من يقرأ (رسائل حب) للأديب والشاعر عبد العزيز أمزيان يحس ببوح رسالي وعاطفي يقل نظيره في زمن عز فيه هذا النوع من الخطاب وقد كان حتى حين الوسيلة المحورية الوحيدة للتواصل والتراسل وتقريب المسافة وتوطيد عرى التعارف والمشاعر والود. ومن هذه الرسائل ما اكتسى ملمحا فنيا وقيمة أدبية عبر التاريخ، وقد اشتهرت كثير من الرسائل ووصلت إلى القارئ بعد ان نجت من سيل الاهمال الذي غالبا ما طال هذا النوع الأدبي الخاص الذي غالبا ما حظي باهتمامالكثير من الكتاب والأدباء والعلماء الكبار. وبالرجوع إلى هذه النماذج يتبين أن الهدف لم يكن التواصل في ذاته بإيصال المعلومة إلى المرسل إليه وإنما تجاوزت الكتاب هذا البعد في كثير من النماذج الرائدة بمنح الرسالة في ذاتها قيمة فنية عالية للتأثير في المتلقيعلى وجه العموم.
وفي زمن عز فيه التراسل بالطريقة التقليدية،وعبر الكتابة اليدوية الحبرية، وغاب الاهتمام بالرسالة باعتبارها قيمة فنية أسلوبا ولغة وخيالا، يطلع علينا الأديب والشاعر عبد العزيز أمزيان برسائلمميزة تذكرنا بالزمن الجميل، في موضوع مثير لاهتمام القارئ إنه الحب، عالم المشاعر والأحاسيس والعواطف وآصرة قوية تمثل جوهر العلاقات الإنسانية. فما هي أهم الخصوصيات الفنية التي تميز هذه المجموعة من الرسائل ؟ وأين تكمن قوة نصوصها التي تكتسبها من كونها المجموعة التي فازت بجائزة ناجي العلي لعام 2012؟
قد يبدو العنوان بسيطا من حيث تركيبه ومدلوله باعتباره يدل على معناه دلالة مباشرة ودلالة عامة، وإن خصَّصَ المضافُ إليه المضافَ وأطَّر مضمون الرسائل في كونها دالة على مجال معينومتداول ومطروق في جل الرسائل. وبالتالي لم يخلق انزياحا على مستوى العنونة،إلا أن هذا لا يعني بأن العنوان لا يثير القارئ على عدة مستويات دلالية وتأويلية نظرا لطبيعة الموضوع العام الذي يشكل لحمة هذه الرسائل، ولكون العنوان بوابة للقراءة يحدد جنس النصوص المشكلة للمجموعة باعتبارها رسائل، في حين على القارئ أن يلج النص من أبواب متفرقة، والرسائل بطبيعتها غالبا ما تحيل على عوالم مليئة بالأسرار فكيف بها إذا كانت أسرارا في موضوع مثير كالحب.
تتضمن المجموعة ثمانية وعشرين نصا رساليا يُؤشَّر عليها بالعدد التركيبي التسلسلي المكتوب بالحروف الدالة على الترتيب، من الرسالة الأولى إلى الرسالة الأخيرة، وهي نصوص متوسطة الحجم تتقلص لتكتفي بنصف صفحة وقد تمتد قليلا لتشغل صفحتين، وهي بين هذا وذاك تروم التوسط في الحجم وهي صفة ذوقية وجمالية تجعل القراءة ممتعة،بحيث لا تنحسر النصوص لتعبر عن نضوب عاطفة الذات ولا تطول لتجعل القارئ يمل ويتعب من القراءة. وهي رسائل لا تحمل عنوانا خاصا ولا تستهل بتحديد تاريخ الرسالة وهوما يجعلها منذ البدء تكسر نمطية الكتابة الرسالية التقليدية المتعارف عليها ويصعب على القارئ أن يتبين موضوع كل رسالة على حدة نظرا لتداخلها على عدة مستويات تكوينية خاصة أنها غير مؤرخة مما يجعلها تتعالي عن كل تحديد زماني أو مكاني.
وتستهل أغلب الرسائل بعبارة "عزيزتي عبق الزهر" و"عزيزتي رحيق الندى" مما يؤشر على أن أغلب الرسائل موجهة من مخاطِب إلى مخاطَبة ويتبين من خلال هذه الملفوظات الخطابية أن التواصل ممتد بين الطرفين ذلك أن أغلب الرسائل منفتحة على بعضها إنتاجا وتلقيا وأنها على شكل إيمايلات؛ "عزيزي وصديقي، قرأت إيميلك اليوم بكثير من النشوة"ص28. وجاءت الرسائل على شكل لوحات فنية ترسم هندسة المدلول الوجداني والعاطفي الذي يكنه المرسل للمرسل إليه ومدى المكانة التي يحظى بها وتهدف إلى تأكيد عرى المحبة التي لا يعتريها الشك وتزداد تدفقا وقوة ومتانة مع الاسترسال في قراءة الرسائل تباعا.وقد تشير بعض الرسائل إلى سياق التداول ومقام الخطاب إشارات خاطفة وهو مظهر من مظاهر التفاعل الجمالي بين الطرفين. ولعل ندرة هذه المؤشرات تدفع القارئ إلى التساؤل عن حقيقة المخاطب هل هو فعلي أم متخيل؟
ولعل أهم ما يثير انتباه القارئ قوة الأسلوب المعتمد في كتابة هذه الرسائل والذي ينحو منحى شعريا مما يمنح النص خصوصية فنية وجمالية ترفع من مستواه المعرفيوالذوقي وتجعله نصا ليس ككل النصوصالرساليةالمتداولة بين العامة من الناس، نظرا لطبيعة المعجم اللغوي الذي يمتح من حقول دلالية متعددة وبخاصة انفتاحها على عالم الطبيعة الذي يتفاعل مع ما هو ذاتي ووجداني وإنساني، ليمنح الأسلوب الشعري للنص قيمة فنية وللقراءة أفقا جماليا لأنه يمتح من الخيال ويتعالى عن الواقع ليعانق في القارئ ومن خلاله ما تنشده كل ذات تسعى إلى الرقي والألق عبر الحلم والاحتمال والتوقع والجمال.
وما يجعل مدلول الرسالة يتعالى عن الواقعي كون الكاتب لا يخاطب المخاطب في ذاته بل في روحه، وعلى هذا الأساس يبرز الاهتمام بالجانب الروحي، وهوالجانب الخفي والمتواري عن العين المجردة عالم الاحساس والشعور والمعاني الراقية وهو ما يعمق البعد الخيالي في المجموعة المقروءة، إذ يؤدي كل ذلك إلى جعل مضمون الرسائل يرقى بالقارئ إلى تأسيس أفق جمالي خاص عن الحب كأرقى عاطفة خلقها الله في الوجود الذي تنسجه عوالم النصوص وترسمه مخيلة الكاتب وتدعو المخاطب والقارئ عموما إلى الرقي من أجلها عبر سلم قيمي أخلاقي وجمالي مبهر.
وعلى هذا الأساس يتجنب الكاتب العبارات والأساليب والمنهجية المتداولة في كتابة الرسالة ويخلخل المكتسب ليؤسس لثقافة اجتماعية عاطفية ووجدانية جديدة ومغايرة سمتها الانفتاح على الخيال الجامح في خلق الصور والتوقعات عبر تقنيات المجاز والانزياح والاستعارة والتشبيه والكناية وكلها عوامل تؤدي إلى تنامي المدلول الرسالي واسترساله وتدفقه مدرارا، فيتخيله القارئ وكأنه الغيث من سماء ويتجلى هذا بوضوح على مستوى استرسال الكلام وانسياب الجمل التي يتناسل بعضها من بعص بشكل حثيث وكأن الكاتب يريد أن يفرغ ما جوفه من وجدان ويأبى الوجدان إلا أن يزداد تدفقا.
وتأتي الرسائل كدليل إثبات على صدق العلاقة بين الطرفين وعلى قوتها وهو ما يشكل جوهر الخطاب الرسالي عند الأديب عبد العزيز أمزيان إذ لا تكاد تخلو رسالة من أسئلة محفزة على عامل الكتابة وعلى دوافع الاستمرار فيها والرقي بالمشاعر إلى مقامات طهرانية راقية والسفر بالذات إلى تخوم الذات المتناغمة مع جوهر الأشياء والطبيعة والوجود، وهو مظهر لا ينعكس على عناصر الطبيعة وتجلياتها بقدر ما يترجم على مستوى الاحساس العاطفي والوجداني بين الأنا والآخر، ولا يتوانى المرسل في التعبير عن هذا التوحد الوجودي والوجداني بصريح العبارة وبصيغ تفيد التوكيد والاقرار تارة أو الاستفهام تارة أخرى؛ "أنْتِ أنا، وأنا أنْتِ" ص14، "أأنا أنت، أم أنت أنا؟"ص21.
وفي كثير من السياقات ينفتح النص الرسالي بشكل مباشر ليستدمج مقاطع من خطابات المرسل إليه وهو ما يعكس انفتاح النص وقوة التجاوب بل والتفاعل بين الطرفين، وهو محفز من محفزات الكتابةوباعث أساسي من بواعثها، حيث تغدو كل رسالة في نفس الآن جوابا لسؤال مطروح وسؤالا لجواب مرتقب ومنتظر قد يأتي أولا يأتي بعد حين أو بعد أمد، مما يبقي حبل التواصل عروة وثقى لا انفصام لها. ويتجلى التداخل بين الرسائل في عدة نماذج وعلى عدة مستويات تكوينية كما في الرسالة السادسة ،والرسالة الثانية عشرة التي يقول فيها: "وربما يكون خطابك خطابي الذي كنت أود أن أقوله قبلك. هل حلت روحي في روحك؟ أخبريني كما أخبرتك الآن. ولك أن تدمجي هذين الخطابين كما يدمج الصوف بالجسد".ص17
وتتجلى جماليةالرسالة في كل مظهر من مظاهرها وفي مطلعها الذي يلج بالقارئ منذ البدء إلى عام المشاعر الفياضة والعميقة النابعة من القلب والروح والجوارح وتنم عن الاعجاب بالآخر بل والانبهاربه. وتتكررملفوظات بعينها لتحدث في النفس أثرا شجيا من قبيل ملفوظ "عزيزتي عبق الزهر"، "صدقيني إن رسالتك تحمل لي الكثير من معاني الوجود..."، "ستظلين دوما في روحي، بهذا العطر الملائكي الذي يهب مع كل نفحة نسيم..."، "وصلتني رسالتك، محلقة في ضباب العمر... "، "وصلني عطر ورودك وشذى ياسمينك..."، "سأظل أكتب إليك، بالحماس نفسه الذي عهدته في نفسي..."، "لكم كنت ودودة اليوم وبهية..."
وتنفتح الرسالة عند الأديب والشاعر عبد العزيز أمزيان على نفسها وعلى نصوص غائبة تصريحا أو تلميحا إذ لا يتوانى الكاتب في أن يعرب في كثير من السياقات عن مقروئه كما لا يجد غضاضة من الاعراب عن مراجعه التي يسترفد منها أفكاره الراقية ومشاعره العاطفية وأحاسيسه الوجدانية ويستمد منها قوة أسلوبه ورقة لغته وتخيلاته ومن أهمها الشعر العربي في اتجاهه الوجداني وشعر الغزل العذري تحديدا،وهو ما يثري الرسالة ويعمق مدلولها الوجداني.ولعل سر استمرار التراسل واسترساله انبهار الكاتب بالآخر في بعده الوجداني والوجودي، متقمصا الدورين معا، دور الذكر ودور الأنثى، عبر توزيع الأدوار، وعليه تصبح الرسالة حافزا مباشرا وأساسيا على الكتابة في ذاتها ولذاتها باعتبارها تجسد قيمة فنية. يتساءل الكاتب في إحدى رسائله قائلا: "بالله عليك من تكونين؟ كيف ترسمين كل هذه اللوحات في عمق الريح ومنادل الجفون؟ أيمكن أن يكون فيك كل هذا البهاء المرسوم بكل هذا الاتقان وبكل هذه المهارة؟ ص20.
يتم الكشف من داخل المضمون الرسالي عن ناموس الحياة الاجتماعية القائمة على أساس التفاعل المستند إلى نظام دائري بين المرسل والمرسل إليه وخاصة العلاقة الوجدانية بين المرأة والرجل، وتتداخل الرسائل على عدة مستويات منها تصادي صوت المرسلين والمخاطَبين، أو هكذا يتوهم الكاتب يقول: "ربما يكون خطابي خطابك الذي كنت أود أن أقوله قبلك"ص12. ويقول أيضا "لكأن الحياة قائمة على هذا التقابل السرمدي: الظهور/التواري، الحزن/الفرح..." ص30.
ويتجلى التفاعل الروحي جليا في الخطابات المتبادلة بين الطرفين على مستوى رفيع إلى درجة يصعب فيها على القارئ بين هذا الصوت أوذاك، وهو أمر يشعر به الكاتب ويعيه بنفسه،خاصة عندما يقول: "ربما يكون خطابي خطابك الذي كنت أود أن أقوله قبلك" ص12. ويعكس عذا التفاعل جوهر العلاقة الوجدانية القائمة على الصدق الشفيف والحب المتبادل الذي يرقى بالذات وبقيمه النبيلة إلى مراقي الطهر النفيوالعفاف الجميل. يقول الكاتب في الرسالة الرابعة عشرة " لك أن تشكلي عجين الشمس في خيالك كما تشائين ولي أيضا أن أتصور وأتخيل ما أشاء من قيم الحب، لكن شيئا واحدا سيظل يغمرنا بهذا الفيض من المشاعر الغنية، ألا وهو هذا القدر الذي يجمعنا في خندق واحد، وفي روح تكاد تكون واحدة" ص19.
ويعكس هذا الخطاب جوهر العلاقة الروحية وسر استرسال التراسل بين الطرفين بل وكل الأطراف وهي وحدة الروح والخيال ذلك أن الكاتب يسن جملة مبادئ أساسية يُلزمُ الجميعَ الامتثال لها وفي غيابها تنهار كل صروح العلاقات الإنسانية. وما يلاحظ في الخطاب الرسالي عند الأديب عبد العزيز أمزيان أنه يقرن القيم الفنية بالقيم الإنسانية إذ يرى أن الاستمرار في كتابة الرسائل والاستمرار في العلاقة الوجدانية خطان متوازيان وينقطع حبل التراسل بانقطاع حبل الوصال. إن الكاتب يراهن إذن على المشترك بين المرسل والمرسل إليه من جهة وبين الكاتب ونص الرسالة من جهة ثانية، ولا غرابة في ذلك مادام الرابط روحيا/الإنسان وخياليا/فن الرسالة.
وهكذا تغدو رسائل الأديب عبد العزيز أمزيان رسائل شفافة تكشف بصدق لا عن محتوياتها الوجدانية والروحية والعاطفية فحسب ولكن رقي المعاني وبيان الأسلوب وشعرية اللغة وجمال الصور ورحابة الخيال وسمو مقامات التداول. ويستطيع المتلقي وهو يقرأ الرسالة أن يستشف عدة أسرار تكشف عن أهم المقومات التي تستند إليها فكريا وفنيا وتداولا. وعليه تعتبر المجموعة فلتة من فلتات العصر الذي توارى فيه هذا النوع من الكتابة الفنية وتمثل دعوة ضمنية لتجاوز ونبذ القيم السلبية التي أصبحت تطبع وتنطبع بها جل الكتابات التي تصنف نفسها ضمن هذا الجنس الأدبي الأصيل والمتأصل، وهي صوت قوي ضد كل من يساهم في تدني واندحار القيم الروحية والفنية الراقية. ولا نملك في آخر هذه الورقة إلا أن نقول على لسان الشاعر عبد الناصر لقاح، الذي خص المجموعة بمقدمة غاية في الرقة، إن "رسائل أمزيان ينبوع من الجمال وآماد واسعة من القول العذب".
وفي زمن عز فيه التراسل بالطريقة التقليدية،وعبر الكتابة اليدوية الحبرية، وغاب الاهتمام بالرسالة باعتبارها قيمة فنية أسلوبا ولغة وخيالا، يطلع علينا الأديب والشاعر عبد العزيز أمزيان برسائلمميزة تذكرنا بالزمن الجميل، في موضوع مثير لاهتمام القارئ إنه الحب، عالم المشاعر والأحاسيس والعواطف وآصرة قوية تمثل جوهر العلاقات الإنسانية. فما هي أهم الخصوصيات الفنية التي تميز هذه المجموعة من الرسائل ؟ وأين تكمن قوة نصوصها التي تكتسبها من كونها المجموعة التي فازت بجائزة ناجي العلي لعام 2012؟
قد يبدو العنوان بسيطا من حيث تركيبه ومدلوله باعتباره يدل على معناه دلالة مباشرة ودلالة عامة، وإن خصَّصَ المضافُ إليه المضافَ وأطَّر مضمون الرسائل في كونها دالة على مجال معينومتداول ومطروق في جل الرسائل. وبالتالي لم يخلق انزياحا على مستوى العنونة،إلا أن هذا لا يعني بأن العنوان لا يثير القارئ على عدة مستويات دلالية وتأويلية نظرا لطبيعة الموضوع العام الذي يشكل لحمة هذه الرسائل، ولكون العنوان بوابة للقراءة يحدد جنس النصوص المشكلة للمجموعة باعتبارها رسائل، في حين على القارئ أن يلج النص من أبواب متفرقة، والرسائل بطبيعتها غالبا ما تحيل على عوالم مليئة بالأسرار فكيف بها إذا كانت أسرارا في موضوع مثير كالحب.
تتضمن المجموعة ثمانية وعشرين نصا رساليا يُؤشَّر عليها بالعدد التركيبي التسلسلي المكتوب بالحروف الدالة على الترتيب، من الرسالة الأولى إلى الرسالة الأخيرة، وهي نصوص متوسطة الحجم تتقلص لتكتفي بنصف صفحة وقد تمتد قليلا لتشغل صفحتين، وهي بين هذا وذاك تروم التوسط في الحجم وهي صفة ذوقية وجمالية تجعل القراءة ممتعة،بحيث لا تنحسر النصوص لتعبر عن نضوب عاطفة الذات ولا تطول لتجعل القارئ يمل ويتعب من القراءة. وهي رسائل لا تحمل عنوانا خاصا ولا تستهل بتحديد تاريخ الرسالة وهوما يجعلها منذ البدء تكسر نمطية الكتابة الرسالية التقليدية المتعارف عليها ويصعب على القارئ أن يتبين موضوع كل رسالة على حدة نظرا لتداخلها على عدة مستويات تكوينية خاصة أنها غير مؤرخة مما يجعلها تتعالي عن كل تحديد زماني أو مكاني.
وتستهل أغلب الرسائل بعبارة "عزيزتي عبق الزهر" و"عزيزتي رحيق الندى" مما يؤشر على أن أغلب الرسائل موجهة من مخاطِب إلى مخاطَبة ويتبين من خلال هذه الملفوظات الخطابية أن التواصل ممتد بين الطرفين ذلك أن أغلب الرسائل منفتحة على بعضها إنتاجا وتلقيا وأنها على شكل إيمايلات؛ "عزيزي وصديقي، قرأت إيميلك اليوم بكثير من النشوة"ص28. وجاءت الرسائل على شكل لوحات فنية ترسم هندسة المدلول الوجداني والعاطفي الذي يكنه المرسل للمرسل إليه ومدى المكانة التي يحظى بها وتهدف إلى تأكيد عرى المحبة التي لا يعتريها الشك وتزداد تدفقا وقوة ومتانة مع الاسترسال في قراءة الرسائل تباعا.وقد تشير بعض الرسائل إلى سياق التداول ومقام الخطاب إشارات خاطفة وهو مظهر من مظاهر التفاعل الجمالي بين الطرفين. ولعل ندرة هذه المؤشرات تدفع القارئ إلى التساؤل عن حقيقة المخاطب هل هو فعلي أم متخيل؟
ولعل أهم ما يثير انتباه القارئ قوة الأسلوب المعتمد في كتابة هذه الرسائل والذي ينحو منحى شعريا مما يمنح النص خصوصية فنية وجمالية ترفع من مستواه المعرفيوالذوقي وتجعله نصا ليس ككل النصوصالرساليةالمتداولة بين العامة من الناس، نظرا لطبيعة المعجم اللغوي الذي يمتح من حقول دلالية متعددة وبخاصة انفتاحها على عالم الطبيعة الذي يتفاعل مع ما هو ذاتي ووجداني وإنساني، ليمنح الأسلوب الشعري للنص قيمة فنية وللقراءة أفقا جماليا لأنه يمتح من الخيال ويتعالى عن الواقع ليعانق في القارئ ومن خلاله ما تنشده كل ذات تسعى إلى الرقي والألق عبر الحلم والاحتمال والتوقع والجمال.
وما يجعل مدلول الرسالة يتعالى عن الواقعي كون الكاتب لا يخاطب المخاطب في ذاته بل في روحه، وعلى هذا الأساس يبرز الاهتمام بالجانب الروحي، وهوالجانب الخفي والمتواري عن العين المجردة عالم الاحساس والشعور والمعاني الراقية وهو ما يعمق البعد الخيالي في المجموعة المقروءة، إذ يؤدي كل ذلك إلى جعل مضمون الرسائل يرقى بالقارئ إلى تأسيس أفق جمالي خاص عن الحب كأرقى عاطفة خلقها الله في الوجود الذي تنسجه عوالم النصوص وترسمه مخيلة الكاتب وتدعو المخاطب والقارئ عموما إلى الرقي من أجلها عبر سلم قيمي أخلاقي وجمالي مبهر.
وعلى هذا الأساس يتجنب الكاتب العبارات والأساليب والمنهجية المتداولة في كتابة الرسالة ويخلخل المكتسب ليؤسس لثقافة اجتماعية عاطفية ووجدانية جديدة ومغايرة سمتها الانفتاح على الخيال الجامح في خلق الصور والتوقعات عبر تقنيات المجاز والانزياح والاستعارة والتشبيه والكناية وكلها عوامل تؤدي إلى تنامي المدلول الرسالي واسترساله وتدفقه مدرارا، فيتخيله القارئ وكأنه الغيث من سماء ويتجلى هذا بوضوح على مستوى استرسال الكلام وانسياب الجمل التي يتناسل بعضها من بعص بشكل حثيث وكأن الكاتب يريد أن يفرغ ما جوفه من وجدان ويأبى الوجدان إلا أن يزداد تدفقا.
وتأتي الرسائل كدليل إثبات على صدق العلاقة بين الطرفين وعلى قوتها وهو ما يشكل جوهر الخطاب الرسالي عند الأديب عبد العزيز أمزيان إذ لا تكاد تخلو رسالة من أسئلة محفزة على عامل الكتابة وعلى دوافع الاستمرار فيها والرقي بالمشاعر إلى مقامات طهرانية راقية والسفر بالذات إلى تخوم الذات المتناغمة مع جوهر الأشياء والطبيعة والوجود، وهو مظهر لا ينعكس على عناصر الطبيعة وتجلياتها بقدر ما يترجم على مستوى الاحساس العاطفي والوجداني بين الأنا والآخر، ولا يتوانى المرسل في التعبير عن هذا التوحد الوجودي والوجداني بصريح العبارة وبصيغ تفيد التوكيد والاقرار تارة أو الاستفهام تارة أخرى؛ "أنْتِ أنا، وأنا أنْتِ" ص14، "أأنا أنت، أم أنت أنا؟"ص21.
وفي كثير من السياقات ينفتح النص الرسالي بشكل مباشر ليستدمج مقاطع من خطابات المرسل إليه وهو ما يعكس انفتاح النص وقوة التجاوب بل والتفاعل بين الطرفين، وهو محفز من محفزات الكتابةوباعث أساسي من بواعثها، حيث تغدو كل رسالة في نفس الآن جوابا لسؤال مطروح وسؤالا لجواب مرتقب ومنتظر قد يأتي أولا يأتي بعد حين أو بعد أمد، مما يبقي حبل التواصل عروة وثقى لا انفصام لها. ويتجلى التداخل بين الرسائل في عدة نماذج وعلى عدة مستويات تكوينية كما في الرسالة السادسة ،والرسالة الثانية عشرة التي يقول فيها: "وربما يكون خطابك خطابي الذي كنت أود أن أقوله قبلك. هل حلت روحي في روحك؟ أخبريني كما أخبرتك الآن. ولك أن تدمجي هذين الخطابين كما يدمج الصوف بالجسد".ص17
وتتجلى جماليةالرسالة في كل مظهر من مظاهرها وفي مطلعها الذي يلج بالقارئ منذ البدء إلى عام المشاعر الفياضة والعميقة النابعة من القلب والروح والجوارح وتنم عن الاعجاب بالآخر بل والانبهاربه. وتتكررملفوظات بعينها لتحدث في النفس أثرا شجيا من قبيل ملفوظ "عزيزتي عبق الزهر"، "صدقيني إن رسالتك تحمل لي الكثير من معاني الوجود..."، "ستظلين دوما في روحي، بهذا العطر الملائكي الذي يهب مع كل نفحة نسيم..."، "وصلتني رسالتك، محلقة في ضباب العمر... "، "وصلني عطر ورودك وشذى ياسمينك..."، "سأظل أكتب إليك، بالحماس نفسه الذي عهدته في نفسي..."، "لكم كنت ودودة اليوم وبهية..."
وتنفتح الرسالة عند الأديب والشاعر عبد العزيز أمزيان على نفسها وعلى نصوص غائبة تصريحا أو تلميحا إذ لا يتوانى الكاتب في أن يعرب في كثير من السياقات عن مقروئه كما لا يجد غضاضة من الاعراب عن مراجعه التي يسترفد منها أفكاره الراقية ومشاعره العاطفية وأحاسيسه الوجدانية ويستمد منها قوة أسلوبه ورقة لغته وتخيلاته ومن أهمها الشعر العربي في اتجاهه الوجداني وشعر الغزل العذري تحديدا،وهو ما يثري الرسالة ويعمق مدلولها الوجداني.ولعل سر استمرار التراسل واسترساله انبهار الكاتب بالآخر في بعده الوجداني والوجودي، متقمصا الدورين معا، دور الذكر ودور الأنثى، عبر توزيع الأدوار، وعليه تصبح الرسالة حافزا مباشرا وأساسيا على الكتابة في ذاتها ولذاتها باعتبارها تجسد قيمة فنية. يتساءل الكاتب في إحدى رسائله قائلا: "بالله عليك من تكونين؟ كيف ترسمين كل هذه اللوحات في عمق الريح ومنادل الجفون؟ أيمكن أن يكون فيك كل هذا البهاء المرسوم بكل هذا الاتقان وبكل هذه المهارة؟ ص20.
يتم الكشف من داخل المضمون الرسالي عن ناموس الحياة الاجتماعية القائمة على أساس التفاعل المستند إلى نظام دائري بين المرسل والمرسل إليه وخاصة العلاقة الوجدانية بين المرأة والرجل، وتتداخل الرسائل على عدة مستويات منها تصادي صوت المرسلين والمخاطَبين، أو هكذا يتوهم الكاتب يقول: "ربما يكون خطابي خطابك الذي كنت أود أن أقوله قبلك"ص12. ويقول أيضا "لكأن الحياة قائمة على هذا التقابل السرمدي: الظهور/التواري، الحزن/الفرح..." ص30.
ويتجلى التفاعل الروحي جليا في الخطابات المتبادلة بين الطرفين على مستوى رفيع إلى درجة يصعب فيها على القارئ بين هذا الصوت أوذاك، وهو أمر يشعر به الكاتب ويعيه بنفسه،خاصة عندما يقول: "ربما يكون خطابي خطابك الذي كنت أود أن أقوله قبلك" ص12. ويعكس عذا التفاعل جوهر العلاقة الوجدانية القائمة على الصدق الشفيف والحب المتبادل الذي يرقى بالذات وبقيمه النبيلة إلى مراقي الطهر النفيوالعفاف الجميل. يقول الكاتب في الرسالة الرابعة عشرة " لك أن تشكلي عجين الشمس في خيالك كما تشائين ولي أيضا أن أتصور وأتخيل ما أشاء من قيم الحب، لكن شيئا واحدا سيظل يغمرنا بهذا الفيض من المشاعر الغنية، ألا وهو هذا القدر الذي يجمعنا في خندق واحد، وفي روح تكاد تكون واحدة" ص19.
ويعكس هذا الخطاب جوهر العلاقة الروحية وسر استرسال التراسل بين الطرفين بل وكل الأطراف وهي وحدة الروح والخيال ذلك أن الكاتب يسن جملة مبادئ أساسية يُلزمُ الجميعَ الامتثال لها وفي غيابها تنهار كل صروح العلاقات الإنسانية. وما يلاحظ في الخطاب الرسالي عند الأديب عبد العزيز أمزيان أنه يقرن القيم الفنية بالقيم الإنسانية إذ يرى أن الاستمرار في كتابة الرسائل والاستمرار في العلاقة الوجدانية خطان متوازيان وينقطع حبل التراسل بانقطاع حبل الوصال. إن الكاتب يراهن إذن على المشترك بين المرسل والمرسل إليه من جهة وبين الكاتب ونص الرسالة من جهة ثانية، ولا غرابة في ذلك مادام الرابط روحيا/الإنسان وخياليا/فن الرسالة.
وهكذا تغدو رسائل الأديب عبد العزيز أمزيان رسائل شفافة تكشف بصدق لا عن محتوياتها الوجدانية والروحية والعاطفية فحسب ولكن رقي المعاني وبيان الأسلوب وشعرية اللغة وجمال الصور ورحابة الخيال وسمو مقامات التداول. ويستطيع المتلقي وهو يقرأ الرسالة أن يستشف عدة أسرار تكشف عن أهم المقومات التي تستند إليها فكريا وفنيا وتداولا. وعليه تعتبر المجموعة فلتة من فلتات العصر الذي توارى فيه هذا النوع من الكتابة الفنية وتمثل دعوة ضمنية لتجاوز ونبذ القيم السلبية التي أصبحت تطبع وتنطبع بها جل الكتابات التي تصنف نفسها ضمن هذا الجنس الأدبي الأصيل والمتأصل، وهي صوت قوي ضد كل من يساهم في تدني واندحار القيم الروحية والفنية الراقية. ولا نملك في آخر هذه الورقة إلا أن نقول على لسان الشاعر عبد الناصر لقاح، الذي خص المجموعة بمقدمة غاية في الرقة، إن "رسائل أمزيان ينبوع من الجمال وآماد واسعة من القول العذب".