قراءة انطباعية في كتاب... ( لكي لا تنكسر مساحة البياض -نصوص المدينة-)
(جاسم عاصي) الانسان المتيقظ الفكر دوما في كل فنون الادب وتصانيفها الجمالية، يشرق أكثر انسانية ووداعة، وهو يجوب ارجاء ذاكرته الصبورة على البوح الناص البياض عبر فرار الزمن ليعيد الحياة لرموز لها تأثيرها الواقعي في حياته الممتلئة بالمغامرات، مجبولة مع عجينته الفكرية بحب وتواضع، بقي محافظا عليها وعلى منبع جذوره والتي لم ينتزع يوما أثرها من قلبهِ الانساني، بل تشرب من ذات الارض التي غذت تلك الجذور، فلم يحد ببصره عنها . جاعلها كرسالة يحمل كاهلها كمفكر، لايصال ما لا يمكن ادراكه في المجتمع والوسط المعرفي والادبي. ما هي الا دروس انسانية لوصف وسرد عذابات مخلوقات استحقت ايقاظ الذاكرة لها، وتقديمها كأرث تاريخي استثنائي لمدينة تعج بالمبدعين والمخلدين، ولا تلد سوى المثقفين والادباء والسياسيين. رغم الاشارة التي بدأ بها مستهل الكتاب لم يشر الى المدينة بالاسم الصريح (الناصرية) بل اشار اليها "بالمدينة المسوّرة بالمياه" ورمز الى اربعين شخصية من ذوي التاريخ الاستثائي بمختلف مستوياتها الثقافية. جميهم شكلوا نبض المدينة المثقفة وأرث تاريخ حضارتها بـ(حاضرها وماضيها ومستقبلها )...
على هذا الاثر أطلق (جاسم عاصي) للساحة الادبية العراقية كتاب (لكي لا تنكسر مساحة البياض) ضمن منشورات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق لعام 2018. لنقرأ هذا الكتاب ونتأمل منه لغة السرد التي لم تختلف عن المنجزات الابداعية لـ(جاسم عاصي) كـ(مساقط الضوء) مجموعة قصصية من منشورات اتحاد الكتاب العرب عام 1999 وروايته (مستعمرة المياه) من اصدارات دار الشؤون الثقافية 2004 .وملكوت البراري (قصص) صدرت عام 2007 . لم يغادر منهما مدينته المائية (الناصرية)، ان العودة اليها تؤكد حقيقة واحدة هي سعيه الجاد في اثراء واسهام الحقول الثقافية والمعرفية بجليل هذه المدينة المعطاء والثرية بالرموز الابداعية على مختلف مشاربهم.
· محتوى الكتاب
أحتوى متن الكتاب ثلاث اقسام، الاول (نُخب القاع)، والثاني (نُخب الوسط) والثالث(نُخب السطح)، سبقتها صفحة اشارة "هؤلاء في هذا الكتاب" بمثابة تقديم وتمهيد للشخصيات التي استحقت قلمه في مساحات بيضاء جديرة بالقراءة والتحميص فيها. ومن ثم تناول تاريخ المدينة المائي، عبر "المنتفك.. ذاكرة الماء والطين والشجر" بخصوصية حساسة ومحاولة من مبدع مقتدر تجاوز عن طريق السرد تجسيد كل تاريخ المدينة وهي تحفز المتلقي على التفكير وطرح الاسئلة والبحث عنها بين السطور الناضجة بالحوار السردي الحكائي وهو يسوق ذكريات واسرار وصور تلهب الحس النقدي، جاهدا على تبسيط العمل وتذليل الصعب في التلقي ليتمكن من نقل الحدث بجمالية تنتمي الى مرجعية ثقافية وتاريخية دمجت بالثالوث (القصة والحكاية والسر).يقول عنها (جيرار جنيت) في كتاب "عودة الى خطاب الحكاية" ان متغيرات هذا الثالوث هو ترتيب عرضه الذي لا يوافق الحقيقي او الخيالي. فالترتيب الحقيقي في الحكاية غير الخيالية (التاريخية) مثلا .هو طبعا قصة، أي الاحداث التي وقعت – هي سرد. أي الفعل السردي للقاص.
هذا هو الفعل السردي الذي عمل عليه في "المنتفك" بالتحديد، كان مدخل النص بعيدا عن صوت السرد، باستعمال اداة النهي عن الغفلة وهي توحي بادبية الحكاية خارج دائرة المتخيل بضمير المتكلك هو. فتتخذ بتوسع الشكل الى سيرة ذاتية وذكريات بين الشيخ والفتى وهما يأرخان للمكان والانسان. يقول :"حيث يذكر الشيخ للفتى واجب الاصغاء والانتباه الى ما كمن من السر فيسأل التاريخ : كم مرة كان الفرات وبالا على المدينة... " اود الوصول هنا الى نتيجة عن بعض الحكايات غيرية القصة التي تشير الى اشارات. لذا استطاع السارد ان يدخل مدخلا قصصيا مثاليا ان صح التعبير وهو يضع المتلقي في موقف معاصر وشاهد الى حدٍ ما، وهو يتنقل بين الاوضاع السردية باوسع مفهوم وهو ينصب نفسه بتلك الانتقالات مؤرخا، ليجعل النص مفتوحا ليكون شاهدا لاحقا لبقايا الاحداث، بعد ان ختم "المنتفك" بتأسيس قرية فرحان سيروي تفاصيلها في قابل الزمان.
· القسم الاول - نُخب القاع-
تناول في هذا القسم شخصيات عاشوا في قعر الهامش ومتهات الحياة التي فرضتها الازمنة على سلوكهم وهم يفترشون الارض ويحتضنون الفراغ..وهم صور من المدينة المائية المنتجة للشرفاء الذي طالب صاحب الكتاب في توطئته الحكومة والدولة بخلق نظام يحميهم ولا ينكل بهم..من شخصيات القاع (شنيشل وعمي جوعان وكريم الريبلي وكريم الزهيري وابو صدام وجليل المتحطم والانسان الآلي وجواي) كل من هؤلاء له حكاية مشبعة بالضيم والوجع والحرمان نخبة من مساكين مدينة الناصرية المحصورة بين مصدرين مائيين (نهر الفرات وأبو جدّاحة)..
يقول تولستوي في مذكراته "ليس هناك ما يترك في النفس انطباعا اعمق، ويوجد بين الناس في عاطفة واحدة بصورة أمتن، مثل نتاج حياة انسان كاملة، وبالنتيجة مثل هذه الحياة نفسها".
هذا القلق الذي اجتاح حكايات نُخب القاع، هو ضمير السارد الحقيقي الذي يصرخ لمَ الحياة قاسية ونحن لا نستطيع ان نغير شيئا، لمَ الكتابة اذا كان الكاتب لا يغير من معاناة المهضومين والمحرومين..هي صرخة سردية لثنائية الخير والشر التي يشعر بها كمواطن ينتمي للارض والانسان. وهذا كما نراه انسانيا .اما البناء الفني فهو يمتلك ناصية من الحشد الذهني للمفردات، يحولها بتجربته الثرية الى لغة العصر التي تعتمد على التركيبة المنطقية في البناء السردي واستدلالاته لكل ما هو حسي او ملموس منسجم مع روح العصر، فانه يؤثر بشكل او باخر على قضية الابداع او الخلق الادبي. ان نُخب القاع صوت يدين الجهات المعنية بحقوق الانسان وادامة حياته المعيشية. وفكر جاسم عاصي الثر في سرد حياة المهمشين والمسحوقين، اخلاصا منه الى اهل مدينته وهو بنقده المبطن والساخر لمختلف المؤسسات التي يعتمدها المجتمع.
· القسم الثاني –نُخب الوسط –
اشار الكاتب الى شخصيات دأبها خدمة الناس في المدينة ولهم شهرة باستحقاق انساني ،ولا يخرجون ايضا من وسط القاع وهم (حسين جني، ومسلم بلدية، وابو احمد في مقهاه، والحاج ناصر ابو الاعشاب، وفالح محطة، والسيد كاظم –طبيب، وكوزان(اسماعيل)، والفتى السماوي، وطالب هوبي، وتوفيق السراج). لو أمعنا في القراءة نخب الوسط نرى تكوينات انسانية للمجتمع البشري لها قوة فاعلة في النفوس.ان هذا الايمان بالاشخاص وهذا الصياغة السردية باسلوبها الجمالي جسدت اناسا منعزلين يعيشون على الهامش يتحركون كأحجية في قلب المدينة. وحين يقوم السارد بوصف شخصية مثل (مسلم بلدية) كانسان من المدينة –ن- ينم عن بسالة حقيقية وبسيطة في عمله، لا يعتبر سوى معطي مثير للاهتمام واختفاؤه في قلب الحياة اليومية لا يشير الى اهمية وجوده.ولكن كان يعلن عن وجوده بان يسمع الجميع حركة عربة النفايات.
يبدو في هذا القسم يدور السارد حول مسألة السرد والتناسب الفني للقصة: تارة حول التناسب في البناء الفني بين حركات الشخصيات وتارة حول قضية السرد.وفي الحالتين هي قصص زمكانية تكشف الغطاء عن نظرة الكاتب (السارد) الى عالم خاص يرتبط بواقع حياته الشعبية ارتباطا وثيقا. وما طرحه الا عينة صادقة وحية وعميقة توجها بهذه الاحداث السردية الشيقة.
· القسم الثالث –نُخبْ السطح-
لم يكتب في هذا القسم أي اشارة حول هذه الشريحة، ولكن عنوانها يدل على الوعي الثقافي التي تتمتع به. من شخصيات نخب السطح (قاسم افندي، والست لنده، وطاهر غفوري، وجبر غفوري، والخال نوري خضير، وابو سلام ،والشاعرعقيل علي، وعزيز القهوجي، وبدري قمر، والشاعر قيس لفته مراد، واليك فقد حان الوقت الان، وصورة الصف، والملا جاسم ، والملاية زهرة، وام عبد الرضا، وديوان الشيخ عباس، ......) اسماء لها اسرار بحر وعمق فكر. في سرد حكاياتها يتصاعد شيئا فشيئا سواء عبر شخصيات نخب السطح او عبر الذات المشبعة بالهم الاجتماعي من خلال عرض الحدث الرئيسي والاحداث الفرعية التي كان لها الاثر المساند في سيرته الابداعة وصراعاتها الحياتية.والكاتب في تصوري يرغب دائما في ان يكتب حكايته بضميره المطلق. وحكاية (اليك ..فقط حان الوقت الآن) نموذج مرموق احتل ذات السارد .فكلما كان تاثير الواقع على الكاتب أعنف واضخم يتمكن من يبدع أكثر واكبر واعمق. ونحن حين نقرأ حكاية (اليك.....فقط حان الوقت الآن) لا يغامرنا الشك ان صورة الام عالقة في ذهنه وتمتلك حضورا انسانيا كاملا، ساهمت في خلق الحدث مع الشخصيات الانسانية، خاصة في سرده الاهم في "بلاغة الدرس" اربعة دروس مختصر لسيرة نضالية تكوينية في بناء شخصه كمثقف واديب. كل درس من هذه الدروس في الواقع هي حجة روحية تعطي لكل معنى في السرد تجربة تعطينا ونحن نقرؤها احساسا بروح الكاتب التي لم تهرب من الحياة التي كان يحياها، بذلك يظل متجددا بالنسبة للاجيال التي تعقبه.
نتاج نُخب السطح ذاكرة بشرية خصبة توضح انساقا من المعايير والقيم وتضيف طابعا من المعتقدات ايديولوجية عن طبيعة بعض الحكايات بكفاءة سردية، عالج بها طائفة من القضايا التي لها مساس بالاهتمامات الثقافة والادب والتي لها علاقة بالفلسفة والواقع المعيشي. في خضم كل هذه الارهاصات هناك نقطة ضوء مرتبطة بالذات، يمثل بها صورة نفسه تماما، وهو يقدم عصارة الاهداف السامية التي سعى الى تحقيقها من خلال اطلاق هذا المنجز السردي، لابراز الهمْ الشخصي في عصر تجمعت فيه كل التقاليد الاجتماعية والاراء والمعتقدات. في سبيل ذلك قدم للساحة الادبية والاجتماعية، عرض رائع وحكمْ منصف، محايد لكل شخصية مر بحياته واختزلته ذاكرته الثرة كأنموذجا انسانيا.
نقطة ضوء...
· الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق
جمال طباعة كتاب (كي لا تنكسر مساحة البياض) في قمة الاناقة التصميمة التي توازي وتفوق الطباعات الاخرى عالميا ومحليا وعربيا. ولكن ارقام الفهرس لا تطابق ارقام الصفحات وهذا خلل طباعي. بدء من صفحة (فتى الماء) داخل الكتاب تقرأ (ص184) وفي الفهرسة تقرأ(ص 189)..ويستمر الخطأ الى النهاية. نتمى الانتباه اليه مستقبلا لانكم اصل الجمال.