تابع الفصل التاسع - اللغة والأدب والعلوم
يعتقد العرب بالخرافات اعتقاداً عظيما. ويعد عرب مصر أكثرهم تعلقاً بهذه الاعتقادات الباطلة. وأكثر هذه الخرافات اعتباراً الاعتقاد بالجن. ويقال أن الجن أصلهم سابق على آدم، وإنهم في خصائصهم العامة طبقة من الكائنات تتوسط بين الملائكة والأنس وتقل عنهما فضلاً. خلقت الجن من نار وتستطيع أن تتشكل بأشكال الأناس والبهائم والوحوش الخيالية وتختفي عن الأنظار كما تريد. والجن يشربون ويأكلون ويتناسلون مثل البشر أو معهم، كما أنهم عرضة للموت وإن كانوا يعيشون أجيالاً عديدة. ويسكن الجن سلسة جبال قاف التي يزعمون أنها تحيط بالأرض جميعها كما ذكر في الفصل السابق. ويعتنق بعض الجن الإسلام، والآخرون كفرة. ويسمى هؤلاء الكفرة أيضاً شياطين ويرأسهم إبليس، إذ أنه تبعاً للرأي السائد، جني مثل غيره من الشياطين لأنه خلق من نار بينما خُلق الملائكة من نور معصومين من الخطأ
ويخشى العرب الجن أخيارهم وأشرارهم كثيراُ. ويحفظون لأخيارهم احتراماً عظيماً. وقد جرت العادة عند هذا الشعب عندما يصب أحدهم ماء أو غيره على الأرض أن يصيح أو يدمدم (دستور) مستأذناً أو مستغفراً الجني الذي قد يوجد هناك. ويظن أن الجن ينتشرون في طبقة الأرض الصلبة مثلما ينتشرون في السماء حيث يقتربون من حدود السماء الأولى فيسترقون السمع عن المستقبل ويستطيعون هكذا أن يساعدوا العرافين والسحرة. ويعتقدون أيضاً أن الجن يسكنون الأنهار والخرائب والآبار والحمامات والأفران والمراحيض. ولذلك عندما يدخل أحد مرحاضاً أو يدلي دلواً في بئر أو يوقد ناراً الخ. . . يقول (دستور) أ (دستور يا مباركين). ويتلو الداخل بيت الراحة هذه العبارة مبتهلاً إلى الله أن يحميه من الأرواح الشريرة. إلا أن البعض لا يذكرون اسم الله باعتبار أنه لا يليق به في مثل هذا المكان فيكتفون بقولهم: (أعوذ بك من الشياطين ذكوراً وإناثاً)، وتفسر هذه العادات إحدى قصص ألف ليلة وليلة التي يحكي فيها أن تاجراً قتل جنياً بنواة تمرة كان يأكلها. ويظهر الجني في القصة نفسها وفي غيرها قادماً في زوبعة من الرمل أو الغبار. والاعتقاد العام عند عرب مصر أن الزوبعة التي تثير الغبار أو الرمال، وتكسح الحقول والصحارى، يسببها تحليق هذه الكائنات ويفوه المصريون عادة عندما تبدو الزوبعة قريبة منهم بتعويذة لإبعادها فيهتف بعضهم: (حديد يا مشئوم) إذ يظنون أن الجن يخافون هذا المعدن كثيراً. ويصيح آخرون: (الله أكبر). ويعتقدون أن الشهب سهم يقذف به الله الشياطين، ويصيح المصريون عندما يرون شهاباً ساقطاً: (سهم الله في عدو الدين) ويسمي العامة الشياطين عفاريت، وقد وردت في القرآن ذلك بهذا النص: (قال عفريت من الجن) وقد ترجم اللفظ: (قال جن هائل)، ويعتقدون أن العفاريت يختلفون عن الجن الآخرين بعظيم قدرتهم ودوام شرهم، ويسمي الشيطان الأقوى ماردا
يرتبط تاريخ الجن بعدة أساطير لم يذكرها القرآن، ولذلك لا يؤمن بها المسلمون العقلاء. ويتفق الجميع على أن الجن خلقوا قبل الإنسان. إلا أن البعض يقولون لطبقة أخرى من الكائنات السابقة على آدم ذات طبيعة مشابهة. ويعتقد العامة أن الأرض كان يسكنها قبل آدم جنس من المخلوقات يختلف عن البشر شكلاً وقوة، وأن أربعين ملكاً من هؤلاء، أو اثنين وسبعين تبعاً لقول آخر، سمى كل منهم سليمان، حكموا هذا الشعب تباعاً. وكان أحد هؤلاء السليمانين يسمى جان بن جان. ويتوهم البعض أن الجن، ويسمون أيضاً جاناً، اشتقوا تسميتهم من اسم هذا الملك. ومن هنا يعتقد البعض أن الجن يشبهون هذا الجنس السابق ولكن البعض يؤكد أن الجن كانوا طبقة من الكائنات مختلفة أخضعها الجنس الآخر.
ويعتقدون أن الجن كثيراً أو دائماً يتشكلون بأشكال القطط والكلاب والحيوانات المفترسة. وقد روى الشيخ خليل المدابغي - وهو من أشهر علماء مصر، وقد ألّف كتباً عديدة في مختلف العلوم وتوفي في سن متقدمة أثناء زيارتي الأولى لمصر - الحكاية التالية: (كان له - كما يقول - قط أسود عزيز ينام عند ذيل كلّته. ففي منتصف إحدى الليالي سمع طرقاً على باب داره؛ فقام القط وفتح مصراع الشباك وهتف: (من؟) فأجابه صوت: (أنا فلان (وذكر اسما غريباً) الجني، افتح الباب). فقال قط الشيخ: (إن المزلاج قرء عليه اسم الله) فقال الآخر: (إذن اقذف لي رغيفين من الخبز) فأجاب القط: (إن سلة الخبز سُمي عليها) فقال الغريب: (حسن. أعطني على الأقل جرعة ماء. ولكنه رد عليه بأن وعاء الماء محفوظ بالطريقة نفسها. فسأل ماذا يستطيع أن يفعل وهو يوشك على أن يموت جوعاً وعطشاُ. فأشار عليه القط أن يذهب إلى باب الدار التالية. وذهب هو بنفسه وفتح الباب ثم لم يلبث أن عاد. وفي الصباح التالي غفل الشيخ عن عادة كان يراعيها دائماً فأعطى القط نصف الفطيرة التي كان يفطر بها بدلاً من قطعة صغيرة اعتاد أن يعطيه إياها. ثم قال له: (يا قطي، أنت تعلم أنني فقير، فجئني إذن ببعض الذهب) فاختفى القط في الحال بعد هذا الكلام ولم يره الشيخ بعد ذلك). والحكايات من هذا النوع تستوجب السخرية، لكن من المستحيل أن نقف على حقيقة عقلية الشعب الذي أحاول وصفه دون أن أسرد حكاية أو أكثر
ويؤكد العامة أن أشرار الجن كثيراً ما يعتلون الأسطح والشبابيك ويقذفون بالقراميد والحجارة في الشوارع والأفنية. وقد أخبرت من أيام قليلة بحادثة من هذا النوع أفزعت سكان أهم شوارع في القاهرة أسبوعاً بأكمله، إذ كانت القراميد تقذف بكثرة من بعض المنازل كل يوم طوال هذه المدة، ولم يصب أحد. وقد ذهبت إلى مكان هذه الدعابة الجنية المزعومة للنظر والاستقصاء ولكن قيل لي عند وصولي إن الرجم انقطع. ولم أجد أحداً أنكر قذف القراميد أو شك في أنه من أعمال الجن. وكانت الملاحظة العامة عند ذكر هذا الموضوع قولهم: (الله يحفظنا من شر أعمالهم)
وقد أخبرني صديق بهذه المناسبة أنه قابل بعض إنجليز لا يعتقدون بوجود الجن. وقد استدل بذلك على أنهم لم يشاهدوا أبداً تمثيلاً عاماً، وإن كان منتشراً في بلدهم التي سمع عنها منذ ذلك الحين باسم (كوميديا) قاصداً بهذه العبارة التمثيل المسرحي؛ ثم قال بعد أن وجه الكلام إلى أحد مواطنيه، ودعاني لأصدق على حديثه: (منذ زمن قصير وصف لي جزائري منظراً من هذا النوع كان قد رآه في لندن)؛ فقاطعه مواطنه سائلاً: (أليست إنجلترا أم لندن مدينة في إنجلترا؟) أجابه صديقي بتحفظ وهو ينظر إلىّ أن لندن عاصمة إنجلترا، ثم أوجز موضوع المسرح فقال: (لا يمكن وصف الدار التي عرض بها التمثيل: كانت الدار مستديرة صفت على أرضيتها مقاعد عديدة وحولها مقصورات كثيرة الواحدة تعلو الأخرى حيث جلس أفراد الطبقات العليا، وكان هناك فرجة مربعة كبيرة أسدل عليها ستار، وعندما غصت الدار بالمتفرجين الذين دفعوا مبالغ كبيرة للدخول أظلم المكان فجأة وكان الوقت ليلاً، وكانت الدار قد أضيئت بعدة مصابيح، إلا أنها أطفئت كلها تقريباً في وقت واحد دون أن يمسها أحد، ثم رفعت الستارة الكبيرة، فسمع المشاهدين هدير الموج وصفير الهواء، ورأوا دون تمييز في الظلام الأمواج ترتفع وتزيد وتضرب الشاطئ، وسمع في الحال صوت رعد مرعب، ثم أضاء البرق للمشاهدين البحر الهائج، وسقط حينئذ سيل من المطر الحقيقي، وبعد ذلك صفا الجو فظهر البحر بوضوح، وشوهدت باخرتان على بعد اقتربتا ثم اشتبكتا في قتال أطلقت فيها نيران المدافع، وعرضت بعد ذلك مجموعة مختلفة من المناظر الفريدة، وأضاف صديقي: (من الواضح الآن أن مثل هذه العجائب لابد أن تكون من أعمال الجن، أو على الأقل عملت بمساعدتهم)؛ وقد شرحت له هذه الظواهر، ولكني لم أستطع إقناعه بخطأه
ويقال إن الجن يسجنون أثناء شهر رمضان. ومن هنا نرى بعض المصريات يرششن في وقفة عيد الفطر ملحاً على أرض الغرف مبسملات لمنع هذه المفزعات من دخول منازلهن. ويجب أن أشير هنا إلى بقية عجيبة من خرافة مصرية قديمة إذ يعتقدون أن لكل حي من أحياء القاهرة حارساً خاصاً من الجن ذا شكل أفعى
ويعتقدون أن القبور المصرية القديمة والهياكل المظلمة تسكنها العفاريت. وقد استحال علي أن اقنع أحد خدمي بدخول الهرم الأكبر معي لرسوخ هذه الفكرة في ذهنه. وينسب الكثير من العرب بناء الأهرام والآثار المصرية المدهشة جميعها إلى جان بن جان وأتباعه الجن. فهم لا يتصورون أن تقيم هذه الآثار يد بشر
وتطلق عبارة عفريت بالحري على الشيطان، إلا أن أرواح الأموات تسمى أيضاً بهذا الاسم. وينسج من هذه حكايات لا يقبلها العقل كما أنها تلقي في النفوس رعباً هائلاً. إلا أن هناك من لا يخشاها إطلاقاً. وكان في خدمتي طاه مضحك يتعاطى الحشيش أحياناً. وقد سمعته ذات ليلة، بعيد دخوله خدمتي، يدمدم ويهتف على السلم كما لو كان دهشاً لحادثة ما.
ثم قال بأدب (ولكن لم تجلس في تيار الهواء؟ تفضل بالصعود إلى المطبخ وسلني بحديثك قليلاً). ولما لم يرد على خطابه المؤدب كرره عدة مرات حتى ناديت عليه وسألته إلى من يتحدث. فأجاب: (إنه عفريت جندي تركي صعد من البئر وجلس على السلم يدخن شبكه ويرفض أن يتحرك. تقدم من فضلك وانظر إليه). ولما ذهبت إلى السلم وأخبرته أنني لا أرى شيئاً لاحظ أن سبب ذلك صفاء العقل. وقد قيل له فيما بعد إن المنزل ظل مسكوناً طويلاً؛ وقد قرر أنه لم يُخبر قبلاً بهذا الموضوع المزعوم أن جنديًّا تركياً قتل هناك. وقد صرح لي أنه كثيراً ما يرى العفريت بعد ذلك
ويعتقد المصريون وبعض الشرقيين بوجود الغيلان أيضاً. ويحسبون أن هذه الكائنات طبقة من الشياطين. ويقال إنهم يظهرون في أشكال الحيوانات والوحوش وأنهم يسكنون المقابر وغيرها من الأماكن المنعزلة، وأنهم يأكلون الجثث ويقتلون من يوقعه سوء الحظ في طريقهم ويلتهمونه. ومن هنا تطلق عبارة الغول على آكلي لحوم البشر
(يتبع)
عدلي طاهر نور
مجلة الرسالة - العدد 458
بتاريخ: 13 - 04 - 1942
يعتقد العرب بالخرافات اعتقاداً عظيما. ويعد عرب مصر أكثرهم تعلقاً بهذه الاعتقادات الباطلة. وأكثر هذه الخرافات اعتباراً الاعتقاد بالجن. ويقال أن الجن أصلهم سابق على آدم، وإنهم في خصائصهم العامة طبقة من الكائنات تتوسط بين الملائكة والأنس وتقل عنهما فضلاً. خلقت الجن من نار وتستطيع أن تتشكل بأشكال الأناس والبهائم والوحوش الخيالية وتختفي عن الأنظار كما تريد. والجن يشربون ويأكلون ويتناسلون مثل البشر أو معهم، كما أنهم عرضة للموت وإن كانوا يعيشون أجيالاً عديدة. ويسكن الجن سلسة جبال قاف التي يزعمون أنها تحيط بالأرض جميعها كما ذكر في الفصل السابق. ويعتنق بعض الجن الإسلام، والآخرون كفرة. ويسمى هؤلاء الكفرة أيضاً شياطين ويرأسهم إبليس، إذ أنه تبعاً للرأي السائد، جني مثل غيره من الشياطين لأنه خلق من نار بينما خُلق الملائكة من نور معصومين من الخطأ
ويخشى العرب الجن أخيارهم وأشرارهم كثيراُ. ويحفظون لأخيارهم احتراماً عظيماً. وقد جرت العادة عند هذا الشعب عندما يصب أحدهم ماء أو غيره على الأرض أن يصيح أو يدمدم (دستور) مستأذناً أو مستغفراً الجني الذي قد يوجد هناك. ويظن أن الجن ينتشرون في طبقة الأرض الصلبة مثلما ينتشرون في السماء حيث يقتربون من حدود السماء الأولى فيسترقون السمع عن المستقبل ويستطيعون هكذا أن يساعدوا العرافين والسحرة. ويعتقدون أيضاً أن الجن يسكنون الأنهار والخرائب والآبار والحمامات والأفران والمراحيض. ولذلك عندما يدخل أحد مرحاضاً أو يدلي دلواً في بئر أو يوقد ناراً الخ. . . يقول (دستور) أ (دستور يا مباركين). ويتلو الداخل بيت الراحة هذه العبارة مبتهلاً إلى الله أن يحميه من الأرواح الشريرة. إلا أن البعض لا يذكرون اسم الله باعتبار أنه لا يليق به في مثل هذا المكان فيكتفون بقولهم: (أعوذ بك من الشياطين ذكوراً وإناثاً)، وتفسر هذه العادات إحدى قصص ألف ليلة وليلة التي يحكي فيها أن تاجراً قتل جنياً بنواة تمرة كان يأكلها. ويظهر الجني في القصة نفسها وفي غيرها قادماً في زوبعة من الرمل أو الغبار. والاعتقاد العام عند عرب مصر أن الزوبعة التي تثير الغبار أو الرمال، وتكسح الحقول والصحارى، يسببها تحليق هذه الكائنات ويفوه المصريون عادة عندما تبدو الزوبعة قريبة منهم بتعويذة لإبعادها فيهتف بعضهم: (حديد يا مشئوم) إذ يظنون أن الجن يخافون هذا المعدن كثيراً. ويصيح آخرون: (الله أكبر). ويعتقدون أن الشهب سهم يقذف به الله الشياطين، ويصيح المصريون عندما يرون شهاباً ساقطاً: (سهم الله في عدو الدين) ويسمي العامة الشياطين عفاريت، وقد وردت في القرآن ذلك بهذا النص: (قال عفريت من الجن) وقد ترجم اللفظ: (قال جن هائل)، ويعتقدون أن العفاريت يختلفون عن الجن الآخرين بعظيم قدرتهم ودوام شرهم، ويسمي الشيطان الأقوى ماردا
يرتبط تاريخ الجن بعدة أساطير لم يذكرها القرآن، ولذلك لا يؤمن بها المسلمون العقلاء. ويتفق الجميع على أن الجن خلقوا قبل الإنسان. إلا أن البعض يقولون لطبقة أخرى من الكائنات السابقة على آدم ذات طبيعة مشابهة. ويعتقد العامة أن الأرض كان يسكنها قبل آدم جنس من المخلوقات يختلف عن البشر شكلاً وقوة، وأن أربعين ملكاً من هؤلاء، أو اثنين وسبعين تبعاً لقول آخر، سمى كل منهم سليمان، حكموا هذا الشعب تباعاً. وكان أحد هؤلاء السليمانين يسمى جان بن جان. ويتوهم البعض أن الجن، ويسمون أيضاً جاناً، اشتقوا تسميتهم من اسم هذا الملك. ومن هنا يعتقد البعض أن الجن يشبهون هذا الجنس السابق ولكن البعض يؤكد أن الجن كانوا طبقة من الكائنات مختلفة أخضعها الجنس الآخر.
ويعتقدون أن الجن كثيراً أو دائماً يتشكلون بأشكال القطط والكلاب والحيوانات المفترسة. وقد روى الشيخ خليل المدابغي - وهو من أشهر علماء مصر، وقد ألّف كتباً عديدة في مختلف العلوم وتوفي في سن متقدمة أثناء زيارتي الأولى لمصر - الحكاية التالية: (كان له - كما يقول - قط أسود عزيز ينام عند ذيل كلّته. ففي منتصف إحدى الليالي سمع طرقاً على باب داره؛ فقام القط وفتح مصراع الشباك وهتف: (من؟) فأجابه صوت: (أنا فلان (وذكر اسما غريباً) الجني، افتح الباب). فقال قط الشيخ: (إن المزلاج قرء عليه اسم الله) فقال الآخر: (إذن اقذف لي رغيفين من الخبز) فأجاب القط: (إن سلة الخبز سُمي عليها) فقال الغريب: (حسن. أعطني على الأقل جرعة ماء. ولكنه رد عليه بأن وعاء الماء محفوظ بالطريقة نفسها. فسأل ماذا يستطيع أن يفعل وهو يوشك على أن يموت جوعاً وعطشاُ. فأشار عليه القط أن يذهب إلى باب الدار التالية. وذهب هو بنفسه وفتح الباب ثم لم يلبث أن عاد. وفي الصباح التالي غفل الشيخ عن عادة كان يراعيها دائماً فأعطى القط نصف الفطيرة التي كان يفطر بها بدلاً من قطعة صغيرة اعتاد أن يعطيه إياها. ثم قال له: (يا قطي، أنت تعلم أنني فقير، فجئني إذن ببعض الذهب) فاختفى القط في الحال بعد هذا الكلام ولم يره الشيخ بعد ذلك). والحكايات من هذا النوع تستوجب السخرية، لكن من المستحيل أن نقف على حقيقة عقلية الشعب الذي أحاول وصفه دون أن أسرد حكاية أو أكثر
ويؤكد العامة أن أشرار الجن كثيراً ما يعتلون الأسطح والشبابيك ويقذفون بالقراميد والحجارة في الشوارع والأفنية. وقد أخبرت من أيام قليلة بحادثة من هذا النوع أفزعت سكان أهم شوارع في القاهرة أسبوعاً بأكمله، إذ كانت القراميد تقذف بكثرة من بعض المنازل كل يوم طوال هذه المدة، ولم يصب أحد. وقد ذهبت إلى مكان هذه الدعابة الجنية المزعومة للنظر والاستقصاء ولكن قيل لي عند وصولي إن الرجم انقطع. ولم أجد أحداً أنكر قذف القراميد أو شك في أنه من أعمال الجن. وكانت الملاحظة العامة عند ذكر هذا الموضوع قولهم: (الله يحفظنا من شر أعمالهم)
وقد أخبرني صديق بهذه المناسبة أنه قابل بعض إنجليز لا يعتقدون بوجود الجن. وقد استدل بذلك على أنهم لم يشاهدوا أبداً تمثيلاً عاماً، وإن كان منتشراً في بلدهم التي سمع عنها منذ ذلك الحين باسم (كوميديا) قاصداً بهذه العبارة التمثيل المسرحي؛ ثم قال بعد أن وجه الكلام إلى أحد مواطنيه، ودعاني لأصدق على حديثه: (منذ زمن قصير وصف لي جزائري منظراً من هذا النوع كان قد رآه في لندن)؛ فقاطعه مواطنه سائلاً: (أليست إنجلترا أم لندن مدينة في إنجلترا؟) أجابه صديقي بتحفظ وهو ينظر إلىّ أن لندن عاصمة إنجلترا، ثم أوجز موضوع المسرح فقال: (لا يمكن وصف الدار التي عرض بها التمثيل: كانت الدار مستديرة صفت على أرضيتها مقاعد عديدة وحولها مقصورات كثيرة الواحدة تعلو الأخرى حيث جلس أفراد الطبقات العليا، وكان هناك فرجة مربعة كبيرة أسدل عليها ستار، وعندما غصت الدار بالمتفرجين الذين دفعوا مبالغ كبيرة للدخول أظلم المكان فجأة وكان الوقت ليلاً، وكانت الدار قد أضيئت بعدة مصابيح، إلا أنها أطفئت كلها تقريباً في وقت واحد دون أن يمسها أحد، ثم رفعت الستارة الكبيرة، فسمع المشاهدين هدير الموج وصفير الهواء، ورأوا دون تمييز في الظلام الأمواج ترتفع وتزيد وتضرب الشاطئ، وسمع في الحال صوت رعد مرعب، ثم أضاء البرق للمشاهدين البحر الهائج، وسقط حينئذ سيل من المطر الحقيقي، وبعد ذلك صفا الجو فظهر البحر بوضوح، وشوهدت باخرتان على بعد اقتربتا ثم اشتبكتا في قتال أطلقت فيها نيران المدافع، وعرضت بعد ذلك مجموعة مختلفة من المناظر الفريدة، وأضاف صديقي: (من الواضح الآن أن مثل هذه العجائب لابد أن تكون من أعمال الجن، أو على الأقل عملت بمساعدتهم)؛ وقد شرحت له هذه الظواهر، ولكني لم أستطع إقناعه بخطأه
ويقال إن الجن يسجنون أثناء شهر رمضان. ومن هنا نرى بعض المصريات يرششن في وقفة عيد الفطر ملحاً على أرض الغرف مبسملات لمنع هذه المفزعات من دخول منازلهن. ويجب أن أشير هنا إلى بقية عجيبة من خرافة مصرية قديمة إذ يعتقدون أن لكل حي من أحياء القاهرة حارساً خاصاً من الجن ذا شكل أفعى
ويعتقدون أن القبور المصرية القديمة والهياكل المظلمة تسكنها العفاريت. وقد استحال علي أن اقنع أحد خدمي بدخول الهرم الأكبر معي لرسوخ هذه الفكرة في ذهنه. وينسب الكثير من العرب بناء الأهرام والآثار المصرية المدهشة جميعها إلى جان بن جان وأتباعه الجن. فهم لا يتصورون أن تقيم هذه الآثار يد بشر
وتطلق عبارة عفريت بالحري على الشيطان، إلا أن أرواح الأموات تسمى أيضاً بهذا الاسم. وينسج من هذه حكايات لا يقبلها العقل كما أنها تلقي في النفوس رعباً هائلاً. إلا أن هناك من لا يخشاها إطلاقاً. وكان في خدمتي طاه مضحك يتعاطى الحشيش أحياناً. وقد سمعته ذات ليلة، بعيد دخوله خدمتي، يدمدم ويهتف على السلم كما لو كان دهشاً لحادثة ما.
ثم قال بأدب (ولكن لم تجلس في تيار الهواء؟ تفضل بالصعود إلى المطبخ وسلني بحديثك قليلاً). ولما لم يرد على خطابه المؤدب كرره عدة مرات حتى ناديت عليه وسألته إلى من يتحدث. فأجاب: (إنه عفريت جندي تركي صعد من البئر وجلس على السلم يدخن شبكه ويرفض أن يتحرك. تقدم من فضلك وانظر إليه). ولما ذهبت إلى السلم وأخبرته أنني لا أرى شيئاً لاحظ أن سبب ذلك صفاء العقل. وقد قيل له فيما بعد إن المنزل ظل مسكوناً طويلاً؛ وقد قرر أنه لم يُخبر قبلاً بهذا الموضوع المزعوم أن جنديًّا تركياً قتل هناك. وقد صرح لي أنه كثيراً ما يرى العفريت بعد ذلك
ويعتقد المصريون وبعض الشرقيين بوجود الغيلان أيضاً. ويحسبون أن هذه الكائنات طبقة من الشياطين. ويقال إنهم يظهرون في أشكال الحيوانات والوحوش وأنهم يسكنون المقابر وغيرها من الأماكن المنعزلة، وأنهم يأكلون الجثث ويقتلون من يوقعه سوء الحظ في طريقهم ويلتهمونه. ومن هنا تطلق عبارة الغول على آكلي لحوم البشر
(يتبع)
عدلي طاهر نور
مجلة الرسالة - العدد 458
بتاريخ: 13 - 04 - 1942