الساعة تجاوزت السادسة مساء بقليل. هبطنا درجات السلم بثقة تتناقص تدريجيا، لم نكن أنا وصديقي قد تجاوزنا العشرين عاما بعد، أذكر أننا لم ننم قبلها بيومين، عقب مكالمة هاتفية مهمة جدا، فقد امتلك الصديق أشرف محمود شجاعة المبادرة، واتصل بالكاتب الكبير ليخبره أننا نكتب القصة القصيرة ونحلم بلقائه.
أصبحنا في الطابق الأدني من كازينو قصر النيل العتيق، سألنا الجرسون عن مكان الأستاذ نجيب محفوظ، فأشار بروتينية إلي منطقة مغطاة من الكازينو، آلية الرد أوحت بأنه كثيرا ما يستمع للسؤال نفسه كل يوم جمعة. مع اقترابنا التدريجي كانت ثقتنا بالنفس تتراجع أمام عظمة لقاء مرتقب، يتيح لنا فرصة المقابلة وجها لوجه، دون حواجز شاشات التلفاز المعهودة. بعد ثوان كنا في مواجهة الأستاذ وجانب من حرافيشه. لم نملك جرأة الجلوس معهم رغم أن اللقاء يبدو مفتوحا. شعرنا أننا سنكون دخيلين. وجهة نظر مُحملة ببقايا طفولة لطالبين جامعيين، قادتنا للجلوس إلي منضدة موازية لكنها أكثر قربا من النيل، وبدأنا نسترق السمع رغم أننا لا نحتاج إلي التلصص، فمنضدة الأستاذ قريبة جدا منا، كما أن أصوات الجميع عالية، لكي تصل كلماتهم إلي آذان الأديب الكبير الذي يعاني ضعفا قي السمع بحكم السن. بعد نحو نصف ساعة أحسست وصديقي أن السنتيمترات الفاصلة بين المائدتين أصبحت بالغة الاتساع، غير أن قرار الانتقال عبر الممر الضيق كان يحتاج إلي قوة دفع مزدوجة! فلابد أن نمتلك شجاعة تقديم أنفسنا، وهي جرأة لا يستهان بها وسط أسماء عديدة تحتل مكانتها في الساحة الأدبية، وفي المركز منها القطب الأعظم: نجيب محفوظ. وقبل هذه الخطوة المهمة كان ينبغي علينا أن نتخطي مرحلة أخري بالغة الحساسية.. والترقب! فقبل أن نترك مائدتنا يجب أن نجمع شتات نقودنا لدفع ثمن كوبين من عصير المانجو، طلبناهما بمجرد جلوسنا، لنثبت للجالسين في المكان وكذلك العاملين به أننا لسنا متطفلين!
تجاوزنا أزماتنا الصغيرة، وبعد قليل بدأ كلانا يتلو قصته علي مسامع الحاضرين، كان محفوظ يبدو مستغرقا في تركيزه لدرجة أصابتنا بالقلق، فها هو العملاق علي وشك إطلاق حكمين علي إبداعاتنا. قد تكون كلماته نقطة انطلاق لنا، وربما تتحول إلي رصاصات رحمة تنقذ القراء من تخاريفنا. انتهينا لنفاجأ به يسأل أقرب الجالسين عن مضمون القصتين، وبطبيعة الحال كان النقل بالغ الاختزال، وعلمنا وقتها أن صوتنا لم يكن يصل إليه رغم أننا استجبنا لنصائح الحاضرين ورفعناه حتي احتجت حناجرنا.
عموما لم يمنحنا نجيب محفوظ شهادات ميلاد أدبية يومها، لكننا أعطينا أنفسنا تأشيرة دخول أسبوعية إلي أحد عوالمه، وشعرنا أن مغارة علي بابا قد فتحت أبوابها لنا. وظللنا نتباهي أمام زملائنا بأننا نقابل الأديب الكبير الذي لم يكن قد حصل علي نوبل وقتها. لم يعلموا أننا نقف فقط علي الأعتاب، لكن ما يغفر لنا هو نزعتنا الصبيانية للتباهي، وهي نزعة حرصنا علي التعافي منها. بينما ظل الكثيرون يتمسحون بأديب نوبل، حتي لو كان مرورهم به عابرا، وحضورهم لديه خافتا!!.
9/8/2018
إيهاب الحضري
* منقول عن:
ثرثرة علي نيل «محفوظ» !
أصبحنا في الطابق الأدني من كازينو قصر النيل العتيق، سألنا الجرسون عن مكان الأستاذ نجيب محفوظ، فأشار بروتينية إلي منطقة مغطاة من الكازينو، آلية الرد أوحت بأنه كثيرا ما يستمع للسؤال نفسه كل يوم جمعة. مع اقترابنا التدريجي كانت ثقتنا بالنفس تتراجع أمام عظمة لقاء مرتقب، يتيح لنا فرصة المقابلة وجها لوجه، دون حواجز شاشات التلفاز المعهودة. بعد ثوان كنا في مواجهة الأستاذ وجانب من حرافيشه. لم نملك جرأة الجلوس معهم رغم أن اللقاء يبدو مفتوحا. شعرنا أننا سنكون دخيلين. وجهة نظر مُحملة ببقايا طفولة لطالبين جامعيين، قادتنا للجلوس إلي منضدة موازية لكنها أكثر قربا من النيل، وبدأنا نسترق السمع رغم أننا لا نحتاج إلي التلصص، فمنضدة الأستاذ قريبة جدا منا، كما أن أصوات الجميع عالية، لكي تصل كلماتهم إلي آذان الأديب الكبير الذي يعاني ضعفا قي السمع بحكم السن. بعد نحو نصف ساعة أحسست وصديقي أن السنتيمترات الفاصلة بين المائدتين أصبحت بالغة الاتساع، غير أن قرار الانتقال عبر الممر الضيق كان يحتاج إلي قوة دفع مزدوجة! فلابد أن نمتلك شجاعة تقديم أنفسنا، وهي جرأة لا يستهان بها وسط أسماء عديدة تحتل مكانتها في الساحة الأدبية، وفي المركز منها القطب الأعظم: نجيب محفوظ. وقبل هذه الخطوة المهمة كان ينبغي علينا أن نتخطي مرحلة أخري بالغة الحساسية.. والترقب! فقبل أن نترك مائدتنا يجب أن نجمع شتات نقودنا لدفع ثمن كوبين من عصير المانجو، طلبناهما بمجرد جلوسنا، لنثبت للجالسين في المكان وكذلك العاملين به أننا لسنا متطفلين!
تجاوزنا أزماتنا الصغيرة، وبعد قليل بدأ كلانا يتلو قصته علي مسامع الحاضرين، كان محفوظ يبدو مستغرقا في تركيزه لدرجة أصابتنا بالقلق، فها هو العملاق علي وشك إطلاق حكمين علي إبداعاتنا. قد تكون كلماته نقطة انطلاق لنا، وربما تتحول إلي رصاصات رحمة تنقذ القراء من تخاريفنا. انتهينا لنفاجأ به يسأل أقرب الجالسين عن مضمون القصتين، وبطبيعة الحال كان النقل بالغ الاختزال، وعلمنا وقتها أن صوتنا لم يكن يصل إليه رغم أننا استجبنا لنصائح الحاضرين ورفعناه حتي احتجت حناجرنا.
عموما لم يمنحنا نجيب محفوظ شهادات ميلاد أدبية يومها، لكننا أعطينا أنفسنا تأشيرة دخول أسبوعية إلي أحد عوالمه، وشعرنا أن مغارة علي بابا قد فتحت أبوابها لنا. وظللنا نتباهي أمام زملائنا بأننا نقابل الأديب الكبير الذي لم يكن قد حصل علي نوبل وقتها. لم يعلموا أننا نقف فقط علي الأعتاب، لكن ما يغفر لنا هو نزعتنا الصبيانية للتباهي، وهي نزعة حرصنا علي التعافي منها. بينما ظل الكثيرون يتمسحون بأديب نوبل، حتي لو كان مرورهم به عابرا، وحضورهم لديه خافتا!!.
9/8/2018
إيهاب الحضري
* منقول عن:
ثرثرة علي نيل «محفوظ» !