قال عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب إن زمن اللاحب هو مثل «زمن الكوليرا» عند ماركيز لا تحدده الأحداث، وإنما تحدده امتدادات الحدث في الزمن الاجتماعي وخوف مجهول المصدر، يدفع الأفراد للإحساس بحياة معلقة بخيط رفيع لا يعرفون متى ولا أين يقطع، لافتاً إلى لأن زمن اللاحب هو هذا الزمن الاجتماعي الذي تبدو فيه الذات متراجعة أمام الموت.
ودعا الطاهر -خلال محاضرته «العرب والحب في زمن اللاحب» مؤخراً في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث- إلى مواجهة «المفارقة العجيبة التي تحولت فيها ثقافة كبرى للحب إلى ثقافة موت، فأصبح أهلها مطالبين بإثبات قدرتهم على الحب لكي لا تثبت إدانتهم على زرع الموت!».
المكبوت والموت
وأضاف الطاهر: مادام الموضوع هو الحب في علاقته باللاحب، فلا مناص من الكلام عن المكبوت الذي لا يستسلم مهما كانت قوة الموت، إذ تتحول هذه المكبوتات إلى نزوة عدوانية بعد أن سد عليها أصحابها سبل التصعيد لأن المجتمعات المتقدمة تسمح بالتصعيد فالمكبوت يصبح رساماً كبيراً أو شاعراً كبيراً ومن يهدم الدنيا لا يبقى له شيء يصعد فيه، ووسائل التصعيد هي الإبداع الفني والاستبصار الفكري وهذان بالتحديد هما ما يطالهما المنع، لافتاً إلى أن محمود درويش لو كان موجوداً الآن لاعترف أنه كان محظوظاً في حبه لريتا لأن ما يمنعه منها هو بندقية فقط، أما اليوم فهناك سيوف وخناجر وأحزمة ناسفة وأشلاء.
وأكد لبيب أن ثقافة الموت عمقت المفارقة، وتحولت التهمة إلى اتهام جواني فينا. هذه المفارقة عمقها موت متفرع سافر أو متنكر صارخ أو مستبطن أو مثرثر أو كاتم صوت، ضالته الحياة يخرسها أو يخفيها أينما، وكيفما نظر. أما التهمة فارتدت على أهل ثقافتها، فنحن العرب اليوم من عليه أن يتساءل وبشدة ما هذه الثقافة التي نسميها «هوية عربية إسلامية» وماذا دهاها لينتج فيها بعض أهلها بذور الموت؟».
وواصل: من موقع الثقافة أقول إن هناك جهلاً جديداً له أتباعه في العالم العربي، ويضاف إلى هذا أفول المرجعيات الكبرى المعروفة، والتي تراجعت معها الأحلام العربية، ولا حاجة لتعميق هذا الجرح، مشيراً إلى أن هناك عنفين تزامنا في الفترة الأخيرة هما عنف الجيوسياسة وما أسميه عنفنة الدين. أما بالنسبة لعنف الجيوسياسة فله أهداف ومصالح عسكروها ورسموها خرائط للعالم العربي. لكن الملفت للانتباه قدرة الجيوسياسة على استنهاض العنف في الداخل العربي، والأدهى والأمر من هذا الاستنهاض الخارجي للعنف الداخلي هو قابلية المجتمعات العربية للعنف المخطط خارجياً. والقابلية هذه أعمق وأوسع من مجرد القبول، حتى أصبح لكل عربي عربي يكرهه. ولعل هذا راجع لقرار السياسة بالدرجة الأولى، ولكن العبء على الثقافة أكبر، فالسياسيون يحولون كما شاؤوا الأعداء إلى أصدقاء بين عشية وضحاها، ولكن ما تستبطنه الثقافة من تباعد صعب أن يتجاوز ويتطلب ذلك جهداً صعباً وكبيراً، مردفاً أن المفاجأة الأصعب والأكبر في تاريخ العرب المعاصر، فباسم الإسلام «وأي إسلام» هبت من وراء القرون، وتحت رايات الظلام كائنات مسكونة بالموت، فالإرهاب الذي تبرأ العرب منه طويلاً لفظاً واصطلاحاً عادت إليهم تهمته من حيث لا يحتسبون عاد إليهم من بوابة الدين. فاليوم ليس لنا أن ننكر أن إرهاباً بدائياً وحشياً يسعى بيننا، وأن يومياتنا أصبح يكتبها موتانا.
طريق القتل
وتابع لبيب: لا أتحدث عن إيمان أو عقائد بل عن تجليات تبرق أمام أعيننا تجسم الكره الذي هو نقيض الحب، وأول المفزعات أن يكون الطريق إلى الله هو القتل، وقياساً على ذلك أن يكون جحيم الأرض طريقاً إلى جنة الآخرة، والوصول إلى الحور العين طمس الحور في عيون المرأة الدنيا وقيسوا على هذا أشياء كثيرة. هذا الجحيم الأرضي عجينة أبرياء من عامة الناس، فيها ينادى بقتل الأطفال، فيها الذبح أمام ذوي القربى، فيها تنزع القلوب وتؤكل، كل هذا مع التهليل والتكبير، كيف أمكن التدرب على هذه الثقافة في بداية القرن الحادي والعشرين؟. لقد تم ذلك بأيسر الطرق بالتكفير جملة، فكل جماعة تكفر من ليس منها ومن كفر أهدر دمه فقتل، ولو كان مجتمعاً بأسره، إذا أراد القتل أن يتمنهج فما عليه إلا أن يتطيف أو يتمذهب.
المهووس يخالف بناءه
وتساءل لبيب: ما طبيعة هذه النفس البشرية المهووسة بالقتل، بهذه الصورة؟ إن هذا موكول إلى التحليل النفسي فهذا نوع من الهوس الذي هو بالدرجة الأولى من أعراض العجز أو اليأس، فلا قوة في هذا القتل، المهووسون في التحليل النفسي يحتاجون أولاً لإمكان الموت لحل النزاع الذي في نفوسهم، هذا النزاع هو ما تلاقيه الرغبة من صعوبة في التحول إلى الواقع، مبيناً أن الرغبة جماعياً مرتبطة بنموذج أصلي قديم لا تاريخي ما يسمى في التحليل النفسي «بالآركي تي» وهذا الشيء يواجه صعوبة في التحقق في المجتمع الحديث لأنه في «الهوامات في الفانتزمات» والمهووس نفسه لا يقدر أن يتحمل النموذج الأصلي الذي بناه، فهو أكبر منه ولذلك يعاني من العجز فلا يجد له حلاً إلا بالعنف سواء بالقتل في المجتمع أو في الانتحار.
الوطن البحرينية الاحد 24 نوفمبر 2013
ودعا الطاهر -خلال محاضرته «العرب والحب في زمن اللاحب» مؤخراً في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث- إلى مواجهة «المفارقة العجيبة التي تحولت فيها ثقافة كبرى للحب إلى ثقافة موت، فأصبح أهلها مطالبين بإثبات قدرتهم على الحب لكي لا تثبت إدانتهم على زرع الموت!».
المكبوت والموت
وأضاف الطاهر: مادام الموضوع هو الحب في علاقته باللاحب، فلا مناص من الكلام عن المكبوت الذي لا يستسلم مهما كانت قوة الموت، إذ تتحول هذه المكبوتات إلى نزوة عدوانية بعد أن سد عليها أصحابها سبل التصعيد لأن المجتمعات المتقدمة تسمح بالتصعيد فالمكبوت يصبح رساماً كبيراً أو شاعراً كبيراً ومن يهدم الدنيا لا يبقى له شيء يصعد فيه، ووسائل التصعيد هي الإبداع الفني والاستبصار الفكري وهذان بالتحديد هما ما يطالهما المنع، لافتاً إلى أن محمود درويش لو كان موجوداً الآن لاعترف أنه كان محظوظاً في حبه لريتا لأن ما يمنعه منها هو بندقية فقط، أما اليوم فهناك سيوف وخناجر وأحزمة ناسفة وأشلاء.
وأكد لبيب أن ثقافة الموت عمقت المفارقة، وتحولت التهمة إلى اتهام جواني فينا. هذه المفارقة عمقها موت متفرع سافر أو متنكر صارخ أو مستبطن أو مثرثر أو كاتم صوت، ضالته الحياة يخرسها أو يخفيها أينما، وكيفما نظر. أما التهمة فارتدت على أهل ثقافتها، فنحن العرب اليوم من عليه أن يتساءل وبشدة ما هذه الثقافة التي نسميها «هوية عربية إسلامية» وماذا دهاها لينتج فيها بعض أهلها بذور الموت؟».
وواصل: من موقع الثقافة أقول إن هناك جهلاً جديداً له أتباعه في العالم العربي، ويضاف إلى هذا أفول المرجعيات الكبرى المعروفة، والتي تراجعت معها الأحلام العربية، ولا حاجة لتعميق هذا الجرح، مشيراً إلى أن هناك عنفين تزامنا في الفترة الأخيرة هما عنف الجيوسياسة وما أسميه عنفنة الدين. أما بالنسبة لعنف الجيوسياسة فله أهداف ومصالح عسكروها ورسموها خرائط للعالم العربي. لكن الملفت للانتباه قدرة الجيوسياسة على استنهاض العنف في الداخل العربي، والأدهى والأمر من هذا الاستنهاض الخارجي للعنف الداخلي هو قابلية المجتمعات العربية للعنف المخطط خارجياً. والقابلية هذه أعمق وأوسع من مجرد القبول، حتى أصبح لكل عربي عربي يكرهه. ولعل هذا راجع لقرار السياسة بالدرجة الأولى، ولكن العبء على الثقافة أكبر، فالسياسيون يحولون كما شاؤوا الأعداء إلى أصدقاء بين عشية وضحاها، ولكن ما تستبطنه الثقافة من تباعد صعب أن يتجاوز ويتطلب ذلك جهداً صعباً وكبيراً، مردفاً أن المفاجأة الأصعب والأكبر في تاريخ العرب المعاصر، فباسم الإسلام «وأي إسلام» هبت من وراء القرون، وتحت رايات الظلام كائنات مسكونة بالموت، فالإرهاب الذي تبرأ العرب منه طويلاً لفظاً واصطلاحاً عادت إليهم تهمته من حيث لا يحتسبون عاد إليهم من بوابة الدين. فاليوم ليس لنا أن ننكر أن إرهاباً بدائياً وحشياً يسعى بيننا، وأن يومياتنا أصبح يكتبها موتانا.
طريق القتل
وتابع لبيب: لا أتحدث عن إيمان أو عقائد بل عن تجليات تبرق أمام أعيننا تجسم الكره الذي هو نقيض الحب، وأول المفزعات أن يكون الطريق إلى الله هو القتل، وقياساً على ذلك أن يكون جحيم الأرض طريقاً إلى جنة الآخرة، والوصول إلى الحور العين طمس الحور في عيون المرأة الدنيا وقيسوا على هذا أشياء كثيرة. هذا الجحيم الأرضي عجينة أبرياء من عامة الناس، فيها ينادى بقتل الأطفال، فيها الذبح أمام ذوي القربى، فيها تنزع القلوب وتؤكل، كل هذا مع التهليل والتكبير، كيف أمكن التدرب على هذه الثقافة في بداية القرن الحادي والعشرين؟. لقد تم ذلك بأيسر الطرق بالتكفير جملة، فكل جماعة تكفر من ليس منها ومن كفر أهدر دمه فقتل، ولو كان مجتمعاً بأسره، إذا أراد القتل أن يتمنهج فما عليه إلا أن يتطيف أو يتمذهب.
المهووس يخالف بناءه
وتساءل لبيب: ما طبيعة هذه النفس البشرية المهووسة بالقتل، بهذه الصورة؟ إن هذا موكول إلى التحليل النفسي فهذا نوع من الهوس الذي هو بالدرجة الأولى من أعراض العجز أو اليأس، فلا قوة في هذا القتل، المهووسون في التحليل النفسي يحتاجون أولاً لإمكان الموت لحل النزاع الذي في نفوسهم، هذا النزاع هو ما تلاقيه الرغبة من صعوبة في التحول إلى الواقع، مبيناً أن الرغبة جماعياً مرتبطة بنموذج أصلي قديم لا تاريخي ما يسمى في التحليل النفسي «بالآركي تي» وهذا الشيء يواجه صعوبة في التحقق في المجتمع الحديث لأنه في «الهوامات في الفانتزمات» والمهووس نفسه لا يقدر أن يتحمل النموذج الأصلي الذي بناه، فهو أكبر منه ولذلك يعاني من العجز فلا يجد له حلاً إلا بالعنف سواء بالقتل في المجتمع أو في الانتحار.
الوطن البحرينية الاحد 24 نوفمبر 2013