دان باغيس - المخّ.. شعر - ترجمة: بروفسور رؤوبين سنير

1‬
داخل ليل الجمجمة
يكتشف فجأة
أنه قد وُلد.
إنها حقّا لحظة صعبة.
ومنذ تلك اللحظة ما زال جدّ منزعج. يفكر
بأنه يفكر بأنه...
وهو يدور ويدور:
أين المفرّ؟
لو كانت أشياء هناك في عالم ما،
لكان يحبّها بكل تأكيد.
لكان يطلق الأسماء عليها جميعا.
على سبيل المثال؛ اسم واحد: المخّ.
هأنذا: المخّ: إنني هو.
ومنذ تلك اللحظة ما زال منفيّا، هكذا يبدو له:
كان بالإمكان إيجاد الراحة.

‮2
كيف يحرّك الظلام؟
المخّ يرفّ وحده على وجه الهاوية.
ولكن الآن ينشقّ في عظام الجبهة
جرحان عميقان، العينان -
العينان تُطلعانه سرّا
على العالم: فأمامه هنا يمتدّ
عالم بحت جامد
والمخّ يحلّق على ارتفاع لا
يزيد عن المتر وستين سنتمترا فوق الأرض!
ولكن، الآن بعد أن علم كل شيء،
يصيبه دوار الأعالي الفظيع:
متر وستون سنتمترا!
وحده فوق الهاوية.

3‬
الشكّ يساوره
أنه ليس في عالم الجمجمة كله
مخّ سواه.
وبعد ذلك، يساوره شكّ جديد:
أن يكون الكثير من الأمخاخ مسجونة في داخله،
مكتظّة جدا،
وهي تتفرّع عنه، تخونه من الداخل،
تطوّقه.
وهو لا يعلم ما هو أهون
الشرينّ.

4‬
صحيح إنه ليس جميلا، ولكن
مظهره شيّق:
التواءات داكنة-بيضاء،
شبه بدينة، تلتفّ على بعضها.
تجعّدات شعر الشيب داخل الجمجمة؟
كلاّ، المخّ لا يشبه
أي شيء في العالم، ربما
يشبه الأمعاء الدقيقة.

5‬
هذا جبل. هذه امرأة.
ولكن المخّ يحلّ الللغز في الحال:
ليس جبلا وإنما وادٍ معكوس.
ليس امرأة وإنما جسد ورِجلان وفوقها وجه.
حمّى المغارات فقط
التي تصيب الدم متشوّقة
ليس فيها شك.

6‬
المخّ يجد رفيقا، مغلقا مثله.
كلاهما يحبّ التراسل لا-سلكيا،
وفي ساعات الفراغ يتراسلان
من الغرفة العليا.
المخّ يسأل؛ على سبيل المثال:
هل لديك قياسات؟ مراكز إنذار؟
‮٠٠٦‬ مليون خلية ذاكرة؟
وما أحوالك داخل صندوق جمجمتك، يا مخ؟
وأحيانا يحاول أن يسخر:
وكيف حالك؟
ماذا يُرى، يا مخّ،
ماذا يُذاق وماذا يُشمّ الآن؟
(وهو يعلم أن حاسّته السادسة
بالذات هي أهمّ حواسّه!).
بيد أن أعصاب رفيقه تهيج:
أرجوك، يا مخّ، لا تحرجني.
وبعد فترة يصبح حقا صديقا له،
ويطلعه على مشاكله جدّ الشخصية:
اسمع، هل تعرف النسيان؟

7
وبين سائر مخاوفه: أن يكون الخطّ الهيروغليفي
ما زال منحوتا فيه.
إنه المخّ الملتوي لفرعون في لحظة موته.
أما فرعون فلم يكن مستعدّا:
قبل تحنيطه،
يثقّب المحنِّط منخريه
ويمتصّ من خلالهما
المخّ البارد.

8
مخّ رقم ثلاثمائة وخمسة وعشرين؟ هنا.
رقم سبعة؟ هنا.
رقم ستمائة ألف وتسعمائة وتسعة؟ هنا.
رقم صفر؟ هنا.
رقم واحد؟ واحد! أين مخّ رقم واحد؟

9‬
وفي منتصف موتي، آسفا على
منتصف حياتي، وفي حين أنني
مشدود في أيكة من الشرايين، في ظلام الغابة،
في أيكة من الشرايين، بيني وبين حكمي --
انطلق فجأة وشقّ طريقا
هذا الدم، عبدي ومولاي -
لماذا تكلمتُ؟ وإلى من؟ كلاّ،
ليس هذا ما أردتُ القول.
هالو؟ من هناك، من المستمع؟ هالو؟

10‬
شرايين الرأس الداخلية تصل الجزء الأمامي من قاعدة المخّ، ومنها
تتشعّب شرايين المخّ الأمامية، الوسطى والخلفية - جميعها. وفي قشرة المخّ،
على الرغم من كونها دقيقة جدّا (جدّا)، تتجمّع الأغلبية العظمى من الخلايا العصبية
في الجهاز العصبي: في الإنسان حوالي ‮٠١‬ مليار. المخّ هو عضو الزمان. كلب
استخرِج منه مخّه الكبير يستطيع أن يعيش لفترة ما، ولكن في الحاضر فقط.
كل الماضي الكلبي يخمد في الحال، أما المستقبل الكلبي فلم يعد موجودا.
المخّ يتثاءب: إنه حائر من فرط الثناء.
هذه الأحرف الرائعة! من اخترعها؟
المخّ. والورقة؟ المخّ.
ومن اخترعني؟
ولكن المخّ تعلّم أن يردّ
هجوما من هذا القبيل.
يطلق في الحال إشارة: فليكن ظلام!
وفي الحال
تغلق الأصابع
الموسوعة.

‮11
لمن يعود الخوف، إذا كانت اليدان يديّ؟ لي، لي.
لمن تعود هذه السكين الحادّة، لمن تعود الشرايين؟ لي، لي.
لمن يعود الدم السريع بصورة عجيبة.

12‬
يريد أن لا يكون مخلصا
إلا لنفسه،
أن يكون نظيفا وخاليا،
خاليا من أي ذكرى كمرآة.

‮31‬
إنه بدر ينغمس
نصفاه في الظلام إلى الأبد.

‮41‬
المخّ يَعُدُّ
ثواني في طريقه من نجمة إلى أخرى.
سنواتٍ في طريقه من ذرّة رمل إلى أخرى.
سنواتٍ ضوئية في أكبر طريق له: إلى مخّ.

‮51
ساعة رائعة. يتدلّل قليلا
في أفكاره، مثلا
أن هناك، في سديم ما،
في الفراغات بين النجوم
التي انصهرت إلى ضباب لبّانيّ
تنتظر غاية معينة -
ما زالت غامضة، ولكن كلها تابعة له.
غدًا أو بعد غدٍ، إذا أراد،
سيخلع زىّ السجن الداكن،
وفي قشرة جوز دقيقة
سيبدأ الرحيل، سيقلع، سيصل: هو الحاكم المسيطر على
عناقيد من العوالم التي لا تحصى.


16
المخّ يفتّش من حوله: إنه محاصر.
الجمجمة ليست مفرّا.
في المتاهة تلتوي
المتاهة.
المخّ الآن عملاق: سحابة داكنة،
ثقيلة جدا. وفي فوهة هذه السحابة مسجون
برق أعوج. لا يمكن ابتلاعه أو لفظه.
لحظة واحدة! المخّ يسمع نفسه
يقرع لحظة لحظة.
قنبلة موقوتة؟
لم يكن مستعدا لذلك قطّ.
لم يكن مستيقظا.
ولكن المخّ ينتفض حالا
ويحكم: لست إلا حلما.


17
المخّ يتلقّى إشارات
من مسافات عظيمة.
في الفضاء، من أعماق سنوات الظلام
تصله شفرة حيّه:
عالم آخر يراسله بلا انقطاع، مثله،
بلا نوم، مثله،
بلا عقل.
- - قلب؟


18
المخّ يتفقّد مراكزه راضيا:
مركز للكلام، مركز للكذب،
مركز للذكريات
(سبعون ساعة، على الأقلّ، وكل منها مختلفة السنوات)،
مركز خاص بالألم - -
وفجأة
(من يتكلم من فضلك؟ من هناك؟)
صدمه خبر مدهش:
هناك دائرة مجهولة
مركزها في كل مكان
وإطارها ليس موجودا:
مركز قريب إلى الحدّ الذي
لن يستطيع فيه
أن يراه إلى الأبد.

19
الآن يرى ما سيكون:
سينفصل رويدا رويدا، غصبا عنه،
وبلا نظام تقريبا.
وفي البداية
يتركه الخوف
ويهرب.
ثمّ يتخلص من السخرية،
من المزاج الفكاهي،
من الحيل البيانية،
وبعد ذلك تتلاشى تكهّناته.
يتلكأ لفترة ما: كان هناك شيء ما،
قريب جدا، مزعج. ماذا كان - -
وبعد ذلك لم يكن مطلوبا منه أن يتذكّر.
وبعد ذلك
أصبح منسيّا
بات نورا



دان باغيس (1930 - 1986)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...