لا شك انّ جان كان وجها منهكا مألوفا لدى زبائن وندّل الحانات التي كان يرتادها .. وايضا كان مألوفا وأليفا لدى الارصفة والنهارات والحدائق والفنادق والمقاهي التي قلما يؤمها .. ولدى المثقفين على اختلاف مشاربهم والوانهم وتوجاهاتهم .. وبلا ادنى ريب كان جان يحظى باهتمام استثنائي من لدن اصدقائه الشعراء الصعاليك او مايشاع عنهم بالصعاليك .. ومن لدن البعض ممن كانوا متطفلين على موائد الشعراء الشعراء والمثقفين المهمشيّن .. وجان كان صديقا مشاكسا للجميع ويحظى باهتمام وتقدير هذا الجميع .. رغم شتائمه التي كانت تطال الجميع يوزعها بسخاء منقطع النظير على ندماؤه بالتساوي .. لاسيما ممن كانوا مأزومين ماليا أوجيوبهم مثقوبه على الدوام يتساقط منها الخواء على نحو مزمن .. كان الهولاء المتطفلين على موائد الخمور في الحانات غراماؤه اللدودين .. اذ كانوا ينافسونه على الاعطايات او الهبات التي كانت تغدق عليه على شكل انصاف زجاجات عرق .. هذه احدى اهم الأزمات التي كانت تحدث وعلى نحو لا يخلو من التكرار في اماسي حانات جان .. ربما هو شاعر بالإشاعة ..!! لكنه كان مثقفا ويمتلك حسا نقديا جماليا في قراءة الشعر يميزه ويتفرد به عن بقية اقرانه الشعراء الصعاليك ..هذا ماستشفيته او استنتجته عبرحوارات مكثفة تحدث كلما جمعتنا مائدة في حانة .. كان يقرأ ليّ بعض مما كتبه من قصائد في وقت ما , قصائد من تلك التي تمتلك مقومات البقاء والديمومة والمكوث في الذاكرة ومقارعة قوى النسان والتلف .. كانت شحيحة تلك القصائد التي كتبها في اوقات جدّ متباعدة وعبر مراحل ومسافات من تطور ذائقته .. لا اعرف السبب المضمر الذي دعاني لأستذكار جان .. ربما الموت الذي بات على مقربة من ابوابنا المغلقة .. او الشعور بنهاية الرحلة .. التي استغرقة قرابة 55 عاما من المكابدات والشقاء والحروب .. اقول ربما الموت الذي تعقب آثار جان في رحلته العجائبية التي لا تخلو من حس عبثي . الموت الذي اقتفى اثر جان عند محطته البعيدة . لاحقه هناك في البعيد حيث يلاقي حتفه وسط قارة . كان يحسبها ملاذا يقيه العوز والتشرد . فكانت تبيت له قبرا وعزلة وغربة .. ما اسرع انّ وافاه الأجل او الخراب السرمدي .. طار من هنا .من بلاد مابين الخرابين ..من بلاد اوصدت حاناتها الابواب .. اغلقت نوافذها بوجهه .. فطار محلّقا صوب بلاد لا تغلق فيها الحانات ابدا .. طار حالما بزجاجات الخمور التي شحت في البلاد وباتت كطيف بعيد .. اقول ربما الموت الذي اختطف الحياة من جان وهو لم يزل في مقتبل الثمالة , هو الذي دعاني لأستذكار جان .. رغم تباين شكل وملامح الموتين الذي سيحدث .. الموت الاوّل حدث على نحو تراجيدي قريبا في صياغته واجواءه من المناخ السوريالي .. والثاني لا يزال ينتظر .. ينتظر لمسات القدر الاخيرة التي سوف تلطّخ لوحة الحياة بسخام العبث الوجودي او عبثية الوجود .. في تلك السنوات . سنوات اماسي الحانات ..والتي كانت اغلبها تطل على ابي نؤاس ذلك الشارع العتيد الخالد في ذاكرة العشاق والصعاليك .. لم نكن نتبأ بما سيحدث .. ولم اكن اتوقع سيأتي زمن ما .. شبيه بهذا الزمن الذي لا مثيل له !! زمن اراه فيه الموت يمشي على مقربة من سريري .. زمن يقذف بشيخ الصعاليك صوب مرافىء صدئة وهناك يتوّج خاتمته باكليل من اللاجدوى والعبث .. أيكون شبح الموت في حضوره الوشيك حافزا منشطا للذاكرة .. حافزا لأستذكار اطياف الموتى ممن تصلنا بهم وشيجة ما .. فكان هذا الشبح المتخاطف في المخيّلة حافز نشطا لأستدعاء طيف جان . الطيف الذي غدا ذكرى .. يا للغرابة . ما اسرع انّ صار ذكرى .. وما اسرع ان توارت تلك الشتائم الساخطة _ شتائم جان _ التي كانت تتصاعد في فضاء الحانات ناقمة على كلّ شيء .. كلّ شيء .. وانا استعيد كل هذا الشريط من الاستذكارات , الشريط الذي بات رماديا شاحبا في تلاحقه التراجيدي . تثب إلى ذهني اطياف كلّ الشعراء الصعاليك الذين رحلوا في مقتبل تفتّح مواهبهم .. تلك المواهب التي لم تقل اوتبح بعد ما في حوزتها .. رحلت دون انّ تقول اجمل مالديّها