زياد القحم - المعاني الموازية لمعنى النص.. (حيل) ميسون الإرياني

في اللغة هناك المعنى المنطوق القريب (الحقيقة) والمعنى المنطوق البعيد (المجاز) وهناك المعنى المفهوم الغير منطوق (وهو المعنى الذي لا تحمله العبارة ولكنه ينتج عنها).
الفنية التي قدمتها ميسون الإرياني في كتابها الجديد (حيل) الصادر عن جائزة الدولة للشباب 2017 تعتمد كثيرا على هذا التمرير المتمكن للكثير من المعاني التي تسير موازية للمعنى المحمول في النص
***
يصل قلم ميسون إلى مناطق مهمة في خارطة التفكير بوعي كتابي واضح أحيانا وأحيانا أخرى نتيجة لجريان النص وحالة التأمل بحيث تصل إلى هذه المناطق دون قصد أو تخطيط مسبق
(لا أحد يحب عينيه
لهذا يرتدون النظارات الشمسية
محاولة الفرار
كل العصافير تخون حدائقها)

في هذه اللمحة يحدث أن ترسل الشاعرة معناها المنطوق الذي يثير بدوره مجموعة من المعاني المصاحبة .. يصبح ارتداء النظارة الشمسية محاولة للفرار .. هذا هو معنى النص .. لكن المعنى المصاحب هو أن الفرار غير ممكن والنظارة هي طريقة لإيهام الذات بأنها انتقلت إلى طريق جديد .. بينما هو نفس الطريق القديم ولكن من خلال نظارة جديدة .. ورغم عاطفية النص وشعريته لكنه قدم لمحة فكرية دون أن يشعر القارئ بأنه خرج عن سياق الفن .
***
قراءة نصوص الكتاب بهذه الطريقة تجعل من الواضح إدراك قصدية الشاعرة لأخذ معانيها إلى المنطقة المموهة جزئياً. . المنطقة التي يشاهد المتلقي انها تحتوي المعنى ولكنها لا تمكنه منه ولا تحجبه عنه أيضاً :

(دعنا نتوقف الآن
عقرب الساعة تائه
مذ سرقه سنجاب الوحشة
وذكرياتنا التي ملأنا بها الحقل
أثمرت أزهارا خانتنا مع الريح
لا أحد يستطيع هجران الموسيقى
إلا الندم
يمر بمعطفه الداكن
حتى الحزن يغار
حين نعشق ونترك يده
الحزن يشعر بالبرد
يخاف
يهرب
دعنا نتوقف هذه اللحظة
فأخشابي أتلفها مسمار الشوق
وغادر حبك وحده)
***
حين يضطر النص للاستعانة بصور مألوفة فإنه سرعان ما يستفيد منها كجزئيات ليكون الصورة الكاملة الغير مألوفة .
في النص التالي يعبر بدفء العيون وهو معنى ورد من قبل كما في أغنية محمد عبده "ف عيونك دفا" ويعبر بكون كف الكريم تشبه البحر .. وفي القديم : "هو البحر من أي النواحي أتيته. .." لكن النص يجمع هذه الصور ليولد صورته الكلية الخاصة بسياق النص (كل هؤلاء وأنا بعيدة عنك ورق)
الورق الذي يعني اللاشيء سواءً بدلالة كلمة "ورق" حين يكون الورق معبرا عن أشياء (الوثائق) أو حاملا لقيمة مادية افتراضية (النقد) ولكنه ليس هذه الأشياء فلا له قيمة ما هو وثيقة له ولا يحمل قيمته النقدية إلا بصورة افتراضية فقط .. أو بدلالة كلمة (ورق) من جهة كونه قابلا للحرق والفناء ؛ فما يفصله عن ألا يكون هو عود ثقاب فقط .. وفي كل الأحوال يريد النص أن يقول بأن الحبيبة في غياب الحبيب تكون وهما فقط مثل الورق الذي تختلف دلالاته ولكنها في كل مرة تشير إلى واحد من مستويات الوهم :
أريد أن أغني
نمل حديقتنا وحيد
وأنا وحيدة
مثل هذا الليل
مثل هذا البرد
الذين عيونهم مدفأة
الذين كفوفهم بحر
الذين يطيرون حظهم على خيطان دموعنا
الذين يرفعون لؤم كؤوسهم على دم نجمة
الذين يحلمون غرباء
كل هؤلاء _ وانا بعيدة عنك_ ورق
***
لهذه النصوص طريقة خاصة في التعامل مع اللغة فهي تحتال على الروابط والتراكيب وتنقلها إلى علاقات مختلفة ببعضها بما يتماشى مع طريقة التصوير المختلفة والغريبة والمزدحمة:
(في قلبينا قوارير نبيذ ولهب
جوارب بيضاء
شراشف
ومنضدة
هذا يكفينا لنكون شرسين
حتى يقتل أحدنا ساعة الآخر
ونتابع اللعب)
واحد من المعاني الموازية لهذه النصوص هو عبارة عن كونها وصفات متعددة للتحايل المستمر الذي يستخدمه العاشق ليصل إلى معشوقه.. هذا المعشوق تصوره النصوص مسلحا بالاخطار والبعد و(الأرانب والغابات) محبوسا خلف الأبواب التي تكسر في محاولة لتفتيح وردة .. ضالعا في الموت والغريزة وتفاصيل الحياة .. ضائعا في صدر طائر يمسك السماء من يدها ويرقص ..
كل ذلك يدفع العاشق/ة لصناعة الحيل
..
هذه الحيل التي تساعد العاشق/ة على أن يكون كائنا متحولا .. لعله يصل في واحده من صوره (الصفصافة _ قطعة الحلوى_ المطر_ الأرنب_ ...الخ)
ثم تقول عن هذه الحيل:
(لا استطيع منع نفسي من التفكير فيما سأكونه لأجلك في حيلتي القادمة)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...