أمل الكردفاني -اللغة ومنهج التفكير القانوني





كتابة المرافعة القانونية يتم توريثها من محام لغيره من المحامين. والمحامي نفسه يرثها عموما من تقاليد رسختها حركة المنظومة القانونية تاريخيا. ولذلك فلكل منظومة قانونية منهجها الخاص في كتابة المرافعة. وكما أسلفت في المقال السابق ، فالمرافعة يجب ألا تقتصر على الجانب القانوني فقط بل تتمتع بعنصر الجذب من حيث البلاغة والفصاحة ، وأن يتم سرد فحوى الدعوى بشكل يفضي بذاته وفي نهايته الى النتيجة التي يبتغيها المحامي وهي اقتناع القاضي او المحلفين ان وجدوا بقانونية مطالبك (اثباتا أو نفيا - إدعاءا أو دفاعا) . لكن هذا ليس كل شيء ، فالمذكرة الختامية هي التي ستتحدد على أساسها الصورة الكلية في نظر القاضي ، فالدعوى تظل وهي في محضر الجلسات مجرد صور متفرقة ، دفاعات ودفوع ، شهادات شهود متناقضة ومتعارضة ومتشابهة (وليست متطابقة) ، وثائق مشتملة على متطلباتها لتقبل كأدلة أو ناقصة أو غير متمتعة بأي استيفاء للمقبولية ، معروضات متنوعة (مضبوطات التحقيق) ، طلبات فرعية متنوعة ، تدابير قضائية متعددة..الخ. فالدعوى هنا عبارة عن لعبة بازل puzzle ضخمة جدا والمطلوب من المحامي إعانة القاضي على تجميع هذه القصاصات ودمجها وتكوين الجسد الكلي والنهائي للصورة. فالمذكرة التي لا تستطيع أن تعطي القاضي صورة متكاملة هي من ناحية تؤكد وجود خلل فيها ، ومن ناحية أخرى تحوج القاضي للعودة مرات ومرات لملف القضية لفهمها ، وغالبا هذه المذكرات تثبط عزيمة القاضي عن الاهتمام بكل مشتملاتها من الدفوع والدفاعات القانونية والموضوعية. وغالبا ما سيجتهد القاضي من تلقاء نفسه لتجميع القصاصات المتفرقة بنفسه. وهكذا يخسر المحامي قيادته لوعي القاضي ومن ثم قياده نحو النتيجة المأمولة أو تركه يواجه مذكرة خصمه منفردا.


· منهجية التعامل مع قصاصات القضية؟

بنية الإسناد اللوجستي:

إن منهجية التعامل مع القصاصات المشتتة لا تحتاج فقط إلى النظر إلى الداخل (اوراق الدعوى) ، بل تحتاج إلى اسناد لوجيستي واسع خاصة في القضايا الكبيرة ، وأقصد بالاسناد اللوجستي هو كل ما يؤهل المحامي لفهم القضية ومن ثم مساعدته في كتابة مذكرة ذات قيمة قانونية تفرض على القاضي -مهما قصرت سنوات المحامي في المهنة - أن يضع كل كلمة وجملة وسطر فيها موضع اعتبار.

الدعم اللوجستي هو مكان كتابة المذكرة ؛ فما يثير الدهشة أن يكتب المحامي مذكرته في مكتبه الخالي من أي مكتبة قانونية ورقية أو رقمية أو على الأقل انترنت مفتوح. مع مكتبة كاملة خاصة بكل القوانين والمنشورات القضائية مما تم الغاؤه وما لا زال ساريا ونافذا حتى كتابة المذكرة. كما يجب أن يشتمل مكتب المحامي على كل اللوائح (ما أمكن ذلك) ، ومضابط البرلمان إثر مناقشته للقانون . وهذا ليس نوعا من الترف -كما سأبين ذلك عند تحديد مناهج التفكير - وانما هو نوع من الامتلاء المعرفي للتطورات التي مرت بها قاعدة قانونية ما ؛ بحيث يستوعب المحامي فلسفة المشرع وسياساته التشريعية عندما ناقش واقر القاعدة ومنحها قوتها الملزمة. لكن هذا غالبا ما لا يحدث في واقعنا الراهن لأسباب كثيرة ، منها ، أن نشر القوانين واللوائح والمنشورات القضائية ومضابط البرلمان لا تجد الاهتمام الكافي من سلطات الدولة ومؤسسات سن وتطبيق وتنفيذ القانون. لو أخذنا مثلا قانونا فدراليا واحدا في الولايات المتحدة الأمريكية وتتبعناه فسنجد أن السيرة الذاتية الشاملة لهذا القانون قد تم توفيرها بسهولة دعما للعدالة. فقانون سرية المعلومات الطبية مثلا يأتي مشفوعا بكل المداولات التي جرت قبل سنه ، وتاريخ تطور هذا القانون عبر بيان جدليات واسباب التعديلات اللاحقة لبعض بنوده... الخ. إن فهم تطور القاعدة يختصر مشوارا طويلا من النقاش حول مثالبها أو تفسيرها أو حتى فهم المبادئ القضائية المختلفة والمتباينة بما يوضح ما استقر عليه القضاء في المسألة ذات الصلة. غير أن المحامي إذا اتبع المنهج الخطي عند طرح رؤيته القانونية فهو لا يعدو أن يقوم بتكرار ممل لما هو معلوم بالضرورة للقاضي من قواعد ومبادئ ، وهكذا فلن تضيف المذكرة للقاضي حين يقرأها أي جديد بل تتحول الى مذكرة متوقعة الفحوى من استدلالات وتفاسير فقهية مكرورة. ليس من المهم أن نسرد كافة النظريات والسوابق ولكن المهم كيف نستند إلى نظرية أو مبدأ على نحو مقنع.

ويضاف إلى البنية اللوجستية أيضا اتساع اطلاع المحامي على كل ما هو جديد في علوم القانون المختلفة وغيرها من العلوم الناعمة والخشنة وسنبين أهمية ذلك.


· مناهج التفكير القانوني:

تتعدد مناهج التفكير القانوني واسوأ هذه المناهج وأكثرها انتشارا هو المنهج الخطي:

(1) المنهج الخطي: وهو منهج تفكير رأسي ؛ وهو المنهج الذي غالبا ما يفكر به الموكلون حينما يطرحون المشكلة القانونية ويطلبون استشارة المحامي؛ فالمحامي لن يستطيع أن يطرح لهم التفاصيل التي تحيط بالقضية من قوانين متعددة وسوابق ونظريات ومبادئ ..الخ بل عليه أن يمنحهم إجابة بسيطة وايجابية ؛ فالقاتل يقتل والدائن يحصل على دينه ، والقرار باطل وسيلغى ...الخ. هذا المنهج البائس ينتج عن فهم الموكلين للقانون باعتباره سيفا حاسما يقطع الشك باليقين عبر قاعدة قانونية واحدة ينطقها المحامي بجملة قصيرة وواضحة. إن الموكل غالبا ما يطرح اسئلة تبدو له بسيطة ولكنها تحتاج لمجلدات للإجابة عليها ، وهو أقل تأهيلا وصبرا من أن يتفهم دقة المسألة.

(2) المنهج التفكيكي:

المنهج التفكيكي ليس هو تفكيكية دريدا في اللسانيات. فالمنهج التفكيكي ليس أكثر من اجراء قراءة شاملة وسريعة لكافة اوراق القضية ، ثم البدء في تقسيمها من حيث المسائل الجوهرية وغير الجوهرية ، ووضع كل مجموعة من المسائل المترابطة في كتلة واحدة ، منعزلة عن غيرها. وهذا المنهج يساعد على فهم القضية بشكل واسع جدا ، كما أنه يساعد على تخيل خط الدفاع الذي ستنتهجه المذكرة.

(3) المنهج التخيلي:

وهو منهج مبدئي يقوم على التفكير المتأمل في كل حزمة (كتلة) من المسائل المتشابهة وتخيل الارتباطات القانونية الخاصة بها ، أي ربط الكتلة بالقوانين واللوائح والسوابق والمنشورات القضائية والتفسيرات الفقهية الخاصة بها. فليست كل نقطة من نقاط النزاع تخضع لقانون واحد ولا لحكم قاعدة واحدة ولا لتفسير واحد.


(4) المنهج الشبكي: web thinking method: أو التفكير المنظومي systems thinking:


التفكير الشبكي هو الآن المنهج الذي تفوق على منهج التفكير النقدي ؛ فالتفكير النقدي critical thinking هو عبارة عن مصطلح عام يعبر عن مجموعة واسعة من المهارات والمفاهيم الفكرية اللازمة لتحديد وتحليل وتقييم الحجج ومتطلبات الحقيقة لصياغة وتقديم اسباب مقنعة لدعم الاستنتاجات وجعل القرارات معقولة وذكية. وهنا لا يعد التفكير النقدي سوى مهارة بحيث تختلف من شخص لآخر ، مع امكانية تطوير هذه المهارة قدما. (Critical thinking -an appeal to reason -Àndrew Beck,2011). وعلى هذا الاساس يمكن ملاحظة أن أغلب مؤلفات التفكير النقدي اعتمدت على المنطق الأرسطي الصوري بشكل حاسم رغم التفافها عبر استخدام مصطلحات مختلفة. ومن باب الإضافة الملحقة بمسألة التفكير النقدي وخاصة فيما يتعلق بالقانون يمكننا أن نحيل إلى مؤلف جيد بعنوان:

(Critical Thinking ; Consider the Verdict, Bruce N. Waller, 6th ed, Person Education, 2012)

أما اليوم فنحن أمام منهج جديد هو المنهج الشبكي او التفكير المنظومي systems thinking.

ويمكن تلخيص هذا المنهج في مفهوم يقترب من فلسفة وحدة الوجود لابن عربي أو أثر الفراشة عند الفيزيائيين (الشواش) ؛ فهو تفكير يعتنق فكرة أن النظام مجموعة من الوحدات أو الأجزاء التي تتأثر ببعضها البعض ومع ذلك فالنظام الذي يبدو مغلقا ليس كذلك بل هو أيضا يتأثر بمجموعة أنظمة أخرى ويؤثر فيها فالأنظمة ليست منعزلة عن بعضها البعض كما هو الاعتقاد. يمكننا مثلا أن نتساءل عن طبيعة النظام القانوني في السودان ، فالسائد هو أنه نظام مستمد من القانون العام common law ولكن هذا لا يعني أنه مماثل للنظام الأنجلو سكسوني (مع تحفظ على استخدام مسمى أنجلو سكسوني) ، فالنظام القانوني الراهن هو مزيج من العديد من الأنظمة الكبرى (الفقه الاسلامي ،النظام القانوني اللاتيني والنظام الانجلو ساكسوني ، بل وحتى التأثر بالفلسفة السياسية لأنظمة الحكم المختلفة). ولذلك فنسبة النظام القانوني السوداني لنظام القانون العام يجب ألا تتعدى كون هذا الأخير هو المصدر ، بل حتى لو تتبعنا النظام الأنجلو ساكسوني فسنجد أن هذا النظام كان سابقا على الغزو النورماندي الذي نقل الي النظام القانوني البريطاني العديد من المبادئ في القانون الروماني.

والتفكير الشبكي أو المنظومي هو النظر الى وقائع الدعوى من مختلف الزوايا ، بحيث لا يجب الاقتصار على القانون المباشر الذي يبدو منبثقا بتلقائية. فالوقائع تتداخل في حكمها العديد من القوانين بل والعديد من العلوم غير القانون ، كالطب والهندسة وعلم الاجتماع ...الخ. مع ملاحظة أنه إذا كانت عملية الربط الشبكي لنسيج القضية عبر القوانين المختلفة لا يثير مشاكل كثيرة في المقبولية الاستدلالية لكن استخدام المفاهيم في العلوم الأخرى يخضع لمبدأ نسبية الدعوى القضائية فما لم يتم طرحه أثناء المناقشات والسماعات وتدوينه في محضر الجلسات لا يجوز الاستدلال به في المرافعة الختامية ، مع ذلك يمكن التحايل على هذا القيد بطرق متعددة من أهمها صياغة المفهوم كتسبيب لنظرية قانونية ، أو صياغته بسياق عارض وعام وهكذا. وينضاف الى التفكير المنظومي استخدام اللغة القانونية السليمة والصياغة التي تهتم بالجانب المنطقي (التفكير النقدي) ، واستعمال لغة فاترة أو معتدلة والاهتمام بالانعكاس النفسي للغة . ومخاطبة ضمير القاضي عبر استكناه روح القانون.

لقد استمد التفكير المنظومي أو الشبكي من تعقيدات التكنولوجيا الحديثة ، واستخدم هذا المنهج ذو الأصول في العديد من العلوم المختلفة كالإدارة وبناء الهياكل التنظيمية ، وعموما فنحن كأفراد نستخدمه لحل مشاكلنا بشكل شبه يومي ، حيث لا نكتفي فقط باستنباط الحلول المباشرة بل نراعي تعقيدات المشكلة المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والأدبية والسياسية والأمنية.

مع ذلك فالتفكير الشبكي ليس حتميا في كل القضايا القانونية ، فهناك قضايا تستلزم فقط التفكير الخطي ، كقضايا العمل والأحوال الشخصية . على سبيل المثال فإن قضية ثراء حرام عبر عمليات تمويل ربوية ستثير نقاشا محموما حول اختلافات فقهية بالإضافة إلى مسائل ذات طابع فني كعمليات البنوك ، والتمييز بين صيغ التمويل الإسلامية المختلفة وخصوصية العلاقة بين البنوك والعملاء وارتباط البنوك بالبنك المركزي ونطاق تدخل هيئة الرقابة الشرعية. وعلى جانب المعرفة أو العلم بالقانون الجنائي فمبدأ عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون الجنائي وحدود هذا المبدأ واستثناءاته ستكون معتبرة عند كتابة المرافعة الختامية. وهكذا يترابط نسيج المرافعة ليمنح القاضي إجابات لكافة ما يمكن ان يتبادر إلى ذهنه من تساؤلات. لكن وكما أسلفنا فإن استصحاب علم نفس اللغة هام جدا عند كتابة المرافعات الختامية ، فالتواضع يجب أن يكون هو سمة هذه اللغة ، فبدلا عن استخدام كلمات قاطعة يجب استخدام كلمات تمنح القاضي فرصة لابداء رأيه ، واستخدام كلمة (قد) يجب أن تسبق أي جملة خبرية ، بل ولا مانع من طرح نقطة او نقطتين خاطئتين على نحو متعمد ليعطي ذلك مساحة للقاضي للتدخل برأيه الناقد والكاشف عن هذا الخطأ بشرط ألا يكون الخطأ المتعمد مؤثرا وجوهريا.

(5) التفكير النقدي:

التفكير النقدي هو تفكير بنيوي ، ينظر الى بنية المعطيات على وجهها المنطقي ، وهو يحتاج لملكة العمق وبعد النظر ، ومعرفة بمبادئ المنطق الصوري كالقياس والحدود والحجج والتصورات والتصديقات...الخ ويمكن اكتساب المعرفة بهذا الفن من خلال التدرب المستمر بلوغا للحذق به.


(6) المنهج الوصفي:

المنهج الوصفي هو منهج يرتكز عليه اي نشاط انساني ، فهو يعني جمع المعلومات اللازمة لأداء النشاط وترتيبها على النحو الذي يمكن من أدائه على نحو أمثل ، ففي القضايا الجنائية يجب جمع كافة المعلومات المتعلقة بالدعوى من العلوم الجنائية المختلفة كعلم الاجرام وعلم النفس الجنائي والطب الشرعي والقوانين الموضوعية والاجرائية ونظريات علم العقاب عندما نحاول مثلا تخفيف العقوبة عن الجاني مذكرين بسلطة القاضي في تفريد العقاب أو مناقشة مبادئ قضائية سابقة لدحض ما استندت اليه من أسباب او الاستعانة بتغيرات سياسية واجتماعية أثرت في معيار التجريم كالجرائم التي يدخل العرف والتقاليد كمحدد لنطاق ما يخالفها وما يتفق معها ، وكالخصوصية الثقافية للمجتمع الذي وقعت فيه الجريمة خلاف ما رآه المشرع من زاويته الحضرية الضيقة...الخ. ذلك أن المرافعة الختامية لا يجب ان ترتكز فقط على الحصول على حكم حاسم لمصلحة الموكل بل أيضا الاحتياط بحكم أخف وطأة إن لم يكن كله في صالحه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...