الكاتب المغربي الكبير الداديسي يلحظ في كتابه "مسارات الرواية العربية" أن الروايات العربية الصادرة بعد حرب الخليج اتخذت أشكالا فيها من التعقيد والخصوصية ما يساير واقعا معقدا يعيش أزمة قيم.
السبت 2018/03/03
واقع معقد
نحن العرب اعتدنا اعتماد الأزمات مؤشرا في التحقيب والتأريخ لأدبنا، فالأزمات والنكبات عندنا تكون دائما فاصلة بين مرحلتين مثل سقوط بغداد، الاستعمار، نكبة فلسطين، نكسة 1967، وسيرا على تلك العادة يصطلح الناقد الكبير الداديسي على تسمية الروايات العربية الصادرة بعد حرب الخليج والسقوط الثاني لبغداد في 2003، بالروايات المعاصرة.
وفي كتابه “مسارات الرواية العربية”، الصادر عن مؤسسة الرحاب بيروت، يلحظ الكبير الداديسي أن روايات تلك المرحلة اتخذت أشكالا فيها من التعقيد والخصوصية ما يساير واقعا معقدا يعيش أزمة قيم، بعدما سادت قيم الفردانية والنفعية، وأضحت لكل روائي قضاياه الخاصة ولكل قطر عربي اهتماماته المحلية، فكان طبيعيا أن تنكمش القضايا القومية، وهذا ما يفسر التحول الذي طرأ على اختيار أبطال الرواية العربية المعاصرة.
ويرى الداديسى أن الروائي استعاض بالأنا عن البطل الوطني الذي ساد في روايات حقبتي الخمسينات والستينات، فالبطل حاليا يمثل حواف المجتمع، مثل الموظف والمقهور، إذ أن الروائي المعاصر بغوصه في الذات تحول إلى ما يشبه الباحث الأنثروبولوجي، وانفتح على مختلف الأشكال التعبيرية محطما الحدود بين الأجناس الأدبية، ناهلا من الأساطير والرموز الإنسانية، لذلك تميزت بعض نماذج الرواية المعاصرة بعمق الرؤية وطرح الأسئلة الكبرى بلغة شاعرية، منفتحة على السينما والتشكيل والفلسفة والتاريخ والسياسة، فغدت الرواية قاطرة الكتابة الابداعية العربية إذ أصبحت أكثر أشكال التعبير قدرة على تصوير تشظي الذات والمجتمع العربيين في هذه الفترة.
الرواية المعاصرة، كما يرى الداديسي، لم تسجن نفسها في نمط واحد وإنما حاول بعض كتابها الإفادة من أدب الرحلة كشكل تراثي، وبعضهم خاض غمار رواية الخيال العلمي، ومنهم من عاد إلى التاريخ. كما تنوعت التيمات بين مقاربة موضوعات كالنضال الوطني والصراع مع السلطة ورواية السجن، ومنهم من قارب موضوعات مستحدثة كالتطرف الديني إضافة إلى قضايا المرأة والجنس، وغيرها.
يؤكد الداديسي أنه على الرغم من حداثة الخيال العلمي، فقد تمكن من خلق تراكم كمي كبير في الرواية العربية المعاصرة
اهتم الكتاب برصد التفاعلات بين الرواية العربية المعاصرة في مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية والمجتمع الذي أنتجها، تلك الحرب التي زلزلت الأرض تحت أقدام الإنسان العربي، ورمت بالرواية في بركة واقع آسن، فتفرقت بها السبل وتعددت المسارات، ويلحظ الكاتب أن الأعمال الروائية التي تفاعلت مع هذا الحدث غطت معظم الأقطار العربية وخلقت تراكما كميا يستحق أن يتناوله الكاتب في كتاب مستقل، لكنه في كتابه هذا اقتصر على عشر روايات ينتمي أصحابها إلى الدول الأكثر تأثرا بالحدث وهي العراق، الكويت، السعودية.
ونظرا إلى أن الكويتيين كانوا الأكثر معاناة، والنساء الأكثر رهافة فقد حاول في دراسته إبراز رصد الكاتبات الكويتيات لتفاعلات الحرب، ومنهن ميس خالد العثمان، وهي إن كانت قد أشارت إلى القضية في معظم مؤلفاتها فإنها جعلت تيمة “العراق/ الكويت” الموضع الأساس لروايتين هما “عقيدة رقص” وتدور أحداثها في عراق ما بعد حرب الخليج الأولى حيث البطلة تعاني من الاضطهاد ومن كثرة الحروب في بلادها، فلم تجد من مخرج سوى الهرب جنوبا نحو الكويت، والثانية “ثؤلول” وتدور أحداثها في الكويت حيث تعاني طفلة من الاغتصاب الذي تعرضت له من طرف جنود عراقيين إثر غزوهم للكويت، فلم تقدم رواية تسجيلية أو تاريخية، وإنما خلعت على المأساة بعدا فنيا جماليا. ومن جهة أخرى يؤكد الداديسي أنه على الرغم من حداثة الخيال العلمي، فقد تمكن من خلق تراكم كمي كبير في الرواية العربية المعاصرة، واستطاع أن يفرض نفسه على النماذج الأدبية، بعدما أصبح له، من جهة، كتاب كبار في أوروبا وأميركا والاتحاد السوفيتي (سابقا) واليابان، ومن جهة أخرى جمهور متعطش في كل بقاع العالم للمغامرة، بعد أن استفاد من الثورة الرقمية، والتطور العلمي، والتكنولوجي والسينمائي، لكن “كتاب هذا النوع الأدبي لا يزالون على رؤوس الأصابع عربيا، بل من القراء العرب من يعتقد بأنه لا وجود لمثل هذه الكتابات عندنا وأن كتابة الخيال العلمي صناعة غربية لم يستوردها العرب بعد”، ويتوقف الكتاب عند رواية “الذين كانوا” لنبيل فاروق مبينا خصائص الخيال العلمي فيها.
في فصل آخر بعنوان “الواقعية الغرائبية” يربط الناقد بين عنصرين متناقضين هما ”الواقعية” و“الغرائبية” ويناقش في إطار ذلك روايتي ”فرانكشتاين في بغداد” للعراقي أحمد سعداوي، و”ضريح أبي” للمصري طارق إمام، حيث يرصد للغرائبية تجليات كثيرة في الروايتين رغم معالجتهما لقضايا واقعية، تتمثل في ما يعيشه العالم العربي من تشظ، واقتتال تعسر فيه معرفة من يقتل من؟ وبحسب الكتاب “فالغرائبية لم تكن في الروايتين بل في الواقع، والروايتان جاءتا كتصوير حرفي لهذا الواقع الذي نعيشه”.
السبت 2018/03/03
واقع معقد
نحن العرب اعتدنا اعتماد الأزمات مؤشرا في التحقيب والتأريخ لأدبنا، فالأزمات والنكبات عندنا تكون دائما فاصلة بين مرحلتين مثل سقوط بغداد، الاستعمار، نكبة فلسطين، نكسة 1967، وسيرا على تلك العادة يصطلح الناقد الكبير الداديسي على تسمية الروايات العربية الصادرة بعد حرب الخليج والسقوط الثاني لبغداد في 2003، بالروايات المعاصرة.
وفي كتابه “مسارات الرواية العربية”، الصادر عن مؤسسة الرحاب بيروت، يلحظ الكبير الداديسي أن روايات تلك المرحلة اتخذت أشكالا فيها من التعقيد والخصوصية ما يساير واقعا معقدا يعيش أزمة قيم، بعدما سادت قيم الفردانية والنفعية، وأضحت لكل روائي قضاياه الخاصة ولكل قطر عربي اهتماماته المحلية، فكان طبيعيا أن تنكمش القضايا القومية، وهذا ما يفسر التحول الذي طرأ على اختيار أبطال الرواية العربية المعاصرة.
ويرى الداديسى أن الروائي استعاض بالأنا عن البطل الوطني الذي ساد في روايات حقبتي الخمسينات والستينات، فالبطل حاليا يمثل حواف المجتمع، مثل الموظف والمقهور، إذ أن الروائي المعاصر بغوصه في الذات تحول إلى ما يشبه الباحث الأنثروبولوجي، وانفتح على مختلف الأشكال التعبيرية محطما الحدود بين الأجناس الأدبية، ناهلا من الأساطير والرموز الإنسانية، لذلك تميزت بعض نماذج الرواية المعاصرة بعمق الرؤية وطرح الأسئلة الكبرى بلغة شاعرية، منفتحة على السينما والتشكيل والفلسفة والتاريخ والسياسة، فغدت الرواية قاطرة الكتابة الابداعية العربية إذ أصبحت أكثر أشكال التعبير قدرة على تصوير تشظي الذات والمجتمع العربيين في هذه الفترة.
الرواية المعاصرة، كما يرى الداديسي، لم تسجن نفسها في نمط واحد وإنما حاول بعض كتابها الإفادة من أدب الرحلة كشكل تراثي، وبعضهم خاض غمار رواية الخيال العلمي، ومنهم من عاد إلى التاريخ. كما تنوعت التيمات بين مقاربة موضوعات كالنضال الوطني والصراع مع السلطة ورواية السجن، ومنهم من قارب موضوعات مستحدثة كالتطرف الديني إضافة إلى قضايا المرأة والجنس، وغيرها.
يؤكد الداديسي أنه على الرغم من حداثة الخيال العلمي، فقد تمكن من خلق تراكم كمي كبير في الرواية العربية المعاصرة
اهتم الكتاب برصد التفاعلات بين الرواية العربية المعاصرة في مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية والمجتمع الذي أنتجها، تلك الحرب التي زلزلت الأرض تحت أقدام الإنسان العربي، ورمت بالرواية في بركة واقع آسن، فتفرقت بها السبل وتعددت المسارات، ويلحظ الكاتب أن الأعمال الروائية التي تفاعلت مع هذا الحدث غطت معظم الأقطار العربية وخلقت تراكما كميا يستحق أن يتناوله الكاتب في كتاب مستقل، لكنه في كتابه هذا اقتصر على عشر روايات ينتمي أصحابها إلى الدول الأكثر تأثرا بالحدث وهي العراق، الكويت، السعودية.
ونظرا إلى أن الكويتيين كانوا الأكثر معاناة، والنساء الأكثر رهافة فقد حاول في دراسته إبراز رصد الكاتبات الكويتيات لتفاعلات الحرب، ومنهن ميس خالد العثمان، وهي إن كانت قد أشارت إلى القضية في معظم مؤلفاتها فإنها جعلت تيمة “العراق/ الكويت” الموضع الأساس لروايتين هما “عقيدة رقص” وتدور أحداثها في عراق ما بعد حرب الخليج الأولى حيث البطلة تعاني من الاضطهاد ومن كثرة الحروب في بلادها، فلم تجد من مخرج سوى الهرب جنوبا نحو الكويت، والثانية “ثؤلول” وتدور أحداثها في الكويت حيث تعاني طفلة من الاغتصاب الذي تعرضت له من طرف جنود عراقيين إثر غزوهم للكويت، فلم تقدم رواية تسجيلية أو تاريخية، وإنما خلعت على المأساة بعدا فنيا جماليا. ومن جهة أخرى يؤكد الداديسي أنه على الرغم من حداثة الخيال العلمي، فقد تمكن من خلق تراكم كمي كبير في الرواية العربية المعاصرة، واستطاع أن يفرض نفسه على النماذج الأدبية، بعدما أصبح له، من جهة، كتاب كبار في أوروبا وأميركا والاتحاد السوفيتي (سابقا) واليابان، ومن جهة أخرى جمهور متعطش في كل بقاع العالم للمغامرة، بعد أن استفاد من الثورة الرقمية، والتطور العلمي، والتكنولوجي والسينمائي، لكن “كتاب هذا النوع الأدبي لا يزالون على رؤوس الأصابع عربيا، بل من القراء العرب من يعتقد بأنه لا وجود لمثل هذه الكتابات عندنا وأن كتابة الخيال العلمي صناعة غربية لم يستوردها العرب بعد”، ويتوقف الكتاب عند رواية “الذين كانوا” لنبيل فاروق مبينا خصائص الخيال العلمي فيها.
في فصل آخر بعنوان “الواقعية الغرائبية” يربط الناقد بين عنصرين متناقضين هما ”الواقعية” و“الغرائبية” ويناقش في إطار ذلك روايتي ”فرانكشتاين في بغداد” للعراقي أحمد سعداوي، و”ضريح أبي” للمصري طارق إمام، حيث يرصد للغرائبية تجليات كثيرة في الروايتين رغم معالجتهما لقضايا واقعية، تتمثل في ما يعيشه العالم العربي من تشظ، واقتتال تعسر فيه معرفة من يقتل من؟ وبحسب الكتاب “فالغرائبية لم تكن في الروايتين بل في الواقع، والروايتان جاءتا كتصوير حرفي لهذا الواقع الذي نعيشه”.