدم قدرته على رؤيتها، وبالتالي رمز لعدم إمكان انتقادها أو التدخل في شؤونها
2 - زوجة رأت أنها اشترت ثلاث تذاكر لها ولزوجها لحضور حفلة تمثيلية وأنها اشترت هذه التذاكر الثلاث بفرنك ونصف وأنها اشترت التذاكر قبل ميعاد التمثيل بثلاثة أيام خوفاً من نفاذ التذاكر، وأنها حضرت إلى صالة المسرح قبل رفع الستار بساعة خوفاً من الزحام، ولكنها لما دخلت مع زوجها وجدت كراسي كثيرة خالية، وهذا معناه أنها ما كانت لتخسر شيئاً لو أنها لم تتعجل في شراء التذاكر ولا في التبكير في الحضور، وأخبرها زوجها وهو يلاطفها في المسرح بأن صديقتها فلانة وزوجها قد اشتريا تذاكر ولكنهما لم يحضرا، ولما سألها فرويد علم منها ما يأتي. صديقتها المذكورة في الرؤيا أصغر منها بثلاثة أشهر هي لم تتزوج إلا بعد زواج صاحبة الرؤيا بعشر سنين، ولأجل تفسير هذه الرؤيا المعقدة تجد أن فرويد قد حاول تحليلها بطريقة الرموز على الوجه الآتي
الحفلة التمثيلية رمز لحفلة الزواج، والرقم 3 رمز للرجل وهو الزوج في هذه الحالة، وإذا عرفنا أن المرأة هي التي تدفع المهر عند الإفرنج وأنها اشترت ثلاث تذاكر بفرنك ونصف، كان معنى ذلك أنها دفعت مهر زوجها رخيصاً فهي غير سعيدة في زواجها، وما كان أسعدها لو أنها تأخرت في الزواج كزميلتها التي تزوجت من رجل أشجع وأحسن من زوجها وذلك بفضل تريثها حتى جمعت مهراً لائقاً برجل كريم
من هذين المثالين نرى أن فرويد قد استعان في تحليله النفسي بالأحلام وأنه فسر هذه الأحلام بواسطة أسئلته لصاحب الرؤيا وبواسطة فكه الرموز بهذه الأحلام.
أما هذه الرموز فهي موجودة، في اللغة، موجودة في الشعر موجودة في الأمثلة السائرة، وفي الحكم المنثورة، وفي كلام العامة، والخاصة وفي كل شيء. فالشمس والقمر قد يكونان رمزاً للوالدين أو رمزاً للملوك. وصغار الطيور قد تكون رمزاً للأطفال والأبناء. وهكذا يقول فرويد إن لكل أمة رموزها الخاصة وهو على حق، لأن لكل أمة لغتها الخاصة وآدابها وأمثلتها. وبعد، أفليست هذه الطريقة هي طريقة ابن سيرين في التفسير وقد كان يسأل صاحب الرؤيا ملياً في النهار وهو يقول في كتابه إن الرؤيا قد تأتي عن رغبة في النفس كأن يرى الإنسان نفسه مع من يحب أو قد يرى الأكل أمامه إذا كان جائعاً، وأما الرموز عند ابن سيرين فهي كثيرة ليس لها حصر، وليس له مثيل في هذا الباب وقد أخذ هذه الرموز من القرآن كالآيات الآتية
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) وقوله تعالى في النساء (بيض مكنون) وكان يأخذ رموزه أيضاً من الحديث كقول النبي (صلى الله عليه وسلم) (رفقاً بالقوارير) يعني النساء - وقد كان يأخذ رموزه أيضاً من الأمثلة المبتذلة كقول إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام (غير اسكفه الباب) أي طلق زوجتك وكقول لقمان لابنه (غير فراشك) يعني زوجتك أيضاً وفيما يلي طائفة من الرؤى التي فسرها ابن سيرين
1 - جاءت امرأة إلى ابن سيرين فقالت: رأيت كأن في حجري لؤلؤتين أحدهما أكبر من الأخرى وقد طلبت أختي مني إحداهما فأعطيتها الصغرى - فقال ابن سيرين تعلمت سورتين من القرآن إحداهما اكبر من الأخرى وقد علمت أختك الصورة الصغرى
2 - جاء رجل إلى ابن سيرين وقال: رأيت كأن ثورا عظيما خرج من جحر صغير وأراد أن يرجع إلى الجحر فلم يتمكن من ذلك. فقال ابن سيرين هي الكلمة العظيمة تخرج من فم الرجل ثم يندم عليها.
وظاهر هنا أن ابن سيرين قد رمز للسورة باللؤلؤة وللكلمة بالثور وللفم بالجحر وبديهي أنه - تمشيا مع عادته في التفسير - قد سأل أصحاب الرؤيا عما في أنفسهم قبل إيضاحه لهم ما تدل رؤياهم عليه، وهناك طائفة أخرى من الأحلام قد فسرها أبن سيرين وفي تفسيره لها شيء من التنبؤ وهاك بعض الأمثلة:
1 - جاء رجل إلى أبن سيرين وقال رأيت كأني البس خاتماً جميلاً فصه من ياقوت فقال تتزوج من امرأة جميلة غنية أي أنه حمل المعنى على المستقبل
2 - جاءت إلى أبن سيرين امرأة وكان زوجها غائباً وقالت له: رأيت كأن أسكفة الباب العليا سقطت على السفلى، فقال أبن سيرين سيعود زوجك، وهنا أيضاً حمل المعنى على المستقبل
ونحن من جانبنا لا نتعرض لموضوع التنبؤ الآن لأننا سنوفيه حقه فيما بعد، ونكتفي بذكر رؤيا عظيمة تدل على مبلغ تضلع العرُب في تفسير الأحلام. فقد حدث المنصور أنه رأى في منامه صورة ملك الموت وسأله عن مدة عمره فأشار بأصابعه الخمسة، فاحتار المنصور في تأويل رؤياه لانه لا يعلم هل سيموت بعد خمسة أشهر أو خمس سنين، ولكنه سأل الأمام أبا حنيفة، قال له انه يشير إلى الآية (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت) فكأن ملك الموت يريد أن يذكره بالخمسة أشياء التي لا يعرفها غير الله ومن ضمنها وما تدري نفس ماذا تكسب غدا
هذا هو تفسير أبي حنيفة، ولعمري لا يمكن لفرويد ان يزيد شيئاً على هذا التفسير، اللهم إلا إذا قال كعادته إن هذه الرؤيا تمثل محاورة بين النفس والضمير، فالنفس ترغب في معرفة عمرها والضمير بصورة ملك الموت يقطع عليها هذه الرغبة قائلا إن ذلك من علم الله
وإنني مع اعترافي لفرويد بالنبوغ في التحليل النفسي بواسطة الأحلام، وأنه هو الذي نبه العصر الحديث إلى أن الأحلام لها مغزى يجب أن نعرفه إذا أراد أن نعرف حقيقة أنفسنا، وان التحليل النفسي هو الطريقة المثلى لعلاج الأمراض العصبية علاجاً أكيدا. أقول مع اعترافي بكل هذا فإنني اشعر بأن هذا العصر الحديث مدين لابن سيرين ومفسري العرب لأنهم هم الذين أثاروا الطريق لفرويد حتى وصل إلى هذه الشهرة العالمية العظيمة، ومن الغريب أن فرويد في كتبه العديدة لم يذكر كلمة عن ابن سيرين.
وقبل أن أتكلم عن علاقة الرؤيا بالمستقبل أود أن أذكر هنا رؤيا أخرى مما طلب إليّ تفسيره
1 - شاب موظف متزوج وله أطفال رأى كأن في بيته فراريج صغاراً داس على فروج فمات
هذه رؤيا ظريفة وصغيرة ولكنها تدل على معنى كبير لان الفراريج رمز للأطفال، فهل من المعقول أن والداً يود موت طفله بيده؟ فقد يبدو ذلك محالا، ولكن الواقع أن الأسئلة قد جعلته يعترف بأنه ليس سعيدا في حياته الزوجية، وأنه يتمنى لو لم توجد هذه الرابطة: رابطة الأطفال بينه وبين زوجته
إذن تريد النفس ألا يكون هناك أطفال، ولكن الضمير يقف حائلا دون ظهور هذه الرغبة فتكتفي النفس بتمني موت طفل واحد ولكن تحت ستار آخر غير ستار كراهية الزوجة، وهذا الستار هو أن ذلك الطفل مريض مرضاً خطيراً وخير له أن يموت من أن ويواجه الدنيا في المستقبل ويده اليمنى مشلولة. ذلك الذي يتمنى موت طفله لان يده اليمنى مشلولة يقول أيضاً بأن بعض الأطباء قر بأن الشلل موضعي وان الشفاء ممكن لو عنى به العناية اللازمة إذن فليست هي الشفقة التي تدفعه إلى تمني موت طفله إذ أنها بالعكس تدفعه إلى معالجة ذلك الابن المرموز له بفروج صغير في الرؤيا، وعلى هذا فالوضع الظاهري للحالة هو التخلص من الابن شفقة به، والوضع الحقيقي هو انه يرغب في الانفصال عن زوجته فترغب نفسه موت أطفاله في هذا السبيل
إلى هنا نقف برهة عن سرد أمثلة أخرى لانه قد يتبادر إلى الأذهان السؤال الآتي
إذا كان فرويد قد تتبع طريقة ابن سيرين في تفسير الأحلام فلماذا نرى هذا الفرق العظيم في نتيجة التفسير؟ ففرويد مثلاً يقول لصاحب الرؤيا إن عندك رغبة في كذا، ولكن ابن سيرين يقول لصاحب الرؤيا أنت حدث لك كذا أو سيحدث لك كذا؟
أما كشف حوادث الماضي فان ذلك ممكن لمحللي النفس كما كان ممكنا لابن سيرين، ولكنهم لم يكتفوا بالكشف عن حوادث الماضي بل تخطوها إلى معرفة رغبات النفس التي اقترنت بهذه الحوادث، والذي يعنيني هنا هو تعرض ابن سيرين لحوادث المستقبل.
والواقع أن ابن سيرين كان أستاذاً في الإيحاء الذي يسمونه كما كان أستاذاً في التحليل النفسي
وفي كتابه نرى كيف يختار الوقت والمكان اللذين إذا عبر فيهما يكون اقرب إلى الخير منه إلى الشر، وكيف يدعو الله قبل سماع الرؤيا لجلب الخير ودفع الشر وتأكيده في كتابه بان على المعبر أن يختار الكلام المبشر بالخير، لان أول تعبير في نظره هو الذي لابد من وقوعه
إذن فالإيحاء هو الذي أوجد الفرق بين ابن سيرين وفرويد، ففي رؤيا ابن سيرين التي قال فيها لصاحب الخاتم أنك ستتزوج امرأة جميلة غنية لو قصت هذه الرؤيا على فرويد لقال لصاحبها إن عندك رغبة في أن تتزوج بالمرأة الجميلة الغنية التي تعرفها. وفي رؤيا ابن سيرين التي قال فيها لصاحبتها إن زوجها سيحضر لأن اسكفة الباب العليا قد اجتمعت على أسكفة الباب السفلى لو عرضت هذه الرؤيا لفرويد لفسرها بأن الزوجة عندها رغبة في رجوع زوجها، وربما قال لها كثير من ذلك لما في اجتماع رمزي الزوجين من معان. والفرق واضح بين الطريقتين، فكلمة ستتزوج تحمل الرغبة في الزواج والإيحاء بالزواج في نفس الوقت، ولما كان الناس يعتقدون في ضرورة تحقيق التعبير فان ذلك الرجل الذي أوحى إليه بالزواج لابد انه سيتزوج ويكون بذلك قد حقق لابن سيرين تفسيره.
وهكذا يتبين لنا أن فرويد قد أدخل تعديلا مهما على تعبير الاحلام، فهو يسأل صاحب الرؤيا عن نفسه وهو يفك الرموز بطريقة ابن سيرين، ولكنه لا يوحي إلى صاحب الرؤيا بأي فكرة بل يكتفي بإظهار الرغبة النفسية الخفية له، ويقول إن إظهار هذه الرغبة كاف لأن يفكر صاحب الرؤيا في رغبته فيتناولها بالنقد والتقدير، وبذلك فقط قد يوافق على رغبته وينفذها إذا لم يكن هناك مانع عائلي أو اجتماعي وإلا فانه يكبت هذه الرغبة أو قد يسمو بها، وهذا ما يسميه فرويد أي أنه يوجهها وجهة شريفة سامية، وبقى علينا أن نجيب على سؤال واحد وهو هل تدل الرؤيا على حوادث المستقبل؟ والجواب على ذلك هو أن الرؤيا قد تدل على المستقبل في بعض الأحيان. وأما كيفية ذلك فسنخصص له بحثاً آخر فيها بعد، بعد شرح أقسام العقل المختلفة التي تعتمد رؤيا المستقبل عليها.
دكتور عبد الفتاح سلامة
طبيب مستشفى برقاش ووردان
مجلة الرسالة - العدد 38
بتاريخ: 26 - 03 - 1934