كان القراء والنقاد ومتابعو الحركة الأدبية في تونس يتطلعون منذ أواسط ستينيات القرن الماضي إلى تصفح ما ينشره أعضاء نادي القصة بالعاصمة من أعمال سردية هم على علم مسبق بعناوينها ومضامينها قبل إصدارها في كتب , وكانت أغلب الإصدارات متشابهة في أشكالها ومضامينها التي لم تتخلص في البداية من عرض صفحات من أحداث الحركة التحريرية بالبلاد ،كل ناهل من وقائعها بجهته :
ـ محمد العروسي المطوي " التوت المر" و" حليمة " ( الجنوب الشرقي ـ قابس ).
ـ محمد المختار جنات " أرجوان " (الجنوب الغربي ـ قفصة) .
ـ محمد الصالح الجابري " يوم من أيام زمرا " ( الرديف ).
أما عبد القادر بالحاج نصر فقد كتب " الزيتون لا يموت " عندما استقر بالعاصمة ناسجا خيوطها من وحي الأحداث التي سبقت مظاهرة 9 أفريل 1938 ، بينما نحا عبد المجيد عطية في " المنبت" منحى مغايرا في تعامله مع الأحداث لا من ناحية العودة إلى علاقة التصادم بين التونسي المستـَعمر بالآخر المستعمِر ، بل من خلال استقراء واقع العلاقة التي امتدت بين الطرفيْن بعد حصول البلد على الاستقلال للتأكيد على أن كلّ غازلا ينسحب من بلد المحتل ببراءة بل يترك مجالات واسعة لتبعيّة فروعها الاستعمار الثقافي والهجرة للعمل لديه وفق شروط يفرضها فتسهم في تعميق هوّة الإنبتات الحضاري .
ولئن سعى مصطفى الفارسي ورشاد الحمزاوي وناجية ثامر إلى استحضار مضامين أخرى ذوات
أبعاد اجتماعية فإنهم لم يتجنبوا تقليد الرواية الواقعية التي تلقفوها من الغرب والرّوس أو ممن نحا نحوهم من كتاب مصر بالخصوص.
وظلت محاولات التجديد متعثرة لضيق آفاق بحثها عن المغايرة والابتكار باستثناء ما كتبه البشير خريّف في " برق الليل " و" حبّك درباني " و" الدقلة في عراجينها " إلى تحركت جماعة التجريب من أمثال عز الدين المدني ومحمود التونسي وسمير العيادي من ناحية ومجموعة تجديد المضامين من أمثال رضوان الكوني وجلول عزونة وأحمد ممو وعروسية النالوتي ونافلة ذهب من ناحية أخرى للإعلان عن أوان التغيير في السرد ليتجاوز السائد المألوف بعدما انتشرت في المنطقة العربية محاولات روائية وقصصية جادة لجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وغسان كنفاني وصنع الله إبراهيم وعبد الرحمان مجيد الربيعي والطاهر وطّار وعبد الحميد بن هدوقة ومحمد برادة ومحمد شكري من الذكور وليلي العثمان ( الكويت) وماريا سويد ( سوريا) ونوال مصطفي ( مصر) من الإناث .
وبدأ التطلع إلى أنتاج نصوص جديدة نابضة بالإبداع والحياة وملتفتة إلى المستقبل ورافضة الاقتناع بالجاهز والرضا بالموجود. وأصبحت الاهتمامات متجهة لأول مرة إلى أعمال سردية مكتوبة من مدن وقرى وسط البلاد وشرقها وغربها وجنوبها وشمالها ، ولم تعد تونس العاصمة هي مركز التدوين الوحيد ، فقد برز كتاب وكاتبات من أعماق البلاد لم يكن هناك من يفكر في الالتفات إليهم أو إلى ما يكتبون قبل ارتفاع أصواتهم عالية ومدوّية . عندما انتشرت إصدارات :
ـ صلاح الدين بو جاه من القيروان.
ـ بنت البحر من بنزرت .
ـ الساسي حمام من منزل تميم .
ـ محمد الباردي من قابس .
ـ إبراهيم درغوثي من أم العرائس .
إلى جانب آخرين يطول عرض أسمائهم.
والتحق بهم بعد سنوات عبد الجبار العش من صفاقس وفوزية العلوي من القصرين والبقية في الطريق .
وكان لانحلال المعسكر الاشتراكي وسقوط جدار برلين والحصار الاقتصادي على بعداد وفشل المشروع القومي وزحف النظام العالمي الجديد وانتشار العولمة متغيرات ومغيّرات خلخلت المفاهيم والاستراتيجيات والقناعات السابقة التي جنا ثمار خسائرها البعض وغنم البعض الآخر من مخلفاتها حتى في مجال الأدب .
فتقلصُ المسافات بانتشار وسائل الإعلام والمعلوماتية لم يترك الكتابة حكرا على من يرتاد المكتبات الفخمة والمنتديات الثقافية الأنيقة بل فسح المجال أمام مبدعين لم تعد مراتيج العاصمة قادرة على دفعهم إلى الانحناء لأنهم أثبتوا قدراتهم على ابتكار نصوص لا تتأسى بالمعتاد ولا تصالح المألوف لأنها تسعى إلى التعبير عمّا حولها من أزمات وانتكاسات تعزى إلى اتساع جرح الأزمة الحضارية العربية وتفشي العجز والاستكانة والتهميش .. ولم تعد الرواية التي افتتنت بأساليب وأدوات الكتابة الغربية قادرة على التعبير عما هو مستجد ، كما لم تعد الرواية التي أخلصت لاستخدام أساليب الكتابة التقليدية مؤهلة لأن تعيش في عصر غير عصرها ،وأصبحت الحداثة وما بعدها عاجزتين عن الإحاطة بما يحدث واتُّهم التجريب بالتخريب وبرز السرد الناهل من التراث بتعلة الهروب إلى الماضي لمراوغة لكمات الرقابة الموجهة إلى الكاتب حين يحرر تفكيره من التابوهات .. وللرد على الافتراض الأخير يقول إبراهيم درغوثي في حوار اليكتروني أجرته معه إيمان الوزير :
" إن اهتمامي بالتراث السردي العربي لا يعود فقط لاستعماله تقيّة ضد سيف الرقابة المسلط على الكاتب حين يهاجر بفكره في نصوصه وإنما أعتبر التراث السردي ذ خبرة للإنسانية جمعاء علينا كشفها وتقديمها لكل البشر لاستثمارها...كيف لا ونحن ننظر بعين الرضا لردود أفعال الغرب حول مدوّنة " ألف ليلة وليلة ؟:
ويضيف قائلا إن ما مفاده استحضار التراث في نصوصه لا يعزى إلى إفلاس في الإضافة بل بحثا عن أشكال جديدة.
فكيف تعامل هذا الروائي مع التراث الذي استدرج غيره مقولاته ومضامينه استدراجا باهتا ؟
وهل قام بوظيفته كما فعل سابقوه أم عمل على تأصيله بتخطيط متفرد في كتاباته الروائية ؟
قبل الإجابة عن السؤاليْن برؤية درغوثية أودّ الإشارة إلى أن عبارة توظيف التراث قد أصبحت ممجوجة وفق استعمالات البعض لأنها تشي بأن محتواها قد أوكلت إليه مهمة أداء دور معيّن في رواية ما عند كاتب ما قد ينتهي فعله بانتهاء السرد ويختفي فاسحا المجال لثرثرة أخرى يتكئ عليها الكاتب ،بينما يصح القول بأن سعي درغوثي إلى استقاء رواياته من مقولات وأحاديث وأقاصيص ومقامات وأغانٍ وخرافات وأمثال وغيرها من مناهل التراث المكتوب قد أكد تأصيلها في تلك المحتويات وجعلها عناصر أساسية تتحرك في فضاءاتها وتحرك أحداثها في سياقات موحية بما يريد، كيف لا وهو يدرك بأن التراث السردي العربي له جذور ضاربة في أعماق التراث الإنساني بل هو قطب الرحى فيه إلى درجة إغراء أكبر كتّاب المعمورة للنهل منه، ومن بينهم غابرييل غارسيا ماركيز الكولومبي وخورخي لويس بورخيس الأرجنتيني ، وجورج أمادو وبابلو كويلو البرازيليين وقبلهم بعقود طويلة فولتير ومونتسكيو من فرنسا وتشارل ديكنز من أنجلتيرا وعدد كبير من كتاب أوروبا وآسيا وأمريكا حتى إفريقيا تصعب الإحاطة بأسمائهم في سياق هذا الموضوع المهتم بمستويات تأصيل التراث في روايات إبراهيم درغوثي.
فإذا كان وعي درغوثي بقيمة تأصيل التراث قد تنامي إلى درجة أنه لم يتنازل عن تكثيفه من رواية إلى أخرى فإن هذا الوعي قد أسهم بقوّة في ربط أعماله السردية الروائية بالتدفق في ذلك النبع الحافل بموروثات الأمة مرسخا بذلك محاولات تجديد وتجريب طرائق متنوعة بمتناولاته الخاصة التي تختلف عن طرق أساليب غيره ، ليتفرّد بمميزات نصوصه لا من النواحي الشكلية والمضمونية والأسلوبية فحسب بل في تعامله مع المحسوس والمعاش الراهنين اللذين يؤرقانه ويعصران حيرته كمثقف عربي لا يستطيع أن يتكلم دون التجرؤ على تعرية المسكوت عنه ، لا في ثالوث الدين والجنس والسياسة فقط ـ كما يشير إلى ذلك العديد ممن تناولوا نصوص المؤلف بالدرس والتحليل والتأويل ـ بل في مصائر الأرض والعباد ومستقبل حياة الشعوب في منطقة ينهشها التطاحن وتمزّق أوصالها والانقسامات ويستغل ثرواتها الأعداء .
فما هي مستويات تأصيل التراث حسب اقتراحات الكاتب ؟
إذا كنا من مؤيدي نظرية الفن التي تقول بأن كل إبداع يحمل ثلاث رسائل أولاها معرفية وثانيتها جمالية وثالثتها عقائدية فإن حضور التراث في كتابات درغوثي يتأصل بوعي منه لا مصادفة وفق هذه التقسيمات الثلاثة إلى جانب اتجاه آخر عجائبي .
1) في المستوى المعرفي:
يطرح مقولات التراث المكتوب أو المروي بأبعاده الكونية والإنسانية أسئلة وجودية لم يتفطن إلى مراميها القراء الأوائل، ويتجلى ذلك من خلال استضافة نشأة الخلق كما وردت في القرآن الكريم والأحاديث وكتابات المؤرخين.. ففي " الدراويش يعودون إلى المنفى " يتصفح المؤلف مجموعة من الكتب ( القرآن الكريم ، التوراة ، ألف ليلة وليلة ، تاريخ التمدن الإسلامي ، عيون الأنباء ، مروج الذهب ، تاريخ الإسلام ، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع هجري ،مثنوى جلال الدين الرومي ، فوات الوفيات ووفاة الأعيان ، الصائر والذخائر ، طواسين الحلاج) فيشوّقنا بذكرها للعودة إليها وفي ذلك مقصد إجرائي للترغيب على قراءتها والنهل من معينها الذي لا ينضب . .. ويعرض لاحقا رواية عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) حول نشأة الخلق تبدأ من ( فلما أراد الله أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا ، فارتفع الدخان فوق الماء فسمّاه سماء ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ـ ص 30 " الدراويش يعودون إلى المنفي "ـ دار سحر للنشر ـ الطبعة الثانية 1998) ،وتننهي القصة بعد عرض سيرة آدم وحوّاء بوفاة أبي الخليقة ، بالتنازع حول موقع قبره ..
وفي " القيامة الآن " نقرأ ما يلي : ( قال أبو هريرة: فيأمر الله اسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول : انفخ نفخة الفزع ! فينفخ نفخة الفزع ، فيهرع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله فيأمره فيمدّها ويطيلها ولا يفتر فترتج الأرض بأهلها رجّا فتكون كالسفينة في البحر تضربها الرياح ـ ص 33 ـ القيامة الآن "ـ الطبعة الأولى ـدار الحوار للنشر والتوزيع ـ1994).
والاستشهادات كثيرة في الكتابين المذكورين وغيرهما .. ولعلها أكثر في " القيامة الآن ".. وهذان الكتابان يحملان عنوانين يستدرجان وقائع لم تحدث بعد لتبقى من التوجسات الميتافيزية التي لا يقدر بنو البشر على التخلص من كوابيسها إذ لا حول ولا قوة لهم في التصدي لها إن حدثت بقوة أعلى وأقدر من الخلائق فكيف إذن لا تتحد قوى الخير في الأرض لإفشال مشاريع صانعي الدمار في زمننا الحاضر وما سبقه وما سيعقبه لا ليعاقبوا الأشرار بل ليبيدوا الأبرياء والضعفاء وينشروا الظل والاستبداد .. أليس في ذلك نذير بقيامة ستحدث الآن ؟
أما العنوان " شبابيك منتصف الليل " فإنه يتكهن بأحداث قد تقع في الساعة الصفر بعدما يدورالوقت حول نفسه لتنفتح شبابيك كانت منغلقة في لحظة فارقة بين زائل ووافد تتغير فيه الأشياء نحو ما لا يمكن نعته بالأسوأ أو الأجمل .
2) المستوى الجمالي :
هو مقترح للإمتاع والمؤانسة لا بالطرح المجاني ولكن بالتحريض على تحريك السواكن والأحاسيس لدى القارئ حتى لا يعزف عن قراءة ما بين يديه ولا ترهقه المطالعة الجادة ويتوغل بالبحث في تراثنا عن عيون الكلام وروائع ما حبرته الأقلام .. وهو إلى جانب ذلك يشي بالإحالة على مدوّنات كلامية يمكن إسقاط مقولاتها على واقع الفكر والسياسة في الحياة العربية المعاصرة ومآل إليه من عربدات وشطحات تهرأ فيها الوعي وترنحت العقلة .. ففي " أسرار صاحب الستر " يحيلنا المؤلف على جمالية استهتار أمير المؤمنين الوليد بن يزيد مبرهنا على ذلك بأبيات شعرية من تأليفه ( أي الوليد) وقد انتحلها درغوثي من كتاب " الكامل في التاريخ "واعتبرها وثيقة مؤيدة لما أورده في روايته عن الأمير الذي لا يصعب العثور على مستهتر مثله في كل عصر ومصر ":
دعوا لي سليْمى والطلاءَ وقيْــــةً
وكأسا ألا حسبي بذلك مــــالا
إذا مـا صفـا عيشـي برملة عالج
وعانقت سلمـى مـا أريد بدالا
خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككـــــم
ثباتا يسـاوي ما حييت عــقـالا
وخلـوا عنـاني قبل عير وما جرى
ولا تحسدونـي إن أموت هـزالا
(ص 127 ـ " أسرار صاحب الستر " دار صامد للنشر ـ 1998)
فما أشبه اليوم بالبارحة ـ تضيع دوَل لإشباع نزوات المنصبين للذود عليها .
كما يسترجع صاحب "الدراويش يعودون إلى المنفى "صدى أشعار اللهو والمجون والعربدة فيعرض هذا المقطع الشعري :
مُزجتْ روحــك في روحي كمـــا
تـمزج الخمـرة بالمـاء الــزلالْ
فإذا مـسّـك شئ مـسّـنــــــــــــــي
فإذا أنــت أنـا فــي كـل حــــالْْ
( " الدراويش يعودون إلى المنفي " ـ ـ دار سحر للنشرـ طبعة ثانية 1998 ـ ص 26).
فهذا الإستعراض الجمالي التهكمي يسعى إلى طرح السؤال التالي :
هل أن ما يمس العربي في فلسطين والعراق ودولا عربية أخرى يمسّ غيره من أبناء ملّته في الأرض العربية الأخرى.. وهل ستكون أنت أنا وأكون أنا أنت في كل حال خارج الالتقاء على صعيد نسيان الهوية والمصلحة العامة والشعور الجماعي ؟
ففي " شبابيك منتصف الليل " تقرأ هذا الخبر الوارد في الجزء السادس من كتاب مسكويه والجزء الثامن من كتاب ابن الأثير وهو الأتي :
( على أنه يُحكى عن الأمير بختيار البويهي أنه أسر له في إحدى المواقع غلام تري فجنّ عليه جنونا وحدث له من الحزن ما لم يسمع بمثله ، وزعم أن فجيعة بهذا الغلام فوق فجيعته بالمملكة والإنسلاخ منها ومن النعمة) "شبابيك منتصف الليل" ـدار سحر للنشرـ أفريل 1996 ـ ص 31).
تحصل جمالية قراءة هذا الخبر ، وما ورد قبله من ، من أثر السخط على بختيار الذي اعتبر الغلام أغلى من المملكة وعلى الوليد بن يزيد الذي آثر سليمى على المُلك ، وفي ذلك قدرة من الروائي على استحضار من يقرّب من القارئ جمالية القبح وهو يستعيذ في الوقت نفسه من قبح الجميل الذي تنهار فيه القيَم وتباع الأوطان لا بالأموال بل بالجنس وهو أرذل وأسقط وسائل البيع .خاصة عندما يكون المشترى به هو الحياض وهو الوطن بحرماته ومقدساته.
3) المستوى العقائدي
تبرز الأحاسيس العقائدية واضحة ومكثفة في الأحاديث والمقولات الدينية المعروضة للترهيب والترغيب .
قال أبو هريرة :(فمكث الخلق في ذلك البلاء ما شاء الله ،إلا أنه يطول عليهم . ثم يأمر الله إسرفيل فينفخ نفخة " الصعق" فيصعق من في السماوات ومن في الأرض " القيامة الآن " دار الحوار للنشر والتوزيع ـ 1994 ـ ص 38) .
ذلك أن الواقع المتردي بإحباطاته ومعوّقاته قد هيّأ للكثير مهربا مما هو موجود بحثا عن الحلول اعتمادا على الطرح الديني الذي يتبرأ من كل زيغ ويعد المارقين عنه بعقاب الآخرة .غير أن ذلك المهرب لا يوصل غالبا إلا إلى الركود والاستسلام .
4)المستوى العجائبي:
قد لا نعثر في " شبابيك منتصف الليل " على ما نستدل به من الإيحاءات التراثية من المستوى الثالث . ولن نجد كذلك مقولات تراثية كثيرة مستند ة إلى نصوص مروية في " وراء السراب..قليلاّ" لأنه رواية متسربلة بالواقعية المشوبة بالغرائبية ، غير أن استعراض ما حدث يجعلنا نتفطن إلى أن الكاتب لم ينس الاعتماد على التراث الشفوي وبعض المكتوب ـ هذه المرة ـ فاستحضر ما يروى عن الشق الذي أورد في شأنه الكاتب ما قاله عنه الجاحظ في كتاب " الحيوان " :(' كثيرا ما يعرض الشق الرجل المسافر إذا كان وحده فربما أهلكه فزعا ، وربما أهلكه ضربا وقتلا ) (ص 116 من " وراء السراب ..قليلا" ـ دار الإتحاف للنشر ـ 2002) .. ويؤكد درغوثي على أن الشق منتشر بكثرة في أنفاق منجم الفسفاط بالمتلوي ويورد قصصا كثيرة ومرعبة عنه كالتالية :(وأزعجت الانفجارات الشق وفريقه فاختبأوا في زوايا الأنفاق متربصين بالرجال .. بحثوا عن الغافل فأكلوه وعن الشاب فشربوا دمه وتفرقوا في الأمكنة البعيدة في أعماق الجبل يسلبون وينهبون/ فتكدست أنصاف الجثث في كل مكان وملآ الهلع الفقلوب الواجفة ص 116 "وراء السراب .. قليلا ").. فهو يضاعف من أهوال الكهوف الفسفاطية كثيرة الانهيارات على العمال ليستوحي من مقولة الجاحظ قصة الشق الذي يتهيأ لمن يصدق به أنه أكثر خطورة من مصائب المنجم وكأن الكاتب يريد يقنعنا بخوارقه بأن أهوال الأنفاق المنجمية تسهم في صنعها عوامل طبيعية وفيزيائية وأرواح شريرة ، أو كأنه يسعى إلى تغطية ما هو واقعي بما هو عجائبي لتجاوز النمطية الكتابية التي تسربل بها العديد من الروايات المنجمية .
مثل هذه الحكايات الخارقة ظلت منتشرة بكثرة في الأوساط العمالية فحصل لهم الاعتقاد بتصديقها ، وقد يكون ذلك ناتجا عمّا يحصل للشغالين في المناجم من متاعب مضنية في أماكن مظلمة وموحشة تهيئ النفوس للخوف من حدوث مفاجآت ضارة أو قاتلة ناجمة عن وقوع حوادث شغل خطيرة.
غير أن هذه المعتقدات لا تؤثر في صلابة مواقف المنجميين ووقوفهم لتحدب خصمهم المستغل رغم ضراوة أسلحته وشراسة تصديه لقمع انتفاضاتهم ..ففي أحد الإضرابات الكبرى التي شنها عمال منجم المتلوي لمدة أربعين يوما يحيلنا الكاتب على عينة من عينات التراث النضالي المنجمي الذي تبرز فيه إرادة العمال متمسكة بمواصلة الإضراب إلى أن تحقق إدارة الشركة مطالبهم رغم التهديد والوعيد من طرف مديرها ، فنقرأ في الصفحة عدد 201 من الرواية ما يلي : (وبدأت المؤونة تنفذ في بعض المنازل فشكل المضربون لجنة لجمع القمح والسكر والشاي والزيت والدقيق والشعير والبطاطا والفول والحمص والقهوة ، وتفرق الرجال داخل أحيا الطرابلسية والسوافة وأولاد سيدي عبيد وأولاد سلامة فرجعوا محملين بغرائر القمح والشعير وبزغاريد البدويات وبدعاء الشيوخ بالفوز والنجاح ).
إنها عقيدة العمال المظلومين المؤمنين بقضاياهم.
وفي جانب آخر يظهر العجائبي في تغريبة أبناء ملة السودان اللذين ينفذ زادهم فيمضغ الأجداد حشيشة الموت ويتركون وصية للأحفاد تقول :( إذا كان من الموت بدّ فامضغوا هذه الحشيشة ،ولا تخافوا ، فسوف يسري الخدر في أجسامكم من الوهلة الأولى ولن تحسوا بخنجر الموت يغمد غي قلوبكم . وسترون أرواحكم وقد تحوّلت إلى طيور صغيرة في حجم الفراشات وهي ترفرف فوق جباهكم .ثم تدخلون أبواب السماء .. ص80).
أرى أن تنبأ درغوثي قد حصل رغم أن شبابيك منتصف الليل قد نشرت في أفريل 2002 .. فمن كان ينذر قبله من الروائيين بأن الأمة الإسلامية ستبتلى في الأرض العربية بعصابات تكفيرية تدعو المنتسبين إليها إلى طلب الموت ليكون موعدهم الجنة مع الحوريات الكواعب الأتراب اللواتي لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان .
ويعثر القارئ في روايات درغوثي على مقولات تراثية أخرى لا تتمثل عناصر منسوبة إلى نظرية الفن وحدها بل تحرض على التفكير التأملي والتأويلي في مدلولات فلسفية وتجليات صوفية لها مبررات البروز في أزمنة عربية مشابهة أو مغايرة لزماننا الذي دأبنا على عيبه والعيب فينا كما قال الشاعر
وفي الفصل المعنون بـ (بطلقة تفتيش لدى الأنتروبول ) في " الدراويش يعودون إلى المنفى ـ ص 78 " يفتتح الكاتب السرد بمقولة وردت في كتاب " الطوايس " للحسن ابن منصو الحلاج يقول جزء منها :
( صورة المصباح علم الحقيقة ..وحرارته حقيقة الحقيقة ..والوصول إليه حق الحقيقة
إلى آخره بعد أوله ).
فأية حقيقة بقيت بعد انطفاء المصابيح ؟
إن إبراهيم درغوثي يبحث في رواياته عن الحقيقة التي تم طمسها في عصرنا ، لذلك يستعين بالتراث لعله يحدها بالاتكاء عليه لأن الحاضر قد نخره سوس الباطل والتزوير .
××××××
ما يمكن استنتاجه من خلال هذه التأملات والتأويلات الخاطفة والمتسرعة هو أن لإبراهيم درغوثي مشروع سردي ( روائي بالأساس) لم يسع إلى تأصيل التراث في كتاباته هروبا من عراء الواقع وعقمه وحرائقه المتأججة ، أو اتقاء عجز الرواية العربية الراهنة على استيعاب ثقل الفجائع إذا أصرّت على تقليد النصوص الأجنبية ، بل ليحرر خطاباته من معوّقات التبليغ ولقول ما يريد قوله .
(×) شاعر وكاتب مسرحي من تونس
ـ محمد العروسي المطوي " التوت المر" و" حليمة " ( الجنوب الشرقي ـ قابس ).
ـ محمد المختار جنات " أرجوان " (الجنوب الغربي ـ قفصة) .
ـ محمد الصالح الجابري " يوم من أيام زمرا " ( الرديف ).
أما عبد القادر بالحاج نصر فقد كتب " الزيتون لا يموت " عندما استقر بالعاصمة ناسجا خيوطها من وحي الأحداث التي سبقت مظاهرة 9 أفريل 1938 ، بينما نحا عبد المجيد عطية في " المنبت" منحى مغايرا في تعامله مع الأحداث لا من ناحية العودة إلى علاقة التصادم بين التونسي المستـَعمر بالآخر المستعمِر ، بل من خلال استقراء واقع العلاقة التي امتدت بين الطرفيْن بعد حصول البلد على الاستقلال للتأكيد على أن كلّ غازلا ينسحب من بلد المحتل ببراءة بل يترك مجالات واسعة لتبعيّة فروعها الاستعمار الثقافي والهجرة للعمل لديه وفق شروط يفرضها فتسهم في تعميق هوّة الإنبتات الحضاري .
ولئن سعى مصطفى الفارسي ورشاد الحمزاوي وناجية ثامر إلى استحضار مضامين أخرى ذوات
أبعاد اجتماعية فإنهم لم يتجنبوا تقليد الرواية الواقعية التي تلقفوها من الغرب والرّوس أو ممن نحا نحوهم من كتاب مصر بالخصوص.
وظلت محاولات التجديد متعثرة لضيق آفاق بحثها عن المغايرة والابتكار باستثناء ما كتبه البشير خريّف في " برق الليل " و" حبّك درباني " و" الدقلة في عراجينها " إلى تحركت جماعة التجريب من أمثال عز الدين المدني ومحمود التونسي وسمير العيادي من ناحية ومجموعة تجديد المضامين من أمثال رضوان الكوني وجلول عزونة وأحمد ممو وعروسية النالوتي ونافلة ذهب من ناحية أخرى للإعلان عن أوان التغيير في السرد ليتجاوز السائد المألوف بعدما انتشرت في المنطقة العربية محاولات روائية وقصصية جادة لجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وغسان كنفاني وصنع الله إبراهيم وعبد الرحمان مجيد الربيعي والطاهر وطّار وعبد الحميد بن هدوقة ومحمد برادة ومحمد شكري من الذكور وليلي العثمان ( الكويت) وماريا سويد ( سوريا) ونوال مصطفي ( مصر) من الإناث .
وبدأ التطلع إلى أنتاج نصوص جديدة نابضة بالإبداع والحياة وملتفتة إلى المستقبل ورافضة الاقتناع بالجاهز والرضا بالموجود. وأصبحت الاهتمامات متجهة لأول مرة إلى أعمال سردية مكتوبة من مدن وقرى وسط البلاد وشرقها وغربها وجنوبها وشمالها ، ولم تعد تونس العاصمة هي مركز التدوين الوحيد ، فقد برز كتاب وكاتبات من أعماق البلاد لم يكن هناك من يفكر في الالتفات إليهم أو إلى ما يكتبون قبل ارتفاع أصواتهم عالية ومدوّية . عندما انتشرت إصدارات :
ـ صلاح الدين بو جاه من القيروان.
ـ بنت البحر من بنزرت .
ـ الساسي حمام من منزل تميم .
ـ محمد الباردي من قابس .
ـ إبراهيم درغوثي من أم العرائس .
إلى جانب آخرين يطول عرض أسمائهم.
والتحق بهم بعد سنوات عبد الجبار العش من صفاقس وفوزية العلوي من القصرين والبقية في الطريق .
وكان لانحلال المعسكر الاشتراكي وسقوط جدار برلين والحصار الاقتصادي على بعداد وفشل المشروع القومي وزحف النظام العالمي الجديد وانتشار العولمة متغيرات ومغيّرات خلخلت المفاهيم والاستراتيجيات والقناعات السابقة التي جنا ثمار خسائرها البعض وغنم البعض الآخر من مخلفاتها حتى في مجال الأدب .
فتقلصُ المسافات بانتشار وسائل الإعلام والمعلوماتية لم يترك الكتابة حكرا على من يرتاد المكتبات الفخمة والمنتديات الثقافية الأنيقة بل فسح المجال أمام مبدعين لم تعد مراتيج العاصمة قادرة على دفعهم إلى الانحناء لأنهم أثبتوا قدراتهم على ابتكار نصوص لا تتأسى بالمعتاد ولا تصالح المألوف لأنها تسعى إلى التعبير عمّا حولها من أزمات وانتكاسات تعزى إلى اتساع جرح الأزمة الحضارية العربية وتفشي العجز والاستكانة والتهميش .. ولم تعد الرواية التي افتتنت بأساليب وأدوات الكتابة الغربية قادرة على التعبير عما هو مستجد ، كما لم تعد الرواية التي أخلصت لاستخدام أساليب الكتابة التقليدية مؤهلة لأن تعيش في عصر غير عصرها ،وأصبحت الحداثة وما بعدها عاجزتين عن الإحاطة بما يحدث واتُّهم التجريب بالتخريب وبرز السرد الناهل من التراث بتعلة الهروب إلى الماضي لمراوغة لكمات الرقابة الموجهة إلى الكاتب حين يحرر تفكيره من التابوهات .. وللرد على الافتراض الأخير يقول إبراهيم درغوثي في حوار اليكتروني أجرته معه إيمان الوزير :
" إن اهتمامي بالتراث السردي العربي لا يعود فقط لاستعماله تقيّة ضد سيف الرقابة المسلط على الكاتب حين يهاجر بفكره في نصوصه وإنما أعتبر التراث السردي ذ خبرة للإنسانية جمعاء علينا كشفها وتقديمها لكل البشر لاستثمارها...كيف لا ونحن ننظر بعين الرضا لردود أفعال الغرب حول مدوّنة " ألف ليلة وليلة ؟:
ويضيف قائلا إن ما مفاده استحضار التراث في نصوصه لا يعزى إلى إفلاس في الإضافة بل بحثا عن أشكال جديدة.
فكيف تعامل هذا الروائي مع التراث الذي استدرج غيره مقولاته ومضامينه استدراجا باهتا ؟
وهل قام بوظيفته كما فعل سابقوه أم عمل على تأصيله بتخطيط متفرد في كتاباته الروائية ؟
قبل الإجابة عن السؤاليْن برؤية درغوثية أودّ الإشارة إلى أن عبارة توظيف التراث قد أصبحت ممجوجة وفق استعمالات البعض لأنها تشي بأن محتواها قد أوكلت إليه مهمة أداء دور معيّن في رواية ما عند كاتب ما قد ينتهي فعله بانتهاء السرد ويختفي فاسحا المجال لثرثرة أخرى يتكئ عليها الكاتب ،بينما يصح القول بأن سعي درغوثي إلى استقاء رواياته من مقولات وأحاديث وأقاصيص ومقامات وأغانٍ وخرافات وأمثال وغيرها من مناهل التراث المكتوب قد أكد تأصيلها في تلك المحتويات وجعلها عناصر أساسية تتحرك في فضاءاتها وتحرك أحداثها في سياقات موحية بما يريد، كيف لا وهو يدرك بأن التراث السردي العربي له جذور ضاربة في أعماق التراث الإنساني بل هو قطب الرحى فيه إلى درجة إغراء أكبر كتّاب المعمورة للنهل منه، ومن بينهم غابرييل غارسيا ماركيز الكولومبي وخورخي لويس بورخيس الأرجنتيني ، وجورج أمادو وبابلو كويلو البرازيليين وقبلهم بعقود طويلة فولتير ومونتسكيو من فرنسا وتشارل ديكنز من أنجلتيرا وعدد كبير من كتاب أوروبا وآسيا وأمريكا حتى إفريقيا تصعب الإحاطة بأسمائهم في سياق هذا الموضوع المهتم بمستويات تأصيل التراث في روايات إبراهيم درغوثي.
فإذا كان وعي درغوثي بقيمة تأصيل التراث قد تنامي إلى درجة أنه لم يتنازل عن تكثيفه من رواية إلى أخرى فإن هذا الوعي قد أسهم بقوّة في ربط أعماله السردية الروائية بالتدفق في ذلك النبع الحافل بموروثات الأمة مرسخا بذلك محاولات تجديد وتجريب طرائق متنوعة بمتناولاته الخاصة التي تختلف عن طرق أساليب غيره ، ليتفرّد بمميزات نصوصه لا من النواحي الشكلية والمضمونية والأسلوبية فحسب بل في تعامله مع المحسوس والمعاش الراهنين اللذين يؤرقانه ويعصران حيرته كمثقف عربي لا يستطيع أن يتكلم دون التجرؤ على تعرية المسكوت عنه ، لا في ثالوث الدين والجنس والسياسة فقط ـ كما يشير إلى ذلك العديد ممن تناولوا نصوص المؤلف بالدرس والتحليل والتأويل ـ بل في مصائر الأرض والعباد ومستقبل حياة الشعوب في منطقة ينهشها التطاحن وتمزّق أوصالها والانقسامات ويستغل ثرواتها الأعداء .
فما هي مستويات تأصيل التراث حسب اقتراحات الكاتب ؟
إذا كنا من مؤيدي نظرية الفن التي تقول بأن كل إبداع يحمل ثلاث رسائل أولاها معرفية وثانيتها جمالية وثالثتها عقائدية فإن حضور التراث في كتابات درغوثي يتأصل بوعي منه لا مصادفة وفق هذه التقسيمات الثلاثة إلى جانب اتجاه آخر عجائبي .
1) في المستوى المعرفي:
يطرح مقولات التراث المكتوب أو المروي بأبعاده الكونية والإنسانية أسئلة وجودية لم يتفطن إلى مراميها القراء الأوائل، ويتجلى ذلك من خلال استضافة نشأة الخلق كما وردت في القرآن الكريم والأحاديث وكتابات المؤرخين.. ففي " الدراويش يعودون إلى المنفى " يتصفح المؤلف مجموعة من الكتب ( القرآن الكريم ، التوراة ، ألف ليلة وليلة ، تاريخ التمدن الإسلامي ، عيون الأنباء ، مروج الذهب ، تاريخ الإسلام ، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع هجري ،مثنوى جلال الدين الرومي ، فوات الوفيات ووفاة الأعيان ، الصائر والذخائر ، طواسين الحلاج) فيشوّقنا بذكرها للعودة إليها وفي ذلك مقصد إجرائي للترغيب على قراءتها والنهل من معينها الذي لا ينضب . .. ويعرض لاحقا رواية عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) حول نشأة الخلق تبدأ من ( فلما أراد الله أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا ، فارتفع الدخان فوق الماء فسمّاه سماء ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ـ ص 30 " الدراويش يعودون إلى المنفي "ـ دار سحر للنشر ـ الطبعة الثانية 1998) ،وتننهي القصة بعد عرض سيرة آدم وحوّاء بوفاة أبي الخليقة ، بالتنازع حول موقع قبره ..
وفي " القيامة الآن " نقرأ ما يلي : ( قال أبو هريرة: فيأمر الله اسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول : انفخ نفخة الفزع ! فينفخ نفخة الفزع ، فيهرع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله فيأمره فيمدّها ويطيلها ولا يفتر فترتج الأرض بأهلها رجّا فتكون كالسفينة في البحر تضربها الرياح ـ ص 33 ـ القيامة الآن "ـ الطبعة الأولى ـدار الحوار للنشر والتوزيع ـ1994).
والاستشهادات كثيرة في الكتابين المذكورين وغيرهما .. ولعلها أكثر في " القيامة الآن ".. وهذان الكتابان يحملان عنوانين يستدرجان وقائع لم تحدث بعد لتبقى من التوجسات الميتافيزية التي لا يقدر بنو البشر على التخلص من كوابيسها إذ لا حول ولا قوة لهم في التصدي لها إن حدثت بقوة أعلى وأقدر من الخلائق فكيف إذن لا تتحد قوى الخير في الأرض لإفشال مشاريع صانعي الدمار في زمننا الحاضر وما سبقه وما سيعقبه لا ليعاقبوا الأشرار بل ليبيدوا الأبرياء والضعفاء وينشروا الظل والاستبداد .. أليس في ذلك نذير بقيامة ستحدث الآن ؟
أما العنوان " شبابيك منتصف الليل " فإنه يتكهن بأحداث قد تقع في الساعة الصفر بعدما يدورالوقت حول نفسه لتنفتح شبابيك كانت منغلقة في لحظة فارقة بين زائل ووافد تتغير فيه الأشياء نحو ما لا يمكن نعته بالأسوأ أو الأجمل .
2) المستوى الجمالي :
هو مقترح للإمتاع والمؤانسة لا بالطرح المجاني ولكن بالتحريض على تحريك السواكن والأحاسيس لدى القارئ حتى لا يعزف عن قراءة ما بين يديه ولا ترهقه المطالعة الجادة ويتوغل بالبحث في تراثنا عن عيون الكلام وروائع ما حبرته الأقلام .. وهو إلى جانب ذلك يشي بالإحالة على مدوّنات كلامية يمكن إسقاط مقولاتها على واقع الفكر والسياسة في الحياة العربية المعاصرة ومآل إليه من عربدات وشطحات تهرأ فيها الوعي وترنحت العقلة .. ففي " أسرار صاحب الستر " يحيلنا المؤلف على جمالية استهتار أمير المؤمنين الوليد بن يزيد مبرهنا على ذلك بأبيات شعرية من تأليفه ( أي الوليد) وقد انتحلها درغوثي من كتاب " الكامل في التاريخ "واعتبرها وثيقة مؤيدة لما أورده في روايته عن الأمير الذي لا يصعب العثور على مستهتر مثله في كل عصر ومصر ":
دعوا لي سليْمى والطلاءَ وقيْــــةً
وكأسا ألا حسبي بذلك مــــالا
إذا مـا صفـا عيشـي برملة عالج
وعانقت سلمـى مـا أريد بدالا
خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككـــــم
ثباتا يسـاوي ما حييت عــقـالا
وخلـوا عنـاني قبل عير وما جرى
ولا تحسدونـي إن أموت هـزالا
(ص 127 ـ " أسرار صاحب الستر " دار صامد للنشر ـ 1998)
فما أشبه اليوم بالبارحة ـ تضيع دوَل لإشباع نزوات المنصبين للذود عليها .
كما يسترجع صاحب "الدراويش يعودون إلى المنفى "صدى أشعار اللهو والمجون والعربدة فيعرض هذا المقطع الشعري :
مُزجتْ روحــك في روحي كمـــا
تـمزج الخمـرة بالمـاء الــزلالْ
فإذا مـسّـك شئ مـسّـنــــــــــــــي
فإذا أنــت أنـا فــي كـل حــــالْْ
( " الدراويش يعودون إلى المنفي " ـ ـ دار سحر للنشرـ طبعة ثانية 1998 ـ ص 26).
فهذا الإستعراض الجمالي التهكمي يسعى إلى طرح السؤال التالي :
هل أن ما يمس العربي في فلسطين والعراق ودولا عربية أخرى يمسّ غيره من أبناء ملّته في الأرض العربية الأخرى.. وهل ستكون أنت أنا وأكون أنا أنت في كل حال خارج الالتقاء على صعيد نسيان الهوية والمصلحة العامة والشعور الجماعي ؟
ففي " شبابيك منتصف الليل " تقرأ هذا الخبر الوارد في الجزء السادس من كتاب مسكويه والجزء الثامن من كتاب ابن الأثير وهو الأتي :
( على أنه يُحكى عن الأمير بختيار البويهي أنه أسر له في إحدى المواقع غلام تري فجنّ عليه جنونا وحدث له من الحزن ما لم يسمع بمثله ، وزعم أن فجيعة بهذا الغلام فوق فجيعته بالمملكة والإنسلاخ منها ومن النعمة) "شبابيك منتصف الليل" ـدار سحر للنشرـ أفريل 1996 ـ ص 31).
تحصل جمالية قراءة هذا الخبر ، وما ورد قبله من ، من أثر السخط على بختيار الذي اعتبر الغلام أغلى من المملكة وعلى الوليد بن يزيد الذي آثر سليمى على المُلك ، وفي ذلك قدرة من الروائي على استحضار من يقرّب من القارئ جمالية القبح وهو يستعيذ في الوقت نفسه من قبح الجميل الذي تنهار فيه القيَم وتباع الأوطان لا بالأموال بل بالجنس وهو أرذل وأسقط وسائل البيع .خاصة عندما يكون المشترى به هو الحياض وهو الوطن بحرماته ومقدساته.
3) المستوى العقائدي
تبرز الأحاسيس العقائدية واضحة ومكثفة في الأحاديث والمقولات الدينية المعروضة للترهيب والترغيب .
قال أبو هريرة :(فمكث الخلق في ذلك البلاء ما شاء الله ،إلا أنه يطول عليهم . ثم يأمر الله إسرفيل فينفخ نفخة " الصعق" فيصعق من في السماوات ومن في الأرض " القيامة الآن " دار الحوار للنشر والتوزيع ـ 1994 ـ ص 38) .
ذلك أن الواقع المتردي بإحباطاته ومعوّقاته قد هيّأ للكثير مهربا مما هو موجود بحثا عن الحلول اعتمادا على الطرح الديني الذي يتبرأ من كل زيغ ويعد المارقين عنه بعقاب الآخرة .غير أن ذلك المهرب لا يوصل غالبا إلا إلى الركود والاستسلام .
4)المستوى العجائبي:
قد لا نعثر في " شبابيك منتصف الليل " على ما نستدل به من الإيحاءات التراثية من المستوى الثالث . ولن نجد كذلك مقولات تراثية كثيرة مستند ة إلى نصوص مروية في " وراء السراب..قليلاّ" لأنه رواية متسربلة بالواقعية المشوبة بالغرائبية ، غير أن استعراض ما حدث يجعلنا نتفطن إلى أن الكاتب لم ينس الاعتماد على التراث الشفوي وبعض المكتوب ـ هذه المرة ـ فاستحضر ما يروى عن الشق الذي أورد في شأنه الكاتب ما قاله عنه الجاحظ في كتاب " الحيوان " :(' كثيرا ما يعرض الشق الرجل المسافر إذا كان وحده فربما أهلكه فزعا ، وربما أهلكه ضربا وقتلا ) (ص 116 من " وراء السراب ..قليلا" ـ دار الإتحاف للنشر ـ 2002) .. ويؤكد درغوثي على أن الشق منتشر بكثرة في أنفاق منجم الفسفاط بالمتلوي ويورد قصصا كثيرة ومرعبة عنه كالتالية :(وأزعجت الانفجارات الشق وفريقه فاختبأوا في زوايا الأنفاق متربصين بالرجال .. بحثوا عن الغافل فأكلوه وعن الشاب فشربوا دمه وتفرقوا في الأمكنة البعيدة في أعماق الجبل يسلبون وينهبون/ فتكدست أنصاف الجثث في كل مكان وملآ الهلع الفقلوب الواجفة ص 116 "وراء السراب .. قليلا ").. فهو يضاعف من أهوال الكهوف الفسفاطية كثيرة الانهيارات على العمال ليستوحي من مقولة الجاحظ قصة الشق الذي يتهيأ لمن يصدق به أنه أكثر خطورة من مصائب المنجم وكأن الكاتب يريد يقنعنا بخوارقه بأن أهوال الأنفاق المنجمية تسهم في صنعها عوامل طبيعية وفيزيائية وأرواح شريرة ، أو كأنه يسعى إلى تغطية ما هو واقعي بما هو عجائبي لتجاوز النمطية الكتابية التي تسربل بها العديد من الروايات المنجمية .
مثل هذه الحكايات الخارقة ظلت منتشرة بكثرة في الأوساط العمالية فحصل لهم الاعتقاد بتصديقها ، وقد يكون ذلك ناتجا عمّا يحصل للشغالين في المناجم من متاعب مضنية في أماكن مظلمة وموحشة تهيئ النفوس للخوف من حدوث مفاجآت ضارة أو قاتلة ناجمة عن وقوع حوادث شغل خطيرة.
غير أن هذه المعتقدات لا تؤثر في صلابة مواقف المنجميين ووقوفهم لتحدب خصمهم المستغل رغم ضراوة أسلحته وشراسة تصديه لقمع انتفاضاتهم ..ففي أحد الإضرابات الكبرى التي شنها عمال منجم المتلوي لمدة أربعين يوما يحيلنا الكاتب على عينة من عينات التراث النضالي المنجمي الذي تبرز فيه إرادة العمال متمسكة بمواصلة الإضراب إلى أن تحقق إدارة الشركة مطالبهم رغم التهديد والوعيد من طرف مديرها ، فنقرأ في الصفحة عدد 201 من الرواية ما يلي : (وبدأت المؤونة تنفذ في بعض المنازل فشكل المضربون لجنة لجمع القمح والسكر والشاي والزيت والدقيق والشعير والبطاطا والفول والحمص والقهوة ، وتفرق الرجال داخل أحيا الطرابلسية والسوافة وأولاد سيدي عبيد وأولاد سلامة فرجعوا محملين بغرائر القمح والشعير وبزغاريد البدويات وبدعاء الشيوخ بالفوز والنجاح ).
إنها عقيدة العمال المظلومين المؤمنين بقضاياهم.
وفي جانب آخر يظهر العجائبي في تغريبة أبناء ملة السودان اللذين ينفذ زادهم فيمضغ الأجداد حشيشة الموت ويتركون وصية للأحفاد تقول :( إذا كان من الموت بدّ فامضغوا هذه الحشيشة ،ولا تخافوا ، فسوف يسري الخدر في أجسامكم من الوهلة الأولى ولن تحسوا بخنجر الموت يغمد غي قلوبكم . وسترون أرواحكم وقد تحوّلت إلى طيور صغيرة في حجم الفراشات وهي ترفرف فوق جباهكم .ثم تدخلون أبواب السماء .. ص80).
أرى أن تنبأ درغوثي قد حصل رغم أن شبابيك منتصف الليل قد نشرت في أفريل 2002 .. فمن كان ينذر قبله من الروائيين بأن الأمة الإسلامية ستبتلى في الأرض العربية بعصابات تكفيرية تدعو المنتسبين إليها إلى طلب الموت ليكون موعدهم الجنة مع الحوريات الكواعب الأتراب اللواتي لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان .
ويعثر القارئ في روايات درغوثي على مقولات تراثية أخرى لا تتمثل عناصر منسوبة إلى نظرية الفن وحدها بل تحرض على التفكير التأملي والتأويلي في مدلولات فلسفية وتجليات صوفية لها مبررات البروز في أزمنة عربية مشابهة أو مغايرة لزماننا الذي دأبنا على عيبه والعيب فينا كما قال الشاعر
وفي الفصل المعنون بـ (بطلقة تفتيش لدى الأنتروبول ) في " الدراويش يعودون إلى المنفى ـ ص 78 " يفتتح الكاتب السرد بمقولة وردت في كتاب " الطوايس " للحسن ابن منصو الحلاج يقول جزء منها :
( صورة المصباح علم الحقيقة ..وحرارته حقيقة الحقيقة ..والوصول إليه حق الحقيقة
إلى آخره بعد أوله ).
فأية حقيقة بقيت بعد انطفاء المصابيح ؟
إن إبراهيم درغوثي يبحث في رواياته عن الحقيقة التي تم طمسها في عصرنا ، لذلك يستعين بالتراث لعله يحدها بالاتكاء عليه لأن الحاضر قد نخره سوس الباطل والتزوير .
××××××
ما يمكن استنتاجه من خلال هذه التأملات والتأويلات الخاطفة والمتسرعة هو أن لإبراهيم درغوثي مشروع سردي ( روائي بالأساس) لم يسع إلى تأصيل التراث في كتاباته هروبا من عراء الواقع وعقمه وحرائقه المتأججة ، أو اتقاء عجز الرواية العربية الراهنة على استيعاب ثقل الفجائع إذا أصرّت على تقليد النصوص الأجنبية ، بل ليحرر خطاباته من معوّقات التبليغ ولقول ما يريد قوله .
(×) شاعر وكاتب مسرحي من تونس