إدورد وليم لين - 33 - المصريون المحدثون.. شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر... للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل العاشر - (الخرافات)

لا تكاد القرية المصرية تخلو من ضريح ولي يزوره الكثيرون ولا سيما النساء في يوم خاص من الأسبوع. ويحمل بعض النساء إلى هنالك خبزاً للعابرين الفقراء وغيرهم. ويضع بعضهم أيضاً قطعاً نقدية صغيرة فوق القبر تقدمه للشيخ أو صدقة لأجله. وقد اعتاد الفلاحون كذلك أن ينذروا لأوليائهم ذبائح. مثال ذلك أن ينذر الرجل للشيخ فلان (المتوفى) ماعزاً أو ضاناً إذا أبل من مرض أو أنجب ولداً أو بلغ مراماً، فيضحي بالذبيحة عند قبر الشيخ إذا قضى حاجته حالته، ويولم بلحم النذر للفقراء. وثواب ذلك يبقى للولي. وكثيراً ما ينذر الجداء الصغيرة لتذبح في المستقبل فيشرم أذنها اليمنى أو يعلمها بعلامة ما. وليس من النادر أن ينذر الفلاح نذراً لا يبتغي منه شيئاً غير البركة. وقد ينذر أحياناً عجلاً يذبحه حين يكبر ويسمن، فيترك العجل طليقاً يرعى برضاء الجيران في كل مكان حتى حقول القمح. ثم يذبح العجل ويؤدب بلحمه مأدبة عامة. وكثيراً ما ذُبحت ثيران كبيرة بهذه الطريقة

يكرم كل ولي مشهور تقريباً بالاحتفال بمولده فيزور الناس قبره في ذلك اليوم تبركاً، ويستأجرون الفقهاء لتلاوة القرآن على روح الولي. ويقوم الدراويش بالذكر. ويعلق من يسكن بجوار الضريح مصابيح أمام أبوابهم، ويقضون نصف ليلهم في التدخين واحتساء القهوة والاستماع إلى رواة القصص في المقاهي أو تلاوة القرآن والأذكار. وأمام بابي الآن عدة مصابيح علقت احتفالاً بمولد شيخ يجاور ضريحه المنزل الذي أسكنه. وكثيراً ما يعلق المسيحيون المصريون كذلك المصابيح في مثل تلك الأحوال. وتستمر هذه الأعياد بضعة أيام غالباً. وأشهر موالد القاهرة بعد المولد النبوي مولدا الحسين والسيدة زينب، وقد وصفتهما في فصل لاحق من الأعياد الدورية العامة في مصر. ولا يواصل أكثر المصريين زيارة قبور الأولياء المشهورين للتبرك فحسب، وإنما يواصلونها خشية نزول المصائب بهم إذا قصروا في ذلك. وهكذا يقاسى الآن أحد معارفي مرضاً يعزوه إلى إهماله حضور مولد السيد احمد البدوي في العامين الأخيرين، وقد جاء أوان الاحتفال بأحد موالده. ويكاد ضريح هذا الولي يجتذب زائرين من العاصمة وأنحاء مصر السفلى أثناء الموالد السنوية الكبيرة بقدر ما تجتذب مكة حجاجاً من أنحاء العالم. ويقام للسيد البدوي ثلاثة موالد سنوية إكراماً له. ويقام أحدها حوالي اليوم العاشر من شهر طوبه (17 أو 18 يناير) والثاني في الاعتدال الربيعي أو نحو ذلك، والثالث وهو المولد الكبير يقام بعد الانقلاب الصيفي بشهر تقريباً (أو حوالي منتصف شهر أبيب) عندما يزيد ارتفاع النيل ولم تقطع السدود بعد. ويستمر كل مولد ثمانية أيام، فيبدأ يوم جمعة وينتهي بعد ظهر الجمعة التالية. وتقام في كل ليلة ألعاب نارية. ويحتفل بمولد السيد إبراهيم الدسوقي بعد كل من الموالد السابقة بأسبوع في دسوق على الضفة الشرقية من فرع النيل الغربي. وكان السيد إبراهيم ولياً ذائع الصيت يلي السيد البدوي في الشهرة.

وتعتبر موالد السيد البدوي والسيد إبراهيم الدسوقي أسواقاً عامة فضلاً عن كونها أعياداً دينية، ويقيم أكثر زائري مولد السيد إبراهيم في مراكبهم. ويعرض بعض دراويش السعدية من أهل رشيد ألعابهم بالثعابين، ويحمل بعض هؤلاء ثعابين شد فمها بحلقة فضية وقاية من لدغها؛ ويأكل آخرون بعض هذه الثعابين حية. ولا يزيد الاحتفال الديني في الموالد جميعاً على إقامة الذكر وتلاوة القرآن. وقد جرت العادة أن يقوم المسلمون - كما كان يفعل اليهود - بتجديد بناء قبور أوليائهم وتبيضها وزخرفتها وتغطية التركيبة أو التابوت أحياناً بغطاء جديد؛ وأكثر هؤلاء يفعلون ذلك رياءً كما كان يفعل اليهود

يكثر الدراويش في مصر كثرة عظيمة، ويحترم المصريون - وخاصة الطبقات السفلى - هؤلاء الذين يعكفون على الرياضة الدينية ويعيشون على الصدقة احتراماً كبيراً؛ ويستخدم بعض الدراويش الحيل المختلفة الاشتهار بقداسة فائقة وقدرة القيام بالكرامات، ويعتبر الكثير منهم أولياء ويحمل من ينحدر مباشرة من ذرية أبى بكر أول الخلفاء لقب (الشيخ البكري)، ويعتبر ممثل ذلك الخليفة، ويسيطر على جميع طوائف الدراويش بمصر؛ ويعتبر (الشيخ البكري) الحالي، وهو أيضاً من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم نقيب الأشراف. ولعمر أيضاً ممثل هو (شيخ العنانية) أو (أولاد عنان)، وهم طائفة من الدراويش سموا هكذا باسم (ابن عنان) أحد شيوخهم المشهورين. وليس لعثمان ممثل، إذا أنه لم يترك خلفاً. ويسمى خليفة على (شيخ السادات)، وهو لقب دون لقب (نقيب الأشراف). ويدعى كل شيخ من هؤلاء الثلاثة (صاحب سجادة) سلفه العظيم. وكذلك (شيخ الطائفة) من طوائف الدراويش يسمى (صاحب سجادة) مؤسس الطائفة. وتعتبر السجادة العرش الروحي. وفي مصر أربع سجاجيد كبيرة وهي لتلك الطوائف الكبيرة التي سأذكرها الآن

أشهر طوائف الدراويش في مصر ما يأتي:

أولاً: طائفة (الرفاعية) أسسها السيد أحمد الرفاعي الكبير. وأعلام الرفاعية وعمائمهم سوداء، وقد تكون العمائم من الصوف الحالك الزرقة أو الموصلي القاتم الخضرة. ويشتهر دراويش الرفاعية بأعمالهم العجيبة. ودعَّي (العلوانية) أو (أولاد علوان) وهم فرقة من الرفاعية أنهم يغرزون المسامير الحديدية في أعينهم وأجسامهم دون أن يقاسوا ألماً. والظاهر أنهم يفعلون ذلك بطريقة تخدع من يصدق مثل هذه الأعمال. وهم يحطمون أيضاً على صدورهم كتلاً من الحجارة ويبتلعون الحجر والزجاج. ويقال إنهم يخترقون أجسامهم بالسيوف وخديهم بالمسلات دون ألم أو جرح. غير أنه قلما تشاهد هذه الألعاب الآن. وكانت العادة كما أُخبرت أن يقوم الدرويش بتجويف قطعة من جذع النخل ويحشوها بخرق غمست في الزيت والقطران ويشعلها. ثم يحمل هذا الجسم الملتهب تحت ذراعه في موكب ديني وليس على جسده غير سروال فينبعث اللهب على صدره وظهره ورأسه ولا يبدي ألماً. و (السعدية) فرقة أخرى من الرفاعية أشهر من الأولى أسسها الشيخ سعد الدين الجباوي، وأعلامها وعمائم أعضائها خضراء وقد تكون العمائم قاتمة. ويوجد في هذه الطائفة دراويش يمسكون الثعابين السامة والعقارب بلا خوف، ويلتهمون بعضها. إلا أنهم ينزعون أنياب الثعابين حتى يأمنوا شرها. ولاشك أنهم يعدمون العقارب سمها أيضاً. ويركب شيخ السعدية في بعض المناسبات كمولد النبي (صلعم) حصاناً ويسير به على أجسام بعض دراويشه وغيرهم وهم راقدون على الأرض. ويقرر جميعهم أن وطء الحصان لم يؤذهم ويسمى هذا الموكب (الدوسة). ويعيش الكثير من دراويش الرفاعية والسعدية على إخراج الثعابين من البيوت. وسأتكلم عن براعة هؤلاء المشعوذين في فصل آخر.

ثانياً: (القادرية) أسسها السيد عبد القادر الجيلاني النبيه الذكر. وبيارق القادرية وعمائمهم بيضاء. وأغلبهم صيادون فيحملون في المواكب الدينية شباكاً مختلفة الألوان يرفعونها على دعائم تمييزاً لطائفتهم.

ثالثاً: (الأحمدية) وهم طائفة السيد أحمد البدوي. وهذه الطائفة كثيرة العدد ومحل الاحترام. وراياتهم وعمائمهم حمراء.

وتعتبر (البيومية) ومؤسسها السيد على البيومي، و (الشعراوية) ومؤسسها الشيخ الشعراوي و (الشناوية) ومؤسسها السيد على الشناوي فرقاً من الأحمدية. ويشترك الشناوية في اليوم الأخير من مولد شفيعهم الكبير السيد احمد البدوي في طنطا بنصيب غريب، إذ يجرون حماراً في ذلك اليوم ويتركونه يدخل المسجد من تلقاء نفسه. فإذا دنا من الضريح حيث يحتشد الجماهير نتف كل من استطاع بعضاً من شعره كتعويذة حتى يصبح جلد الحيوان المسكين عارياً كراحة اليد. وهناك فرقة أحمدية أخرى تسمى (أولاد نوح) كلها شبان يلبسون (طراطير) تعلوها شرابة من قطع الجوخ المختلف الألوان. ويحملون سيوفاً خشبية وسياطاً من الحبال السميكة المجدولة المسماة (فرقلة) ويلبسون عدة عقود من الخرز.

رابعاً: (البراهمة) أو (البرهامية) وهم طائفة السيد إبراهيم الدسوقي الذي سبق الكلام عن مولده. وأعلامهم وعمائمهم خضراء. وهناك فرق أخرى ينتمي بعضها إلى الطوائف السابقة، ومن أشهرها (الحفناوية) و (العفيفية) و (الدمرداشية) و (النقشبندية) و (البكرية) و (الليثية)

والإلمام بكل عقائد الدراويش وقوانينهم وشعائرهم مستحيل؛ إذ أن أكثرها مثل عقائد الماسونية لا تذاع على غير المطلعين على أسرارها. وقد وصف لي درويش أعرفه كيف أخذ (العهد) أي ميثاق التعريف بالسر وهو يكاد يكون واحداً عند الطوائف جميعها. استقبل شيخ الدمرداشية صاحبي هذا فتوضأ وجلس أمامه على الأرض. ثم ضم كل من الشيخ والمريد يده اليمنى إلى يد الآخر بالطريقة السابق وصفها عند عقد الزواج. وبهذه الحالة واليدان مغطاتان بكم الشيخ أخذ المريد العهد مردداً وراء الشيخ هذا الكلام التالي بادئاً بالتوبة: (أستغفر الله العظيم (ثلاث مرات) الذي لا إله إلا هو الحي القيوم. أتوب إليه وأسأل عفوه وغفرانه وإعتاقه من النار) ثم يسأله الشيخ هل يتوب إلى الله؟ فيجيب المريد أنه يتوب إلى الله ويرجع إلى الله. وإنه نادم على ما ارتكب من المعاصي ويقرر أنه لا يعود إلى غيه. ثم يردد بعد الشيخ أنه يستخير الله العظيم والرسول الكريم. وإنه يولي عليه السيد عبد الرحيم الدمرداش الخلوتي الرفاعي النبوي محتذياً مثال شيخه ومرشده إلى الله تبارك اسمه وتعالى. وإنه لا يحيد عن تعاليم الطريقة ولا ينفصل عنها، ويشهد الله على ذلك مقسماً بالله العظيم ثلاث مرات. ثم يقرأ الشيخ ومريده الفاتحة معاً. ويختم المريد الحفل بتقبيل يد الشيخ. وتقوم أعمال الدراويش الدينية على الذكر خاصة، فيصيحون أو ينشدون واقفين في حلقة مستديرة أو مستطيلة أو في صفين متقابلين أو جالسين: (لا إله إلا الله) أو (الله الله الله) أو يرددون أدعية أخرى، ويكررونها حتى تخور قواهم وهم أثناء ذلك يحركون الرأس أو الجسم جميعه أو الذراعين. ويستطيعون لدأبهم على ذلك أن يواصلوا هذه الحركة بلا انقطاع مدة تثير الدهشة. وكثيراً ما يصحبهم من وقت لآخر عازف أو أكثر على (الناي) أو على (الأرغول) وآخرون ينشدون القصائد الدينية. ويستخدم بعض الدراويش أثناء الذكر طبلاً صغيراً يسمى (بازا) أو دفاً. ويقوم البعض الآخر برقص غريب سأصفه مع أشكال مختلفة للذكر في فصول قادمة.

عدلي طاهر نور



مجلة الرسالة - العدد 463
بتاريخ: 18 - 05 - 1942
-
التفاعلات: سمية بوغاشيش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...