أحمد رجب شلتوت - فلاسفة متمردون تجرأوا على المألوف وغيروا تاريخ الفكر البشري

الكاتب العراقي علي حسين يرى أن الفلسفة في جوهرها استجابة ذهنية، مثلما الشعر استجابة وجدانية، وهي تساعدنا على أن نتخذ موقفا نقديا من الحياة والمجتمع.
الجمعة 2018/10/12

برتراند راسل وكيركغور وجان بول سارتر ممن غيروا العالم
منذ القرن التاسع عشر ردد الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل بأن “الوضعية قطعت رأس الفلسفة” في إقرار بانتصار العلم على الفلسفة التي جاء منها وأخذه لمكانتها، لكن الفلسفة لم تمت بعد مقولة هوسرل بل بالعكس ظهرت تيارات جديدة كالوجودية، وتجدد الخطاب الفلسفي، ليعود ويخبو اليوم، معيدا السؤال المكرر نفسه: هل ماتت الفلسفة؟

“كنت أسعى إلى إطالة عمر الفلسفة، لكنّ كلمتين أصبحتا قريبتين من الناس، وهما العلم والديمقراطية، أسدلتا الستار على مهنة الفيلسوف”. هكذا أجاب الفيلسوف وعالم النفس الأميركي جون ديوي ردا على سؤال حول مصير الفلسفة، فقد كان ديوي يعتقد أن الفلسفة ماتت.

لكن الكاتب العراقي علي حسين يخالفه الرأي، وبعد مرور سبعين عاما على مقولة ديوي يذكرنا بأهمية الفلسفة في حياتنا عبر فصول كتابه “دعونا نتفلسف” الصادر في 2018، عن دار أثر السعودية، إذ يرى أن الفلسفة في جوهرها استجابة ذهنية، مثلما الشعر استجابة وجدانية، وهي تساعدنا على أن نتخذ موقفا نقديا من الحياة والمجتمع، لذلك وضع لكتابه عنوانا فرعيا تفسيريا هو “كيف استطاع 25 مفكراً تغيير حياتنا؟”.

وجاء اختياره لهم مؤكدا على ديمومة الفلسفة وليس موتها كما أوضح تناوله لهم كيف استطاعوا أن يغيّروا تاريخ البشرية، معتمدين على سلطة التفكير والمعرفة رغم أنهم لم يكونوا على وفاق لا مع السلطة الحاكمة ولا مع المجتمع.

[SIZE=5]صانع الحجج[/SIZE]
يبدأ الكتاب بدعوة طريفة “دعونا نتسلى بالفلسفة”، وسرعان ما يتضح أنها دعوة إلى الاشتباك مع كارهي الفلسفة ورافضيها، فيتساءل عن أول من تفلسف ويجيب “لم يحسم التاريخ أبداً منشأ الفلسفة، قد يكون أحد فقراء الصين، أو كاهناً في معبد من معابد بابل، أو وزيرا في بلاط الفرعون إخناتون، إلا أن سجلات بداية الفلسفة تخبرنا أن رجلا نحيلا كان يهوى صيد السمك اسمه هيراقليطس، كانت الصورة الرائجة عنه بين الناس أنه شارد الذهن، لكنه استحق لقب “صانع الحجج” عن جدارة.

وعند حديثه عنه يقول أرسطو إنه أسس أول ضروب الفلسفة، ولم يترك لنا هيراقليطس سوى كتاب اسمه “الشذرات” عبارة عن حِكم مكتوبة بلغة أقرب إلى الشعر، يقول فيها عن “التغيير الذي لا يلاحظه الناس: إنك لا تستطيع أبدًا أن تنزل في النهر نفسه مرتين، لأن مياهًا جديدة تتدفق عليك بلا انقطاع”، وهكذا تتوالى الحكايات عن فلاسفة اختارهم ممن يمكن وصفهم بالمتمردين، فلم يرضوا بالسائد وإنما طرحوا الأسئلة وتجرأوا على المألوف.

أول فيلسوف إما أن يكون أحد فقراء الصين وإما ان يكون كاهنا في معبد من معابد بابل أو هو وزير في بلاط إخناتون

ويلاحظ أن حسين اختار فلاسفة من الغرب ليتحدث عنهم، وكأنه يرى أن الشرق خلا من الفلاسفة أو أن فلاسفة الشرق غرّدوا دائما داخل السرب. فقصر رحلته مع الفلسفة على نتاجات العقل الغربي متنقلا بين قديمها وحديثها، متبعا نفس منهجه في كتابه السابق “في صحبة الكتب”، فقد اعتمد على المزج بين الحياة الشخصية للمفكر وبين إنتاجه، مبينا أثر حياة الإنسان الاجتماعية على تحديد مصيره وعلى إنتاجه الأدبي والفكري، كاشفا بذلك عن أسرار الإبداع سواء في الأدب في الكتاب السابق أو الفلسفة في الكتاب الثاني.

في عام 1945، منح الرئيس الفرنسي شارل ديغول وسام جوقة الشرف لجان بول سارتر، لكنه رفض تسلمه “لأن مثل هذه التكريمات بالنسبة إليه تقييد لحريته، لكونها تجعل من الكاتب تابعاً”. وكان سارتر قد أعلن رفضه للوسام في رسالة جاء فيها ”عند اختيار أي شيء على الإطلاق، فإنني قبل أي شيء اختار الحرية”.

كان سارتر قد نشر قبل أشهر كتابه “الكينونة والعدم”، وكانت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية شهدت هبوب رياح الحرية على العالم الغربي، الحرية الفكرية، حرية الوجود، حرية المرأة. في نفس الوقت نشر غابريل مارسيل كتابه “يوميات ميتافيزيقية”، مطالبا فيه بعودة الفلسفة الوجودية إلى أصولها الأولى وإلى صاحبها سورين كيركغور، الذي كان يخشى أن يُنظر إليه بعد موته على أنه فيلسوف،

فيقول في كتابه “خوف ورعدة”، ”كاتب هذه السطور ليس فيلسوفاً بل لا يدري إن كان هناك ما يسمى بالمذهب الفلسفي أم لا، ولا يدري إن كان قد اكتمل، يكفيه ما لديه فعلا في رأسه الهزيلة من تفكير”، ولم يكن يعني من الفلسفة سوى الرد على هيغل الذي أراد أن يفسر كل شيء تفسيرا عقليا خالصا، مع أن حياة الإنسان مليئة بألوان كثيرة من الغموض والألغاز يعجز العقل البشري عن تفسيرها، لأنها تحتاج إلى منهج آخر يختلف عن منهج هيغل.




رحلة من هيراقليطس إلى كيركغور وبرتراند راسل وسارتر


ومن هنا كان كيركغور يريد أن يحلّ الوجود الإنساني، بكلّ ما يحيط به من قلق وصراع وتوتر ويأس وإيمان وخطيئة ومعاناة، محلّ الوجود العقلي الذي حوّل الواقع الإنساني إلى مجموعة هائلة من التصورات العقلية. وقد التقط سارتر تلك العبارة هذه ليقدّم محاضرته الأولى عن الوجودية بعنوان “الوجودية مذهب إنساني”.

وقد أكد كيركغور على أن الفلسفة لا يجب أن تكون مجردة، بل على العكس من ذلك يجب أن ترتكز على تجربة شخصية، وعلى موقف تاريخي يجد الفرد فيه نفسه، ومن هنا كانت الفلسفة عنده بمثابة نقطة ارتكاز لحياة فردية، وليست وسيلة للتأمل العقلي المجرد، وكانت السخرية هي الأداة التي من خلالها نستطيع أن ندخل في فحص ذاتي دون غطرسة وتكبر ”فالشك للعلم، مثل السخرية للحياة الشخصية”.

[SIZE=5]دعوني أتفلسف[/SIZE]
يذكر المؤلف قول برتراند راسل “عندما أشرع في كتابة موضوع فلسفي فإنني أعود إلى الروايات الممتعة، فقمة آمالي أن أكتب أشياء تشبهها، وألا أكون غامضا، وأن أشيع النور والمعرفة والمتعة في كل سطر أكتبه”.

ويستعير على حسين في خاتمة كتابه تلك المقولة قبل أن يثبت قائمة تضم مئة كتاب في الفلسفة، يمكن اعتبارها وليمة فكرية يدعو إليها القارئ، مؤكدا أنه إذا تمكّن من إعادة قراءة تلك الكتب سيمكنه وقتها أن يهتف في الناس “دعوني أتفلسف”.

ويلاحظ أن القائمة ذكرت ما خلا منه كتابه، فلم تقتصر على الفلسفة الغربية بل ضمّت كتبا عربية قليلة لابن رشد وابن سينا والفارابي والكندي، وكتبا أخرى حديثة منها نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود ومدرسة الحكمة لعبدالغفار مكاوي، ورغم قلة عدد الكتب العربية، إلا أنها تسهم مع بقية ما ضمّته القائمة في نشر المعرفة وإعلاء شأن العقل وإرساء قيم الحق والعدالة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...