إحياء لذكرى وفاة الفيلسوف الفرنسي رولان بارت المتوفى في 25 مارس 1980، أعاد المركز القومي للترجمة في القاهرة إصدار طبعة جديدة من كتابه القيم "الغرفة المضيئة.. تأملات في الفوتوغرافيا"، عن ترجمة لهالة نمر، وترجع أهمية الكتاب إلى كونه من أولى الدراسات النقدية التي تناولت مفهوم الصورة الفوتوغرافية من منظور تحليلي وبرؤية فلسفية خاصة.
العرب ناهد خزام [نُشر في 2017/03/06، العدد: 10563، ص(14)]
صورة جيروم الأخ الأصغر لنابليون أدهشت بارت
يحتل الناقد الفرنسي رولان بارت مكانة هامة في تاريخ الدراسات النقدية، ويدرك المعنيون في هذا المجال أهميته كواحد من بين أبرز النقاد والمنظرين الاجتماعيين في القرن العشرين، وبارت الذي ولد في نوفمبر عام 1915، وتوفي في مارس عام 1980، اتسعت أعماله لتشمل حقولا فكرية عديدة، وهو الذي أثر في تطور مدارس عدة كالبنيوية وما بعد البنيوية والماركسية والوجودية، بالإضافة إلى تأثيره في تطور علم الدلالة.
ومن أعمال بارت المترجمة إلى العربية: "عناصر السيميولوجيا" و"الدرجة الصفر للكتابة" و"لذة النص" و"المعنى الثالث" و"أساطير الحياة اليومية" وأخيرا أعاد المركز القومي للترجمة في القاهرة إصدار طبعة جديدة من كتابه “الغرفة المضيئة.. تأملات في الفوتوغرافيا” عن ترجمة لهالة نمر، إحياء لذكرى وفاة الفيلسوف الفرنسي الـ37.
الصورة خارج التصنيف
ترجع أهمية الكتاب إلى كونه من أول الدراسات النقدية التي تناولت مفهوم الصورة الفوتوغرافية من منظور تحليلي وبرؤية فلسفية خاصة، ويقدم فيه بارت صورة ذاتية في التصور والفكر عن الفوتوغرافيا كظاهرة.
وفي حين يهدي كتابه إلى خيال جان بول سارتر الذي تأثر به، يشير في مقدمته إلى الأسباب التي دعته إلى التوقف أمام الصورة الفوتوغرافية وبداية اهتمامه بها، منذ اللحظة الأولى التي وقعت في يده صورة "جيروم" الأخ الأصغر لنابليون، وهي صورة تعود إلى عام 1852، وهو تاريخ قريب من سنوات ظهور الفوتوغرافيا ثم تطورها المتسارع في ما بعد.
لم يستطع بارت حينها أن يخفي هذه الدهشة التي ألمت به، كما يقول، وهو ينظر إلى العيون التي رأت الإمبراطور، ظلت الصورة الفوتوغرافية منذ ذلك اليوم تحمل دهشتها الخاصة لديه، كما ظلت ملامحها عنيدة عن التصنيف بين عالم الصور، فالصورة الفوتوغرافية من وجهة نظره تحمل عبقريتها الخاصة بها، وتقدم على مستوى تخيلي هذه اللحظة شديدة الغموض بين الموت والحياة.
يطرح الكتاب العديد من الأفكار التأملية الباعثة على الشك والبحث والتساؤل، من دون أن يقدم إجابات حاسمة أو واضحة في صورتها الكلية، بل ومضات فكرية نابضة.
الكتاب يعد من أولى الدراسات النقدية التي تناولت مفهوم الصورة الفوتوغرافية من منظور تحليلي وبرؤية فلسفية
تعامل بارت مع الفوتوغرافيا كموضوع أنثروبولوجي جديد يثير تساؤلات عن طبيعة الصورة وماهيتها، كما يميل إلى اعتبار الفوتوغرافيا وسيطا أقرب للمسرح منه إلى الرسم، حيث يقول في كتابه "هناك رابط يبعث على التأمل حقا بين المسرح والصورة الفوتوغرافية، ألا وهو الموت! فالفوتوغرافيا تتصل في شيء ما بالبعث، كما أن الصورة الفوتوغرافية هي مثل مسرح بدائي، مثل لوحة حية، مثل مجازية الوجه الساكن المخضب الذي نرى الموتى تحته، كما يلزم على الفوتوغرافيا أن تكون صامتة، فهي ليست مسألة رصانة، ولكن مسألة موسيقى، إذ لا يمكن الوصول إلى الذاتية المطلقة سوى في حالة الصمت".
تحت عنوان "الصورة خارج التصنيف" يذهب بارت إلى أن الصورة كانت دائما عصية على التصنيف، فمعظم التصنيفات التي خضعت لها الصورة منذ ظهورها "إما إمبريقية (محترفون وهواة)، وإما بلاغية (مناظر طبيعية، أشياء، بورتريهات، عراة)، وإما جمالية (واقعية، تصويرية)، وهي جميعا خارج الموضوع من دون علاقة بماهيته".
وحين يخلص بارت إلى تلك النظرة يجد نفسه أمام تساؤل عما تستند إليه هذه الفوضى، ليذهب إلى تتبع مجموعة السمات التي تختص بها الفوتوغرافيا دون غيرها، ويقول بارت "أول شيء وجدته هو أن ما تنسخه الصورة الفوتوغرافية إلى ما لا نهاية لم يحدث سوى مرة واحدة: إنها تكرر ميكانيكيا ما لا يمكن أن يتكرر وجوديا، في الصورة لا يعبر الحدث مطلقا نحو شيء آخر: تعيد الصورة دائما الجزء الذي أحتاجه للكل الذي أراه، الصورة هي الخاص المطلق، والعرض الأسمى، باهتة وبشكل ما ساذجة، كما لا توجد صورة دون شيء ما أو شخص ما".
وتجر هذه الحتمية الأخيرة إلى الفوضى العارمة للأشياء، كما يقول، وتدعوه إلى التساؤل مجددا “لماذا نصور هذا الموضوع في تلك اللحظة، دون غيرها؟”، ويخلص إلى أن الفوتوغرافيا لا تخضع للتصنيف، لأنه ليس هناك أي سبب لوسم هذا الحدث أو ذاك.
صورة ذاتية في التصور والفكر عن الفوتوغرافيا كظاهرة
مباغتة بهلوانية
يتناول بارت في كتابه عددا من التصنيفات الفوتوغرافية، ومن بينها الصورة الإعلامية، ويصل إلى استنتاج، وهو أن الحركة الأساسية للمصور هنا هي مفاجأة شيء ما أو شخص ما، وأن هذه الحركة تكون بالتالي متقنة عندما تحدث دون علم الموضوع المصور، وأن معظم الصور الفوتوغرافية الجيدة التي يتم تداولها إعلاميا تنشأ عادة من هذه الحركة المباغتة، وهو في هذا السياق يُنحي جانبا تلك الصور التي تم التدخل في تفاصيلها عن طريق التحريفات التقنية، كما يٌنحي الصور العاطفية والمبهرة بصريا، وكذلك الصور التي تميل إلى الهزل.
ويقول بارت “يمكن للمصور أن ينسق المشهد الذي يرغب في التقاطه، إنما في عالم الإعلام المرئي يعد المشهد طبيعيا حين يمتلك الصحافي فرصة المباغتة، مثل مفاجأة أمير في بزته وهو يتزلج على الجليد”.
فالمصور بالنسبة إلى بارت أشبه بـ"البهلوان"، لا بد أن يتحدى القوانين المحتملة أو حتى الممكنة إلى أقصى حد، إذ تصبح الصورة مذهلة في نظره، لأننا لا نعرف لماذا التقطت.
يعرج بارت إلى عدد من المواضيع الهامة في سياق بحثه الفلسفي والتأملي في الفوتوغرافيا كوضعية الجسد أمام الكاميرا، والدهشة التي تبعثها الصورة الفوتوغرافية في النفوس، وقدرتها على التوثيق وتخطيها للحظة الراهنة، ثم يتساءل في النهاية “هل الفوتوغرافيا مجنونة أم حكيمة؟"، ليجيب بنفسه "قد تكون الفوتوغرافيا هذا أو ذاك، فهي حكيمة لو أن واقعيتها تظل نسبية ومخففة بالعادات الجمالية أو التجريبية، ومجنونة لو أن هذه الواقعية مطلقة، أو أصلية تعمل على إعادة حرفية الزمن إلى الوجدان العاشق المرتعب".
العرب
العرب ناهد خزام [نُشر في 2017/03/06، العدد: 10563، ص(14)]
صورة جيروم الأخ الأصغر لنابليون أدهشت بارت
يحتل الناقد الفرنسي رولان بارت مكانة هامة في تاريخ الدراسات النقدية، ويدرك المعنيون في هذا المجال أهميته كواحد من بين أبرز النقاد والمنظرين الاجتماعيين في القرن العشرين، وبارت الذي ولد في نوفمبر عام 1915، وتوفي في مارس عام 1980، اتسعت أعماله لتشمل حقولا فكرية عديدة، وهو الذي أثر في تطور مدارس عدة كالبنيوية وما بعد البنيوية والماركسية والوجودية، بالإضافة إلى تأثيره في تطور علم الدلالة.
ومن أعمال بارت المترجمة إلى العربية: "عناصر السيميولوجيا" و"الدرجة الصفر للكتابة" و"لذة النص" و"المعنى الثالث" و"أساطير الحياة اليومية" وأخيرا أعاد المركز القومي للترجمة في القاهرة إصدار طبعة جديدة من كتابه “الغرفة المضيئة.. تأملات في الفوتوغرافيا” عن ترجمة لهالة نمر، إحياء لذكرى وفاة الفيلسوف الفرنسي الـ37.
الصورة خارج التصنيف
ترجع أهمية الكتاب إلى كونه من أول الدراسات النقدية التي تناولت مفهوم الصورة الفوتوغرافية من منظور تحليلي وبرؤية فلسفية خاصة، ويقدم فيه بارت صورة ذاتية في التصور والفكر عن الفوتوغرافيا كظاهرة.
وفي حين يهدي كتابه إلى خيال جان بول سارتر الذي تأثر به، يشير في مقدمته إلى الأسباب التي دعته إلى التوقف أمام الصورة الفوتوغرافية وبداية اهتمامه بها، منذ اللحظة الأولى التي وقعت في يده صورة "جيروم" الأخ الأصغر لنابليون، وهي صورة تعود إلى عام 1852، وهو تاريخ قريب من سنوات ظهور الفوتوغرافيا ثم تطورها المتسارع في ما بعد.
لم يستطع بارت حينها أن يخفي هذه الدهشة التي ألمت به، كما يقول، وهو ينظر إلى العيون التي رأت الإمبراطور، ظلت الصورة الفوتوغرافية منذ ذلك اليوم تحمل دهشتها الخاصة لديه، كما ظلت ملامحها عنيدة عن التصنيف بين عالم الصور، فالصورة الفوتوغرافية من وجهة نظره تحمل عبقريتها الخاصة بها، وتقدم على مستوى تخيلي هذه اللحظة شديدة الغموض بين الموت والحياة.
يطرح الكتاب العديد من الأفكار التأملية الباعثة على الشك والبحث والتساؤل، من دون أن يقدم إجابات حاسمة أو واضحة في صورتها الكلية، بل ومضات فكرية نابضة.
الكتاب يعد من أولى الدراسات النقدية التي تناولت مفهوم الصورة الفوتوغرافية من منظور تحليلي وبرؤية فلسفية
تعامل بارت مع الفوتوغرافيا كموضوع أنثروبولوجي جديد يثير تساؤلات عن طبيعة الصورة وماهيتها، كما يميل إلى اعتبار الفوتوغرافيا وسيطا أقرب للمسرح منه إلى الرسم، حيث يقول في كتابه "هناك رابط يبعث على التأمل حقا بين المسرح والصورة الفوتوغرافية، ألا وهو الموت! فالفوتوغرافيا تتصل في شيء ما بالبعث، كما أن الصورة الفوتوغرافية هي مثل مسرح بدائي، مثل لوحة حية، مثل مجازية الوجه الساكن المخضب الذي نرى الموتى تحته، كما يلزم على الفوتوغرافيا أن تكون صامتة، فهي ليست مسألة رصانة، ولكن مسألة موسيقى، إذ لا يمكن الوصول إلى الذاتية المطلقة سوى في حالة الصمت".
تحت عنوان "الصورة خارج التصنيف" يذهب بارت إلى أن الصورة كانت دائما عصية على التصنيف، فمعظم التصنيفات التي خضعت لها الصورة منذ ظهورها "إما إمبريقية (محترفون وهواة)، وإما بلاغية (مناظر طبيعية، أشياء، بورتريهات، عراة)، وإما جمالية (واقعية، تصويرية)، وهي جميعا خارج الموضوع من دون علاقة بماهيته".
وحين يخلص بارت إلى تلك النظرة يجد نفسه أمام تساؤل عما تستند إليه هذه الفوضى، ليذهب إلى تتبع مجموعة السمات التي تختص بها الفوتوغرافيا دون غيرها، ويقول بارت "أول شيء وجدته هو أن ما تنسخه الصورة الفوتوغرافية إلى ما لا نهاية لم يحدث سوى مرة واحدة: إنها تكرر ميكانيكيا ما لا يمكن أن يتكرر وجوديا، في الصورة لا يعبر الحدث مطلقا نحو شيء آخر: تعيد الصورة دائما الجزء الذي أحتاجه للكل الذي أراه، الصورة هي الخاص المطلق، والعرض الأسمى، باهتة وبشكل ما ساذجة، كما لا توجد صورة دون شيء ما أو شخص ما".
وتجر هذه الحتمية الأخيرة إلى الفوضى العارمة للأشياء، كما يقول، وتدعوه إلى التساؤل مجددا “لماذا نصور هذا الموضوع في تلك اللحظة، دون غيرها؟”، ويخلص إلى أن الفوتوغرافيا لا تخضع للتصنيف، لأنه ليس هناك أي سبب لوسم هذا الحدث أو ذاك.
صورة ذاتية في التصور والفكر عن الفوتوغرافيا كظاهرة
مباغتة بهلوانية
يتناول بارت في كتابه عددا من التصنيفات الفوتوغرافية، ومن بينها الصورة الإعلامية، ويصل إلى استنتاج، وهو أن الحركة الأساسية للمصور هنا هي مفاجأة شيء ما أو شخص ما، وأن هذه الحركة تكون بالتالي متقنة عندما تحدث دون علم الموضوع المصور، وأن معظم الصور الفوتوغرافية الجيدة التي يتم تداولها إعلاميا تنشأ عادة من هذه الحركة المباغتة، وهو في هذا السياق يُنحي جانبا تلك الصور التي تم التدخل في تفاصيلها عن طريق التحريفات التقنية، كما يٌنحي الصور العاطفية والمبهرة بصريا، وكذلك الصور التي تميل إلى الهزل.
ويقول بارت “يمكن للمصور أن ينسق المشهد الذي يرغب في التقاطه، إنما في عالم الإعلام المرئي يعد المشهد طبيعيا حين يمتلك الصحافي فرصة المباغتة، مثل مفاجأة أمير في بزته وهو يتزلج على الجليد”.
فالمصور بالنسبة إلى بارت أشبه بـ"البهلوان"، لا بد أن يتحدى القوانين المحتملة أو حتى الممكنة إلى أقصى حد، إذ تصبح الصورة مذهلة في نظره، لأننا لا نعرف لماذا التقطت.
يعرج بارت إلى عدد من المواضيع الهامة في سياق بحثه الفلسفي والتأملي في الفوتوغرافيا كوضعية الجسد أمام الكاميرا، والدهشة التي تبعثها الصورة الفوتوغرافية في النفوس، وقدرتها على التوثيق وتخطيها للحظة الراهنة، ثم يتساءل في النهاية “هل الفوتوغرافيا مجنونة أم حكيمة؟"، ليجيب بنفسه "قد تكون الفوتوغرافيا هذا أو ذاك، فهي حكيمة لو أن واقعيتها تظل نسبية ومخففة بالعادات الجمالية أو التجريبية، ومجنونة لو أن هذه الواقعية مطلقة، أو أصلية تعمل على إعادة حرفية الزمن إلى الوجدان العاشق المرتعب".
العرب