أدب أندلسي صلاح فضل - لغة الموشحات

إلى جانب التنضيد الموسيقي الذي جعل علماء العربية يعتبرون الموشحات خارجة على الأعراف الأدبية، هناك تنويع لغوي باعد بينها وبين هذه التقاليد الصارمة، ويتمثل في أمرين:

أحدهما بناء الموشحة في الأغلب على خرجة أعجمية أو عامية، مأخوذة من الأغاني الشعبية المتداولة، واعتبارها مركزاً تنتهي إليه المقاطع وتصب فيه دلالة الكلام. والآخر يتمثل في التبسط اللغوي والتساهل التعبيري الذي يشيع في صلب الموشحة بإجازة لغة الحياة بعد تفصيحها وإعرابها، بحيث تبدو بعض العبارات وكأنها منقولة من حوارات يومية، أو مسكنة الآواخر، أو منطوقة بطريقة قد روعيت فيها الأصوات الدارجة والنبرات المألوفة، ولنكمل موشحة ابن رافع رأسه حيث يقول:

ياسائلاً عنه / الصباح والدَّجنُ
استرقا منهُ / الكثيب والغصنُ
ليس له كنهُ / غير أنه الحسنُ
أحلى من الأمن / ريقه لذي رشفِ
بريقه يوسى / من سحر بالطرفِ

فتوالي التشبيهات المعهودة من وجه كالصبح وشعر كالليل وردف مثل الكثيب وقوام كالغصن، كل هذا متداول معهود في الأوصاف الشعرية، يجعل من الحبيب نموذجاً للحسن كله والجمال بأكمله، ولكن الصورة تكتسب طرافتها العامية بالكلمات التي سكنت أواخرها والريق الذي يكون أحلى من الأمن، يشفى به المسحور من نظرة /الطرف، هنا نجد النكهة الشعبية الأصيلة، ثم يأتي البيت الرابع أو الفقرة الرابعة لتقول:

يا أشبه القوم / بالفتى ابن راحيلِ
أقصر عن لومى / مذ رآك عذولي
هب لي من نومي / كهبات باقيلِ
أجلو من الحسن / قبل رجعة الطرفِ
من عرش بلقيس / قد دنت بالنصفِ

فهل انتقل هنا من الغزل إلى المدح والتماس العطايا والهبات، ومن هما ابن راحيل وباقيل اللذين يشير اسماهما إلى يهوديتهما؟ يحتاج الأمر إلى تدقيق تاريخي موسع لاستجلاء هذه الإشارات الثقافية التي عرضت خلال الغزل، لكنه يعود في النهاية ليشيد بالجمال الذي يبهرك بانخطافته، كما حدث مع العفريت الذي جاء سليمان بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه.

وتأتي الفقرة ـ أو البيت الخامس الأخير ـ دون خرجة:

كم قلت للسقيم / إذ أضرّ بي فيه
دونك ذا جسمى / فدية .. لفاديه
يا جائرُ الحكيم / ها أنا أفدّيه
فكم شفى منّي / برضابه الصِّرفِ
ما لم يكن عيش / يستطيع أن يشفي

فيصر الشاعر على أن يعود مرة أخرى للرضاب الذي يشفي من السقم بأكثر مما كانت معجزات عيش تستطيع أن تفعل مع المرضى، فنلاحظ مرة أخرى توظيف التراث الديني بحضوره الكثيف في مجتمع متمازج الأديان، والتغني بظلم الحبيب وجوره عوضاً عن التعريض بظلم الولاة والحكام، لكنه يمتاح من الذاكرة الشعبية، وينوّع في النبرات الموسيقة واللغوية، ويكاد يقترب من طبيعة الغناء، وهذا مصدر طرافة الموشحات.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...