ما سأحكيه اليوم مجرد قصة حب، حول شاب رحل وهو في الثلاثين من عمره، انقضت ثلاثة عشر عاما من الحب، وكان ذلك الشخص هو زوجي. اسمه الأسباني خوسيه، اخترت له اسم "خه شي 荷西" ليكون اسمه الصيني. في الحقيقة، جاء اختيار هذا الاسم لسهولة كتابته. ولكن إذا كان قد عرفه الجميع شخصيا، لا بد أنهم كانوا سيجمعون على أن يتغير اسمه إلى "خه شي 和羲"، فالرمز الأول ينطق "خه" وهو المستخدم في كلمة "سعيد"، أما المقطع الثاني من اسمه والذي ينطق "شي" فهو الرمز الثاني لكلمة شروق الشمس؛ لأنه كان كذلك بالفعل. ولكنه كان يقول إن الرمز الثاني معقد للغاية في كتابته، فعجز عن تعلمه، لذلك علمته كتابة الاسم الذي تفوهت به بتلقائية، وهو 荷西 "خه شي".
ياله من فتى وسيم
ذات ليلة عيد فصح، كنت في منزل صديقة لي، حينما تعرفت على خوسيه. لم يكن عمره قد جاوز 18 عاما، وكان قد أتى لتوه إلى بعض أصدقائي الصينيين ليهنئهم أيضا بعيد الفصح. في أسبانيا، عندما تتجاوز الساعة 12 في ليلة عيد الفصح، يهنىء كل الجيران جيرانهم الذين يقطنون أسفل البناية وأعلاها، وهذا يشبه بعض الشيء تقليد التهنئة بالعام الجديد في موطني. عندما رأت عيناي خوسيه للمرة الأولى في تلك اللحظة التي كان يركض نازلا على السلالم، شعرت وكأن صاعقة حلت بي. جال في خاطري، كيف يمكن أن يكون هناك فتى بهذه الوسامة في الدنيا؟ لو كان بوسعي أن أصير زوجة له في يوم من الأيام، فقطعا سيشبع ذلك كبرياء القلب وغروره. كان هذا انطباعي الأول عنه.
لم يمر وقت طويل، حتى أصبحت أتردد باستمرار على بيت هذه الصديقة، وكان خوسيه يسكن بجواره. كان هناك فناء كبير خلف البناية، فدائما ما كنا نلعب فيه كرة البيسبول أو حرب الثلج في أيام تساقط الثلوج، وأحيانا كنا نذهب إلى سوق البضائع المستعملة للتجول معا. كانت جيوبنا خالية من النقود، وكنا عادة نذهب من الساعة التاسعة صباحا حتى الرابعة عصرا لنتجول هناك، ولم يكن بوسعنا شراء شىء سوى ريشة طائر. في ذلك الوقت كان خوسيه في الصف الثالث الثانوي، وكنت أنا في السنة الثالثة بالجامعة.
جاء ابن عمك
ذات يوم وبينما كنت في المسكن الجامعي أقرأ كتابا، جاءت صديقتي الأسبانية مهرولة وهي تخبرني: " أكو" (الاسم الذي كنت أعرف به في إسبانيا)، قد أتى "ابن عمك" الصغير أسفل البناية و يبحث عنكِ". "ابن عمك الصغير" في الإسبانية لها معنى تهكمي، لذلك لم تتوقف صديقاتي فيما بعد عن قول: "جاء ابن عمك الصغير، جاء ابن عمك الصغير".
انتابني شعور بالدهشة الشديدة، فليس لدي ابن عم صغير، من أين يكون لي ابن عم في إسبانيا؟ ركضت جهة الشرفة لأرى، فرأيت خوسيه يحتضن بذراعيه بضعة كتب، يعتصر بقبضة يده قبعته الفرنسية التي كان يرتديها دائما، ويعصرها بقلق وكأن سيخرج منها الماء.
ولأنه كان صغيرالسن، لم يجرؤ على الدخول إلى صالة الضيوف، لذلك وقف تحت شجرة ضخمة في فناء الكلية ينتظرني. عندما رأيت أنه هو، نزلت مسرعة حتى وصلت إلى أمامه وكنت غاضبة بعض الشيء، فدفعته بيدي وأنا أقول له: "ما الذي أتى بكَ؟"
لم ينبس ولو بكلمة، فسرعان ما تابعت بسؤال آخر: "ألم تنته من دروسك بعد؟" فأجابني: "لا أريد حضور آخر حصتين". سألته مجددا: "لماذا جئت؟"
ولأنني كنت أشعر دائما أن هناك فرقا كبيرا بيننا في السن، كنت استخدم باستمرار لهجة الأخت الكبيرة لنصحه. أخرج من جيبه 14 بيزيتا إسبانية، ثم قال: "معي 14 بيزيتا، فهذا كاف جدا لشراء تذكرتين، فلنذهب إلى مشاهدة فيلم، اتفقنا؟ ولكننا سنذهب مشيا على الأقدام؛ لأنني لا أملك أجرة المواصلات."
رمقته بنظرة. أنا إنسانة حساسة جدا، شعرت أن هذا الفتى الصغير ليس مناسبا نوعا ما، ولكنني رغم ذلك وافقته، بل واقترحت عليه أن نذهب لمشاهدة فيلم في سينما قريبة، وبهذا لن نحتاج إلى نقود للمواصلات. في اليوم التالي أتى مجددا هاربا من دروسه، وكرر ذلك في اليوم الثالث والرابع.
أصبح هذا الفتى الذي يقف تحت تلك الشجرة معلقا بيده هذه القبعة الفرنسية، والتي لم يكن يرتديها، مزحة سكن الطالبات، فكن دائما يصحن: "جاء ابن عمك الصغير!". وفي كل مرة أنزل فيها من المبنى، كنت أدفع خوسيه أو أضربه بخفة قائلة له: "لا تأت بعد ذلك، لا يجوز أن تهرب من دروسك بهذا الشكل!"، فقد كان دائما لا يحضر آخر حصتين، ويأتي لرؤيتي.
ولأن أحدا منا لم يكن يمتلك نقودا، فكان كل ما نفعله هو التجول في الشوارع، أحيانا كنا نذهب إلى القصر الملكي للتنزه هناك. كان خوسيه يلتقط المخلفات من صناديق القمامة ويقول مندهشًا: "انظري إلى هذا المسمار ! واو! كم هو جميل! انظري إلى ذلك....... ". شعرت شيئا فشيئا أن هذه العلاقة لا سبيل لها أن تتطور؛ لأن هذا الفتى جاد جدا، بل ويقف مكبل اليدين وعاجزا أمامي، فهو لم يلتحق بالجامعة بعد. ولأكون صريحة، كان قلبي في الحقيقة يميل إليه.
انتظريني ست سنوات
ذات يوم، كان الجو قارس البرودة، ولم يكن هناك مكان نذهب إليه، فقمنا بنقل دكة من الشارع إلى نفق، حيث توجد هواية لعادم السيارات، فعندما كانت تمر السيارات كان ينبعث منها هواء ساخن، فيسري الدفء في أجسادنا. كنا أشبه بالشحاذين ونحن نجلس متجمدين من البرد على تلك الدكة. حينها قلت لخوسيه: "اعتبارا من اليوم، لا تأت للبحث عني". لماذا قلت له مثل هذا الكلام؟ لأنه كان جالسا إلى جواري وقال لي بمنتهى الجدية: "انتظريني ست سنوات، حتى أدرس أربع سنوات بالجامعة، ثم ألتحق بالجيش لسنتين، وبعد ست سنوات يمكننا أن نتزوج. ما أحلم به طيلة حياتي هو أن يصبح لي بيت صغير، وبه زوجة مثلك، وأسعى أنا لكسب المال لأنفقه عليك، فهذا أسعد حلم في حياتي كلها." ثم قال: "أنا لا أشعر بالدفء العائلي في بيتي."
عندما سمعت حلمه هذا، تملكتني بغتة رغبة ملحة في البكاء. قلت له: "خوسيه، أنت لم تتجاوز الثامنة عشرة، وأنا أكبر منك بكثير، أتمنى ألا تحلم هذا الحلم ثانية، ومن اليوم فصاعدا، لا تأت لرؤيتي. إذا وقفت تحت هذه الشجرة مرة أخرى ، فلن أخرج إليك، لأن في الواقع ست سنوات فترة زمنية طويلة جدا، وأنا لا أعرف أين سأكون حينذاك، وكذلك ليس بمقدوري انتظارك ست سنوات. يجب أن تسمع كلامي، لا يمكنك أن تأتي لمضايقتي، وإن فعلت فسأشعر بالخوف."
ذُهل لوهلة، وسأل: "هل صدر مني تصرف خاطيء في الفترة الأخيرة ؟" قُلت له: "لا لم تفعل شيئا. أنا أقول لك هذا الكلام؛ لأنك بالفعل إنسان جيد جدا، ولكنني لا أريدك أن تتواصل معي مرة أخرى." بعد ذلك نهضت واقفة، وهو أيضا وقف معي، مشينا معا، حتى وصلنا إلى حديقة قصر مدريد الملكي. كان في الحديقة منحدر صغير، قلت له: "سأقف هنا وأراك وأنت تغادر، فهذه هي المرة الأخيرة التي سأراك فيها، ولن تعود أبدا." قال: "من الأفضل أن أقف أنا هنا وأشاهدك وأنتِ تغادرين." قلت:" لا! لا !لا! أنا سأقف هنا وأشاهدك وأنتَ تغادر، بل عليك أن تسمع ما أقوله، لا يمكنك أن تعود مرة أخرى." في تلك اللحظة خشيت أن يأتي بعد ذلك للبحث عني، فقلت مؤكدة عليه: "لا تأت للبحث عني، فمن الآن ، سأخرج مع زميلي في الصف، لن يكون بوسعي أن أخرج معك مرة ثانية." بمجرد أن تكلمت بهذا الأسلوب، انتابني التوتر؛ لأنني خشيت أن أكون قد جرحت هذا الفتى الذي وقع في الحب للمرة الأولى، فمشاعر الناس الذين يعشقون للمرة الأولى تكون دائما ضعيفة وهشة. قال: "حسنا، لن أضايقك مرة ثانية، وأنتِ أيضا لا تعتبريني طفلا صغيرا، فأنت خلال الأسابيع التي تواصلنا فيها كنتِ دائما تتعاملين معي على أنني طفل صغير. أنت قلتِ لا تأت للبحث عني مرة أخرى، فعقدت النية ألا أحضر أبدا ا للبحث عنكِ سوى برضاك وبرغبة منك."
مع السلامة أكو
عندما انتهينا من هذا الحديث، كان الوقت متأخرا للغاية. بدأ خوسيه يركض ببطء، تارة يجري، وأخرى ينظر إلى الخلف، كان وجهه مازال مبتسما، وكان يصيح: "مع السلامة يا أكو، مع السلامة يا أكو." كنت أقف هناك وأشاهده. كان الثلج نادرا ما يتساقط في مدريد، ولكن في تلك الليلة، تساقط الثلج من السماء. كان خوسيه يجري على هذا المنحدر الكبير المكسو بالحشائش، ويلوح بيده وبقبعته الفرنسية، ويلتفت إلى الوراء مرارا، بينما كنت أقف هناك وأرى خوسيه المتلاشي رويدا رويدا وسط حلكة الليل وبياض ندفات الثلج القطنية. تماما في تلك اللحظة، كنت على وشك أن أصيح: "خوسيه، فلتعد!" ولكنني لم أقل. فيما بعد، كلما كنت أقرأ رواية ((حلم القصور الحمراء))، وأصل مشهد خروج "باو يو" من البيت، كانت ترتسم أمام عيني صورة خوسيه وهو في الثامنة عشرة من عمره، يركض على الأرض الثلجية الشاسعة، ويصيح باسمي: "مع السلامة يا أكو."
بعد أن غادر راكضا، لم يأت بالفعل مرة ثانية للبحث عني، ولا لمضايقني. عندما كنت أخرج مع زميل آخر لي، كنت أصادفه أحيانا، وعندما كان يراني كان يستخدم اللغة الإسبانية ليحيني، ممسكا بكلتا يداي، ويقبل وجنتي، ثم يقول "مرحبا!" وأرد أنا أيضا: "مرحبا خوسيه، هذا رفيقي فلان "، فكان يصافحه أيضا.
أطلق لحيته، قد كبر!
هذا الوداع، امتد ست أعوام. انتهيت من دراستي وغادرت إسبانيا، وعدت إلى تايوان. وأنا في تايوان، جاء صديق إسباني لزيارتي، وقال: " هل تتذكرين خوسيه!" قلت: "أتذكره!" فقال: "أوه! قد تغير كثيرا الآن، أطلق لحيته، وكبر أيضا." واستطرد قائلا: معي رسالة منه لكِ، وهناك أيضا صورة، أتودين قراءتها؟" قلت والدهشة تتملكني: "حسنا، إنه مازال باقيا في قلبي وأفتقده." ولكن سرعان ما قال ذلك الصديق: "إذا كنتِ قد نسيته، فلا داعي لقراءة هذه الرسالة." أجبت: "لا أحد يعلم. إن هذا الشخص مازال محفورا في ذاكرتي، لم أنسه، ولكنني فقط كنت أشعر أنه أصغر مني، فرأيت أنه لا داعي أن أجرح قلبه إذا كان جادا." وبينما كنت أتناول الرسالة من يد الصديق، سقطت منها صورة لشاب ذي لحية كثة يرتدي ملابس السباحة ويمسك سمكة في البحر، قلت على الفور: "هذا إله البحر الموجود في الأساطير الإغريقية." فتحت الرسالة فقرأت فيها: "مرت سنوات كثيرة جدا، ربما أنت نسيِتِ اللغة الإسبانية، ولكنني أريد أن أفصح لكِ عن سر، في تلك الليلة التي تساقط فيها الثلج وكان عمري 18 سنة، وقلت لي إنكِ لن تلتقي بي مجددا، هل تعرفين أن ذلك الفتى سالت دموعه طوال الليل على وسادته، بل وكان يريد الانتحار؟ هل لا تزالين تتذكرنني، بعد مرور هذه السنوات؟ أنا وأنت على موعد أقصاه ست سنوات." لم أرد على هذه الرسالة ونحيتها جانبا، وقلت لهذا الصديق: "قل له إنني قد تلقيت رسالته، واشكره نيابة عني." بعد نصف سنة، تعرضت لبعض الانتكاسات العاطفية، فغادرت تايوان عائدة إلى إسبانيا مرة أخرى. (البقية في العدد القادم)
سان ماو، كاتبة صينية من تايوان، تزوجت من إسباني اسمه خوسيه ماريا كيرو، يصغرها بثماني سنوات، وعاشت معه قصة حب رائعة انتهت نهاية مأساوية عندما مات غرقا.
مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر.
ياله من فتى وسيم
ذات ليلة عيد فصح، كنت في منزل صديقة لي، حينما تعرفت على خوسيه. لم يكن عمره قد جاوز 18 عاما، وكان قد أتى لتوه إلى بعض أصدقائي الصينيين ليهنئهم أيضا بعيد الفصح. في أسبانيا، عندما تتجاوز الساعة 12 في ليلة عيد الفصح، يهنىء كل الجيران جيرانهم الذين يقطنون أسفل البناية وأعلاها، وهذا يشبه بعض الشيء تقليد التهنئة بالعام الجديد في موطني. عندما رأت عيناي خوسيه للمرة الأولى في تلك اللحظة التي كان يركض نازلا على السلالم، شعرت وكأن صاعقة حلت بي. جال في خاطري، كيف يمكن أن يكون هناك فتى بهذه الوسامة في الدنيا؟ لو كان بوسعي أن أصير زوجة له في يوم من الأيام، فقطعا سيشبع ذلك كبرياء القلب وغروره. كان هذا انطباعي الأول عنه.
لم يمر وقت طويل، حتى أصبحت أتردد باستمرار على بيت هذه الصديقة، وكان خوسيه يسكن بجواره. كان هناك فناء كبير خلف البناية، فدائما ما كنا نلعب فيه كرة البيسبول أو حرب الثلج في أيام تساقط الثلوج، وأحيانا كنا نذهب إلى سوق البضائع المستعملة للتجول معا. كانت جيوبنا خالية من النقود، وكنا عادة نذهب من الساعة التاسعة صباحا حتى الرابعة عصرا لنتجول هناك، ولم يكن بوسعنا شراء شىء سوى ريشة طائر. في ذلك الوقت كان خوسيه في الصف الثالث الثانوي، وكنت أنا في السنة الثالثة بالجامعة.
جاء ابن عمك
ذات يوم وبينما كنت في المسكن الجامعي أقرأ كتابا، جاءت صديقتي الأسبانية مهرولة وهي تخبرني: " أكو" (الاسم الذي كنت أعرف به في إسبانيا)، قد أتى "ابن عمك" الصغير أسفل البناية و يبحث عنكِ". "ابن عمك الصغير" في الإسبانية لها معنى تهكمي، لذلك لم تتوقف صديقاتي فيما بعد عن قول: "جاء ابن عمك الصغير، جاء ابن عمك الصغير".
انتابني شعور بالدهشة الشديدة، فليس لدي ابن عم صغير، من أين يكون لي ابن عم في إسبانيا؟ ركضت جهة الشرفة لأرى، فرأيت خوسيه يحتضن بذراعيه بضعة كتب، يعتصر بقبضة يده قبعته الفرنسية التي كان يرتديها دائما، ويعصرها بقلق وكأن سيخرج منها الماء.
ولأنه كان صغيرالسن، لم يجرؤ على الدخول إلى صالة الضيوف، لذلك وقف تحت شجرة ضخمة في فناء الكلية ينتظرني. عندما رأيت أنه هو، نزلت مسرعة حتى وصلت إلى أمامه وكنت غاضبة بعض الشيء، فدفعته بيدي وأنا أقول له: "ما الذي أتى بكَ؟"
لم ينبس ولو بكلمة، فسرعان ما تابعت بسؤال آخر: "ألم تنته من دروسك بعد؟" فأجابني: "لا أريد حضور آخر حصتين". سألته مجددا: "لماذا جئت؟"
ولأنني كنت أشعر دائما أن هناك فرقا كبيرا بيننا في السن، كنت استخدم باستمرار لهجة الأخت الكبيرة لنصحه. أخرج من جيبه 14 بيزيتا إسبانية، ثم قال: "معي 14 بيزيتا، فهذا كاف جدا لشراء تذكرتين، فلنذهب إلى مشاهدة فيلم، اتفقنا؟ ولكننا سنذهب مشيا على الأقدام؛ لأنني لا أملك أجرة المواصلات."
رمقته بنظرة. أنا إنسانة حساسة جدا، شعرت أن هذا الفتى الصغير ليس مناسبا نوعا ما، ولكنني رغم ذلك وافقته، بل واقترحت عليه أن نذهب لمشاهدة فيلم في سينما قريبة، وبهذا لن نحتاج إلى نقود للمواصلات. في اليوم التالي أتى مجددا هاربا من دروسه، وكرر ذلك في اليوم الثالث والرابع.
أصبح هذا الفتى الذي يقف تحت تلك الشجرة معلقا بيده هذه القبعة الفرنسية، والتي لم يكن يرتديها، مزحة سكن الطالبات، فكن دائما يصحن: "جاء ابن عمك الصغير!". وفي كل مرة أنزل فيها من المبنى، كنت أدفع خوسيه أو أضربه بخفة قائلة له: "لا تأت بعد ذلك، لا يجوز أن تهرب من دروسك بهذا الشكل!"، فقد كان دائما لا يحضر آخر حصتين، ويأتي لرؤيتي.
ولأن أحدا منا لم يكن يمتلك نقودا، فكان كل ما نفعله هو التجول في الشوارع، أحيانا كنا نذهب إلى القصر الملكي للتنزه هناك. كان خوسيه يلتقط المخلفات من صناديق القمامة ويقول مندهشًا: "انظري إلى هذا المسمار ! واو! كم هو جميل! انظري إلى ذلك....... ". شعرت شيئا فشيئا أن هذه العلاقة لا سبيل لها أن تتطور؛ لأن هذا الفتى جاد جدا، بل ويقف مكبل اليدين وعاجزا أمامي، فهو لم يلتحق بالجامعة بعد. ولأكون صريحة، كان قلبي في الحقيقة يميل إليه.
انتظريني ست سنوات
ذات يوم، كان الجو قارس البرودة، ولم يكن هناك مكان نذهب إليه، فقمنا بنقل دكة من الشارع إلى نفق، حيث توجد هواية لعادم السيارات، فعندما كانت تمر السيارات كان ينبعث منها هواء ساخن، فيسري الدفء في أجسادنا. كنا أشبه بالشحاذين ونحن نجلس متجمدين من البرد على تلك الدكة. حينها قلت لخوسيه: "اعتبارا من اليوم، لا تأت للبحث عني". لماذا قلت له مثل هذا الكلام؟ لأنه كان جالسا إلى جواري وقال لي بمنتهى الجدية: "انتظريني ست سنوات، حتى أدرس أربع سنوات بالجامعة، ثم ألتحق بالجيش لسنتين، وبعد ست سنوات يمكننا أن نتزوج. ما أحلم به طيلة حياتي هو أن يصبح لي بيت صغير، وبه زوجة مثلك، وأسعى أنا لكسب المال لأنفقه عليك، فهذا أسعد حلم في حياتي كلها." ثم قال: "أنا لا أشعر بالدفء العائلي في بيتي."
عندما سمعت حلمه هذا، تملكتني بغتة رغبة ملحة في البكاء. قلت له: "خوسيه، أنت لم تتجاوز الثامنة عشرة، وأنا أكبر منك بكثير، أتمنى ألا تحلم هذا الحلم ثانية، ومن اليوم فصاعدا، لا تأت لرؤيتي. إذا وقفت تحت هذه الشجرة مرة أخرى ، فلن أخرج إليك، لأن في الواقع ست سنوات فترة زمنية طويلة جدا، وأنا لا أعرف أين سأكون حينذاك، وكذلك ليس بمقدوري انتظارك ست سنوات. يجب أن تسمع كلامي، لا يمكنك أن تأتي لمضايقتي، وإن فعلت فسأشعر بالخوف."
ذُهل لوهلة، وسأل: "هل صدر مني تصرف خاطيء في الفترة الأخيرة ؟" قُلت له: "لا لم تفعل شيئا. أنا أقول لك هذا الكلام؛ لأنك بالفعل إنسان جيد جدا، ولكنني لا أريدك أن تتواصل معي مرة أخرى." بعد ذلك نهضت واقفة، وهو أيضا وقف معي، مشينا معا، حتى وصلنا إلى حديقة قصر مدريد الملكي. كان في الحديقة منحدر صغير، قلت له: "سأقف هنا وأراك وأنت تغادر، فهذه هي المرة الأخيرة التي سأراك فيها، ولن تعود أبدا." قال: "من الأفضل أن أقف أنا هنا وأشاهدك وأنتِ تغادرين." قلت:" لا! لا !لا! أنا سأقف هنا وأشاهدك وأنتَ تغادر، بل عليك أن تسمع ما أقوله، لا يمكنك أن تعود مرة أخرى." في تلك اللحظة خشيت أن يأتي بعد ذلك للبحث عني، فقلت مؤكدة عليه: "لا تأت للبحث عني، فمن الآن ، سأخرج مع زميلي في الصف، لن يكون بوسعي أن أخرج معك مرة ثانية." بمجرد أن تكلمت بهذا الأسلوب، انتابني التوتر؛ لأنني خشيت أن أكون قد جرحت هذا الفتى الذي وقع في الحب للمرة الأولى، فمشاعر الناس الذين يعشقون للمرة الأولى تكون دائما ضعيفة وهشة. قال: "حسنا، لن أضايقك مرة ثانية، وأنتِ أيضا لا تعتبريني طفلا صغيرا، فأنت خلال الأسابيع التي تواصلنا فيها كنتِ دائما تتعاملين معي على أنني طفل صغير. أنت قلتِ لا تأت للبحث عني مرة أخرى، فعقدت النية ألا أحضر أبدا ا للبحث عنكِ سوى برضاك وبرغبة منك."
مع السلامة أكو
عندما انتهينا من هذا الحديث، كان الوقت متأخرا للغاية. بدأ خوسيه يركض ببطء، تارة يجري، وأخرى ينظر إلى الخلف، كان وجهه مازال مبتسما، وكان يصيح: "مع السلامة يا أكو، مع السلامة يا أكو." كنت أقف هناك وأشاهده. كان الثلج نادرا ما يتساقط في مدريد، ولكن في تلك الليلة، تساقط الثلج من السماء. كان خوسيه يجري على هذا المنحدر الكبير المكسو بالحشائش، ويلوح بيده وبقبعته الفرنسية، ويلتفت إلى الوراء مرارا، بينما كنت أقف هناك وأرى خوسيه المتلاشي رويدا رويدا وسط حلكة الليل وبياض ندفات الثلج القطنية. تماما في تلك اللحظة، كنت على وشك أن أصيح: "خوسيه، فلتعد!" ولكنني لم أقل. فيما بعد، كلما كنت أقرأ رواية ((حلم القصور الحمراء))، وأصل مشهد خروج "باو يو" من البيت، كانت ترتسم أمام عيني صورة خوسيه وهو في الثامنة عشرة من عمره، يركض على الأرض الثلجية الشاسعة، ويصيح باسمي: "مع السلامة يا أكو."
بعد أن غادر راكضا، لم يأت بالفعل مرة ثانية للبحث عني، ولا لمضايقني. عندما كنت أخرج مع زميل آخر لي، كنت أصادفه أحيانا، وعندما كان يراني كان يستخدم اللغة الإسبانية ليحيني، ممسكا بكلتا يداي، ويقبل وجنتي، ثم يقول "مرحبا!" وأرد أنا أيضا: "مرحبا خوسيه، هذا رفيقي فلان "، فكان يصافحه أيضا.
أطلق لحيته، قد كبر!
هذا الوداع، امتد ست أعوام. انتهيت من دراستي وغادرت إسبانيا، وعدت إلى تايوان. وأنا في تايوان، جاء صديق إسباني لزيارتي، وقال: " هل تتذكرين خوسيه!" قلت: "أتذكره!" فقال: "أوه! قد تغير كثيرا الآن، أطلق لحيته، وكبر أيضا." واستطرد قائلا: معي رسالة منه لكِ، وهناك أيضا صورة، أتودين قراءتها؟" قلت والدهشة تتملكني: "حسنا، إنه مازال باقيا في قلبي وأفتقده." ولكن سرعان ما قال ذلك الصديق: "إذا كنتِ قد نسيته، فلا داعي لقراءة هذه الرسالة." أجبت: "لا أحد يعلم. إن هذا الشخص مازال محفورا في ذاكرتي، لم أنسه، ولكنني فقط كنت أشعر أنه أصغر مني، فرأيت أنه لا داعي أن أجرح قلبه إذا كان جادا." وبينما كنت أتناول الرسالة من يد الصديق، سقطت منها صورة لشاب ذي لحية كثة يرتدي ملابس السباحة ويمسك سمكة في البحر، قلت على الفور: "هذا إله البحر الموجود في الأساطير الإغريقية." فتحت الرسالة فقرأت فيها: "مرت سنوات كثيرة جدا، ربما أنت نسيِتِ اللغة الإسبانية، ولكنني أريد أن أفصح لكِ عن سر، في تلك الليلة التي تساقط فيها الثلج وكان عمري 18 سنة، وقلت لي إنكِ لن تلتقي بي مجددا، هل تعرفين أن ذلك الفتى سالت دموعه طوال الليل على وسادته، بل وكان يريد الانتحار؟ هل لا تزالين تتذكرنني، بعد مرور هذه السنوات؟ أنا وأنت على موعد أقصاه ست سنوات." لم أرد على هذه الرسالة ونحيتها جانبا، وقلت لهذا الصديق: "قل له إنني قد تلقيت رسالته، واشكره نيابة عني." بعد نصف سنة، تعرضت لبعض الانتكاسات العاطفية، فغادرت تايوان عائدة إلى إسبانيا مرة أخرى. (البقية في العدد القادم)
سان ماو، كاتبة صينية من تايوان، تزوجت من إسباني اسمه خوسيه ماريا كيرو، يصغرها بثماني سنوات، وعاشت معه قصة حب رائعة انتهت نهاية مأساوية عندما مات غرقا.
مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر.