أحمد رجب شلتوت - للكاتب رهاناته وللناشر حساباته

للكاتب رهاناته وللناشر حساباته، وكثيرا ما يرى الناشر في المغامرة الفنية للكاتب خطرا على أرباحه المتوقعة فيؤمن نفسه برفض نشر الكتاب الذي يتشكك في مقدار ربحيته. وغالبا ما يندم فيما بعد على هذا القرار الذي ضيع عليه مكاسب طائلة، يحدث ذلك دائما وفي كل مكان، فأصبحت خطابات الرفض التي يتلقاها المبدعون كابوسا.
رفض أجوف
هذه الظاهرة رصدها أندريه برنار في موسوعته الصادرة عام 1990، "الرفض الأجوف.. خطابات كان يجب ألا يرسلها الناشرون". حيث حاول توضيح الألم النفسي الذي يسببه الناشرون للكتاب وإن حرص المبدعون على التكتم وإبقاء معاناتهم بعيدة عن إدراك القارئ والناقد، كما تحاول إثبات عجز الناشرين ومحرري الدوريات الأدبية عن تمييز الإبداع الحقيقي، فيذكر أمثلة عديدة أعمال أدبية رفضت من قبل ناشرين ومحررين ولكنها بمجرد نشرها حققت نجاحاً كبيراً وأصبحت من كلاسيكيات الأدب، ومنها ما حدث مع مارسيل بروست عندما أرسل الجزء الأول من "البحث عن الزمن الضائع" إلى دار الرواية الفرنسية للنشر التي كان يرأس تحريرها أندريه جيد. وقد رفض نشر الرواية بحجة أنها "عمل رديء ومفكك"، وهو القرار الذي ندم عليه فيما بعد أندريه جيد.

ماذا لو اقترح الناشر على صمويل بيكيت نهاية شبيهة بنهايات ما يباع في أكشاك الصحف في المطارات، من أدب لا يستفز ذكاء القارئ عموماً أو خياله، بل يحكمه بسيناريو يمكن التنبؤ مسبقاً بنهايته منذ أول كلمة من الفصل الأول؟

نفس الشيء حدث مع جيمس جويس حيث تعرضت روايته "عوليس" للرفض أكثر من مرة من قبل ناشرين أميركيين، كذلك رواية "الحارس في حقل الشوفان" للكاتب جي. دي. سالنجر، عانت من رفض دور النشر المختلفة.
كما رفض الناشرون الإنجليز بإصرار نشر الروايات الأربعة الأولى لبرنارد شو، وخاطبه أحدهم قائلا "لا تعاود إرسال أية مخطوطات لنا"، كذلك رفض ت. إس. إليوت، حينما كان محرراً في دار نشر "فابر وفابر"، نشر رواية جورج أورويل "مزرعة الحيوان"، لأنها من وجهة نظره "غير مُقنعة". وتكرر رفضها من أربعة ناشرين آخرين قبل أن توافق دار "سيكر آند واربورج" على نشرها فى أغسطس/آب 1945. وفي فرنسا واجهت رواية "القصر" لكلود سيمون نفس العنت فتكرر رفضها قبل أن يجد صاحبها الفائز فيما بعد بجائزة نوبل في الآداب ناشرا يرضى بنشر روايته.
رفض متخيل
تلك الظاهرة دفعت الكاتب الإيطالي ريكاردو بوزي إلى التساؤل: ماذا لو كان سوفوكليس أو هوميروس أو شكسبير أو ثربانتس أحياء وتعاملوا مع مثل هؤلاء الناشرين، فأي ردود كان يمكن أن يتلقوها على أعمالهم، تصور أن يتم رفض أعمالهم فقام تأليف كتاب شديد الطرافة، صدر في نهاية عام 2016 عن "دار هيليوم آكت سود"، بعنوان "عزيزي الكاتب.. رسائل الرفض من دور النشر للأعمال العظيمة"، الكتاب نقله إلى اللغة العربية الشاعر والمترجم اللبناني محمد ناصر الدين وصدر مؤخرا في دمشق عن دار نشر "نينوى"، في طبعة مزينة برسوم بديعة لكل من الفنانين جيانكارلو اسكاري وبيا فالنتينيس حفلت بها الطبعة الأصلية.
الكتاب - وكما ذكر المترجم - يطرح أسئلة متعدّدة، لها علاقة مباشرة، ومرتبطة ارتباطًا شديدًا، بين حال الأدب اليوم، وما كان علبه قبلًا.
الكاتب حين تقمص شخصية الناشر، وكتب الرسائل بلغته، وفق تماما حينما اختار أن يوجه رسائله المتخيلة لشخصيات حقيقية معروفة وذات حضور أدبي عالمي – وكما جاء في كلمة الغلاف - فقد قام بصياغة "خمسين رسالة رفض متخيلة للكتاب الاكثر شهرة في تاريخ الإنسانية، بكثير من الذكاء، ورشة من توابل الظرف الايطالي المعتاد، يمتعنا الصحافي المشاكس ريكاردو بوزي باختراعه لرسائل ممتلئة بالكليشهات الجاهزة، ووصفات التسويق وردت الفعل المتوقعة بوجه الكتب الأكثر أصالة في تاريخ الادب والفكر".
سخرية مضمرة
وقد حملت الرسائل سخرية مضمرة ونقدا خفيا لمنطق العولمة الذي يحكم اليوم كل مفاصل حياتنا. وتتجلى هذه السخرية بامتياز في الرسالة الموجهة إلى صاحب أوديب ملكا، وهذا نصها: "العزيز سوفوكليس.. اللعنة، لا أعثر على اسم مصغر لمناداتكم. "صوفي" مثلاً، قد يكون مسبباً للإحراج قليلاً (ولكن، بالمناسبة بلغني أنه يعني (الحكمة) في لغتكم، إذن كامل الاحترام".


ليس هناك من داع للحسرة
حسناً، لنعد الى البيزنس قليلاً. إن التراجيديا خاصتكم مذهلة، مثيرة للعواطف ومكثفة بشكل مؤكد. حبكة مسرحية تسحر الألباب. لنسمي الأشياء بأسمائها، عبقرية خالصة. لكن هناك مسألة صغيرة. مسألة صغيرة لكن حقاً، حقاً بمنتهى الأهمية. إمنحوني كامل ثقتكم ـ خاصة اذا كنتم تريدون حصد الـبيست سيللر، وليس فقط بعض التقدير الأدبي. ليس هناك من داع للحسرة، أقدّر تماماً جهودكم من ناحية الدراماتورجيا، والمشاعر المتناقضة، والتأثير بالمشاهد، كل هذا. لكن هل كان من الضروري أن تكون المرأة أمه؟ ألا يمكنك استبدالها بالحَماة؟”.
أما الرسالة التي كتبها لماركيز لإخباره برفض نشر روايته "مائة عام من العزلة" فكانت أكثر اقتضابا، قال فيها "عزيزي غابو.. لو حذفتم كل هذه الأشياء الغرائبية، الخارقة للطبيعة، التي تصل إلى حدود الصوفية، سيكون كتابكم عظيماً. مسألة صغيرة أضيفها، أخشى أن لا يبقى كتاب بعد هذا الحذف".
وتبلغ مداها حينما يتساءل ريكاردو بوزي: ماذا لو كان هوميروس بيننا وأرسل "الإلياذة" أو "الأوديسة" إلى ناشر أعمال دان براون من "شيفرة دافنشي" و"انفرنو" وغيرها من البيست سيلر؟ فهل كان سيتم وضع ملحمتي هوميروس في واجهات المكتبات؟ هل كان قسم التسويق في متجر أمازون ـ كما سيشير بوزي ـ ليطلب من فرانز كافكا تغيير عنوان روايته "التحول" ليظهر ضمن الكتّاب الأكثر مبيعاً على الموقع الأشبه بغول الحكايات في "الف ليلة وليلة".
وماذا لو اقترح الناشر على صمويل بيكيت نهاية شبيهة بنهايات ما يباع في أكشاك الصحف في المطارات، من أدب لا يستفز ذكاء القارئ عموماً أو خياله، بل يحكمه بسيناريو يمكن التنبؤ مسبقاً بنهايته منذ أول كلمة من الفصل الأول؟ هل كان فلوبير ليقحم مشاهد إيروتيكية في "مدام بوفاري" لتوضع روايته في قسم البالغين في متجر فانك؟ أو كان بوكوفسكي ليخفف من ضراوة الاستخدام المفرط للكحول والجنس وسط مجتمع يذهب إلى حروبه بطهرانية الخير مقابل الشر، وعولمة تصل صواريخها إلى العراق وأفغانستان قبل أن تصل كتبها عبر أمازون؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...