أحمد رجب شلتوت - صبري راغب.. ريشة الوجوه والزهور

رسم الإنسان من أصعب ألوان الفنون لأنها ليست عملية نقل فوتوغرافية، فهو يحتاج من الفنان الدخول في النفس البشرية إلى الأعماق ليصورها.
الاثنين 2018/12/17



أكثر من مائة لوحه لوجه "إيفون" زوجته
راغب حينما يمسك بريشته كان يمزج بين كل هذه المذاهب الفنية مثلما كان يمزج بين ألوانه
رسم الأشخاص لأنفسهم بالريشة والفرشاة أكثر طلاقة ووضوحاً مقارنة باللوحات التي يرسمها الفنان للطبيعة أو لفكرة ما
القاهرة ـ من أحمد رجب

ينتمي التشكيلي صبري راغب (أسيوط ديسمبر/كانون الأول 1920- يوليو/تموز 2000)، إلى الجيل الثالث في الحركة التشكيلية المصرية، فقد تتلمذ على يد أحد روادها وهو الفنان أحمد صبري رائد فن البورتريه العربي، وقد كان أثر الأستاذ في تلميذه كبيرا، فقال إنه تعلم من أستاذه "إن رسم الإنسان من أصعب ألوان الفنون لأنها ليست عملية نقل فوتوغرافية، فهو يحتاج من الفنان الدخول في النفس البشرية إلى الأعماق ليصورها ويكتشف الأشياء التي قد يحاول الإنسان أن يخفيها، وأنا أعتقد أن الصعود إلى القمر أبسط كثيرا من الدخول في أعماق النفس البشرية، لذلك أؤكد أن رسم البورتريه هو أصعب أنواع الفنون”.
الوقت المناسب
نصحه أستاذه بترك الدراسة بكلية الفنون الجميلة مكتفيا بعام دراسي وحيد فيها، ليلتحق بالمدرسة الحرة للرسم العاري، لكنه لم يستمر فيها طويلا وعاد لمصر عام 1940. وبعد عودته ظل حلم دراسة الفن بإيطاليا مسيطرا عليه، فعاد إلى أكاديمية روما مرة أخرى عام 1949. بعدها عاد إلى مصر ليكمل دراسته في كلية الفنون الجميلة حتى حصل على بكالوريوس الفنون الجميلة عام 1952، بعدها أقام معرضه الأول ثم تفرغ للفن منذ عام 1955.


وقد سافر راغب إلى إيطاليا في الوقت المناسب تماما، ففي الوقت السابق على سفره تأثر الفنانون في مصر بأساليب الفن الكلاسيكية التي درسوها بمدرسة الفنون الجميلة على يد أساتذتهم الأجانب، وقد حاول بعضهم استلهام التراث المصري القديم أمثال محمود مختار، محمد ناجي، محمود سعيد، أو استلهام البيئة الشعبية مثل راغب عياد، في هذا الوقت اتجه فنانو الغرب إلى البحث عن قيم فنية جديدة في التصوير، وقد تصادف أن سافر صبري راغب إلى روما في تلك الفترة حيث اطلع على الاتجاهات الفنية الحديثة، وتأثر بإبداعات الفنانين التأثيريين، وهي المدرسة التي وجد صبري راغب نفسه فيها، وأصبح واحدا من روادها في الفن التشكيلي المصري والعربي، لكنه ينفي أن تكون ريشته ظلت حبيسة التأثيرية فيقول: "يرى بعض النقاد أنني فنان تأثيري، والحقيقة أن أحاسيسي الواقعية والرومانسية كثيرا ما تتملكني وتتحكم في فني".
والحقيقة أن راغب حينما يمسك بريشته كان يمزج بين كل هذه المذاهب الفنية مثلما كان يمزج بين ألوانه، وقد تبدى ذلك في موضوعاته الأثيرة الثلاثة وهي الزهور، والبورتريه، والبورتريه الشخصي، الذي يعتبر بمثابة سيرة شخصية مصورة لحياة الفنان، ويكاد يكون أكثر مصداقية بالنسبة للمتلقين من اللوحات الأخرى، وظاهرة الرسم الذاتي معروفة منذ دافنشي، كما برع فيها فان غوخ، ورامبرانت، وتشبه هذه الطريقة التقاط صورة سيلفي بالفرشاة والريشة وليس بالكاميرا.
ويرى النقاد أن رسم الأشخاص لأنفسهم بالريشة والفرشاة أكثر طلاقة ووضوحاً مقارنة باللوحات التي يرسمها الفنان للطبيعة أو لفكرة ما، لأنها تنقل المتلقي إلى عمق حقيقي وحالة مزاجية محددة يلمسها في انطباعات الوجه المرسوم أو نظرات العيون التي تعكس الانفعالات الشخصية، لذلك لم تتوقف ريشته عند ما تعلمه من أستاذه أحمد صبرى بل تواصلت مع مانيه، ديلاكروا، جويا، ورمبرانت.
ارتحالات الفنان
لم يكتف صبري راغب بما تلقى من دراسة للفن في مصر وإيطاليا، ولا بما حقق من نجاح، لكنه داوم على التعلم والسفر، فارتحل إلى عواصم الفن الغربي الحديث، زائرا لجميع متاحف العالم بإيطاليا، وإسبانيا، وإنجلترا، وفرنسا، والنمسا، ورأى بمتحف النمسا أعظم لوحة رسمها رمبرانت وهي بورتريه شخصي للفنان، وفي هولندا تأمل أعمال زانيت وتش وخصوصا لوحة حراس الليل، وزار متحف المتروبوليتان بأميركا، كما أعجبته أعمال ديجا. ولقد كان الفنان يداوم على السفر إلى فرنسا لمتابعة الحركة الفنية المعاصرة والعلاج أيضاً، فرغم آلام المرض والسن فإن معين الفن لم ينضب أبداً بداخله، وكان يدفعه للترحال الدائم حتى كان الرحيل الأخير في الحادي والعشرين من يوليو/تموز عام 2000.
وفي حديث له عن المتاحف قال: "لقد نسج رمبرانت – وهو مثلي الأعلى – بداخل ظلمة لوحاته عناصر تتمتع الأشكال فيها بجذب النظر، أي أن ظلاله تختزن الضوء الذي يبعث الحياة، وأنا أحب أعظم المصوّرين الأجانب وهمـا رمبرانت وجويا، كما أحب أن أرى الرقة في أعمال رافائيل، والشموخ والدقة أيضاً اللذين ينسبان إلى أعمال مايكل أنجلو، غير أنني لا أنكر أن القلق ينتابني في بعض الأعمال الحديثة والتي تبهرني من الوهلة الأولى لأن العمل الفني يتميز بأنك دائماً تكتشف في كل جزئية من جزئياته رؤية جديدة ومعنى جديداً وحسّاً جديداً.
وجهان أثيران


الفنان بريشته
حينما أقام صبري راغب معرضه الأول فى عام 1952 فاجأ زواره بأكثر من مائة لوحه لوجه "إيفون" زوجته. لم يكن صبرى راغب أول فنان يرسم زوجته، فالفنان الفرنسي بونارد كان يرسم زوجته كثيراً، وكانت في رسوماته دائما شابة رشيقة، كذلك رسم سلفادور دالي زوجته جالا في شباب دائم، رغم أنها أكبر منه بعشر سنوات، لكن إيفون زوجة الفنان صبري تظهر فى مختلف أعمارها وفى عدة لوحات كثيرة بقي منها 117 لوحة. ورغم تعدد لوحاته عن زوجته إلا أنه لم تتشابه لوحة مع الأخرى، كما اتخذ من نفسه موديلاً ورسم نفسه أكثر من مرة ، أولها كانت عام 1948، حينما رسم نفسه يمسك بيمناه باليت الألوان بينما يسراه تمسك بجمجمة، وهى اللوحة التى أقنعت أحمد صبرى بموهبة تلميذه، وقد لمس توفيق الحكيم ما يميز بورتريهات صبري راغب فقال عندما نظر إلى صورته المرسومة "هذه روحي وليست جسدي"، ففرشاة الفنان كانت تلمس تفاصيل الذات الداخلية قبل الملامح الخارجية.
وعن أسلوبه في البورتريه قال راغب "أنا لا أرسم الوجوه الحقيقية بل أرسم النور المشع منها"، ولذلك جعل شخوصه تستحم في النور، وهو ما يقول عنه التشكيلي أحمد نوار فيقول "صبري راغب هو أحد الفنانين القلائل الذين حوّلوا بفرشاتهم وألوانهم الوجه الإنساني إلى جغرافيا الملامح والتعبير الإنساني، فقد اكتشف في ملامح الوجه كل كوامن العاطفة كما تميز بالحس المرهف، واستغلاله لحركة اللون وتداعياته المختلفة على سطح اللوحة لذا سيبقى صبري راغب في ذاكرة الوطن من خلال الزخم الفنى لأعماله".
أما عن رسم الزهور وكانت صنو الوجوه في لوحاته، فكان يقول "إن الوردة مثل البورتريه لها ملامح وشخصية"، ولهذا سجل الزهور في تكوينات رائعة، وكان أسلوبه تأثيريًا ولم تكن ألوانه صاخبة بل كانت هادئة دافئة ومع أنه جمع في لوحاته بين الألوان الزيتية والألوان المائية والباستيل فإن الذواقة كانوا يشعرون وكأن لوحاته رسمت بالألوان المائية الشفافة حتى وهي مرسومة بألوان الزيت، لكنه بمهارته جعلها شفافة بما زودها به من نور. (وكالة الصحافة العربية)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...