أدب السجون حسقيل قوجمان - ذكرياتي في سجون العراق السياسية.. أوراق كتبت في وعن السجن - الجزء الاول

لذكرى والدتي
أشجع وأنبل وأحن امرأة عرفتها في حياتيأكبر سـجناء الحـزب الشيوعي العراقي سـنا زج بها النعساني في السجن وهي في عمر امه


مقدمة

منذ سنوات عديدة كان اصدقائي واصحابي بصرف النظر عن اختلاف آرائنا السياسية يلحون على ضرورة كتابة مذكراتي لان حياتي كانت تجربة غنية قد تكون مفيدة وشيقة للقراء. وبدأت قبل سنوات في كتابة هذه المذكرات. وطبيعي اني بدأت أكتبها باللغة العربية، اللغة التي استطيع بها أن اعبر عن أفكاري ادق تعبير وباسلوب مقبول للقراء. ولكن أولادي اعترضوا على ذلك. فهم لا يجيدون قراءة اللغة العربية. وكان احتجاجهم مقنعا لأنهم قالوا ان مذكراتي مهمة لهم بصورة خاصة لانهم يريدون ان يعرفوا أباهم على حقيقته واصروا على ان أكتب هذه المذكرات بالانجليزية. كتبت لحد الآن اكثر من ١٢٠ صفحة بالقطع الكبير ولم تنته المذكرات بعد. وهي بحاجة الى تنقيح واضافات كثيرة. ولكني لم اواصل الكتابة فيها لاني بعد الخسارة المالية الفادحة التي تكبدتها من نشر الكتابين الاخيرين اللذين نشرتهما باللغة الانجليزية "ستالين كما فهمته" و "المقامات العراقية" لست في وضع يسمح لي بأن انشر كتابا آخر. ولكن العديد من اصدقائي الذين علموا بما كتبت ألحوا علي بأن أقوم بترجمة هذه المذكرات الى اللغة العربية. ففكرت في مساومة وحل وسط وقررت أن أكتب عن ذكرياتي في سجون العراق السياسية وهي فترة من أهم الفترات في حياتي. فقد كانت حياتي في هذه السجون تختلف عن حياة اغلبية السجناء ان لم يكن جميعهم. وأنا اعتقد ان حياتي السجنية هي صورة هامة من تاريخ حياة سجون العراق السياسية وصفحة رائعة من تأريخ الحزب الشيوعي العراقي. كتبت هذه الذكريات كما هي عادتي في الكتابة كتابة موضوعية خالية من الحشو والعبارات الاجترارية، خالية من عبارات التمليق والتمجيد الفارغة، خالية من الخوف من تصوير الحقائق على حقيقتها مهما كانت وضد اي شخص كان. فأنا مسؤول أمام التاريخ، والتأريخ وحده هو الحاكم الذي لا ينحاز الى طرف لأي سبب من الأسباب. كتبت هذه الذكريات من الذاكرة إذ ليست لدي اية وثائق أو كتابات سابقة تتناول الموضوع لذلك قد أكون نسيت بعض الأحداث المهمة بعد هذه المدة الطويلة ولكني اود أن اؤكد شيئا وحيدا للقارئ هو أن الحوادث التي ذكرتها دقيقة ليس فيها مبالغات ولا زيادة ولا نقصان والكلام الذي ذكرته عن الجدالات دقيق ومضبوط وليس فيه اي تحامل او عداء لأي من الأشخاص الذين تحدثت عنهم.أرجو تنوير القارئ بحقيقة هامة عن علاقتي بالحزب الشيوعي. فأنا حين اتحدث عن الحزب الشيوعي اقصد الحزب الشيوعي الذي أشاده فهد، حزب فهد، الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني، الحزب الذي طبق الماركسية أروع تطبيق على ظروف العراق الوطنية السياسية والاجتماعية ووضع البرنامج الكامل لمراحل الحركة السياسية العراقية حتى الاشتراكية واقامة دكتاتورية البروليتاريا. ولا أقصد الحزب الشيوعي بعد تخليه عن الماركسية اللينينية وعن مبادئ فهد الثورية فأصبح حزبا لا شيوعيا ولا ماركسيا ولا قائدا للطبقة العاملة العراقية والكادحين العراقيين، حزبا انتهازيا يقود الجماهير المخدوعة به لتكون ذيلا للبرجوازية العراقية. بدا تدهور الحزب هذا تدريجيا خصوصا بعد اعدام فهد، وظهر الانحراف واضحا مكتوبا حبرا على ورق في الكونفرنس الثاني سنة ١٩٥٦. ولم يكن الحزب الشيوعي منذ ذلك التأريخ حزبا شيوعيا حقيقيا ولو لحظة واحدة في حياته. وهذا الوضع مع الأسف شمل جميع الاحزاب الشيوعية في العالم تقريبا منذ وفاة ستالين واغتصاب قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي من قبل عصابة خروشوف وأمثاله الذين حولوا الاتحاد السوفييتي من دولة اشتراكية تتقدم تقدما مدروسا دراسة علمية نحو المجتمع الشيوعي الى دولة امبريو اشتراكية تتراجع تراجعا سريعا نحو اعادة الراسمالية الكاملة استمرت حتى انهيار الاتحاد السوفييتي وتجزئته الى جملة دول راسمالية متطاحنة فيما بينها.ليست هذه الصفحات ترجمة من مذكراتي المكتوبة باللغة الانجليزية بل هي كتابة جديدة. فالترجمة اصعب من اعادة الكتابة. ولكني كتبت هذه الذكريات بصورة موجزة تختلف عما كتبته في مذكراتي. فقد ادخلت في مذكراتي الكثير من وصف الحياة في السجون والعلاقات بين السجناء السياسيين وغير السياسيين وعن شخصيات غريبة وشيقة التقيناها في السجون وتفاصيل اخرى كثيرة. توخيت في هذه الذكريات أن تكون صورة واقعية عن تطور الحياة العامة في السجون وخصوصا تطور الثقافة السياسية داخل السجون لأنها كانت ذات تأثير كبير على سير السياسة العامة للحزب لدى اطلاق سراح السجناء السياسيين بعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ اذ ان السجون قد ضمت كما هو معروف اكثر قادة الحزب الشيوعي خلال حياته الممتدة من ١٩٤٧ وحتى الثورة. ولدى خروجهم لعبوا ادوارا قيادية هامة في حياة الحزب.وها أنا اقدم هذه الذكريات الى القارئ الكريم عسى ان يجد فيها ما يفيده في فهم ما حدث في حياة السجون في العراق التي امتدت من سنة ١٩٤٧ حتى ثورة ١٤ تموز وما حدث بعدها لدى خروج قادة الحزب من السجون. فالتاريخ لا يعرف صفحات جديدة، وأن سلوك الانسان عملية مستمرة لا يستطيع فيها أن يسلك اليوم عكس سلوكه بالأمس. وهذا يصح على الأحزاب كما يصدق على الأشخاص والمجتمع والحكومات.١٤ شباط ٢٠٠٢
تمهيد
كانت فترة دراستي في الثانوية المركزية خلال السنتين الدراسيتين ١٩٣٧ ١٩٣٨ و ١٩٣٨ ١٩٣٩ صعبة للغاية نظرا لتفشي الحركة النازية بين الطلاب والمدرسين على السواء. وقد ظهر ذلك بأجلى مظاهره بعد عودة الوفد الرياضي العراقي برآسة الرياضي ولاعب كرة القدم الشهير أكرم فهمي في صيف ١٩٣٨ من مهرجان برلين الرياضي. اشترك في هذا الوفد عدد من مدرسي الثانوية المركزية وعادوا من المهرجان مشبعين بالثقافة النازية الى درجة انهم كانوا يلقون علينا المحاضرات عن المانيا النازية وقدراتها الهائلة واثقين من انها ستنتصر في الحرب العالمية القادمة. وكانوا اثناء ذلك يلقون علينا المحاضرات عن كيفية ابادة اليهود في المانيا وغير ذلك. وقد ساعد على ذلك النادي الذي أنشأته السفارة الالمانية في بغداد "نادي غروبا" على اسم السفير الالماني آنذاك. كان هذا النادي يدفع لكل طالب ثانوي ينتمي اليه مبلغ ٢٥٠ فلسا في الشهر. وهذا المبلغ كان آنذاك كافيا لتغطية نفقات الطالب من السجاير والسينمات وحتي بعض الوجبات في المطاعم اذ كان سعر وجبة الكباب مع الطرشي واللبن في مطاعم بغداد ١٢ فلسا. أما المدرسون فقد كانت رواتبهم من النادي تتناسب مع درجاتهم في وزارة المعارف. لقد سبب هذا الوضع لنا نحن الطلاب اليهود مشاكل كثيرة أثناء الدراسة. فكان يكفي أن يمنع المدرس طالبا يهوديا من الدخول الى الصف لاي سبب كأن ياتي متأخرا مثلا لكي يقوم مدير المدرسة باشباعه بالضرب وطرده من المدرسة طردا نهائيا. وبما اننا كنا نشكل أغلبية ساحقة في أغلب صفوف المدرسة آنذاك فقد حدث بالنسبة لعدد لا بأس به من الطلاب اليهود أن طردوا طردا مؤبدا من المدرسة.قد يتصور البعض من هذا الوصف أن الطلاب غير اليهود انفسهم كانوا معادين للطلاب اليهود وهذا غير صحيح. لم يكن بين الطلاب من يحقد على الطلاب اليهود لانهم يهود الا القليل النادر. فقد كنا زملاء لا نميز بعضنا البعض بالدين وكثيرا ما كنا نسير سوية يدا بيد مع طالب غير يهودي ولا يشعر باي مضض حين يستعمل قطعة طباشير ليكتب فيها على الجدار "أبيدوا الذباب اليهودي" بدون أن يشعر أنه بذلك يسيء الى صديقه الحميم الذي يسير بجانبه. أتذكر مثلا الحماس الذي كان يقابل به منتخب فريق كرة السلة في المدرسة رغم أن كل اعضائه كانوا يهودا. وكانت تلك الفترة فترة نظام الفتوة الذي أنشأه مدير المعارف العام سامي شوكت ونائبه فاضل الجمالي. فكان الطلاب يلبسون الملابس العسكرية خلال الدوام ويتدربون على السلاح ثلاث مرات في الأسبوع بعد الدوام. وكان شعار سامي شوكت آنذاك "اخشوشنوا فان الترف يزيل النعم" ولكننا لم نشعر خلال ذلك بأي تمييز بين الطلاب اليهود وغير اليهود حتى خلال التدريب العسكري للفتوة. فقد تدربنا كسائر الطلاب وحتى اشتركنا في استعمال السلاح الحي والتدرب على الرماية في آخر السنة الدراسية.منذ سنة ١٩٣٩ بدأت أسمع عن حزب اسمه الحزب الشيوعي العراقي وعن قائد اسمه فهد. علمت ذلك من بعض زملائي في المدرسة الثانوية كانوا يزودنني بجريدة الحزب التي كانت تصدر مطبوعة بالآلة الكاتبة أو بالرونيو. الا انني لم أتوجه آنذاك للانتماء او حتى الاتصال بالحزب. وكانت أول مرة انجذبت الى الحزب وشعرت بأنه حزب يختلف عن باقي المنظمات السياسية في سنة ١٩٤١ بعد انقلاب رشيد عالي الـﮕيلاني ضد عبد الإله ونوري السعيد. ففي فترة حكم حكومة الانقلاب برآسة الـﮕيلاني شعر اليهود عموما بالخوف من نتائج ذلك الانقلاب. فالتهديد والوعيد وحتى الاضطهاد بحجج واهية والالقاء في السجون بدون سبب معقول كانت تبشرنا بفترة عصيبة قادمة. استلمت آنذاك جريدة الشرارة وفيها مقال افتتاحي بقلم فهد يؤيد فيه الانقلاب على انه نضال وطني ضد الاستعمار الانجليزي. كان هذا المقال مفاجأة لنا نحن الشباب اليهودي إذ كنا نشعر بأن هذا الانقلاب كان مسنودا باستعمار أشد خطورة وضراوة من الاستعمار الانجليزي، بالاستعمار النازي الذي كان على أبواب مصر. وبعد ثلاثة أيام من استلامنا جريدة الشرارة فوجئنا صباح يوم بوجود منشور تحت باب كل بيت يتألف من صفحة واحدة وفيه اعتراف بخطأ ما جاء في افتتاحية الشرارة وبتأكيد على أن حركة رشيد على الـﮕيلاني حركة مسنودة من قبل الآلمان وأنها حركة معادية للحرب ضد النازية القائمة في أوروبا والعالم. وكان المنشور بتوقيع فهد. كان لهذا المنشور وقعه الشديد علي إذ شعرت بأن هذا الحزب يستطيع الاعتراف بالخطأ وأن هذا القائد لا يخشى أن ينتقد نفسه على الخطأ ويجاهر في تصحيح خطئه. لأول مرة شعرت بأن هذا الحزب جدير بالاحترام وبأنه يختلف عن غيره من الأحزاب. ولكني مع ذلك لم أفكر في الانتماء لهذا الحزب آنذاك. حدث الفرهود ضد يهود بغداد وخاصة ضد المحلات الفقيرة في حزيران حين كانوا في يوم عيد الزيارة (عيد نزول التوراة) اليهودي. وخرج بعض اليهود بأبهى ملابس العيد مبتهجين بسقوط حكومة الـﮕيلاني لاستقبال الجيش الانجليوي عبر الجسر فلم يعد منهم أحد على قيد الحياة. بعد الفرهود الذي حدث لدى اندحار حكومة رشيد على الـﮕيلاني وانتصار الجيش الانجليزي بقيادة الجنرال كلوب "أبو حنيك" وامتناع الجيش الانجليزي الموجود في الصالحية قرب الجسر عن اجتياز الجسر ودخول الرصافة وتشكيل حكومة تحفظ النظام فيها وترك بغداد بدون حكومة لمدة ٤٨ ساعة جرى فيها الهجوم على أسواق اليهود وبيوتهم ونهبها وقتل بعض أصحابها واغتصاب بعض نسائها حدث تغير هائل على الشبيبة اليهودية. كانت هذه الفوضى التي حدثت في بغداد مقصودة أراد الجيش الانجليزي منها أن يدخل الرصافة كمنقذ من هذه الفوضى. والبرهان على ذلك هو ما حدث في البصرة. فقد حاول الجيش الانجليزي أن يجري الفرهود في مدينة البصرة ولما لم يستجب شعب البصرة لذلك نزل افراد الجيش الانجليزي الى أسواق البصرة وكسروا الابواب بالبنادق ودعوا الناس الى النهب والسلب. بعد الفرهود وبتأثيره اندفع الشباب اليهودي الى حركتين سريتين كانتا قائمتين في حينه في العراق. الحركة الشيوعية التي كانت حركة وطنية شاملة لجميع طوائف وأديان الشعب العراقي بمن فيهم اليهود. والحركة الصهيونية التي كانت حركة قومية يهودية منفصلة عن سائر أبناء الشعب العراقي. وسارت الأغلبية الساحقة من الشباب في اتجاه الحركة الشيوعية.في فترة ١٩٤٤ ١٩٤٥ التقيت بشاب يهودي اسمه ساسون دلال وأصبحنا صديقين حميمين. كان هذا الصديق بارعا في قراءة الكتب الماركسية باللغة الانجليزية وكان يحكي لي عما قرأ. ومنه علمت للمرة الأولى عن وجود علم اسمه المادية الديالكتيكية ومن شرحه لهذا العلم اقتنعت بأنه علم حقا وقررت أن اتعلمه لان تطبيقه على الأحداث يؤدي الى نتائج تختلف كثيرا عن النتائج التي يتوصل اليها المرء بمجرد التحليل البسيط. ولكن ساسون كان سريع التقلب إذ خلال عدة شهور نصحني أن انتمي الى عدة تنظيمات مختلفة وكان كل مرة يعتبر احدى هذه المنظمات شيوعية صحيحة. فلم اتبع نصائحه وأخبرته انني اريد أن أجد بنفسي المنظمة التي أختارها وأنتمي اليها. كان أول اتصال لي بمنظمة سياسية حين نشأ حزب أسمى نفسه حزب التحرر الوطني ثم حين نشأت منظمة اسمها عصبة مكافحة الصهيونية. فطلبت الانتماء الى هاتين المنظمتين. وحزب التحرر الوطني هو حزب أنشأه الحزب الشيوعي لكي يكون وجها علنيا لـه يضم جماهير واسعة من عناصر لم تصبح بعد صالحة للانتماء الى الحزب الشيوعي السري. وكانت عصبة مكافحة الصهيونية أيضا منظمة تضم أكبر عدد من اليهود الذين لا يؤمنون بالصهيونية. وفي الواقع بقي حزب التحرر الوطني مجرد هيئة مؤسسة تطالب بإجازة الحزب. ولكن الحكومة لم تجزه رسميا. وبقي نشاطه ضمن المطالبة بالإجازة ولكنه أصبح في الواقع حزبا جماهيريا واسع العضوية. وكانت منشورات الهيئة المؤسسة للحزب وثائق ثقافية واسعة الانتشار. أذكر من ذلك كراسي حسين الشبيبي الاستقلال والسيادة الوطنية والجبهة الوطنية الموحدة اللذين أصبحا مادة ثقافية لكافة الشبيبة في حينه ويبدو لي انهما ما زالا وثيقتين هامتين في الثقافة الوطنية العراقية الى يومنا هذا.أما عصبة مكافحة الصهيونية فقد أجيزت رسميا لفترة قصيرة وصدرت لها جريدة يومية أصبحت أكثر الصحف رواجا في العراق. وكانت مقالات العصبة ذات تأثير وطني رائع. وتبين فيما بعد أن العديد من مقالاتها الافتتاحية كتبها فهد وهي ما تزال الى اليوم مصدرا ثقافيا ثمينا لمن يريد معرفة ظروف النضال الثوري الحقيقي في العراق. وأصبح للعصبة مقر في الصالحية قريب من دار الإذاعة العراقية وكانت اجتماعاتها الاسبوعية اجتماعات ثقافية رائعة زاخرة بالخطابات الوطنية والاشعار الشعبية وقد تقدم العديد من الشخصيات الوطنية للحديث فيها تحت اشراف الحزب الشيوعي القائد الحقيقي لجميع نشاطات العصبة. ومن اهم منشوراتها كان كراس "عصبتنا" الذي نشر باسم رئيس العصبة, يوسف زلخة، ولكنه في الواقع من مؤلفات فهد اذ لم يكن يوسف زلخة قادرا على كتابة سطر واحد من هذا الكراس الذي عالج القضية الفلسطينية معالجة ما زالت حية حتى يومنا هذا. وكان الكثير من الشخصيات اليهودية يشجعون العصبة ويتبرعون بسخاء لمساعدتها. ولكن الحكومة العراقية لم تتحمل هذا النشاط الوطني الرائع والنضال الحقيقي ضد الصهيونية فألغت اجازة العصبة وأغلقت مقرها واعتقلت عددا من مسؤوليها.وفي ٢٨ حزيران ١٩٤٦ قامت أكبر مظاهرة في العراق منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وكان يقودها فهد شخصيا وهي المظاهرة التي قدم فيها الحزب أول ضحاياه في شخص شاؤول طويق. وكانت سبعة أيام الحداد في بيت شاؤول طويق اجتماعات سياسية ووطنية رائعة حضرها أقطاب الشعب العراقي من شعراء وأدباء وساسيين وشخصيات اجتماعية ودينية كبيرة.وفي ١٩٤٧ اعتقل فهد قائد الحزب الشيوعي وحكم عليه بالأعدام مع زكي بسيم وابراهام ناجي ولكن الانتقادات العراقية والعالمية اضطرت الحكومة العراقية الى تخفيض الحكم الى الأشغال الشاقة المؤبدة. ونقل فهد الى سجن الكوت وبهذا نشأ أول سجن سياسي للشيوعيين في العراق بعد الحرب العالمية الثانية.
سجن الكوت والتنظيم السجني
واجه فهد مهمة صعبة في السجن السياسي هي مهمة تنظيم حياة السجناء بصورة تصونهم من التدهور والانحطاط اللذين كانت الحكومة العراقية تتوخاهما وتريدهما لهؤلاء المناضلين السياسيين. وأجاد فهد في هذه المهمة أروع إجادة فخلق تنظيما استمر بنفس الصورة حتى ثورة ١٤ تموز. ولكي يستطيع خلق مثل هذا التنظيم كان عليه أن يثبت قبل كل شيء علاقة معينة مع ادارة السجن. وكذلك كان عليه أن يحقق بعض الحقوق للسجناء يستطيع الاستناد اليها في التنظيم الذي كان يريد خلقه. بدأ ذلك بأن قدم مطالبات محددة لبعض حقوق السجناء السياسيين التي أنكرتها عليهم السلطات وكأنهم مجرمون عاديون. ولما لم تستجب الحكومة لمطالبهم أعلن السجناء أول إضراب عن الطعام وحققوا بعض النجاح في ذلك الاضراب. فقد حققوا أهم أمر هو أن تسلم أرزاق السجناء المقررة ناشفة الى السجناء السياسيين وغير مطبوخة لكي يقوم السجناء بطبخها بأنفسهم. وحققوا مطلبا آخر هو تحريرهم من السلاسل والسماح لهم بارتداء ملابسهم المدنية وعدم ارتداء الملابس السجنية واستخدام الأفرشة التي يجلبها لهم ذووهم وليس بطانيات السجن الخشنة غير الصحية.ومن حيث العلاقة بين الادارة والسجناء حقق السجناء الاعتراف بهم كمنظمة واجراء العلاقات بين الادارة والسجناء كمنظمة عن طريق ممثل معترف به يعينه السجناء وليس بالاتصال مع كل سجين على انفراد شخصيا. فحين تريد الادارة اجراء شيء داخل السجن أو مع السجناء تدعو الممثل الرسمي للسجناء وتخبره بما تريد وهو يفاوضها على ما يمكن تطبيقه أو لا يمكن. كذلك حققوا في هذا الاضراب الأول مطلب حق الحصول على الصحف وبعض الكتب العلنية المتوفرة في السوق عن طريق ذويهم. بهذه الطريقة نشأت أمام فهد فرصة خلق التنظيم الذي أراد خلقه للمنظمة. فالمنظمة هي منظمة خيارية يستطيع الانضمام اليها كل سجين محكوم بتهمة سياسية. أي ان المنظمة لم تكن منظمة شيوعية. صحيح أن قيادتها كانت دائما شيوعية، ولكن السجناء لم يكونوا كلهم شيوعيين. فقد كان العديد من السجناء بعيدين عن الشيوعية كالعمال النقابيين وغير النقابيين، والطلاب الذين يمارسون بعض الفعاليات الثورية بطبيعتهم وبعض الاشخاص الذين لا علاقة لهم بالسياسة بتاتا. فقد كان بين السجناء من لم يسمع عن الحزب الشيوعي بالمرة ولم يعرف الأسباب التي جاءت به الى السجن. رأينا اشخاصا جذبهم حب الفضول لرؤية ما يحدث في الشارع اثناء المظاهرات فقبض عليهم باعتبارهم متظاهرين. لذلك فان المنظمة كانت تضم أشخاصا مختلفين ثقافيا وسياسيا وفكريا وكل العلاقة بينهم هي أنهم محكومون بتهم سياسية. كان على فهد أن يخلق من هذه النوعيات من الأشخاص منظمة قوية تستطيع الصمود أمام هجوم وضغط السلطات التي كانت تريد تحطيم معنوياتهم وتبليدهم فكريا وسياسيا. أول ما حققه فهد هو تنظيم حياة السجناء تنظيما دقيقا لا تمييز فيه بين سجين وآخر. فكل واحد من السجناء يقوم بدور ما في تسييرحياة المنظمة. هناك فرق للطبخ مثل طباخي وجبة الصباح ووجبة الظهر ووجبة المساء. يقوم فريق طبخ وجبة الصباح مثلا بالعمل لمدة اسبوع ويستريح لمدة اسبوعين حيث يقوم فريق آخر بطبخ وجبة الصباح، وهكذا في الوجبات الاخرى، ويقوم فريق باعداد الشاي وتوزيعه على السجناء في أوقات شرب الشاي، بينما يقوم فريق اخر بعجن وتقطيع العجين وخبز الصمون. وهناك أعمال عامة يمارسها جميع السجناء بلا استثناء. كفرق تنظيف غرف السجن والغسيل. بحيث يكون من واجب كل سجين أن يشترك مع فريقه في دوره للقيام بغسيل ملابس مجموعة كاملة من السجناء مرة في الاسبوع وهكذا. بالاضافة الى هذه الأعمال اليومية الثابتة كانت هناك ظروف تحتاج فيها المنظمة الى القيام بأعمال طارئة كالبناء لبعض مرافق السجن أو تنظيف العدس أو تنقية الرز من الدنان قبل طبخه فكانت هذه الأعمال تطوعية يتطوع بها من السجياء من ليس له واجب او لديه فراغ للقيام بذلك العمل. ووزع السجناء الى فرق طعام معينة ثابتة يتكون كل فريق من ستة أشخاص يأكلون كل وجباتهم معا. وهكذا انتظمت حياة السجناء بلا تمييز بين الشيوعيين منهم وغير الشيوعيين الا في كون الشيوعيين ينبغي ان يكونوا قدوة لغير الشيوعيين في سلوكهم.كان على فهد أن ينظم الملكية الخاصة والعامة للسجناء. فقد اقتصرت الملكية الخاصة للسجين على ملابسه التي يجلبها لـه ذووه وفراشه. وكان بين السجناء من لم يكن له أهل يزورونه أو لم يكن بمقدور ذويه ان يجلبوا له ما يكفي من الملابس. فحل فهد هذه المشكلة عن طريق التبرع. فالسجين الذي يستلم ملابس عديدة يأخذ منها ما يحتاجه ويتبرع بالباقي للمنظمة وليس لسجين معين. والمنظمة توزع الملابس المتوفرة لديها للسجناء المحرومين منها. وكان الزوار يجلبون لأولادهم السجناء بعض المواد الغذائية والسجاير وبعض الحلويات. ولكن المواد الغذائية تصبح ملكا للمنظمة. فليس للسجين الفرد مواد غذائية خاصة يتناولها دون الآخرين، انما تجمع المنظمة جميع المواد الغذائية وتوزعها في الوجبات وتحفظ بعض المواد الخاصة كالحلويات للحفلات والمناسبات. أما النقود والسجاير فهي للمنظمة. فليس للسجين نقود أو سجاير. والمنظمة توزع السجاير للمدخنين المسجلين بكميات متساوية تحددها حسب ما يتوفر لديها. وتستخدم النقود من قبل قيادة المنظمة حسب احتياجاتها وامكانياتها. بهذه الطريقة لم يكن هناك تمايز بين سجناء أغنياء وسجناء فقراء، بل شعر كل عضو في المنظمة انه متساو في الحقوق مع اي عضو آخر من القيادة وحتى ابسط عضو. كانت السلطات تهدف الى جعل السجن وسيلة لتبليد السجناء وتحطيمهم فكريا ومعنويا. وكان على فهد أن يعمل على احباط أهداف السلطات هذه. وقد دأب على تشجيع السجناء على قراءة الكتب المتوفرة والصحف ومساعدة السجناء بعضهم البعض في هذا المضمار. وكان فهد باعتباره الماركسي المثقف المدرك لظروف العراق السياسية ينظم حلقات واجتماعات يثقف فيها السجناء بشتي المواضيع. والتثقيف عموما كان يجري على المنظمة ككل بحيث أن جميع السجناء يتلقون ثقافة متساوية لا فرق بين الشيوعي فيها وغير الشيوعي. اضافة الى الثقافات الوطنية العامة بدأ فهد في تدريس الاقتصاد السياسي وفقا للكتاب الماركسي الوحيد الذي كان متوفرا في السجن وخارج السجن آنذاك باللغة العربية، كتاب الاقتصاد السياسي للكاتب السوفييتي ليون تييف. كان فهد يلقي محاضرة في الاقتصاد ثلاث مرات في الاسبوع، يوم السبت والاثنين والاربعاء مثلا. وفي الأيام الثلاثة الأخرى يوزع السجناء الى فريقين ليقوم حسين الشبيبي وحسين أبو العيس باعادة نفس محاضرة اليوم السابق على السجناء. وبذلك توخى فهد أولا ترسيخ مادة المحاضرة في أذهان السجناء حديثي العهد في موضوع الاقتصاد السياسي وتدريب محاضرين آخرين على تدريس الاقتصاد السياسي في الوقت ذاته. وكان يوم الجمعة يوم عطلة لا تجري فيه الدورات الثقافية.يحلو للبعض ان يبالغ فيزعم ان فهد حول السجن الى جامعة أو كلية. ان هذا في اعتقادي شيء بعيد عن الصحة. فكل ما استطاع فهد أن يفعله هو تأخير التدهور الفكري والنفسي والمعنوي للسجناء خلال وجودهم في السجون. وكان النجاح في هذا الهدف محدودا كما سنراه في مواصلة بحث حياة السجون بعد فهد. كانت فترة فهد في السجن قصيرة دامت من منتصف ١٩٤٧ حتى نهاية ١٩٤٨ تخللتها فترة الوثبة ضد معاهدة بورتسموث سنة ١٩٤٨ التي أسقطت حكومة صالح جبر والغت المعاهدة وخلقت فترة من المد السياسي والحريات السياسية النسبية، الى ان اعلنت الحرب ضد اسرائيل في أيار ١٩٤٨ واعلنت الاحكام العرفية بهذه الحجة. واستغلت الحكومة الاحكام العرفية كما هو معلوم افظع استغلال لضرب الحركة الثورية والحركة الشيوعية خصوصا وكان من نتائجها اعادة محاكمة فهد وزكي بسيم وحسين الشبيبي من السجن ويهودا صديق من خارج السجن واعدامهم في ١٤ ١٥ شباط ١٩٤٩. وفي نفس الفترة نقل عدد من السجناء من سجن الكوت الى نقرة السلمان فنشأ سجن سياسي جديد هو سجن نقرة السلمان.بعد اعدام فهد بخمسة أيام القي القبض على أحد قادة الحزب في تلك الفترة اسمه جالاك وسلم كافة العناصر الحزبية التي عرفها ومن جملتها بيتنا الذي لم يكن بيتا حزبيا بل كان بيتا به أعضاء حزبيون. هاجمتنا الشرطة واعتقلت كل بالغ في البيت. وتعرف الضابط على زوجتي لانها كانت قد اعتقلت وحوكمت بين من اعتقلوا مع فهد وحكم عليها بالسجن سنة مع ايقاف التنفيذ. وقد سمعت الضابط يقول للشرطي القريب منه "انظر من هنا، حبيبة وزوجها، ستذهب هي خمس سنوات وزوجها عشرين". هذا يدل على ان الحكم صدر علينا قبل ان يعرفوا اسمنا او دورنا في الحزب. في ١٩ شباط ١٩٤٩ جرى اعتقالنا أنا وزوجتي واختي وصديقة اختي التي صادف أن كانت موجودة في بيتنا تلك الليلة وأمي التي كانت في الستينات من عمرها وشابا من العائلة التي كانت تسكن معنا في البيت. وفي نفس اليوم اعتقلت أخت زوجتي وخالتها وأخوها الذي كان في السادسة عشرة من عمره. وبهذا يكون عدد المعتقلين من العائلة ٩ أشخاص يضاف اليهم أخي موشي الذي كان سجينا منذ ١٩٤٨ في سجن الكوت.لدى بلوغنا بناية التحقيقات الجنائية بدأ التعذيب وضرب الفلقة والتعليق حسب الأصول طوال الليل وفي اليوم التالي اخذت إفادتي وقد تورمت يدي ورجلي بصورة هائلة بحيث اضطرت الشرطة الى دعوة صائغ لكسر محبس كان في اصبعي لكيلا يضطروا الى قطع الاصبع بعد ذلك. وبعد يومين نقلوني الى معتقل أبي غريب حيث بقيت في غرفة انفرادية مظلمة بملابسي بدون اي فراش أو غطاء حتى يوم المحاكمة. من المضحك انني استخدمت يدي المتورمة عوضا عن وسادة لمدة شهر تقريبا وبعد أن زال ورمها استعملت حذائي كوسادة. ومما تجدر الاشارة اليه أن طبيبا زارنا في المعتقل ورأى رجلي ويدي المتورمة فما كان منه إلا أن سألني "ماذا جرى لك هل لسعتك أفعى؟" نعم هناك كثير من الأفاعي هنا. مرت أيام الاعتقال مرورا هادئا ولم يحدث شيء خلال ذلك. وقد اشيع آنذاك عن موتي تحت التعذيب حتى أن المنظمة في الكوت أبلغت أخي موشي بذلك. وجاء موعد المحاكمة في اواخر نيسان ١٩٤٩ وحوكمنا خلال يومين. كنا حوالى عشرين شخصا ٩ منهم أعضاء عائلتي. وفي يومين حكم علينا جميعا بدون اية ممارسة لحقوقنا كأن يكون لنا محامون أو حتى حق الدفاع عن أنفسنا بصورة طبيعية. لم ينس النعساني رئيس المحكمة قبل أن ينطق بالحكم أن يترك المحكمة للصلاة الى ربه وربما لطلب غفرانه عن الأحكام الجائرة الظالمة التي سيقوم باصدارها والتي كما قلنا قد صدرت يوم اعتقالنا وفرضت عليه فرضا ولم يكن عليه سوى قراءتها. كان واضحا أن الأحكام الصادرة على اليهود كانت أقسى من الأحكام الصادرة على غير اليهود. فقد حكم على ساسون دلال بالاعدام وعلى أربعة يهود هم أنا وأخت زوجتي ويعقوب مصري وأخته عمومة وعلى آرا خاجادور الأرمني بالأشغال الشاقة المؤبدة بينما كانت الأحكام الصادرة على غير اليهود لنفس التهم التي حوكمنا عليها بأحكام تتراوح بين الخمس والسبع سنوات. وحكمت زوجتي وأختي وصديقتها وخالة زوجتي بالسجن لمدة خمس سنوات وحكم أخو زوجتي المراهق لمدة سبع سنوات وحكمت والدتي العجوز لمدة سنتين.نقلونا في آخر أيام نيسان الى سجن بغداد المركزي ونقلوا النساء الى سجن النساء المركزي. ولم تسنح لي بعد ذلك فرصة رؤية زوجتي او اي من أفراد عائلتي الى حين التقيت بهم في إسرائيل. وفي اليوم التالي جاء بعض عوائل السجناء لزيارتهم وجلبوا معهم بعض الهدايا كالسجاير والحلويات وبعض المواد الغذائية. وفي المساء احتفلنا بليلة أول أيار، عيد العمال العالمي، ببعض الأغاني والنكات وتقديم ما لدينا من سجائر وحلويات. ترأس الاحتفال خمسة من المحكومين أداروا سير الاحتفال. وخلال الحفلة اقترحوا علينا جميعا أن نبدي آراءنا في أحداث الفترة الأخيرة من حياة الحزب قبل اعتقالنا. في الواقع كان قائد الحزب في الأشهر الثلاثة الأخيرة قبل اعتقالنا صديقي الذي تحدثت عنه سابقا، ساسون دلال. وشعرت أثناء ذلك بأن هذه القيادة سارت بسياسة يسارية متطرفة لا تتناسب والأوضاع السياسية السائدة في العراق آنذاك. وكنت قد انتقدت تلك السياسة تحريريا وشفهيا خلال تلك الفترة. ولما سألونا أن نبدي آراءنا حول تلك الفترة كنت أنا الوحيد الذي انتقد سياسة الحزب فيها اذ ذكرت كل الملاحظات التي سبق لي أن أبديتها قبل اعتقالنا. ولكن السجناء الخمسة الذين ترأسوا الاجتماع أجمعوا كلهم على ان انتقاداتي كانت خاطئة وغير صحيحة وأن سياسة الحزب في تلك الفترة كانت سليمة وصحيحة. في اليوم التالي، اي في أول أيار، نقلونا الى نقرة السلمان. والسفر الى نقرة السلمان من بغداد كان يستغرق يومين. ففي اليوم الأول سفرونا بالقطار الى مدينة السماوة وقضينا الليل في أحد مراكز الشرطة وفي الصباح بدأ السفر في السيارات حيث قطعنا الصحراء الى نقرة السلمان القريبة من الحدود السعودية بمرافقة سيارات شرطة البادية "الهجانة" اذ ليس في استطاعة سائقي السيارات المدنية أن يعرفوا الطريق الى النقرة بدون ارشاد شرطة البادية.وصلنا الى نقرة السلمان عصر ذلك اليوم ودخلنا الى السجن بدون اية عراقيل. فقد سبق أن ألبسونا في سجن بغداد الملابس السجنية وكبلوا أرجلنا بالسلاسل المطلوبة ولم يكن لادارة سجن النقرة ما تفعل. كانت السلاسل تختلف في سمكها وثقلها حسب مدة المحكومية. دخلنا السجن فاستقبلنا السجناء الموجودون فيه استقبالا حارا وأحيوا في المساء حفلة قدمت فيها السجاير والشاي وما توفر في السجن من الحلويات. وخلال الأيام القلائل التالية عقدت اجتماعات مع الخمسة الذين ترأسوا حفلة ألأول من أيار في سجن بغداد ثم بعد أيام دعوا كافة سجناء المنظمة وتحدث في الاجتماع قائد المنظمة آنذاك سالم عبيد النعمان معربا عن رايه في سياسة الحزب في الفترة الأخيرة. وكانت تلك أول صدمة فوجئت بها في حياتي السجنية. فقد أورد سالم عبيد النعمان جميع النقاط التي أبديتها في حفلة أول أيار والتي زعم رؤساء الحفلة بأنها خاطئة. يبدو أن بعض هؤلاء الخمسة أو كلهم قدموا هذه النقاط على انها آراؤهم ولم يذكروا شيئا عن ملاحظاتي.كان في السجن آنذاك السجناء الذين نقلوا من سجن الكوت والوجبات التي سبقتنا من محكمة النعساني العسكرية. ولكن عدد السجناء كان في ازدياد بحيث أن عدد أفراد المنظمة فقط، عدا السجناء العاديين والسجناء السياسيين الذين لم يرغبوا أو لم توافق المنظمة على أن يعيشوا معها، بلغ ٢٥٠ أثناء ١٩٤٩وفور وصولنا وزعت علينا الأدوار للمشاركة في حياة المنظمة. وكان دوري أن أكون مع هادي هاشم فريق طبخ وجبة المساء. وكان علينا أن نعمل اسبوعا ونستريح اسبوعين. كذلك حدد لنا فريق الطعام المكون من ستة أشخاص يكون كل واحد منا مسؤولا عن جلب الطعام وأخذ الإناء الخالي بعد تناول الطعام الى المطبخ وغسل الملاعق والاحتفاظ بها بين الوجبات. كان لكل فرقة طعام رئيس من ألكوادر العليا في المنظمة وكان رئيسنا حامد أحد أعضاء لجنة القيادة. وحامد هو حسقيل صديق أخو يهودا صديق الذي حكم بالاعدام مع فهد واعدم في ١٥ شباط .
سجن نقرة السلمان
لم يكن سجن نقرة السلمان سجنا مبنيا لهذا الغرض انما كان قلعة بناها الانجليز في الصحراء لأغراض عسكرية بحتة وأصبحت مقر قيادة شرطة الهجانة تحت قيادة الجنرال كلوب (أبو حنيك). تتألف قلعة نقرة السلمان من قلعتين، القلعة الشمالية والقلعة الجنوبية. وكل قلعة من هاتين القلعتين تتألف من طابقين طابق علوي وسرداب ويكون الدخول الى القلعة عن طريق سلم حديدي يصل الى باب القلعة الفولاذي الذي لا يتجاوز ارتفاعه مترا واحدا كان علينا أن ننثني لكي نستطيع الدخول منه الى الطابق العلوي. يتألف الطابق العلوي من حصن فولاذي في السقف والجدران خالٍ من الشبابيك وليس فيه من الفتحات سوى كوات صغيرة معدة لتوجيه البنادق منها اثناء القتال. ومن الطابق العلوي هناك سلم فولاذي الى السرداب الذي كان شبيها بالطابق العلوي من حيث بناؤه الفولاذي ولكنه خال تماما من الفتحات الخارجية وفيه خزان كبير للماء لاستخدامه عند الطوارئ. بين هاتين القلعتين توجد ساحة السجن. وهي ساحة غير مبلطة يتطاير منها الغبار اذا لم ترش بالماء. وكانت في هذه الساحة غرفة صغيرة استعملناها للاستحمام لا تستوعب أكثر من اربعة مستحمين. وغرفة اخرى بجانبها لا تزيد مساحتها عن ضعف الغرفة الاولى استعملناها كمطبخ. وغرفة ثالثة مجاورة لها تبلغ مساحتها مجموع مساحة الغرفتين السابقتين استعملناها كمخزن وكمقر للقيادة اثناء النهار. ثم يأتي باب السجن وأحد أسوار القلعة. من الجهة الثانية كانت هناك غرفة واسعة مبنية بناية حديثة مع شبابيك وسقف عادية لا أعرف ان كانت مبنية منذ انشاء القلعة أم بعد ذلك. والى جانب هذه الغرفة كان مرحاضان هما عبارة عن حفرتين في الأرض يتغوط السجين بالجلوس فوقهما كالمراحيض التي كانت مألوفة في العراق آنذاك. ونظرا لوجود المساجين بالمئات كان وجود مرحاضين فقط مشكلة عويصة كنا نعاني منها في اكثر الأحيان. في وسط الساحة كانت هناك بئر لا تصلح مياهها للشرب فكنا نستعملها لرش الساحة تخلصا من الغبار وللاستحمام في الصيف نظرا لشحة مياه الشرب. كانت مياه الشرب وهي مياه غنية بالأملاح ولكنها صالحة للشرب تجلب لنا بسيارة من بئر بعيدة عن السجن بكميات مقننة حسب عدد السجناء. كان الحراس البدو يقولون لنا نحن اليهود ان البئر تقع قرب بيت جدنا السموأل. وفي وسط الساحة كانت قلعة صغيرة مربعة مبنية بنفس طريقة القلعتين من حيث جدرانها وسقفها الفولاذية لا تتجاوز مقاييسها أربعة امتار طولا وعرضا مع فتحة صغيرة للدخول اليها. قبل مجيء السجناء الى نقرة السلمان القيت محاضرات على الشرطة الهجانة الذين كانوا حراس السجن عن الشيوعيين وقدراتهم على كل شيء. وقد حدث حادث مضحك فور وصول اول وجبة من السجناء الذين نقلوا من سجن الكوت. كان مع السجناء اداة لصنع الشاي كنا نسميها بريمز وهي عبارة عن جهاز اسطواني يوضع به النفط ويضغط بمكبس مثبت فيه يوجد في نهايته السفلى أنبوب يمتد افقيا مع فوهة لها ثقب دقيق. ولدى تسخين فوهة الجهاز يخرج النفط المضغوط على شكل غاز يلتهب فيعطي لهبا قويا ويصدر معه صوت عالٍ. فكر السجناء المتعبون من مشقة السفر الطويل من الكوت الى نقرة السلمان ان يعدوا الشاي فأشعلوا البريمز. ولما سمع الهجانة صوت البريمز هرعوا باسلحتهم الى القلعة لرؤية سبب هذا الصوت. ولما فهموا ان السجناء انما يعدون الشاي ضحكوا وقالوا حسبنا انكم تريدون الطيران مع القلعة. وفي المحاضرات التي القيت على هؤلاء السجانة الهجانة عن الشيوعيين قبل مجيئهم قالوا لهم ان للشيوعيين ذنب يحاولون ان يخفوه عن نظر الحراس. وحين عرفونا ونشأت بعض العلاقات الانسانية مع قسم منهم اخبرونا بأنهم كانوا يراقبون السجناء مراقبة دقيقة لرؤية أذنابهم.
الثقافة السياسية في نقرة السلمان في هذه الفترة
كانت الثقافة السياسية في الفترة الأولى من فترات سجن نقرة السلمان ضئيلة فقيرة لم تثمر عن اية فوائد. فحين وصلنا الى السجن كان حسين ابو العيس قد اطلق سراحه وهو الذي كان معيدا مع فهد في تدريس الاقتصاد السياسي وقيل عنه انه خير من يتقن هذا الموضوع. وسيرا على قاعدة أن المسؤول الأول، فهد، كان هو المثقف الأول للمنظمة، استمر هذا التقليد ولم يسمح لأي عضو في المنظمة بالتثقيف عدا المسؤول الأول أو أقرب المسؤولين اليه. وبما أن الكتاب السياسي الوحيد الظاهر في السجن في تلك الفترة كان كتاب ليون تييف المار الذكر فقد تقرر تدريس الاقتصاد السياسي من قبل سالم عبيد النعمان على أن يكون معيده في اليوم التالي نافع يونس الشخصية الثانية في قيادة المنظمة. وبما أن كلا هذين القائدين كانا جاهلين في الاقتصاد السياسي وفي الثقافة الماركسية عموما فقد بقي هذا الموضوع عقيما اذ كان سالم عبيد يعتذر في أغلب الأحيان بسبب مرضه أو لوجوده في اجتماع ولم يبلغ عدد المحاضرات التي حضرناها خلال ١٩٤٩ و ١٩٥٠ عشر محاضرات كان واضحا فيها أن كلا المحاضرين لا يفهمان الموضوع الذي يريدان تدريسه. ولم يكن اي نوع اخر من التثقيف السياسي والنظري خلال فترة سالم عبيد النعمان سوى دورة لدراسة كراس سوفييتي سيأتي ذكرها. سارت الحياة في فترة سالم عبيد النعمان سيرا روتينيا سوى اضراب عن الطعام دام ٢٤ يوما بدون اية فائدة. في تلك الفترة قررت أن استفيد من الفراغ بتحسين لغتي الانجليزية. كانت لدينا نسخة من قصة روميو وجولييت لشكسبير فقررت مع أحد السجناء، الياهو كوهين، أن ندرسها معا لتقوية لغتنا. وكنا نستخدم علب السجاير للكتابة. كان النشاط الثقافي من هذا النوع فرديا وشخصيا. فقد كان التثقيف السياسي العام ضئيلا وعقيما كما رأينا. حتى دراسة الاقتصاد السياسي بصورة شخصية لم تكن متوفرة اذ لم يكن باستطاعتنا الحصول على النسخة الوحيدة الموجودة من الكتاب. واقتصرت قراءاتنا في تلك الفترة على ما أفلحت المنظمة في ادخاله من الكتب العامة الى السجن كالقصص والروايات وبعض الكتب الأدبية والتأريخية وغيرها. كانت هناك محاولات شخصية تطوعية لتدريس اللغة العربية خاصة لبعض السجناء الاميين ولكن هذه الظاهرة لم تتخذ صورة منظمة من الأعلى. كانت المنظمة مهملة للتثقيف السياسي الى درجة ان بعض الكوادر المتقدمة في المنظمة كانوا يتباهون ويجاهرون بجهلهم النظري. فنشأ في تلك الفترة مفهوم "الحفاة ذوي السليقة الثورية". شعار كان بعضهم يتبجح به علنا. وهو يعني أن هؤلاء القادة رغم جهلهم المطبق للنظرية الماركسية لهم سليقة ثورية تدلهم على الطريق الصحيح دونما حاجة الى النظرية. وكان بعضهم يشجب العلم ويسخر من المؤمنين بالعلم صراحة، فيصرخون "علم" للتنديد بمن يؤمنون بالعلم وبالماركسية. وقد حدثت لي بعض الأحداث مع السجناء في تلك الفترة أشير الى نماذج منها. كانت بين السجناء اليهود وخاصة المقربين منهم للقيادة ظاهرة غريبة هي انهم كانوا يخجلون من اسمائهم اليهودية وربما من يهوديتهم. كانوا يطلقون على انفسهم اسماء تخفي شخصياتهم اليهودية مثل حامد، أبو دارم، أبو نجم، ابو عمران وغير ذلك من الأسماء. وكثيرا ما ألحوا علي أيضا أن اتخذ اسما غير اسمي فلم اوافقهم. كنت أقول لهم اني حسقيل وفقط حسقيل. ومما يدعو الى السخرية انه طالما كانت علاقات هؤلاء اليهود جيدة مع القيادة كانوا ينادونهم بالأسماء التي اتخذوها. فاذا حدث بينهم وبين القيادة خلاف نادوهم بأسمائهم اليهودية، فكان ذلك يقع عليهم وقع الصاعقة وكأنهم طعنوا طعنة قاتلة. انا لم أخجل مرة في حياتي من كوني يهوديا أو كوني شيوعيا يهوديا. فأنا اصبحت شيوعيا لأني يهودي. شعرت بالظلم المضاعف الذي يقاسي منه اليهود بصفتهم مواطنين عراقيين وبصفتهم عراقيين يهود. وأنا مؤمن بأن الشيوعية كانت تهدف لا الى تحرير فئة واحدة من الشعب بل الشعب كله بكافة اديانه وقومياته وطوائفه بمن فيهم الطائفة اليهودية.في أحد الأيام كنت أسير مع أحد السجناء فأخبرته أنني أدرس اللغة الانجليزية لكي أستطيع يوما دراسة الاقتصاد السياسي اذا توفرت في السجن كتب تبحث الموضوع بهذه اللغة. فشعر هذا السجين بان قولي مخالف لقواعد المنظمة وشكاني الى قيادة المنظمة. فدعاني سالم عبيد وسألني عما قلت لهذا السجين فأجبته فقال "ماذا أليس هناك من يعرف الاقتصاد السياسي؟" فقلت لـه ان الحزب بحاجة الى أن يدرس كل اعضائه الاقتصاد السياسي وليس من الغريب أن يرغب اي عضو في دراسة هذا العلم. فكان جوابه "لا تتحدث مع السجناء بهذا الموضوع لأن مستوياتهم لا تتحمل مثل هذا الكلام".وفي الثلاثين من كانون الأول ١٩٤٩ كنا جالسين جماعة نغني ونحكي بعض النكات للتسلية. فقلت لهم أن هذا اليوم هو ذكرى زواجنا. فما كان من أحد السجناء الا أن يجيبني "اننا يا رفيق جئنا الى الحزب فنسينا أن لنا عوائل غير الحزب" عجبت لذلك وأجبته "أنا جئت للحزب لأني أحب عائلتي وأريد تحريرها من الاضطهاد ولكن اذا تعارضت مصلحة العائلة مرة مع مصلحة الحزب فاني أضحي بمصلحة العائلة لمصلحة الحزب." فما كان من هذا السجين الا أن شكاني الى القيادة فدعاني سالم عبيد النعمان لمحاسبتي فحكيت لـه ما حدث بالضبط وسألته ان كان انتماؤنا للحزب تخليا عن عوائلنا. فكان جوابه المألوف في أن مستوى السجناء لا يتحمل مثل هذه النقاشات وبأني يجب أن ابتعد عن مثل هذه المواضيع.في ذكرى ثورة اكتوبر في السابع من تشرين الثاني ١٩٤٩ احتفلنا حسب التقاليد السجنية. والاحتفال في مثل هذه المناسبات يتألف من شقين. الأول هو اجتماع خطابات يلقيها بعض السجناء حسب اختيار المنظمة. والثاني حفلة غناء وطرب وتوزيع السجاير والحلويات الى ساعة متأخرة من الليل. وفي هذه الذكرى القى زكي خيري وحده خطابا عن تأريخ ثورة اكتوبر مع ذكر العديد من التواريخ والوثائق. دام الخطاب حوالى ٦ ساعات على جلستين ثلاث ساعات في كل منهما وعجبنا في حينه من سعة علم هذا السياسي الكبير وعظم ذاكرته. ولكننا بعد انقسام المنظمة الى منظمتين وظهور كتاب تأريخ الحزب البولشفي علمنا ان الخطاب كان ترجمة حرفية للفصل السابع من التاريخ.مرة دخل الى السجن كراس باللغة الانجليزية يحتوي على مقالات كتبها أحد قادة الحزب الشيوعي البريطاني وهو أستاذ جامعي في الفيزياء كان يكتب مواضيع علمية بلغة العمال لتبسيط الموضوع العلمي بدون أن يشوه من مستواه العلمي. وطبيعي كنت أول من تناول الكراس وقراه أكثر من مرة. كانت في الكراس عدة مواضيع تتناول عددا من العلوم الشيقة أذكر منها طريقة التخاطب بين النحل وسير الحياة في خلية النمل وتجربة أجراها على نفسه عن المدة التي يستطيع بها انسان ان يبقى حيا في متر مكعب من الهواء. ولكن الموضوع الذي أعجبني اكثر من غيره هو أن الطائرة تستطيع الطيران ابطأ من سرعة الصوت أو أسرع منها ولكنها لن تستطيع الطيران بسرعة الصوت لأنها في هذه الحالة تغرق في دوامة من الموجات الصوتية وتتحطم. أعجبني هذا المقال فحكيته في فرقة الطعام. وسمع حامد مسؤول الفرقة كبير "الحفاة ذوي السليقة الثورية" القصة ولم يفهم منها سوى الادعاء بوجود طيران اسرع من الصوت. وقد دلته سليقته الثورية الى خطورة مثل هذا الادعاء على منظمة شيوعية فدعى اللجنة المسؤولة الى اجتماع طارئ بحثوا فيه هذا الموضوع الخطير وبدون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءة المقال الذي كتبه عالم كبير وقائد شيوعي توصلوا الى قرار. وفي اليوم التالي دعينا الى اجتماع حضره جميع السجناء تحدث فيه رئيس المنظمة سالم عبيد النعمان وقال انه تسري بين اعضاء المنظمة احاديث عن طيران اسرع من الصوت. فاجتمعت اللجنة ودرست الموضوع من جميع جوانبه واتخذت قرارا بأنه لا يوجد ولا يمكن أن يوجد طيران اسرع من الصوت.أتذكر حادثا طريفا حدث وكان من الممكن أن يسبب مشكلة عويصة بين السجناء والادارة. كنا نخاطب بعضنا البعض بكلمة رفيق وكان مدير السجن عبد الجبار ايوب، المجرم المعروف، يكره كلمة رفيق ويعاقب كل من يتفوه بها. وكنا نستلم يوم الاثنين ويوم الخميس كمية اللحم المقررة للسجناء.(كان اللحم قبل حب فلسطين اربعة ايام في الاسبوع فتبرع سجناء بغداد بيومين من اللحم للحرب فقلصت الحكومة ايام اللحم الى يومين بصورة دائمة). كان أحد اعضاء المنظمة، يحيى البارح، قصابا فكان من الطبيعي ان يقوم هو بتقطيع اللحم واعداده للطبخ لأنه يجري ذلك بصورة حرفية. وفي أحد الأيام دخل المدير لتفقد السجن ولاحظ القصاب وهو يقطع اللحم فتقرب اليه وسأله كيف اللحم اليوم. فأجابه القصاب "كلش زين رفيق". ولكن المدير لم يكن ذلك اليوم راغبا في خلق مشكلة وتقبل ذلك بهدوء ولم يعاقب يحيى البارح على ذلك.كان بين السجناء الذين حكم عليهم في السجن مع الرفيق فهد سنة ١٩٤٧ فنان كبير اسمه رشاد حاتم استطاع خلال وجوده في سجن الكوت ان يحصل على كمية كافية من مواد الرسم التي يحتاجها ونقلها معه الى نقرة السلمان. استطاع هذا الفنان ان يرسم لوحات زيتية كبيرة ورائعة لمختلف مناحي الحياة السجنية. كان هذا الفنان يجلسنا كنماذج اثناء الرسم فسجل عشرات اللوحات التي تصور حياة السجناء اثناء ادائهم مهامهم السجنية. عجبت في حينه من انه لم يرسم اية صورة لاي سجين من السجناء ولا حتى العناصر القيادية. وحتى في لوحاته التي رسمها عن حياة السجن لم يرسم اي وجه يمكن منه ان يستدل على شخصيته. ولكني ادرك اليوم ان هذا الفنان كان ذكيا بعيد الافق. فلو انه رسم وجوها واضحة للاشخاص في لوحاته لكانت قيمها الفنية تتضاءل اذا ما هبطت مكانة ذلك الشخص الحزبية او السياسية. ولكن عدم وجود صور واضحة للاشخاص يبقي القيمة الفنية للوحة على ماهي مهما تغيرت الظروف. لا ادري ما حل بهذه اللوحات الفنية الرائعة. هل دمرت اثناء الهجمات البربرية والمجازر التي حدثت في السجون ام افلح رشاد حاتم في انقاذها واخراجها من السجن الى الحرية معه؟ اتمنى لو انه افلح في انقاذها لتبقى ذخرا فنيا وصفحة تاريخية رائعة لحياة السجون السياسية من ١٩٤٧ الى ثورة ١٤ تموز.دخل الى السجن مرة كراس سوفييتي مترجم الى العربية اسمه "السياسة الخارجية السلمية للاتحاد السوفييتي". والكراس مبني على أساس ثلاث خطابات لكل من ستالين ومولوتوف وجدانوف. تضمن هذا الكراس شرحا وافيا لسياسة الاتحاد السوفييتي الخارجية السلمية ونظرية التعايش السلمي الستالينية. وقررت المنظمة تدريس هذا الكراس كأحد المواضيع التثقيفية الهامة. واستنادا الى التقليد الساري بأن التثقيف يجب أن يجري من أعلى كلفوا حامد نفسه بتدريس هذا الكراس. وفي اعتقادي ان حامد لم يفهم شيئا من الكراس. فكان تدريسه مملا ولم يقدم اية فائدة للمنظمة. كان يدرس الكراس بطريقة اورد منها مثالين واقعيين للدلالة على عقم تدريسه. كان يخاطب أحد الحضور باسمه قائلا "ابراهيم ماهي الفقرة د من المادة ٣؟" وابراهيم هذا هو صبي كردي من مدينة زاخو مراهق جاء الى السجن وهو لا يعرف كلمة عربية. وطبيعي ان ابراهيم لم يفهم السؤال فكيف يعرف الاجابة عليه؟ والمثال الثاني هو حين وجه السؤال الي "رفيق حسقيل ماهي الفقرة هـ من المادة ٥؟" فأجبته انني لا احفظ المواد عن ظهر قلب فأرجو قراءة الفقرة لكي اشرحها. استمر هذا الحال لمدة اسبوعين توقفت الدراسة بعدهما واهمل الكراس. ولم يستفد من الكراس احد سواي لأني قرأته مرات عديدة. وقد اختفى الكراس بعد مدة قصيرة ولم نره بعد ذلك. ولكني اتخذت مادة الكراس اساسا لموضوع التعايش السلمي الذي درسته في حزيران تموز١٩٥٢ كما سيأتي ذكره في حينه.في أواسط سنة ١٩٥١ ظهرت حركة انتقاد داخل اللجنة العليا حول سياسة المنظمة وتقرر أن يتوجه كل من الاتجاهين الى جميع الأعضاء ويشرح فيها وجهة نظره وأن يمنح كل شخص فرصة اختيار الجانب الذي يستحسنه وأن تنقسم المنظمة بدون صدامات وبصورة سلمية الى منظمتين. كان أحد الاتجاهين بقيادة سالم عبيد النعمان والاتجاه الثاني بقيادة حميد عثمان. وقد اتجهت الأغلبية الساحقة نحو حميد عثمان ولم ينضم الى سالم عبيد النعمان سوى حوالى عشرين عضوا من مجموع ٢٥٠. وجرى الانقسام بدون تصادم وبقيت بين المنظمتين علاقات عادية وتبادل ادبيات عادية وادبيات ماركسية، اي ان الكتب المتوفرة اصبحت مشتركة قابلة للتبادل.في نقرة السلمان بنينا أول عود في تاريخ السجن. بنينا العود من مواد اولية مثل قطعة من الخشب المعاكس ومنخل وقطعة من كرك الخباز وقبقاب. لم أكن من الخبراء في النجارة ولكن دوري اقتصر على تحديد المقاييس للاعضاء الذين قاموا بالعمل. ولم تكن لنا أوتار يمكن استخدامها للعزف فاستعملنا بعض الأسلاك النحاسية التي توفرت في السجن وفتلنا اثنين منها لجعلها اكثر سمكا. ولكني استطعت مع ذلك العزف بهذا العود البدائي في الحفلات للتقسيم ومرافقة المغنين. لم يؤد العود في هذه الفترة دورا مهما كما سيحدث في الحالات التالية.
الفترة الثانية في سجن نقرة السلمان
كانت هذه الفترة الثانية في نقرة السلمان من أروع الفترات في تاريخ السجون. فقد دأبت القيادة الجديدة على رفع مستوى الاعضاء السياسي والنظري. وظهر أن المنظمة كانت تحوز على عدة كتب نظرية احتفظت بها سرا في الفترة الأولى. فقد ظهر كتاب تأريخ الحزب البولشفي وترجمت ثلاثة فصول منه الى العربية استنسخت بعدة نسخ للسماح لمن يريد مراجعتها بالحصول عليها متى شاء. وبدأ تدريسها في حلقتين قام بالتدريس فيهما ابراهام شاؤول وزكي خيري. ولم يدرسوا في هذه الفترة موضوع الاقتصاد السياسي رغم وجود الكتاب ولكن الكتاب كان متوفرا لمن يريد قراءته. وظهر لأول مرة كتاب الرأسمال باللغة الانجليزية. تقرر اعطاء الراسمال الى اربعة اشخاص يجيدون الانجليزية هم زكي خيري، ابراهام شاؤول، يعقوب منشي، وحسقيل قوجمان. خصص لكل منا نحن الاربعة وقت معين. وكان الوقت الذي خصص لي أسوأ الاوقات اي بين وجبة الظهر وموعد شرب الشاي في حوالي الرابعة بعد الظهر. وهذا هو الوقت الذي كان فيه جميع السجناء عدا السجناء الذين يشتغلون في اعداد الطعام ينامون لأخذ قسط من الراحة في الجو الصيفي الحار. ولكني كنت سعيدا بذلك وبدأت فورا في دراسة الراسمال وتحقيق حلمي القديم. كانت لغة الراسمال صعبة بالنسبة لي واضطررت في البداية الى ايجاد ما يقرب من خمسين كلمة في الصفحة الواحدة بالقاموس لكي استطيع فهم المادة ولكن ذلك لم يثبط من عزيمتي على دراسة هذا الكتاب العظيم. وبعد أيام ضجر شركائي الثلاثة من مجرد استلام وتسليم الكتاب الذي لم يكلفوا أنفسهم عناء فتحه والقراءة به فأخبروني بأن احتفظ بالكتاب الى ان تتاح لهم فرصة مناسبة لقراءته وبذلك بقي الكتاب لدي كل الوقت واستطعت أن أدرس فيه مدة ثلاثة أشهر. وسحب الكتاب عند اعلان الاضراب عن الطعام الذي سيأتي ذكره ولم يظهر كتاب الراسمال مرة اخرى طوال مدة السجون. لذا استطيع القول بثقة تامة بانني كنت الوحيد الذي قرأ كتاب الراسمال في السجن.وظهر الى جانب الراسمال كتاب الايديولوجية الألمانية لماركس وانجلز وبقي هو ايضا تحت وسادتي طيلة تلك الفترة وكنت الوحيد الذي قرأه.خلال تلك الفترة القصيرة من حياة المنظمة الجديدة حدث حادث كان لـه تأثير كبير على شخصيتي في المستقبل. دخلت الى السجن وجبة كبيرة من الصحف المحلية كانت مخزونة لدى الادارة. وفي احدى هذه الصحف كان مقال طويل بعنوان "المادية الجدلية ثورة في العلم" بقلم ع.ع. لم أقرا المقال لأني كنت مشغولا في قراءة الراسمال والايديولوجية الالمانية. ولكن المقال خلق ضجة في المنظمة وصار الحديث يجري عنه بأنه مقال عظيم كتبه ماركسي كبير. وذات يوم جاءني أحد السجناء من المقربين للقيادة وسألني ان كنت مستعدا لقراءة المقال معه لأنه لا يستطيع فهمه لوحده. فقلت لـه يجب أن يأخذ موافقة القيادة على ذلك أولا. وبعد يومين جاءني وقال ان القيادة سمحت له بقراءة المقال معي. وبدانا في قراءة المقال فرأيت انه مقال لا ماركسي وليس فيه شيء من الديالكتيك الماركسي الحقيقي. فتوقفت عن القراءة بعد قراءة فقرتين من المقال واخبرت صاحبي بأني لا استطيع الاستمرار في قراءة المقال لأنه ليس ماركسيا في نظري ولا يستحق هذه الضجة التي اثيرت حوله. واستمر الضجيج في المنظمة حول المقال وكان جوهر النقاش يدور حول "هل البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة" كان النقاش في الواقع دليلا على أمرين: اولهما الجهل المطبق الذي يسود المنظمة في موضوع من أهم مواضيع الماركسية هو المادية الديالكتيكية، والثاني هو عظم رغبة السجناء في تعلم هذا الموضوع الحيوي. وكان في المنظمة دفتر موضوع تحت تصرف السجناء لقراءته يسمى دفتر الأدبيات الثورية أدخل هذا المقال ضمن مقالاته. لم أكن آنذاك اعلم من هو ع.ع. ولكن يبدو ان قيادة المنظمة كانت تعلم من هو وأنه عضو قيادي في الحزب الشيوعي ولذلك وضعوا مقاله في دفتر الأدبيات الثورية. بعد خروجي من السجن علمت انه كان عامر عبدالله، عضو المكتب السياسي للحزب. استمر الضجيج حول هذا المقال وكنت الوحيد الذي أصر على ان المقال ليس ماركسيا ولا علميا. ولكن الضجيج بلغ درجة لم تستطع قيادة المنظمة السكوت عنه. فتقرر دعوة جميع الذين اشتركوا في النقاشات الى اجتماع لمناقشة الموضوع. وكنت احد الذين حضروا هذا الاجتماع الذي دعي اليه حوالى خمسين سجينا. كنت احب وأقدر رئيس المنظمة الجديد حميد عثمان وأعلم انه جاهل نظريا فتوقعت ان يكون هذا الاجتماع فاشلا بالنسبة اليه وسيضعه في موقف حرج ففكرت في انقاذه من هذه الورطة. رفعت يدي طالبا الكلام فقلت ليس جميع المجتمعين ممن اشتركوا بصورة فعالة في هذا النقاش. اقترح دعوة عدد قليل ممن ساهموا مساهمة فعالة في النقاش واقتصار الاجتماع عليهم فقط. فسأل حميد عثمان المجتمعين عن رأيهم باقتراحي فوافقوا عليه ولذلك أبقوا خمسة سجناء لمناقشتهم كنت احدهم رغم اني لم اشترك في النقاشات غير العلمية التي جرت. أنا كنت صريحا في موقفي ضد اعتبار المقال ماركسيا أو علميا وضد ادخال المقال في دفتر الأدبيات الثورية وقد قلت ذلك بصراحة وأمام المسؤولين. لم اعرف من هو ع.ع. ولم احاول أن أسأل عن هويته لأن ذلك لا يؤثر في نظري على حكمي على المقال لأن تقدير المقال يجري حسب مادته وليس حسب شخصية كاتبه. وعندما اجتمعنا نحن الخمسة مع حميد عثمان وابراهام شاؤول الذي يعتمد عليه حميد عثمان من الناحية النظرية سألني حميد عثمان "هل يوجد دجاجة وبيضة في الديالكتيك؟" فأجبته "نعم يوجد." فسألني لماذا اذن لم يذكر ستالين ذلك في كتابه عن الديالكتيك؟ فأجبته ان ستالين جاء بأمثلة اخرى ولكن انجلز جاء بمثال البيضة والدجاجة في أبحاثه. وعندما سمع حميد عثمان جوابي غضب وترك الاجتماع بصورة عصبية. وخلال اسبوعين لم يكن يرد حتى على تحية الصباح. ولكن النقاش حول المقال توقف بعد هذا الاجتماع لأن السجناء شعروا بعدم رضا القيادة عن هذه الضجة.شعرت بالتحدي فقررت أن انتقد المقال انتقادا تحريريا مفصلا للبرهنة على ان ع.ع. لم يكن يعرف المادية الديالكتيكية ولم يكن مقاله سوى مقال بتي برجوازي مشوه للمادية الديالكتيكية. وعندما اتممت هذا الانتقاد تماديت في التحدي ففكرت ان قراء الانتقاد قد يقولون ان الانتقاد سهل فهل يستطيع حسقيل أن يكتب مقالا احسن من مقال ع. ع. وفعلا بدأت في كتابة مقال عن المادية الديالكتيكية عبرت فيه عن أفكاري حول هذه النظرية. وحين اتممت المقال اخذت المقالين وقدمتهما لمسؤول غرفتنا جورج تلو واخبرته بالأسباب التي دعتني الى كتابة المقالين وطلبت منه ان يقرأ ما كتبته في الانتقاد وفي المقال. فطلب مني ان احتفظ بالمقالين الى ان يستشير المسؤولين. وفي المساء جاءني وطلب مني احراق المقالين. لقد ازعجني ذلك في حينه أما الآن فأنا استطيع فهم ما حدث. كان ابراهام شاؤول المرجع النظري في المنظمة وهو الذي كان عليه ان يقرا ما كتبته. ولم يكن ابراهام شاؤول من التواضع بحيث يفرح لوجود شخص قد يضاهيه أو ينافسه في هذا المضمار. احرقت المقالين حسب اوامر المسؤول ولكني ما زلت حتى اليوم اعتز بما كتبته آنذاك لأن المقالين كانا أول موضوع سياسي ونظري كتبته في حياتي.مرت الأيام وأنا اقاسي من معاملة حميد عثمان الجافة لي. فقد كنت احبه واقدره وأشعر باخلاصه للمنظمة ورغبته في تقدمها رغم جهله في القضايا النظرية. وفي عصر أحد الأيام جلست في الدور لتناول الشاي اذ كان يوزع حسب الدور. وجاء حميد عثمان وجلس بجانبي. وأخذ يعتذر عن سلوكه معي في الاحتماع وبعده. فأسعدني ذلك وقلت لـه "أنت تعرف كم احبك واقدرك وأنا اعتز كل الاعتزاز باعتذارك. ولكن هذا لا يمنعني من مواصلة انتقاد مقال ع.ع. طالما بقي في دفتر الأدبيات الثورية لأن هذا مضر بالمنظمة ومصلحة المنظمة هي المصلحة العليا" فأجابني بصراحة قائلا "ماذا أفعل؟ أنت تعرف انني جاهل في القضايا النظرية وأنا اسمع ما يقوله لي أبراهام شاؤول." وتوقف حديثنا عند هذا الحد. بعد فترة قصيرة لم تدم اكثر من ثلاثة أو أربعة اشهر بعد الانقسام تقرر اعلان اضراب عن الطعام في جميع السجون السياسية ولذلك رفعت جميع الكتب الماركسية والأدبيات الثورية وكان المقال من ضمنها ولم نره بعد ذلك كما لم نر كتاب الرأسمال ايضا. اشتركت المنظمة الثانية ايضا في الاضراب. ونجح الاضراب عن الطعام فحصلنا على حق الانتقال من نقرة السلمان الى السجون السياسية الاخرى. وكنت في الوجبة الاولى التي انتقلت الى سجن الكوت لأن المنظمة قررت أن تنقل ذوي المحكوميات الطويلة أولا.
سجن الكوت
استقبلنا سجناء الكوت احر استقبال والتقيت لأول مرة بأخي الذي كان سجينا منذ ١٩٤٨. وبعد الاحتفالات واعادة تنظيم واجبات السجناء حسب الظروف الجديدة بدأت دورات دراسية جديدة. وقد فوجئت بدعوتي للاشتراك في تدريس تأريخ الحزب البولشفي مساعدا لعزيز الحاج فأصبحت معيدا للمحاضرة التي يلقيها عزيز الحاج في اليوم التالي. كان هذا التعيين مفاجأة لجميع السجناء ولي ايضا. فقد كان المألوف أن يقوم المسؤول الأول أو احد المسؤولين الرئيسيين بالتثقيف. وفعلا كان الثلاثة أبراهام شاؤول وزكي خيري وعزيز الحاج هم الذين مارسوا التثقيف. ولم يسبق أن طلب من شخص من القواعد لا مسؤولية له أن يقوم بتثقيف شيوعيين اعلى منه مسؤولية في التسلسل الحزبي. وفي الأيام الأولى امتنع العديد من السجناء عن حضور محاضرتي لأنهم اكثر مني مسؤولية إذ كيف يحضرون محاضرة يلقيها شخص أقل منهم مسؤولية؟ وأعتقد ان موقفي الصلب في انتقاد مقالة ع.ع. هو الذي جعل حميد عثمان يرشحني لهذا الدور. خلال مدة مساهمتي في التثقيف كمعيد لعزيز الحاج حدث لي حادثان جديران بالذكر معه. ففي احدى المحاضرات قلت عبارة شعرت بعد المحاضرة انها كانت خاطئة. فراجعت التأريخ ووجدت سبب الخطا وكيفية تصحيحه. وفي اليوم التالي حين كنت جالسا بجانب عزيز الحاج عند القاء محاضرته طلبت منه الكلام فسمح لي. قلت بأني أخطأت يوم أمس حين قلت الشيء الفلاني ولذلك راجعت التأريخ ووجدت سبب الخطأ الذي وقعت فيه ووجدت العبارة الصحيحة التي هي كذا. ثم استمر عزيز بالقاء محاضرته الجديدة. وعندما خرجنا من الاجتماع وبخني عزيز قائلا "كيف تقول أمام الرفاق انك وقعت في خطأ؟ ان ذلك يجعلهم يستهينون بك." فأجبته "ولكني أخطأت وعلي أن أقول اني أخطأت وأن اصحح خطإي أمامهم. ولا اعتقد انهم يستهينون بي لهذا السبب بل انهم يزدادون ثقة بي لأنهم يعلمون اني مستعد أن انتقد نفسي على الخطا الذي ارتكبه."والحادث الثاني كان أثناء عملنا معا كفريق. فقد كان جميع السجناء يتناوبون على نخل وتنقية طحين الخبز قبل عجنه. ويتكون الفريق من سجينين يشتغلان حوالى ساعتين بين العاشرة والثانية عشرة مساء. كان هناك منخلان واسعان معلقان في السقف فوق حوض من الخشب فنقوم بنخل الطحين بالمنخل ليسقط الطحين النقي في الحوض. وكان الطحين يتجمع في الحوض بشكل تل يرتفع تدريجيا لمدة معينة وفجأة ينهار ليشكل تلا اوسع مساحة. وهذا مثال رائع على قانون التغير الكمي والتغير الكيفي الفجائي في المادية الديالكتيكية. فسألت عزيز "هل ترى الديالكتيك في الطحين؟" لزم عزيز الصمت ولم يجب فلزمت الصمت أنا ايضا. لم يكن عزيز من التواضع بحيث يسألني كيف رأيت الديالكتيك في الطحين. ولا شك عندي ان عزيز جعل من ذلك نكتة نقلها لأصحابه بان حسقيل يرى الديالكتيك في الطحين. ولكن عزيز دفع الثمن غاليا فيما بعد حول هذه القضية كما سنراه في حينه.كانت المهمة التي كلفت بها في المنظمة العمل في مراعاة صحة السجناء. واضافة الى ذلك كنت من فريق يعمل على تقطيع العجين بقطع متساوية تقريبا قبل خبزه. وقد اختاروني لمهمة الرعاية الصحية لأن السجين الذي كان يقوم بهذه المهمة كان قد خرج من السجن ولأني كنت طالبا في كلية الصيدلة قبل اعتقالي واجيد حقن الأبر. كانت هذه المهمة صعبة إذ كان الطبيب يزورنا مرتين في الأسبوع فيفحص المرضى منا ويصف لهم الأدوية ومنها الأبر الوريدية. كان علي ان اسجل المرضى من منظمتنا ومن السجناء غير السياسيين وادعوهم الى الحضور امام الطبيب لفحصهم وأن أوزع الأدوية حسب تعليماته. وشملت هذه المهمة السجناء العاديين غير السياسيين الموجودين في الجناح الثاني من السجن. وكانت آنذاك أبر البنسيلين والستريبتومايسين تعطى كل ثلاث ساعات فكان علي أن استيقظ من النوم كل ثلاث ساعات لاعطاء الأبر للسجناء الذين وصف الطبيب لهم ابر البنسيلين او الستريبتومايسين في كلا شطري السجن. كان هناك حراس ليليون منا يتناوبون على الحراسة الليلية وهم الذين كانوا مسؤولين عن تنبيهي الى موعد اعطاء الأبر. وأول صعوبة جابهتها في هذه المهمة كانت مع الموظف الصحي الذي كان يجلب لنا الأدوية التي يصفها الطبيب. كان الطبيب يعطي كثيرا من أبر الكالسيوم التي يجب حقنها في الوريد. وفوجئت ان هذا الموظف الصحي جلب لي أبر كالسيوم من تحضيره بدل الأبر الجاهزة المعدة طبيا. فسألته ما هذا ؟ فقال نحن دائما نفعل هذا وكان المسؤول عن صحة السجناء السابق يوافق على حقن هذه الأبر للسجناء المرضى. فرفضت استلام هذه الأبر وقلت لـه أنا لست مستعدا لأن ادخل في وريد سجين مستخضرا لم يحضر بصورة علمية دقيقة وأني لا أوافق على استبدال الابر الحقيقية بأبر من تحضيره. وكان مضطرا على أن يخضع وأن يجلب الأبر الصحيحة التي يصفها الطبيب بدل أن يبيعها. خلال عملي في رعاية صحة المرضى حدثت قضايا كثيرة مع السجناء السياسيين وغير السياسيين أذكر عددا منها. منذ بداية عملي كان أحد السجناء السياسيين من سجناء الكوت القدامى اسمه صاحب حمادي يحضر الى الغرفة الصغيرة التي كنا نسميها عيادة ليطلب حبة كينين. وقد اعطيته في البداية بدون مناقشة. وبعد أيام جاءني ليطلب حبة الكينين وقال لي انه يلاقي صعوبة في بلع الطعام. فرجوته أن يأتي الي بعد العشاء لأني أريد أن اتحدث اليه. وجاء بعد العشاء وأخذنا نتحدث ونتمشى في ساحة السجن. سألته لماذا يتناول حبوب الكينين فأجاب انه يعاني من الملاريا. منذ متى تعاني من الملاريا؟ منذ زمن بعيد. كان صاحب حمادي جنديا مراسلا ينقل الرسائل من معسكر الى آخر على دراجة نارية. وحدث أنه يوما كان يسبح في نهر دجلة وشعر برجفة برد بعد خروجه فقالوا لـه هذا ملاريا وعليه أن يأخذ حبة كينين, ومن ذلك الحين استمر طيله هذه السنوات على تناول الكينين وأبر الكينين احيانا. كان يحتفظ في جيبه بعلبة مليئة بالكينين وكلما شعر برجفة برد تناول الكينين حتى اثناء سفره على الدراجة النارية. سألته ان كان قد استشار طبيبا فأجاب بالنفي. فقلت له انني سأرسل دمه للفحص وأوقف اعطاءه الكينين الى أن تأتي النتيجة. ولم يكن بامكانه الاعتراض على قراري. وبعد أيام اخبرني انه أصبح يشعر بتحسن في البلع وفي صحته عموما. بعد اسبوعين تقريبا كنت في العيادة فجاء بعض السجناء فزعين مبهوتين وقالوا ان صاحب، أثناء عمله في اعداد الشاي، سقط مغشيا عليه. ذهبت بسرعة ونقلناه الى فراشه وكان جسمه كله باردا كالثلج. فوضعت ماء ساخنا قرب رجليه وأخذت أدلك يديه وصدره للتدفئة. وبعد حوالى عشر دقائق استفاق صاحب وفتح عينيه. فابتسمت له وقلت له هامسا في أذنه "ماكو كينين". ومنذ ذلك الحين تحسنت صحته ولم يعد يشكو من شيء وأصبح رئيس الجمعيات الفلاحية في لواء العمارة بعد ثورة تموز.والحالة الثانية التي صادفتني هي شاب كان خريج مدرسة زراعية كان يشكو من نوع من الاكزيما لم اشاهد مثله من قبل. كانت الاكزيما تشكل مثلثا سميكا بين اصبعين من أصابع كفه فتسد الفراغ بينهما. وقد استشار هذا الشاب العديد من الأطباء حين كان طالبا فلم يفلحوا في معالجته. وفي أحد الأيام تطوع للعمل في عملية بناء دعت الحاجة اليها داخل السجن, وقام بخلط الاسمنت بيده أثناء العمل. وبعد أيام بدأت الاكزيما تتفطر وتنتثر الى أن اختفت كليا. والتقيت بالشاب مرة اخرى في ١٩٥٨ وكان بريئا من الاكزيما.كان السجناء العاديون وحتى ادارة السجن يعتقدون اننا نستطيع القيام بالمعجزات. وقد حدث حادثان بارزان للدلالة على ذلك. كانت ابنة مدير السجن وعمرها حوالى ٨ سنوات تعاني من قرحة في جبينها. وبدلا من أن يرسلها مدير السجن الى المستشفى أو الى طبيب أرسلها الي. فاستقبلتها بابتسامة واخذت اتجاذب معها أطراف الحديث كطفلة وقدمت لها بعض الحلوى مما توفر لنا في السجن. وسألتها ان كانت القرحة تؤلمها فقالت نعم. وسألتها ان كانت تريد التخلص منها فقالت نعم. فقلت لها ان التخلص منها قد يكون مؤلما قليلا فهل هي مستعدة لتحمل بعض الألم فقالت نعم. وكانت القرحة ناضجة للفتح وبلمسة بسيطة بعد تعقيمها استطعت أن اخرج القيح منها ثم وضعت لها ضمادا وكانت طفلة رائعة لم تصرخ ولم تبك بعد أن انذرتها بأن العملية قد تكون مؤلمة بعض الشيء. والحادث الثاني الذي ارى من الجدير ذكره هو ان أحد السجناء العاديين كان له طفل في السابعة من عمره فاجري له الختان حسب العادة. وأخبرني السجين ان الولد ما زال يعاني من نزيف بعد الختان ومن حمى عالية. وطلب من ادارة السجن رخصة بأن يدخلوه الي. وجاء الطفل فرأيت شيئا غريبا. كلما كان الطفل يعاني من ألم أو نزيف كانوا يغطون قضيبه بالرماد فأصبحت حول قضيب الطفل طبقة بسمك سنتيمترين من الرماد متصلبة بحيث كان على أن استعمل اداة لكسرها. وعندما كسرتها انتشرت رائحة القيح النتنة في ارجاء السجن. وبعد تنظيف القضيب وتعقيمه اعدته الى والده الذي كان ينتظر في الجانب الثاني من السجن لأني منعته من الحضور اثناء المعالجة.سارت الحياة في سجن الكوت سيرا عاديا وكنا نستقبل وجبات السجناء المنقولين من نقرة السلمان الى الكوت بالترحاب والحفلات الغنائية وتوزيع السجاير والحلوى. وسار التثقيف السياسي سيرا مستمرا لم يكن مألوفا من قبل وكان السجناء يتحمسون للدراسة لأنهم كانوا يشعرون بجهلهم ويودون الحصول على ثقافة سياسية ونظرية. بعد مدة قصيرة انتقل ابراهام شاؤول، وهو المرجع النظري آنذاك كما ذكرت، من سجن الكوت الى سجن بغداد وبقي من المثقفين عزيز الحاج وزكي خيري. وقد تعود السجناء تدريجيا على تقبل وجودي كأحد المثقفين رغما عنهم في البداية وباقتناع بعد ذلك. في الأشهر الأخيرة من سنة ١٩٥١ قام بعض الرفاق بقيادة حميد عثمان سرا بحفر نفق من حجرة المخزن الى الساحة الواقعة وراء السجن. وقد أدار العمل فنيا مهندس وعامل بناء كانا موجودين بين السجناء. وكان الحزب كما يبدو على علم برغبة السجناء في الهرب عن طريق هذا النفق. عندما تم حفر النفق وحدد موعد الخروج منه خرج عزيز الحاج ليلا والتقى بقادة الحزب في لواء الكوت وأخبرهم بالموعد الدقيق للهروب وعدد الهاربين وطلب منهم اعداد وسيلة نقل تكفي لهم. فوعدوا بذلك. وفي اليوم التالي خرج سبعة سجناء. وقد اقيمت تلك الليلة حفلة صاخبة داخل السجن للتغطية. وفي الليلة الثانية خرج سبعة سجناء آخرون واقيمت حفلة صاخبة ايضا للتغطية. وقد نجحنا في ستر الهروب بحيث ان الحراس اجروا احصاء السجناء في اليوم الثالث بدون أن يشعروا باختفاء ١٤ سجينا. وقد صادف أن بقرة مدير السجن كانت ترعى في الساحة فدخلت رجلها في فتحة النفق الخارجية وشعر الحراس بوجود النفق وسرعان ما أمرونا بالوقوف لاجراء الاحصاء. وظهر اختفاء ١٤ سجينا. وسألونا اين هم فأجبنا اننا لا ندري ولسنا مسؤولين عن وجودهم في السجن. خرج ضمن الهاربين جميع السجناء ذوي المحكوميات الطويلة عداي لأني كنت آنذاك اعاني من كسر في احد اضلاعي فخافوا علي ولم يستصحبوني معهم. وقد كان هذا الهروب مأساة حقيقية. فالحزب لم يوفر الشيء البسيط الذي طلب منه وهو تهيئة سيارة لنقل السجناء الهاربين الى بغداد قبل اكتشاف هروبهم. ولذلك اضطر الهاربون الى السير الى بغداد مشيا على الأقدام وقبض عليهم جميعا وارسلوا من جديد الى نقرة السلمان بعد محاكمتهم على الهروب. كان ذلك اهمال متعمد من قبل سكرتير الحزب في حينه حوسب عليه في السجن بعد ذلك. وأعتقد ان هذا السكرتير خشي ان يؤدي خروج هؤلاء القادة وحميد عثمان خصوصا الى فقدانه مركز السكرتير فقرر التضحية بهم حفظا لمصلحته الخاصة رغم ان هروبهم كان من مصلحة الحزب.ان خروج السجناء وبينهم عزيز الحاج وزكي خيري خلق الظروف المناسبة لي لكي أكون المثقف الوحيد المعترف به في السجن. فأنا الوحيد من المثقفين الذي بقيت هناك. وتعود السجناء ان يروني المثقف الوحيد. وكانت موجات السجناء الجدد تراني مثقفا فيتقبلون ذلك بصورة طبيعية. ولكني اجتهدت عن طريق الدراسة المتواصلة والتحضير المستمر أن أجعل التثقيف مثمرا. وقد درّست في فترة ١٩٥٢ و ١٩٥٣ مواضيع عديدة لم يتطرق اليها أحد من المثقفين قبلي. فدرست دورة كاملة من الاقتصاد السياسي لاول مرة في تاريخ السجون. اذ أن فهد لم تسنح له فرصة كافية لانهاء الدورة. ولم يكن بعد فهد من يستطيع تدريس الاقتصاد السياسي. ولكني لم أقتصر على تدريس الاقتصاد السياسي فدرست اسس اللينينية، والقضية القومية، والمادية الديالكتيكية وفي الوضع الداخلي درست الميثاق الوطني وشرحته مشددا على موضوع مرحلتي الثورة في العراق وشروط كل مرحلة منهما والتركيب الطبقي في كل مرحلة. وفي سبيل ذلك قرأت كل كتاب ماركسي وصل الى السجن فورا. عند الاستعداد للاحتفال بعيد أول ايار سنة ١٩٥٢ كلفتني اللجنة المسؤولة بكتابة خطاب في المناسبة. فكتبت أول خطاب القيته في حياتي تناولت فيه قضية العلاقات الاقتصادية بين الراسمالية العالمية والاتحاد السوفييتي اذ انه في تلك الفترة زار الاتحاد السوفييتي وفد من اكبر الراسماليين الاميركيين لدراسة امكانية توسيع التبادل الاقتصادي مع الاتحاد السوفييتي. وقد حاولت دراسة الموضوع من جميع جوانبه فكان خطابا شيقا شعرت ان المستمعين تلقوه بشوق وامعان وهو ما ندر ان يحدث في مثل هذه المناسبات. ومنذ ذلك الخطاب اصبح من المألوف تقريبا ان القي خطابا في كل مناسبة من المناسبات حتى سنة ١٩٥٤. لم أكن اكثر من العبارات الثورية الرنانة التي كثيرا ما تتكرر في خطابات السجناء الاخرين. كنت في كل خطاب اتناول موضوعا معينا هو موضوع الساعة في حينه سواء أكان موضوعا عالميا ام موضوعا محليا. ولذلك كان السجناء في الواقع ينتظرون خطابي بشوق لأنهم يشعرون ان فيه ما يفيدهم ويوسع مداركهم.وفي حزيران تموز ١٩٥٢ درّست موضوعا لم يتطرق اليه احد من قبل. موضوع التعايش السلمي. لم تكن لدي وثيقة استند اليها في هذه الدورة. ولكني كما ذكرت سابقا سبق أن درست كراس "السياسة السوفييتية الخارجية السلمية" المبني على ثلاثة كلمات لستالين ومولوتوف وجدانوف. وقضينا شهرين ندرس موضوع التعايش السلمي ساعة كل يوم انهيناه في تموز ١٩٥٢. وموضوع التعايش السلمي الستاليني كما هو معلوم لم يكن لـه وجود في عصر لينين وبين الحربين العالميتين، ففي تلك الفترة كانت الحرب العالمية حتمية ولذلك لا توجد امكانية للتعايش السلمي بين الراسمبية والاشتراكية. فامكانية التعايش السلمي بين الاشتراكية والراسمالية نشأت فقط بعد الحرب العالمية الثانية. فبينما كانت الحرب العالمية حتمية قبل الحربين السابقتين ادى وجود الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي الى وجود قوة عالمية هائلة ليست الحرب من طبيعتها. وكشف ستالين عن ظهور وضع عالمي لم تعد فيه الحرب العالمية حتمية كما كانت قبل الحربين. ولكن الامكانية تتضمن الأمرين. فعدم حتمية الحرب وامكانية التعايش السلمي واختفاء خطر الحرب العالمية مجرد امكانية لا تنفي وجود الامكانية الثانية وهي نشوب حرب عالمية ثالثة. وعليه يجب النضال الدائم من أجل تحقيق التعايش السلمي وزوال خطر حرب عالمية ثالثة. فأطلق ستالين شعاره المشهور "ان السلم سيصان ويتعزز اذا أخذت الشعوب قضية السلام بأيديها" وتكونت حركة السلام العالمي من أجل النضال الدائم في سبيل جعل الامكانية واقعا. وبلغت شعبية حركة السلام من القوة بحيث انها قدمت طلبا بتحريم القنابل الذرية الى الأمم المتحدة بتوقيع ٦٠٠ مليون نصير سلام. سألني أحد المستمعين مرة "انك تعلمنا ان الحرب هي من طبيعة النظام الراسمالي وأن التعايش السلمي ليس من شأنه تغيير هذه الطبيعة ولكنك مع ذلك تتحدث عن وضع تصبح الحرب العالمية فيه غير ممكنة. اليس في قولك هذا تناقض؟" كان بين المجتمعين جعفر أبو العيس وهو رباع كان بطل وزنه في العراق وكان كذلك سجين من الضعف بحيث انه حين القى حجرا انكسر ذراعه. فسألت السجين الذي وجه السؤال ماذا يحدث لو أصر روبين على ان يقاتل جعفرا؟ فقال "تنكسر يده. فأجبته هذا هو التعايش السلمي. فالدول الراسمالية تستمر على ممارسة الحرب كامتداد لسياستها ووفقا لطبيعتها ولكنها تجابه معسكرا اشتراكيا هائلا وحركة سلام عالمية شاملة لا تستطيع ان تحاربها رغم رغبتها في ذلك. فالحرب تبقى من طبيعة الراسمالية وربما نشبت حروب عديدة فيما بين الدول الراسمالية ولكن هذه الدول عاجزة عن شن حرب عالمية ضد هذه القوى المتصاعدة كل يوم. وسألني سجين آخر يوما عندما كنا نتحدث عن الشيوعية وشعارها "من كل حسب عمله ولكل حسب حاجته". قال "كيف يمكن تحقيق ذلك والانسان يرغب دائما في الحصول على المزيد؟ كيف نضمن ان الأشخاص لا يسرقون ويسرفون في تناول المواد؟" سألت هذا السجين "حين كنت طفلا هل كان لديكم خبز دائما؟" قال نعم. قلت هل كنت تفكر في سرقة قطعة خبز لكي تأكلها في اليوم التالي؟ قال لا. قلت ذلك لأنك تعرف انه في اليوم التالي تجد الخبز الحار الطازج موجودا ومتوفرا. وسألته هل كان لديكم دائما حلوى وشكولاتة في البيت؟ قال لا. قلت لـه لو رأيت عددا من السكريات على المائدة هل كنت تفكر في اخفاء قسم منها لليوم التالي؟ فابتسم وقال نعم. قلت لـه ان الشيوعية ليست مجرد وجود كميات كافية من المواد لكافة اعضاء المجتمع فقط انما هي ايضا ثقافة ورفع مستوى الانسان الى مستوى الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع. فبدون مستوى ثقافي كهذا لا يمكن تطبيق الشيوعية. ان عملية السير نحو الشيوعية هي عملية متعددة الجوانب، كزيادة الانتاج والتدريب المهني المتعدد الجوانب ورفع المستوى الثقافي الى درجة ان العمل يجب ان يصبح جزءا طبيعيا من حياة الانسان والقضاء على التناقض بين العمل اليدوي والفكري. ففي ظروف كهذه فقط يمكن التحول من الاشتراكية الى الشيوعية. فليس من الغريب اذن أن يتضمن أول هجوم على ستالين في المؤتمر العشرين قلبا لمفهوم التعايش السلمي والادعاء بأن خروشوف كان مبدع نظرية وسياسة التعايش السلمي.في ١٩٥٢و ١٩٥٣ احرزت بصورة تلقائية دور المثقف النظري الأول في السجن ولكن الوضع لم يتغير حين اجتمعنا ثانية مع المثقفين مثل زكي خيري وعزيز الحاج. فقد استمر الوضع كما هو وبقيت المثقف الأول في جميع السجون السياسية التي مررت بها وكان زكي خيري وعزيز الحاج يحضران الدورات التي ادرسها كغيرهم من السجناء ولم يجرأ اي منهما على أن يأخذ على عاتقه تدريس موضوع نظري.في سجن الكوت بنينا العود الثاني بنفس الطريقة السابقة وكان العود في هذه المرة احسن من العود الاول لاننا اكتسبنا خبرة من بناء العود الأول ولأن الظروف في سجن الكوت سمحت لنا بالحصول على اوتار عود حقيقية. وكنت هنا ايضا عازف العود في الحفلات ومدرس النشيد والاغاني السجنية. وللمرة الأولى في تاريخ السجون جرى تلحين حقيقي لنشيد جديد في السجن. فكل الأناشيد والاغاني السجنية كما جاء سابقا كانت كلمات ثورية يؤلفها بعض السجناء من الشعراء ويغنونها على لحن لأغاني عراقية أو أجنبية معروفة كأغاني الأنصار. وفي منتصف سنة ١٩٥٣ كان موعد مهرجان الشبيبة في برلين فقررنا أن نحتفل في نفس اليوم. وكان بيننا محام من البصرة ينظم الشعر فنظم نشيدا بالمناسبة ولحنته. ولكننا لم نستطع الاحتفال بالمهرجان لان الهجوم الذي انتهى بمجزرة في سجن الكوت بدأ قبل تأريخ المهرجان. ولكن بعض السجناء انتهت مدة محكومياتهم قبل ذلك فخرجوا من السجن واشتركوا في المهرجان وأنشدوه هناك. نظرا لقرب انتهاء محكوميات عدد من السجناء الشباب المحكومين لمدد قصيرة قررنا ان ننظم دورة خاصة لهم نبحث فيها مواضيع مختلفة سريعة. وفي تلك الفترة وصل الى السجن كراس ستالين "مسائل الاشتراكية الاقتصادية" الذي كتبه في آخر ايام حياته مترجما الى العربية. كان ذلك قبيل بدء ارهاصات المجزرة. وانتهزت هذه الفرصة لتلخيص الكراس وشرحه لهؤلاء الشباب قبل خروجهم بيومين. واستغرق ذلك حوالى اربع ساعات. ولم تسنح لي فرصة رؤية الكراس مرة اخرى نظرا لبدء مضايقات المجزرة.لم أتطرق في ذكرياتي الى علاقة السجون السياسية بالسجناء غير السياسيين رغم وجود العديد من القضايا الشيقة في هذه العلاقات والكثير من الشخصيات النادرة التي التقيناها في السجون. وقد وصفت عددا كبيرا من هذه الشخصيات في مذكراتي المكتوبة باللغة الانجليزية. ولكن ثمة حادث واحد لم يتكرر اود هنا التطرق اليه. كان بين السجناء السياسيين في الكوت بطل رياضي هو جعفر أبو العيس الذي كان بطل وزنه في حمل الأثقال في العراق. وكان بين السجناء العاديين في الكوت سجين من الأشقياء الذين يؤجرون أنفسهم لتنفيذ الجرائم العادية والسياسية لقاء اجور يتقاضونها. كان هذا الآشقياء، خليل أبو الهوب، معجبا ببطلنا الرياضي جعفر أبو العيس وكون معه علاقات صداقة وأقنعه بأن يدربه على حمل الأثقال. وبمرور الأيام أصبح هذا الأشقياء من محبي التنظيم السياسي وفي النهاية قبلته المنظمة السجنية في الكوت ليعيش ضمن اعضائها. كان خليل ابو الهوب السجين غير السياسي الوحيد الذي قبلته المنظمات السياسية في السجون كعضو من أعضائها طيلة فترة السجون. فقد كان العديد من السجناء العاديين الذين أعجبوا بالتنظيم السياسي في السجون ومنهم من كان على استعداد للعيش معنا لو قبلناهم. وكان منهم من كنا ندعوهم لحضور حفلاتنا في المناسبات لسماع المحاضرات والحفلات الغنائية في هذه المناسبات. وقد اثبت خليل أبو الهوب صدقه واخلاصه لما اكتسبه في السجن في فترة حياته القصيرة التي عاشها بين السجناء السياسيين. فقد ترك حياة الشقاوة وأصبح عضوا فاعلا في منظمة الشبيبة بعد ثورة ١٤ تموز الى أن قتلوه غدرا سنة ١٩٥٨ أو ١٩٥٩. في سنتي ١٩٥٢ و ١٩٥٣ كتبت كتابين. الأول كان حول تأريخ تطور الازمات الاقتصادية في النظام الرأسمالي حتى ازمة ١٩٢٩ . استعنت في ذلك بكتاب من تأليف اقتصادي بريطاني كان متوفرا في السجن. استنسخ هذا الكراس بعدة نسخ بخط جميل ووضع في مكتبة السجن وكان في متناول السجناء لقراءته حسب رغبتهم. والكتاب الثاني كان حول الديمقراطيات الشعبية في اوروبا وآسيا. وعند الانتهاء من هذا الكراس قررت لجنة السجن ان ادرسه لها في الليالي. ولم تسنح للسجناء الباقين فرصة قراءته نظرا لبدء مضايقات المجزرة. اضافة الى ذلك قمنا موشي اخي ويعقوب منشي وأنا بترجمة كتابين لستالين هما قضايا اللينينية والقضية القومية وهما كتابان ضخمان قد يتجاوز مجموع عدد صفحاتهما ٧٠٠ صفحة أرسلناها الى الحزب بمناسبة ذكرى ثورة اكتوبر في تشرين الثاني ١٩٥٢. وبعد اسبوعين او ثلاثة اسابيع وصلت رسالة من الحزب الى المنظمة وفيها عبارة صغيرة تقول "لقد قمتم بعمل جيد ولو انه لا يخلو من اخطاء فظيعة". ولا أحتاج هنا الى تعليق لأننا حين التقينا ببهاء, سكرتير الحزب، اكتشفنا انه لم يكن يفقه كلمة واحدة مما كان مكتوبا في الكتابين.
مجازر السجون
حدثت في سجون العراق مجزرتان راح ضحيتهما عدد كبير من السجناء. وقعت مجزرة سجن بغداد المركزي في ١٨/ ٦ / ١٩٥٣ (اقتبست التواريخ من كتاب "من أعماق السجون" بقلم محمد راشد الذي يبدو لي اسما مستعارا). وليس في مستطاعي أن اذكر تفاصيل هذه المجزرة لاني لم أكن فيها. وبعد المجزرة مباشرة شعرنا بالمضايقات السجنية في الكوت وأدركنا ان الحكومة قررت تكرار المجزرة عندنا. بعد مجزرة بغداد قدمنا احتجاجا عليها شديد اللهجة الى الحكومة وقعناه جميعا. وفي ١٨ / ٧ / ١٩٥٣حضر الى السجن مدير السجون العام يرفقة عبد الجبار ايوب جزار مجزرة بغداد ومعهما كامل هيئة المحكمة العرفية العسكرية. وفي اليوم التالي بدأت المحكمة عملها في غرفة مدير السجن وبحضور مدير السجون وعبد الجبار ايوب ومدير سجن الكوت. دعت المحكمة جميع الموقعين على الاحتجاج فردا فردا لمحاكمتهم واضافة مدد الى محكومياتهم. لست مطلعا على تفاصيل المفاوضات التي جرت بين ممثل السجناء، أكرم حسين، وادارة السجن. ولكننا لاحظنا ان الادارة اخلت الجناح الثاني من السجن من السجناء العاديين وأبقت السجناء السياسيين غير المنتمين الى منظمتنا فقط. وفوجئنا بقطع الماء والطعام عنا ربما في ٢/ ٨/ ١٩٥٣ بعد اتمام المحاكمات. وبدأ الحصار الذي دام أكثر من شهر ونحن في هذا الجو الصيفي الحار بدون طعام ولا ماء.لم يكن لدينا من الطعام سوى ما يكفي لأيام معدودة ولكننا حاولنا تقنين الطعام لكي يكون لنا ما نأكله اطول مدة ممكنة. كنت اذ ذاك مسؤولا عن المخزن اضافة الى مهامي الاخرى وكان علي أن اقدم للسجناء ما يمكن تقديمه لتغذيتهم. لقد استعملت حتى ما كان في الصيدلية من دهن سمك الحوت كوسيلة للتغذية. وهذا كله لم يكن كافيا لأكثر من أيام معدودة بالتغذية الشحيحة المتوفرة. في الحقيقة بقينا بدون طعام مدة شهر الحصار وهي جريمة لا يمكن اغتفارها.والجريمة الآفظع والأبشع هي قطع الماء عنا. فالانسان يستطيع البقاء مدة طويلة بدون طعام ولكنه لا يستطيع البقاء ولو يوما أو يومين بدون الماء. لم تكن لدينا وسيلة لحل هذه المشكلة سوى حفر بئر في ساحة السجن أمام اعين ادارة السجن، وتحت خطر الهجوم علينا من السجانة والشرطة المحيطة بالسجن والقابعة على الأسوار تراقب كل حركة داخل السجن. نجحنا في حفر بئر داخل السجن وأخذنا نشرب من مائه الغني بالأملاح. كان من الصعب التعود على شرب هذا الماء وقد عانى السجناء من حالات الاسهال والمغص ولكننا استطعنا النجاة من الموت عطشا. كنا في الصيف عادة ننام في ساحة السجن نظرا لشدة الحر داخل غرف السجن. ولكننا اثناء الحصار فوجئنا ونحن نيام بالقاء المئات من الحجارة علينا فاضطررنا الى ترك الساحة والدخول الى الغرف تحاشيا للاضرار التي قد تصيبنا من الحجار. وفي النهار كذلك كان السجانة والشرطة برمون الحجارة علينا وكان بعض السجناء يردون الحجارة بدون ان تصل الى رماتها طبعا.وفي ١٤/ ٨/ ١٩٥٣ اطلق علينا النار من اسوار السجن لأول مرة. وفي هذا اليوم استشهد سجينان. وحيد منصور، شاب لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، اصيب بطلقة بندقية في صدره اخترقت رئتيه. كان هذا الشاب بطلا حقا. فقد شعر بأنه سائر بسرعة الى الموت ولكن الموت لم يخفه فبقي على رباطة جأشه ولم يكن لدي ما يمكن اسعافه به. ولكننا قررنا أن نرسله الى المستشفى فاعلنا عن وجود جريح مازال على قيد الحياة وبحاجة الى الارسال الى المستشفى لانقاذه. وقد استجابت الادارة وطلبت منا أن نضعه بين بابي السجن ففتحوا الباب الأول المؤدي الى ساحة السجن وأدخلنا وحيد منصور على بطانية الى الساحة الواقعة بين البابين. ولكن الجريح بقي هناك لم ينقلوه الى المستشفى الى أن مات أو أوشك. والشهيد الثاني في ذلك اليوم كان صبيح مئير. كان صبيح مئير واقفا في باب غرفته حين بدأ اطلاق النار فاطلق عليه النار في راسه وخر صريعا. وقد شيعناه بغضب شديد وهتافات ضد المجرمين الجزارين الى باب السجن حيث تركنا جثته.واستمر الوضع على ما هوعليه حتى بعد هذه المجزرة الى نهاية الشهر الثامن وربما اكثر (لاني لم اجد صفحة كتاب "من أعماق السجون" التي فيها تأريخ المجزرة الثانية). وبدأت المفاوضات من جديد واعلنت ادارة السجن انها مستعدة لانهاء الحصار بعد تفتيش السجن بحثا عن الاسلحة. وفي اليوم المقرر للتفتيش نقلونا الى القسم الذي كان للسجناء العاديون فيه واصبح سجننا خاليا لكي تكون لهم حرية التفتيش بدون وجودنا. وأخذوا كلما لدينا من أفرشة ومواد. واخرجوا من السجن حتى أدوات المطبخ التي جهزونا بها. واستمر التفتيش تحت ادارة مدير السجن وعبد الجبار ايوب من الصباح وحتي ساعة متاخرة من الليل. وحتى قرروا حفر الأرض في الأماكن التي تصوروا ان فيها الأسلحة التي يبحثون عنها. ولكنهم لم يعثروا على الاسلحة المزعومة لسبب بسيط هو انه لم تكن هناك اسلحة وهم يعلمون ذلك حق العلم. وبعد التفتيش من الصباح الى ساعة متأخرة من الليل زعموا ان التفتيش لم يكتمل بعد واجلوا ذلك الى اليوم التالي ولم يقدموا لنا الطعام والماء كما وعدوا. وفي اليوم التالي واصلوا التفتيش في سجن ليس فيه زاوية يمكن التفتيش فيها. وخلال اليوم الثاني جاء مع مدير السجن وعبد الجبار أيوب والسجانة المفتشين والشرطة المدججين بالسلاح عدد من العمال الكهربائيين فوضعوا شبكة كهربائية في ساحة السجن تتألف من مئات المصابيح الكهربائية فأصبح السجن في ذلك المساء وكأنه ينتظر مهرجانا. وفي المساء انتهى التفتيش وقدموا لنا وجبة من الكباب والخبز وكمية من الماء وعددا من الرقي (البطيخ الاحمر) ولم يكن لدينا بما نفتح الرقي لأكله فكسرناه برميه على الأرض. وبعد الانتهاء من تناول هذه الوجبة لم يبق لدينا سوى قشور الرقي. ولكن السجانة والشرطة بقوا طيلة تلك الليلة داخل السجن. كنا نراهم يشخصون اشخاصا معينين تهيئة لاطلاق النار عليهم عند بدء المجزرة. وقد سمعنا من السجانة ان المجزرة تبدأ في الخامسة صباحا. علمنا حق العلم ان المجزرة اصبحت امرا لا مناص منه. وكنت أنا وأخي موشي اثنين من الذين ركزوا اهتمامهم في تشخيصنا وأمام اعيننا.لم تكن لدينا وسيلة للدفاع عن انفسنا في مثل هذه الحالة. والأمر الوحيد الذي استطعنا أن نفعله هو تهيئة احد السجناء الذين لهم المام في قضايا الكهرباء بأن يحدث خللا في التيار الكهربائي فور ابتداء المجزرة لحرمان الجزارين من الضوء الذي يسمح لهم بتمييز الأشخاص واصطيادهم. وهذا ما حدث فعلا. ونجح هذا السجين في احداث خلل كهربائي في لحظة ابتداء المجزرة اطفأ مئات المصابيح الكهربائية التي نصبت في ساحة السجن في ذلك اليوم. وفي الساعة الخامسة صباحا بالضبط طلب المدير بالميكروفون خروج قائمة من السجناء بحجة صدور امر بنقلهم الى سجون اخرى ولما لم يخرج السجناء المطلوبون بدا اطلاق النار من البنادق والرشاشات من داخل السجن ومن الأسوار. وكان في داخل السجن عدا السجانة والشرطة المسلحين بالبنادق رشاشان على الأقل. دخل السجناء في الغرف وانبطحوا على الأرض تحاشيا للبنادق المصوبة اليهم من الشبابيك. كانت هناك ثلاث غرف في القسم الثاني من السجن الذي نقلونا اليه في يومي التفتيش فدخل السجناء هذه الغرف كل الى الغرفة التي استطاع ان يلجأ اليها. وعند ايقاف اطلاق النار قرر السجناء الخروج من السجن فكان هناك صفان من الشرطة والسجانة يمر السجين بينهما ويتلقى الضربات باخامص البنادق حتى يصل الى الباب. وقد مات عدد من السجناء بهذه الطريقة وليس بالرصاص. كنا في ايام هذه المجزرة ١٢٠ سجينا وكانت نتيجة المجزرة عشرة قتلى و١١٠ جرحى. وفي الصباح بدأ ارسال الجرحى الى المستشفى. وعلمنا انذاك ان المستشفى كان قد اخلي كليا من المرضى قبل المجزرة تهيئة لتقبل قتلانا وجرحانا. صادف ان مكاني في قاعة السجن الخارجية حيث كان الجرحى ممددين قبل نقلنا الى المستشفى اني كنت جارا لأحمد علوان الذي كان ما يزال على قيد الحياة صباح المجزرة وتعانقنا وقبل احدنا الاخر وكان بطلا فعلا. كان احمد علوان سياسيا قديما دخل السجون مرارا في العراق وفي ايران. ولكنه كان انسانا بسيطا ولم يكن شيوعيا مسؤولا كما يرغب بعضهم عن قصد في وصفه. فالادعاء بأن احمد علوان ويحيى البارح كانا قائدي منظمة السجن في الكوت عار عن الصحة. ولكن هذا الادعاء هو نتيجة لتحاشي ذكر اليهود ودورهم في المنظمات السجنية وفي الحزب الشيوعي. فقد كان المسؤول الأول في منظمة الكوت منذ هروب حميد عثمان والسجناء الاخرين وحتى يوم المجزرة موشي قوجمان اخي. فهو كان القائد والمسؤول الأول عن انجازات المنظمة في تلك الفترة وعن أخطائها على حد سواء.بدأ نقل الجرحى بنزع ملابسنا المدنية وتجهيزنا بلباس السجن وتكبيل العديد منا بالسلاسل حسب مدد محكومياتنا. وجاؤا بسجناء عاديين وبأيديهم مقاصيص لكي يشوهوا شعرنا فيقصون مكانا ويتركون اخر لتشويه صورنا. وقام البعض بحلاقة شاربي بعض السجناء تنكيلا بهم. وبهذه الصورة نقلونا الى المستشفى الخالي تماما من اي مريض واجلسونا على الارض وجلبوا لنا وجبة حساء. ضمد الاطباء جراحنا وكان سلوكهم معاديا بوضوح للجزارين الذين قاموا بهذه المجزرة الفظيعة، واعطونا جميعا ابرا مضادة للكزاز. حدث ذلك اليوم بالنسبة لي حادث عظيم لا يمكن نسيانه. ففي صباح المجزرة قدم وفد طبي برئاسة مدير صحة بغداد الى الكوت لوضع تقرير حول المجزرة. وحين مر رئيس الوفد قربنا رآني جالسا على الأرض اتناول الحساء. وصادف أن يكون مدير صحة بغداد هذا زميلا لي في الثانوية المركزية وصديقا عزيزا لم اره منذ تخرجنا. وقد لاحظني هذا الصديق فوقف امامي وأخذ يحييني أمام انظار ادارة السجن فوقفت وصافحته وبقي يتحدث الي مدة طويلة. كان هذا الحادث مؤثرا بالنسبة لي. فهذا الصديق الذي لم أره منذ ١٥ سنة تقريبا كان من الشجاعة بأن وقف وتحدث الي وأنا في تلك الحالة المزرية. ان أمرا كهذا كان يتطلب شجاعة نادرة قل من يمتلكها. في مساء ذلك اليوم نقلونا نحن السجناء اليهود الى احد مراكز الشرطة وبقينا تلك الليلة جالسين على الارض حتى الصباح وقد جلبوا لنا بعض الطعام. كان بيننا عدد من الجرحى بجراح كبيرة وآخرون بجراح طفيفة وكان بيننا سجين آخر فقد ذاكرته مؤقتا فلم يكن يفقه ما يجري وبقي على هذه الحال مدة اسبوعين أو ثلاثة. وفي اليوم التالي بدأت سفرتنا الطويلة الى نقرة السلمان حيث وصلناها في اليوم الثالث. كانت السفرة شديدة الصعوبة لاننا جميعا كنا جرحى وكانت معاملة الشرطة لنا قاسية جدا طوال السفرة. قاسينا الى درجة اني حين دخلت سجن نقرة السلمان ذهبت فورا الى المرحاض فنزفت دما نقيا من هول صعوبات السفر.
الشطر الاول من فترة سجن نقرة السلمان الجديدة
وصلنا الى نقرة السلمان عصرا وما أن دخلنا حتى علمنا ان الزعماء الاربعة الكبار كما كانوا يسمونهم، بزعامة بهاء الذي كان سكرتير الحزب قبل اعتقاله، وعضوية صادق جعفر الفلاحي وكامل وباقر كانوا موجودين في غرفة خارج السجن ومضربين عن الطعام حتى الموت مطالبين بنقلهم من نقرة السلمان مع السجناء الاخرين في سجن بعقوبة. وقد استطعنا ان نتصل بهم عبر الجدار لنخبرهم عن مجزرة الكوت وما حدث بعدها. وقد حاولنا اقناعهم بأن الوقت غير مناسب لاعلان اضراب كهذا اذ ان الحكومة لا تهتم لوفاة سجين أو سجينين بعد أن قامت بمجزرتين في داخل السجون وقتلت العشرات من السجناء السياسيين. وبعد يومين على ما اتذكر انهوا الاضراب بدون ان تهتم الادارة حتى بمفاوضتهم. وبعد انهاء الاضراب نقلت الادارة السجناء الاربعة الى داخل السجن فانضموا الينا.في هذه الفترة من حياة سجن نقرة السلمان اصبح هذا سجنا لليهود بصرف النظر عن نوع تهمهم. فقد ارسلوا جميع السجناء اليهود الى نقرة السلمان، ولم يكن من غير اليهود في السجن عدا الأربعة المذكورين. من الجدير بالذكر ان الحكومة اسقطت الجنسية عن جميع السجناء اليهود بدون استشارتهم او اخبارهم بذلك. كانت في نقرة السلمان في هذه الفترة منظمات وفئات سجنية عديدة. المنظمة الكبيرة كانت منظمتنا. كنا حوالى عشرين سجينا محسوبين رسميا على الحزب الشيوعي ومعنا أربعة سجناء غير يهود كان منهم بهاء الذي مارس منصب سكرتير الحزب لعدة سنوات. وكانت منظمة صغيرة من محكومين مثلنا كانوا معنا في فترة من فترات حياتهم السجنية وانفصلوا عنا في الانقسام الذي وقع في نقرة السلمان سنة ١٩٥١ وانضم اليهم بعد ذلك سجناء اخرون. وكان هناك سجناء صهاينة او محكومون بتهمة الصهيونية, وهؤلاء لم يعيشوا كمنظمة واحدة مشتركة في حياتهم اليومية بل كانوا يعيشون في جماعات متفرقة كل اثنين أو ثلاثة سجناء يعيشون سوية وحتى كان بينهم من كان يعيش منفردا. وكان عدد من السجناء العاديين المحكومين على السرقة او النشل وغير ذلك من تهم لا علاقة لها بالسياسة. كان بين السجناء الصهاينة شخصان غير عراقيين هما سجين بريطاني اسمه رودني وسجين اسرائيلي دخل العراق بجواز سفر ايراني باسم صالحون واسمه الحقيقي يهودا تاجر. عاش هذان السجينان سوية طيلة وجود السجين البريطاني في السجن وبقي الاخر وحده بعد انتهاء مدة محكومية رودني أو اطلاق سراحه قبل انتهائها إذ زاره عدة مرات موظفون من السفارة البريطانية في العراق. كان هناك اضافة الى كل هؤلاء سجينان روسيان لا أعلم كيف قبض عليهما في العراق ولا أتذكر متى ارسلا الى سجن نقرة السلمان. ولكنهما كانا في السجن في فترة قصيرة لا أذكر مدتها بالضبط. ولم يكونا منسجمين بينهما بحيث كان كل منهما يعيش منفصلا عن الآخر. نرى من هذا ان السجن كان خليطا من اصناف متعددة من السجناء. منذ الأيام الأولى أخذت تنشأ بعض المناوشات والصدامات بيننا وبين السجينين رودني وصالحون. كان رودني هذا انسانا شاذا يقال انه كان اثناء الحرب العالمية الثانية مسؤولا عن معسكر اعتقال انجليزي في الهند فمارس اقسى أنواع التعذيب والتنكيل بالمعتقلين في ذلك المعسكر. وكان رودني يرغب في التصادم مع السجناء المسلمين الأربعة وخصوصا مع بهاء. فخلق رودني وصالحون عدة مشاكل قصدا منها التصادم والقتال بينهما وبين السجناء الأربعة. كنا نحن الشيوعيين اليهود نشعر اننا مسؤولين أدبيا عن سلامة هؤلاء السجناء الاربعة فكنا دائما نتصدى لهجمات رودني وصالحون ونترك الأربعة في المؤخرة. ولم يرغب رودني وصالحون بالتصادم معنا رغم انهما كانا يكرهاننا بصفتنا شيوعيين وبذلك استطعنا ان نتحاشى التصادم المباشر بين هذين السجينين والسجناء الأربعة الى ان أخرجت الادارة هذين السجينين من السجن وأسكنتهما في القرية خارج السجن الى أن أطلق سراح رودني واعيد صالحون الى السجن ثانية.احدى المشاكل التي خلقها هذان السجينان كانت في احد الأعياد اليهودية. فقد فكرت الطائفة اليهودية في بغداد في ارسال بعض المواد الغذائية الى السجناء اليهود بمناسبة العيد وحين وصل وفد الطائفة الى السجن وبدآ في توزيع المواد الغذائية التي جلبوها احتج هذان السجينان واعترضا على توزيع المواد الغذائية على المحكومين السياسيين غير الصهاينة وخصوصا لنا لوجود السجناء المسلمين معنا. ولكن اعضاء وفد الطائفة لم يقبلوا احتجاجهما وقالوا لهما اننا جئنا بالمواد الغذائية لليهود جميعا وليس لفئة سياسية معينة منهم. تكرر هذا الحادث مرتين فقط في تأريخ السجن. فوزعت المواد الغذائية بالتساوي على كل السجناء اليهود بصرف النظر عن طبيعة التهم التي حكموا عليها.فيما عدا تحرشات رودني وانضمام صالحون اليه في تلك الفترة لم تحدث طيلة وجودنا معا في نقرة السلمان اية مشاكل بين السجناء بشتى صفاتهم. ولم يواصل صالحون التحرشات التي كان رودني على ما يبدو خالقها وكان دور صالحون تضامنا معه. فقد كان سلوك صالحون بعد خروج رودني سلوكا ممتازا لم يحاول ان يخلق فيه اية مشكلة بيننا وبينه كما سيأتي ذكرة أدناه.منذ الايام الاولى شعرت ان بهاء الذي اصبح بصورة تلقائية المسؤول عن المنظمة لم يكن سوى شخص صبياني في سلوكه وليس الشخصية المؤلهة التي كنا نسمع عنها حين كان سكرتيرا للحزب. فهو من ناحية السلوك الاجتماعي صبياني ومن الناحية السياسية جاهل جهلا مطبقا في النظرية وفي معرفة ظروف العراق السياسية والوطنية. وحسب رأيي كان انسانا انانيا يفضل مصلحته الذاتية على مصلحة الحزب. ولذلك لا أتذكر يوما في تلك الفترة لم تكن لي حاجة فيه الى انتقاده على سلوكه وعلى تصرفاته. ومن بين الأمور التي انتقدته عليها كان تجاهله لزوجته وابنه الذي ولد في السجن. فقد استمر حتى ثورة ١٤ تموز على تجاهلهما علنا رغم ان والديه كانا يأخذان الطفل الى السليمانية لفترات ويعيدانه الى والدته في السجن. كان يتراسل مع زوجته باسم سجين اخر كان من المسموح به ارسال الرسائل من سجننا الى سجن النساء. فكان يملي رسالته الى زوجته على سجين اسمه منشي عبدالله وكانه يرسلها الى قريبته في سجن بغداد التي هي زوجة بهاء. وأعتقد ان ذلك راجع الى ان زوجته كانت يهودية وهي شقيقة صبيح مئير الذي استشهد برصاص الشرطة في مجزرة الكوت.
سجن النقرة الجديد
اثناء وجودنا في السجن القديم الذي جاء وصفه سابقا كانت الحكومة تبني سجنا جديدا مجاورا للسجن القديم. واكتمل بناء السجن ونقلونا اليه. يتكون السجن من ١٢ غرفة كبيرة أو أكثر يمكن ان تضم كل غرفة منها مائة سجين او اكثرمرتبة في صفين ستة غرف في كل جانب تتوسطها ساحة كبيرة كان السجناء يلعبون فيها كرة قدم. ساحة نظامية من حيث طولها ولكنها اضيق من ساحة كرة القدم النظامية. وفي مقدمة السجن من ناحية الباب الرئيسي توجد مراحيض عديدة وبهذا تخلصنا من مشكلة وجود مرحاضين فقط في السجن. كانت ساحة السجن غير مبلطة ولم يكن لنا من الماء ما يكفي لرشها كما فعلنا في السجن القديم. كان قسم من هذه الأرض صخريا بحيث ان صادق الفلاحي وقع على الارض أثناء لعب كرة القدم واصطدم راسه بالأرض الصخرية ففقد البصر في احدى عينيه. ومع ذلك كان السجناء يلعبون كرة القدم وكان مدربهم سجينا كان من مشاهير لاعبي كرة القدم في العراق. كذلك كان السجناء يلعبون الكرة الطائرة والتنس احيانا.احتللنا احدى الغرف وجعلنا الغرفة الصغيرة الموجودة في طرف الغرفة قرب الباب مخزنا ومطبخا. وفي هذا السجن الجديد قضينا بقية ايامنا حتى نقلونا الى سجن بعقوبة سنة ١٩٥٦ فيما عدا عدة أسابيع قضيناها في السجن القديم منذ نقل السجناء غير اليهود الى حين نقل السجناء اليهود الى سجن بعقوبة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...